معضلتنا الأساسية في عالمنا العربي


محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن - العدد: 7937 - 2024 / 4 / 4 - 23:57
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

"نعوذ بالله من سبات العقل" كانت هذه مقولة شهيرة للإمام على ابن أبي طالب الذي عرف ببلاغته ونظرته الفلسفية. وسبات العقل يعني شلله وأفوله وعجزه عن القيام بوظائفه التي خلق من أجلها وهي التفكير والتحليل والنقد والإبداع، وهو ما يعني سهولة اختراقه والسيطرة عليه لأنه شبه ميت ومقيد بسلاسل الماضي والأساطير والمنهجيات السلفية التي عملت على توظيف العقل بشكل أساسي لحفظ واجترار المورثات القديمة فقط ظنا بأنها قادرة وحدها على بناء مستقبل أفضل للأمة ودون الحاجة للتعلم من تجارب الآخرين. علما بأن المرجعيات التراثية المقدسة في كل الأنظمة لم تكتسب قداستها إلا بحكم مرور مئات السنين عليها دون أن تخضع لأي نوع من المراجعة والنقد البناء الذي هو أساس التقدم في كل العلوم. وبدلا من هذا تم تبني مقولات بائسة وبالية لحصار العقل من عينة أن من تمنطق فقد تزندق والترويج لقناعة أصبحت راسخة بأن من يطلق العنان لعقله ويبدأ في إعمال الفكر والمنطق سوف ينتهي به المطاف إلى الكفر عملا بالمقولة الشهيرة بأن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلاله وكل ضلاله في جهنم. وهذا دليل على أن العقل الإيديولوجي السلفي تصور بشكل مخطئ أنه يسيطر على الألفاظ والشعارات، ولكن الواقع والتاريخ أثبتا أن العكس هو الصحيح إي أن الألفاظ والشعارات أصبحت هي المسيطرة على هذا العقل حتى أصابته بحالة من السبات امتدت لقرون ولازالت معنا حتى يومنا هذا إلى حد أننا لم نعد قادرين بل ومقاومين للتعلم من تجارب الآخرين وما يشهده العالم شرقا وغربا من تقدم وإبداع في كل المجالات وبسرعة مذهلة، ونتيجة لهذا لم يعد لنا أي إسهامات حقيقية في كل العلوم والمعارف حتى أصبحنا عالة على العالم. وحتى في مجالات حقوق الإنسان والتنمية البشرية فإن أغلب عالمنا العربي ينازع الدول الأفريقية الفقيرة على مراكز المؤخرة في كل المجالات. وأتذكر هنا رأي مشهور للشيخ الشعراوي قال فيه ما معناه إننا لسنا بحاجة للبحث والدرس والتطوير لأن الله سخر لنا علماء الغرب للقيام بهذه المهام وما علينا إلا نحمد الله على هذه النعمة ونستريح ونستمتع بمنتجات أبحاثهم وعلومهم التي جعلت منهم عبيدا لنا! وبعد فإن ما حثني على كتابة هذا المقال القصير كان فيديو صغير أرسله لي صديق من مصر يظهر فيه مجموعة من طلاب جامعة الأزهر وهم يصرخون في وجه مفتي مصر السابق علي جمعة الذي على ما يبدو دعي لإلقاء محاضرة فيهم. الطلبة كانوا يصرخون مطالبين بأن يخرج الرجل من القاعة وبعضهم كانوا في منتهى العصبية ويبكون وهم يرددون حسبنا الله ونعم الوكيل. ولما سألت صديقي عن السبب في الهجوم على الرجل المعروف بأنه من شيوخ السلطان، قال لي إن السبب هو أن الرجل يصدر فتاوى مخالفة لصحيح الإسلام، وأن فتواه تصنف من قبل شيوخ آخرين على أنها بدع، ومنها أنه أصدر فتوى بأن الجنة ليست حكرا على المسلمين فقط وأن الكثير من الناس الصالحين في الأديان الأخرى يمكن إن يدخلوا الجنة مع المسلمين. وبالرغم من عدم تقبلي لهذا المفتي لتزلفه للسلطة، إلا أنني أؤيده في هذه الفتوى بالذات لأنها تحمل رسالة التسامح والمشاعر الإنسانية التي نتمنى أن تسود بين البشر من كل الملل لان الأديان فشلت في أن توحدنا عكس الإنسانية والتسامح التي يمكن أن تجمعنا. ولذلك كانت دهشتي وحزني أن يغيب هذا الحس الإنساني لدى طلبة الجامعات لدينا، وهذا مؤشر على أنهم يعانون ليس فقط من الضحالة العلمية وهم مظلمون في هذا نتيجة إهمال التعليم في مصر، ولكنهم أيضا يعانون من ظاهرة سبات العقل التي نتحدث عنها وهذا شيء مخيف لأنني حسبت قبل أن يوضح لي صديقي سبب الانتفاضة العنيفة للطلاب، أنهم غاضبون لان المفتي السابق لم يتحدث مرة واحدة في حياته عن مشاكل مصر الحقيقية ومشاكل شبابها من البطالة والعنوسة والفساد والاستبعاد والتضخم والفقر المتزايد وإهمال القواعد الأساسية للتنمية البشرية ومن أهمها التعليم والرعاية الصحية والاجتماعية لمنخفضي الدخل وهم الأغلبية العظمى في مصر وبدلا من هذا كان ولازال المفتي السابق يكتفي بإصدار فتاوى غيبية لا قيمة لها. والحقيقة أنني أصبت بخيبة أمل شديدة في شبابنا لأنهم لا يختلفون كثيرا عن المفتي السابق فهم مهمومون بالجنة وليس بقضايا وطنهم الذي يمر بمحن عديدة وخطيرة هذه الأيام. وإزاء هذا السبات العقلي والموروث الديني والشعبي السلبي السائد من عينة الرضا بالمكتوب، وأن الصبر اللانهائي هو مفتاح الفرج، وأن القناعة كنز لا يفنى، وأجري جري الوحوش غير رزقك لن تحوش، والمنحوس منحوس ولو علقوا على. …فانوس، وهي مقولات تراثية تحث على أنه من الأفضل دائما ألا تبرح مكانك وأن تجلس وتستريح وتتوكل على الله دون أن تفعل شيئا سوى الدعاء. إزاء كل هذا يكون السؤال هل هنالك جدوى من المطالبة بالإصلاح؟ والإجابة وبلغة الاقتصاد فإن الطلب على الإصلاح لإخراج العقل العربي من سباته ضعيف جدا ولذلك فإن المعروض منه “أي الإصلاح" من قبل ولاة الأمر محدود للغاية، وهذا بالطبع شيء ملائم لولاة الأمر وحاشيتهم الذين يتربحون من سبات عقولنا بما يفوق خيالنا وهم معزولون عنا ولا يشعرون بمعاناتنا. وكنوع من التجهيل فإن حكوماتنا دائما ضد الفكر والنقد الحر وتتبنى فقط الفكر الموالي لها والمضلل للجماهير. وعندما نتكلم عن الإصلاح الديني فإن علينا توخي الحذر لان الإصلاح في بعض الأديان والمذاهب قد يكون مطلوبا للعودة إلى التسامح والمحبة والعيش المشترك في سلام، ولكن الإصلاح في بعض الأديان الأخرى قد يعني العودة إلى الممارسات الدينية القديمة للرجوع إلى صحيح الدين من خلال قطع الإيادي والأرجل من خلاف والقتل والحرق والعنف، ولذلك قد يكون من الأفضل عدم التحدث عن موضوع الإصلاح قبل أن تتلمس خطاك وتعرف إلى أين أنت متجه. ولكن يبقى الأمل وهو أن نعمل جميعا على إيقاظ العقل الجمعي من خلال حملات ومقالات التوعية التي تنشر على مواقع عديدة منها موقعنا الرائد الحوار المتمدن، ليس على المستوى الشعبي فقط، ولكن حتى على المستويات السياسية والنخبوية حيث نلاحظ جميعاً أن سبات العقل والتسلط سائد على كل المستويات. وقد لاحظت هذا بنفسي في الكثير من الدول العربية والإسلامية التي زرتها حيث يتسلط رؤساء الأحزاب والكوادر المحيطة بهم على الأعضاء وكثيرا ما يتجاهلونهم أو يتعاملون معهم بطريقة فوقية وهو ما يجعل الأعضاء يشعرون بأن لا قيمة لهم وينطبق هذا على الليبراليين والإسلاميين واليساريين والعسكريين، وهذا التسلط الذي يقابل بالخوف هو جذر ظاهرة سبات العقل واللامبالاة التي تعيشها الأغلبية. والحل يكون في استئصال شأفة التسلط والاستبداد وانتخاب مسئولين يؤمنون بمبادئ الحوكمة الحديثة التي تقوم على أساس المشاركة والشمول والشفافية والمساءلة وتوازن واستقلال السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية عن بعضها البعض واحترام حق الناس في التعبير والتفكير والاعتقاد لأنه يستحيل أن يلغي النص العقل والتفكير. وكما تعلمنا من التاريخ فإن فلسفة وفكر التنوير في الغرب هو ما أدى إلى بناء الدولة المدنية الحديثة التي تحترم حقوق الإنسان وتعمل من أجل الجميع وليس النخبة فقط. وعلينا أن نتذكر أيضا أن الليبرالية التي شهدتها بعض الدول العربية في القرن الماضي استمرّت لفترة قصيرة لان الفكر الليبرالي كان محصورا فقط في نخبة صغيرة للغاية ولم يصل للجماهير كما ينبغي وبشكل واضح. ولذلك لم تتحمس له الغالبية العظمى عكس الفكر الديني الذي تحالف مع السلطة وقضى على الليبرالية الوليدة بسرعة مذهلة والسبب في هذا أن الفكر التنويري لم يمهد له ولم تبذل جهودا كبيرة لنشره وهذا هو سر انتكاس كل ثوراتنا. والخلاصة أن مبادئ الحوكمة الحديثة التي تحدثنا عنها في ثنايا المقال هي أملنا في إيقاظ العقول من سباتها وتخليص الناس من الأوهام ومن الإحساس بالغربة والخوف داخل أوطانها ومن ثم عودة الوعي والشعور بالانتماء من جديد. وأختم مقالتي القصيرة ببيتين من قصيدة لأمير الشعراء والفيلسوف أحمد شوقي:
وكل بساط عيش سوف يطوى وإن طال الزمان به وطاب
ويسأل في الحوادث ذو صواب فهل ترك الجمال له صوابا

مستشار اقتصادي