هل لازلنا بحاجة للأديان؟

محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن - العدد: 4739 - 2015 / 3 / 5 - 22:00
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

منذ بدء الخليقة والإنسان في حالة بحث دائم عن خالقه والغرض الذي خلق من أجله ولأن هذا الخالق ظل غامضاَ
ولم يتجلى لخلقه ابدا فقد قام الإنسان بخلقه على شاكلته وحسب احتياجاته وصنعت كل حضارة وكل تجمع بشري الإله الخاص بها حسب مزاجها وتحدياتها وطبيعتها الجغرافية.

ولذلك نجد أن آلهة الشعوب التي تتسم طبيعتها الجغرافية بالخصوبة والسعة تتميز بالتسامح والتغاضي عن الصغائر وأن الشعوب التي تتسم طبيعتها بالجفاف والندرة في كل شيء فإن آلهتها تتميز بالقسوة والغلظة وتقف أمام كل صغيرة وكبيرة.

وباختصار شديد فإن البشرية عرفت مئات إن لم يكن آلاف الأديان والآلهة عبر تاريخها القصير ولم تجتمع ابدا على دين أو إله واحد ولذلك فإن محاولات الحركات الإسلامية المتطرفة مثل داعش أو بوكو حرام فرض إلهاَ بعينه على البشرية جمعاء ماهي إلا محاولات بائسة ومصيرها الفشل.

أما العلم فله رأي آخر في مسألة الأديان حيث يرى أن قصة الخلق كما وردت في الأديان ما هي إلا ضرب من الاساطير وأن الإنسان ما هو إلا نتاج الصدفة وبعض التفاعلات الكيميائية التي كانت المياه هي العامل الأساسي فيها.
وكلنا يعرف نظرية دارون في النشوء والارتقاء والتي أثبتت أن الإنسان ينتمي الى فصيلة القرود. وبالرغم من عدم وجود دليل قاطع على صحة هذه النظرية إلا إنني أميل إلى تصديقها لأن الإنسان المعاصر لا يزيد في تصرفاته عن كونه قرد يتسم بالغباء ويكفي أن ترى ما يحدث من دمار وقتل وتخريب للطبيعة من جانب هذا القرد المسمى بالإنسان والذي لم يفلح أي دين أو أي إله في تهذيب خصال التوحش والطمع والأنانية التي جبل عليها هذا القرد.

في الماضي كان البشر يتقاتلون على الأرض والموارد والرغبة في استعباد بعضهم البعض ولازالت هذه العوامل من مبررات قيام الحروب والاقتتال حتى يومنا هذا ولكن أضيف إليها في عصرنا عامل الحروب الدينية التي تندلع دفاعاَ عن الرب المجهول.

في الماضي أيضا - وعكس ما هو حاصل في عصرنا - لعب الدين دوراً هاماً في نمو واستقرار المجتمعات البدائية، حيث نجح رجاله والقائمين عليه في تصميم قواعده وتعاليمه بما يحقق أهدافهم وأهداف الحاكم في ضبط البلاد والعباد. وقتها لم يكن هناك فصل بين الدين والدولة وكان الكاهن الأعظم أو القس أو الشيخ ملازماً للحاكم فلا شرعية ولا نفوذ لأحدهما دون الآخر وكان هذا هو حال كل أنظمة الحكم القديمة مع اختلاف طفيف في التفاصيل ابتداءاً من الحضارة الفرعونية والرومانية والمسيحية والإسلامية .... الخ.

في كل هذه الحضارات والمجتمعات الأولى لعب الدين دوراً هاماً في ربط الناس ببعضهم البعض وحمايتهم من الآخر المتربص دائماً لأي فرصة قد تسنح للغزو أو السلب أو السبي. وبمعنى آخر فإن الدين لعب دوراَ هاماً يماثل دور القانون والنظام الذي نعرفه اليوم في حماية وبقاء المجتمعات الأولى وتنظيم حياتها بشكل أو آخر حتى وإن كان مناقضا في بعض مبادئه لما نطلق عليه اليوم في مجتمعاتنا المعاصرة المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان.

ومن خلال الدين أيضا ووعوده السخية للمطيعين بحياة أخرى أفضل بكثير من الحياة الأرضية تمكن رجل الدين والحاكم من جعل الفرد العادي يعلي مصلحة الحاكم والعشيرة على مصلحته الخاصة حتى ولو اقتضى الأمر قيامه بالتضحية بنفسه في الحروب التي لم تنقطع من أجل حماية الحاكم والأرض والعشيرة، وهذه وظيفة هامة جدا للدين.

وبالإضافة إلى ما سبق فإن الدين نجح أيضاً في تحقيق نوعاً من النمو الاقتصادي في حياة المجتمعات الأولى حيث تضمنت كل الأديان مبادئ تحث على الصدق والأمانة في التعاملات التجارية والشخصية مقابل مكافآت كبيرة في العالم الآخر للملتزمين. وهذه أيضا وظيفة هامة جدا للدين لولاها لدبت الفوضى في المجتمعات الأولى.

وحتى مع تقلص دور الدين في المجتمعات المعاصرة خاصة الغريبة منها أمام اكتساح التيارات العلمانية والحداثية وحلول المؤسسات المدنية والدساتير والقوانين محل الكنيسة والمسجد والمعبد بشكل كبير، لازال الدين حاضراً في وجدان الناس ويكفي في هذا أن ترى كيف يتم استقبال بابا الفاتيكان في أي بلد أوروبي أو أسيوي أو أفريقي بواسطة الملايين من عامة الناس.

ولكن ينبغي الانتباه هنا إلى أن هذا الحضور الديني أصبح حضوراً اجتماعياَ واحتفالياً أكثر منه حضوراَ سياسياً أو فكرياً في حياة الناس بل أن الرأسمالية عززت من هذا الحضور الاجتماعي للدين لتحقيق المزيد من الأرباح حتى أن شهر ديسمبر من كل عام وهو شهر أعياد الميلاد أصبح فرصة لتحقيق المزيد من المبيعات والبرامج السياحية والأطعمة والمشروبات الخاصة بالكريسماس تماماً مثلما هو حاصل في شهر رمضان لدى المسلمين الذي تحول إلى مناسبة للطهي والأكلات الدسمة والكنافة والقطايف والمسلسلات والفوازير والدورات الرمضانية المسائية لكرة القدم في الشوارع.

وبالرغم من التشابه الظاهر للتحول الديني في كافة المجتمعات المعاصرة إلا أن المجتمعات الإسلامية تختلف عن غيرها من المجتمعات المسيحية والبوذية والهندوسية في إن دور الدين لازال مشابهاَ لما كان عليه الحال في المجتمعات القديمة من زاوية أن الاسلام لازال غير مفصول عن الدولة ولازال مولانا وأبونا ملازمين للحاكم في كل المناسبات والتحولات السياسية الكبيرة مثل الانقلابات العسكرية أو الاجتماعية. وعلى سبيل المثال فإنه من لوازم استكمال الديكور في أي احتفالية وطنية في مصر أن أترى شيخ الأزهر جالساَ إلى جوار بابا الكنيسة المصرية في حضرة الرئيس.
وهو تحالف مفيد للطرفين حيث يكتسب الرئيس نوعاً من المشروعية من حضورهما كما أن الشيخ والبابا يكتسبان أيضاً نوعاً من الاحترام والنفوذ لدى الناس نتيجة قربهما من الحاكم والسلطة التنفيذية.

والأخطر من هذا أن تسييس الاسلام وعدم الفصل بينه وبين السياسة أصبح مدعاة للفخر بدعوى أن الإسلام دين ودولة كما يروج شيوخنا. وقد أدى الادعاء إلى مشكلة خطيرة وهي اقحام الدين في السياسة واستغلاله بشكل فج لخداع الناس وتحقيق مكاسب سياسية للوصول الى الحكم ولا يحتاج الأمر إلى فراسة لرؤية كيف يقوم الإسلام السياسي الان بتدمير المجتمعات العربية كما هو حاصل حالياً في ليبيا واليمن وسوريا والعراق والبقية تأتي.

والمشكلة الأخرى لدي المجتمعات الإسلامية هي الدين لا يمثل فضاءاَ خاصاَ كما هو الحال في المجتمعات غير المسلمة حيث يعتبر الدين مسألة خاصة بكل فرد لا يهتم بها الآخر أو المجتمع ولكن الحاصل لدينا أن الدين أصبح فضاءا عاما ويسمح لكل من هب ودب أن يقحم نفسه في حياتك الخاصة ويفرض وصايته على علاقتك بالإله وهو ما أدى إلى أن يكون الدين مصدرا من مصادر الفتنة والاقتتال بين أبناء البلد الواحد والدين الواحد.

مما سبق يتضح أن الدين في كل المجتمعات المعاصرة لا يمثل مشكلة في حد ذاته وأنه محيد وبعيد عن السياسة والحوكمة كما أنه يمثل فضاءا خاصا بمعنى أن علاقتي بربي هنا في الغرب هي علاقة بيني وبينه وليست بيني وبينه وبينك.
ولكن الدين أصبح معضلة كبيرة لدينا نحن كمسلمين نتيجة انقلاب المنظومة لدينا كما أوضحت سابقا.

ولكن المشكلة أعقد من هذا إذ أن الإسلام السياسي منذ بدئه في مصر على يد حركة الاخوان المسلمين لم يترعرع ولم ينمو إلا في ظل الأنظمة السياسية الاستبدادية والفاسدة، ولذلك لا نستطيع أن نلوم شيوخنا أو الحركات المتطرفة مثل داعش أو القاعدة وحدهم على ما وصلنا اليه من بؤس ومعاناة بل ينبغي أن نوجه الاتهام الأساسي إلى الأنظمة السياسية الاستبدادية الحاكمة في عالمنا العربي التعيس، وللأسف فإن من يحمي هذه الأنظمة هم سدنة الأديان من خلال ما يصبغونه عليها من مشروعية مقابل ما يحصلون عليه من امتيازات. ومن ثم فإننا ندور في حلقة مفرغة يصعب الفكاك منها في ظل حالة عدم الوعي والتغييب التي تعيشها شعوبنا وسيادة حالة من القناعة لديها بأن حالة التدين الكاذب التي تعيشها سوف تخلصها بشكل ما من ويلات الظلم والاستبداد والخداع التي تحيط بها من كل جانب والتي يدعمها نظام تعليم متخلف وأجهزة إعلام متواطئة.

مما سبق يمكن أن نخلص الا أن الدين في حد ذاته ليس مشكلة وإنه يمكن أن يكون عامل بناء كما أنه يمكن أن يكون عامل هدم والعبرة هنا بنوعية نظام التأويل السائد، فالقرآن حمال أوجه كما قال علي بن أبي طالب، بمعنى أنه نص مفتوح ويمكنك أن تستخلص منه ما تشاء عكس ما يقول به شيوخنا ولعل هذا هو أملنا في البقاء.

وللحديث بقية.

محمود يوسف بكير
مستشار اقتصادي مصري