محنة الديمقراطية وحقوق الإنسان في مصر

محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن - العدد: 4494 - 2014 / 6 / 26 - 23:41
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

كلما زرت بلدي مصر أصاب بوجع في قلبي وأنا أرى أن الحلم الأكبر لزهرة شبابها هو الهجرة إلى خارجها فقط من أجل أن يتمتع الشاب من هؤلاء ببعض من الديموقراطية وبحقوقه كإنسان حتى ولو انتهى به الأمر إلى العمل بمهنة متواضعة في أحد شوارع نيويورك أو لندن أو باريس.

هناك أبحاث ومناقشات عديدة في الأوساط الأكاديمية في الغرب حول مدى ملائمة الديمقراطية للدول التي تعاني من الفقر وعدم المساواة (اتساع فجوة الدخل بين الأغنياء والفقراء) وكذا الدول التي تتميز بعدم تجانس سكانها وتتعدد انتماءاتهم العرقية والمذهبية والتي سوف نوضح نتائجها في سياق المقال.

وفي هذا الصدد فإن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قد صرح في أكثر من مناسبة خاصة قبل اعتلائه عرش مصر بأن الديمقراطية ترف وأن السعي لتطبيقها في مصر الآن هو ظلم للشعب المصري لأن هذا سيؤدي ببساطة إلى انهيار الدولة، وأكد أن الأولوية بالنسبة له هي استعادة هيبة الدولة وبسط نفوذها وفرض الأمن والاستقرار في ربوع مصر.
والمشكلة الأولى هنا هي أن السيسي بهذا قد قرر حرمان المصريين من أهم مكتسبات الحداثة والتمدن الا وهي الديمقراطية وحقوق الانسان وهي مكتسبات حققتها البشرية بعد صراع دموي مرير أستغرق قرونا بين الشعوب المسحوقة وحكامها المستبدين.

أما المشكلة الثانية وهي الأخطر والأمر فتتمثل في أن قطاعا كبيرا من المصريين يؤيد السيسي في هذا التوجه المعاكس لحركة التاريخ الإنساني، بل إن عددا غير قليل من المثقفين والإعلاميين المصريين يرون أن الديمقراطية الغربية لا تصلح كأساس لضبط حركة المجتمعات الفقيرة والمتخلفة اقتصاديا مثل مصر وهي مجتمعات لابد أن تحكم بالحديد والنار منعا للفتنة والفوضى.

وقد بدأ السيسي عهده بمنع الكثير من مظاهر الفوضى والبلطجة في الشارع المصري والتي وصلت إلى حد لا يطاق والمصريون جميعاَ يرحبون بهذا التطور الإيجابي وإن كانوا يتسألون عن السر في تجاهل النظام العسكري الحاكم لهذه المشاكل حتى تولي السيسي الحكم بشكل رسمي!

ولكن هناك تطور آخر يتمثل في خنق كل مظاهر الديمقراطية التي تمتع بها المصريون لفترة قصيرة بعد ثورة 25 يناير وهي حرية التعبير وحرية التظاهر وحرية الاختلاف مع النظام الحاكم أياً كان، وهناك شواهد عديدة على هذا التوجه الذي ألمح إليه السيسي بكلمات بسيطة ولكن بأفعال قوية مثل تحويل عدد كبير من أساتذة الجامعات إلى النيابة العامة بتهمة التعاطف مع نظام الرئيس المعزول محمد مرسي واعتقال الآلاف من نشطاء ثورة 25 يناير وحظر حركة الأخوان المسلمين وصدور أحكام بالإعدام على المئات من الخصوم السياسيين لنظام السيسي واستخدام قضاة معينين لتصفية القضاة المطالبين باستقلال النظام القضائي بشكل حقيقي، ومؤخراً استهداف كل صحفي قناة الجزيرة في مصر بشكل مسيء لسمعة مصر مهد الحضارة الإنسانية ناهيك عما قد يسفر عنه هذا من نتائج سلبية على علاقة مصر بالعالم الخارجي في وقت تحتاج فيه مصر الى كل أنواع الدعم الخارجي.

وعودة الى الرأي القائل بان الديمقراطية مفهوم غير ملائم لمجتمعات تعاني من الفقر والبطالة وتدهور معدلات النمو الاقتصادي وهو الرأي الذي يتبناه الرئيس السيسي كما ألمحنا سابقاً ومعه الملايين من المصريين الذين انتخبوه والكثير من المثقفين والسياسيين في مصر الذين يعبرون عن قناعتهم بأن الشعب المصري لم ينضج بعد كي يتحمل تبعات أن يمنح حكماً ديمقراطياً كاملاً على أساس أننا جربنا هذا لمدة عامين تقريباً بعد ثورة 25 يناير وانتهى الأمر بحدوث فوضى شاملة وانهيار اقتصادي ومجتمعي غير مسبوق في تاريخ مصر الطويل.

والحقيقة أن تحميل الديمقراطية وحدها مسئولية ما حدث في مصر بعد ثورة 25 يناير من فوضى وتفكك وصراع يمثل نوعاً من التجني والتعامي بسوء نية عن حقيقة ما حدث في السر والعلن وفي الداخل والخارج وبإتقان شديد وأحيانا بجهل أشد لإيصال ثورة مصر ضد الاستبداد الي طريق مسدود حتى تكون عبرة لكل شعوب المنطقة وقد كان وهذا حديث أخر.

ولكن ما نود أن نذكر به ونؤكد عليه هنا أن كل الأنظمة الثلاثة التي حكمت مصر بعد ثورة 25 يناير ممثلة في الطنطاوي ومرسي والسيسي لم تؤمن بالديمقراطية واستغلتها أبشع استغلال للضحك على الجماهير غير الواعية من أجل تحقيق مكاسب سياسية وشخصية هي أبعد ما تكون عن الممارسات الديمقراطية السليمة التي نعرفها في الغرب.

كل ما شهدناه من الأنظمة الثلاثة لم يكن أكثر من مخططات جهنمية خبيثة لتهميش الآخر وتشويهه وإن أمكن محوه تماماً من المعادلة السياسية وتصفيته معنوياً وإن أمكن جسدياً من خلال القتل المباشر أو السجن والتعذيب. وقد لعب الإعلام المصري دوراً دنيئاً في بث روح الصراع والكراهية والحساسيات بين أبناء الوطن الواحد وهو الدور الذي يلعبه الإعلام دائما كخادم للسلطة في كل الأنظمة الديكتاتورية القميئة التي لا تؤمن بالديمقراطية ولا بأبسط مبادئ حقوق الإنسان وهي منظومة فاسدة لا يمكن أن تجلب إلا مما نحن فيه من كراهية وتشرذم واحتراب. و بعد هذا نلوم الديمقراطية.

الديمقراطية لا تعني أكثر من الإيمان الأصيل بمبدأ العيش المشترك واحترام التعددية وحرية التعبير السلمي وحرية الاعتقاد وحق الحياة وحق الكرامة وحق الاختيار، الديمقراطية تعني دولة القانون والمساواة وخضوع الجميع لمبدأ المسائلة ومن أين لك هذا والشفافية وحماية حقوق الأقليات والأخذ بيد الضعيف وليس استغلاله وإذلاله.

فهل طبقت أي من الأنظمة الثلاثة أي من هذه المبادئ والخصال بأمانة وتجرد من المصالح الشخصية الضيقة؟

نعم للديمقراطية سلبيات ولكن لم يثبت وجود اي نظام سياسي آخر حتى الآن أفضل منها وكل المجتمعات المتقدمة في أوروبا وأمريكا لم تصل إلى ما تمتع به من تقدم ورفاهية واستقرار إلا من خلال تطبيق المبادئ الأساسية للديمقراطية التي أشرنا إليها سابقاً. ويكفي هنا أن نذكر بمقولة الإمام محمد عبده الخالدة بعد أقامته في فرنسا لعدة سنوات للدراسة عندما قال ما معناه " وجدت هنا إسلاماً بلا مسلمين، وفي بلادي وجدت مسلمين بلا إسلام "

وقد قال الإمام مقولته هذه منذ أكثر من 100 عام عندما كانت مصر تتمتع بهامش كبير من الحرية والديمقراطية، ترى ماذا يمكن أن يقول اليوم؟

ومرة أخرى فإن الأنظمة الثلاثة التي حكمت مصر بعد ثورة 25 يناير لم تحاول الأخذ بيد هذا الشعب المغلوب على أمره على درب الديمقراطية لاستعادة عزته وكرامته بل إنها أخافته منها وادعت إنها مصطلح غريب على ثقافتنا وعادتنا وتقاليدنا، وها هو السيسي يكرر اليوم مقولة كل من سبقوه من الحكام المستبدين والمترفعين على الشعب ويعاملونه وكأنه طفل رضيع يبثون في أذنه ليل نهار بأن الديمقراطية ترف من شأنه أن يدمر مصر وكأن الستين عاماً السابقة من حكم العسكر أدت إلى عمار مصر واستقرارها ورفاهيتها وسعادة أبناءها.

أن كل الأبحاث والإجازات العلمية في الغرب حول الديمقراطية وظاهرة التقدم في كل المجتمعات تثبت أن الديمقراطية الحقيقية والقضاء المستقل وحرية التعبير خاصة لدى المؤسسات الإعلامية وعلى رأسها محطات التليفزيون والصحافة هي الضمانة الحقيقية لوضع أي مجتمع على طريق التقدم والاستقرار ويكفي في هذا أن أذكر ما انتهت إليه دراسة استغرق إتمامها عامين قامت بها أربعة مراكز أبحاث Think Tanks” " في لندن وجوهانسبرج ونيودلهي وريودي جانيرو حول علاقة الديمقراطية بالتنمية الاقتصادية انتهت إلى نتيجة هامة اجتمع عليها أكثر الباحثون بأن الديمقراطية يمكن أن تلعب دوراً بناءاً في عملية التنمية الاقتصادية في المجتمعات التي تزيد فيها نسبة الفقر وعدم المساواة مثل الهند والبرازيل وجنوب افريقيا حيث أدي مناخ الحرية بشكل عام وحرية الصحافة بشكل خاص في هذه الدول إلى الحد من ظاهرة الفساد المستشري الذي يترعرع و يرتع بحرية عادة ودون أدنى حياء أو حذر في المجتمعات ذات الصحافة المقيدة والمضطهدة.

يا سيدي الرئيس إن كل ما يحلم به المصريين هو مجتمع نظيف من الفساد والاستبداد تحترم فيه أدميتهم وكرامتهم ويتمتعون فيه بحرية التعبير وحقهم في الاختلاف معك دون أن يتعرض لهم زبانية الأمن بالسجن والتعذيب دون أحكام قضائية من قضاء مستقل حقاً.

إنهم يحلمون بالعدل والمساواة في دولة يحكمها القانون الطبيعي وليس العسكري.

هذا هو ما نسميه بالديمقراطية فإذا لم يعجبك هذا التعبير فلك أن تسمي هذه المبادئ بما تشاء، سمها اشتراكية شيوعية اسلامية، مهلبية .... فقط هذا ما نريده أيا كانت التسمية، فهل تسمعنا؟