بعض التبعات الخطيرة لحرب أوكرانيا


محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن - العدد: 7188 - 2022 / 3 / 12 - 00:55
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

تعلمنا عبر تاريخ الإنسان على الأرض أن أنظمة الحكم الاستبدادي خاصة عندما تكون كل مقدرات البلاد في قبضة شخص واحد غالبا ما تتسبب في كوارث لنفسها وللعالم، وتعلمنا في عصر الحداثة أن التعددية واستقلال السلطات التشريعية والقضائية والرقابية عن السلطة التنفيذية لها فوائد ومزايا لا حصر لها ومن أهمها تفعيل مكونات الحوكمة الرشيدة مثل دولة القانون والشفافية والمحاسبة وحرية الراي والتعبير المكفولة للجميع. وبمقدورنا أن نثبت كل هذا دون أن نذهب بعيدًا إذ يكفي أن ننظر إلى أحوال عالمنا العربي المزرية لندرك على الفور أن ما يعاني منه المواطن العربي من بؤس وقهر وعدم الأمان والإحساس بالغربة في موطنه والرغبة في الهروب إلى أي مكان آخرما هو إلا محصلة اختزال الوطن في حكم فرد واحد يدعي أنه أتى مخلصا "بتشديد اللام" وإنه يؤمن بمبادئ الديموقراطية بينما هو يشهر بندقيته في وجوهنا طوال الوقت. وما يحدث الآن من غزو روسيا لأوكرانيا ما هو إلا مثال آخر على أن نظام الرجل الواحد وهو هنا الرئيس بوتين يمكن أن يلحق دمارا يفوق كل التوقعات لبلده ولإوكرانيا وللعالم أجمع، وسوف نعرض بشكل مقتضب لبعض التطورات الاقتصادية والسياسية الخطيرة التي لم تكن في الحسبان والتي نجمت عن هذه الحرب التي لا تتسم بأي نوع من العقلانية من جميع أطرافها:
١ مع انحصار متحور الكورونا الحالي والمسمى بأوميكرون وبدء الدول في تخفيف القيود التي كانت مفروضة على معظم الأنشطة، كانت البنوك المركزية أيضا في الغرب على وشك التعامل مع التشوهات التي شملت كل من السياسات النقدية والمالية التي كتبنا عنها من قبل ومن أهمها طباعة النقود وتخفيض أسعار الفائدة وسياسات التيسير الكمي بغرض إنعاش الأسواق وقطاع الأعمال أثناء فترة الغلق الاجباري. وبالفعل كانت هذه البنوك على وشك البدء في سحب السيولة الزائدة في الأسواق والبدء في رفع أسعار الفائدة للسيطرة على التضخم المتنامي في جميع دول العالم ولكن الحرب في أوكرانيا وما نجم عنها من زيادة اضطرابات سلاسل الامدادات عبر العالم ونقص كبير في الكثير من السلع الاستراتيجية وارتفاع أسعارها بمعدلات كبيرة كما سوف نوضح حالًا، أدت هذه التطورات السلبية إلي معضلة ما نسميه في الاقتصاد بالكساد التضخمي وهو مشكلة معقدة ويصعب التعامل معها لأنها عبارة عن تباطؤ في النمو الاقتصادي مع زيادة في التضخم وهذه الظواهر مناقضة لبعضها البعض ولا تندلع معا إلا نادرا وعادة ما تحدث في أوقات الحروب الكبيرة .ودون أن ندخل القارئ الكريم في تعقيدات فنية لا داع لها فإن هذه التطورات سوف تضطر البنوك المركزية إلى تأجيل خططها آلتي أشرنا إليها وهو ما يعني الاستمرار في السياسات النقدية والمالية غير المعتادة والتي نعرف جيدا أن آثارها بعيدة الأمد غير جيدة شأنها شأن معالجة شخص مريض بداء خطير بعقار الاسترويد لفترة طويلة رغم خطورة هذا على جهازه المناعي ولكنها سياسة المضطر للحفاظ على حياة المريض.
٢ وصفنا هذه الحرب باللاعقلانية كما سبق لأنه كان بمقدور رئيس أوكرانيا السيد زلينسكي تجنيب بلاده هذه الحرب التي لا طاقة له بها، ولكنه ظن بسذاجة أن أمريكا ومن ورائها حلف الأطلسي سوف يدخلون في مواجهة عسكرية مع روسيا حتى ولو تحولت إلى حرب عالمية خطيرة ومدمرة لأوروبا وكل هذا من أجل أوكرانيا! والمؤسف أن زلينسكي صرح مؤخرا أنه لا لم يعد يفكر في ضم بلاده إلى حلف الأطلسي بعد أن أدرك متأخرا وبعد فوات الأوان أن الحلف عاجز عن الدفاع عن أوكرانيا! كما أن الامريكان والأوروبيين من ناحية اخري ورطوا أوكرانيا في هذه الحرب من أجل استنزاف روسيا فقط لا غير لانه لم تكن لديهم نية في ضم أوكرانيا للأطلسي على الاطلاق ومع هذا رفضوا إعطاء تعهد بهذا المعنى كما طلب بوتين ، وبدلا من هذا تم استدرك بوتين بسهولة لهذه الحرب التي بدأت بالفعل في انهاك روسيا اقتصاديا ومعنويا وبشكل لم يتصوره هذا الديكتاتور المستبد الذي كان بمقدوره منع زلينسكي من الانضمام للحلف الأطلسي بطرق عدة مثل قطع إمدادات الوقود عن أوكرانيا أو تأليب التجمعات الروسية داخلها ضد حكم زلينسكي، وغيرها من الضغوط التي لا يعجز جاسوس متمرس عن القيام بها دون اللجوء لهذا الغزو الأرعن الذي يكون ضحاياه دائما من الأبرياء.

٣ الآن تسعى القوات البحرية والبرية الروسية إلى غلق كل منافذ أوكرانيا على البحر الأسود وهي على وشك تحقيق هذا الهدف وهو ما يعني حرمان أوكرانيا من تصدير حاصلاتها الزراعية وحرمانها من تلقي أي إمدادات من الخارج. والأخطر من هذا ونتيجة للغزو الروسي المتوحش فإن المزارعين الأوكرانيين قد لا يتمكنون من زراعة القمح هذا العام حيث يبدأ موسم زراعته هنا في أوروبا عادة في شهر مارس. وباعتبار أن كل من روسيا وأوكرانيا من كبار مصدري القمح والذرة والحبوب الأخرى في العالم فإن هذه الحرب كانت السبب المباشر في زيادة أسعار هذه الحاصلات بنسب وصلت في بعضها إلى ٥٠٪؜ . وكذلك أدت حالة التوتر بين الغرب وروسيا والمقاطعة التي فرضتها أمريكا ومعظم دول حلف الناتو على البترول والغاز الروسي أدت إلى زيادة أسعار البترول والغاز والفحم والحديد والنيكل والألومنيوم بمعدلات فلكية وغير مسبوقة وذلك في خلال الأسبوعين الماضيين. وسوف يكون لهذا الأسعار المرتفعة تبعات مؤلمة وربما خطيرة على الدول الفقيرة التي تستورد هذه السلع الإستراتيجية خاصة الحبوب. وهناك دائما شركات وأفراد يتربحون من التضخم، بل ويزيدونه اشتعالا دون أدنى مبالاة بمعاناة الفقراء حول العالم.
٤ وبمناسبة الحديث عن الفقراء فإن من الظواهر العجيبة التي نلاحظها كاقتصاديين هي أن الفقير يتضرر بشدة في وقت الأزمات ولا يستفيد كثيرا في وقت الرخاء بينما الغني لديه من المهارات والامكانيات والعلاقات ما يجعله يزداد غنى في كل الأوقات والظروف سواء كانت مواتية أو غير مواتية، ولعلنا نتذكر كيف زادت ثروات الأغنياء عبر العالم وبأرقام قياسية في عامي جائحة الكورونا. ولذلك تتزايد فجوة الدخل والثروة بين الفقراء والاغنياء بشك مستمر، ويبدو أن كل ما نقترحه كاقتصاديين من سياسات لتضييق هذه الفجوات نجد أن هناك دائما ما يعيق تطبيقها وعلى رأس هذه العقبات النفوذ الذي يمتلكه الأغنياء وقربهم من السلطة وصناع القرار. ولذلك نقول دائما إن بعض الأغنياء لا يشبعهم شيئا وهم بحاجة دائما للمزيد من الأموال وبذلك يكون الغني من هؤلاء لا يزيد عن كونه شخصًا فقيرًا يمتلك مالًا! لأن الغنى الحقيقي هو الشعور بالرضا.
٥ ومن التطورات السياسية الخطيرة والمؤسفة لهذه الحرب العبثية هو ما أعلنه مستشار ألمانيا الجديد السيد شولتز من تخصيص اعتمادات مالية ضخمة لتحديث وزيادة قدرات الجيش الألماني كنوع من الردع لأي أفكار أو نوايا شيطانة للسيد الديكتاتور بوتين، وكذلك أعلن العودة لتشغيل بعض المفاعلات النووية لتوليد الكهرباء والبدء في تشغيل بعض المحطات التي تعمل بالفحم والتي كان قد تم الاتفاق على إيقاف تشغيلها مع حزب الخضر -المتحالف مع شولتز في السلطة- لتقليل انبعاثات الكربون والحفاظ على البيئة في ألمانيا. يتم كل هذا من أجل تقليل اعتماد ألمانيا على إمدادات الغاز الواردة من روسيا والاستغناء عنها تدريجيا، وقد وافق حزب الخضر على الفور على هذه التعديلات غير المتماشية مع مبادئ الحزب باعتبار أن أمن ألمانيا يعلوا على اعتبارات الحفاظ على البيئة. ومن الآن فصاعدًا سوف تكون هذه هي سياسات كل الدول الأوروبية الأعضاء في حلف الناتو لانه لم يعد هناك أي ثقة في بوتين. وهكذا نرى كيف يتغير العالم من سيء لأسوأ بسبب أنظمة الحكم الديكتاتوري، وودعا للحياة على هذا الكوكب الجميل.