الفلسفة في مواجهة العصر الذري


نايف سلوم
الحوار المتمدن - العدد: 3119 - 2010 / 9 / 8 - 19:53
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

نقد خطاب هايدغر-1

أن تجعلك قراءة مقالة لهايدغر تعلق حاشية فهذا أمر حسن. وفي اعتقادي أن مرد هذا الأمر يعود إلى النَّبر الذي انتاب الفكر الأوربي كاستجابة لانحطاط الطبقة البورجوازية في أوربا انحطاطا ذا رجع عالمي . هذا الانحطاط وذاك النبر جعل مفكرين أوربيين ينشغلون بالاستراتيجيات اللغوية للقول الفلسفي بشكل أساسي وهو تقليد بدأ مع نيتشه.
المقالة ؛ مقالة هايدغر بعنوان: ما الفلسفة؟[1]
نبدأ بهذا القول لهايدغر: "لنتأمل لحظة ما يعنيه القول بأن عصراً من عصور التاريخ يتميز بكونه "عصراً ذرياً": إن الطاقة الذرية التي اكتشفتها العلوم وأطلقتها من عقالها قد تمثلت ، كأنما  هي القوة التي يجب أن تحدد مجرى التاريخ. والحق أن العلوم لا تكون إلا إذا تقدمتها الفلسفة، وقادتها . لكن الفلسفة هي "الفليلوسوفيا" . وهذه الكلمة اليونانية تربط حديثنا بتراث تاريخي"[2]
لنتأمل هذا القول: إنه نقد أولي للتقنوية ، أي لفكرة مفادها : أن "التقنية" هي التي تقرر في آخر الأمر مجرى التاريخ؟! هذا أولاً ،  وثانياً قول إيجابي وتقرير من هيدغر مفاده أن الفلسفة هي التي تقود القوة التقنية ، وبالتالي كاستنتاج ساذج : يعنى ذلك أن الفلسفة هي التي تحدد مجرى التاريخ كونها تقوده ، وثالثاً ، قول كهذا القول الذي بات ساذجاً يستفزنا لنقتبس عبارة من ماركس في الأيديولوجية الألمانية ، وكأن هيدغر قد حشر نفسه بين الأشخاص -وبطريقة رجعية- الذين حق عليهم قول ماركس بقوله: "نقد الفلسفة الألمانية الأحدث في أشخاص ممثليها فيورباخ، وبرونو بوير، وشترنر" وأنا أضيف ومارتن هيدغر! وهو ماركس يرد مباشرة على هيدغر بخصوص فكرة قيادة الفلسفة لمجرى الأحداث التاريخية، بالتالي القادة هم الفلاسفة: يقول ماركس في الأيديولوجية الألمانية في فقرة شطبت من المخطوطة ومثبتة في الهامش ص20 : "ليس هناك فوارق نوعية تفصل المثالية الألمانية عن أيديولوجية جميع الشعوب الأخرى. فهذه الأيديولوجية ترى هي الأخرى أن العالم تسوده الأفكار ، وأن الأفكار والمفاهيم هي المبادئ المقررة ، وأن الأفكار المقررة هي لغز العالم المادي الذي هو في متناول الفلاسفة" 20
الصحيح في قول هايدغر هو تقريره الصائب بأن الطاقة الذرية التي اكتشفتها العلوم هي قوة إنتاج أو قوة تدمير حسب علاقة الإنتاج التي تعمل هذه القوة في كنفها ، لكن ليست هي ما يقرر مجرى التاريخ . أما قوله الآخر من أن الفلسفة هي التي تقود العلوم ، وبالتالي الفلاسفة هم قادة العالم هو قول "أيديولوجي" أي قول زائف ومضلل. لكن هذا الزيف يؤشر إلى أمر آخر يقود العلوم ويضع قوة الطاقة الذرية في سياق أكبر وأعظم وأكثر تعقيداً ؛ أي يضع القنبلة في سياق مجتمع مدني بورجوازي ؛ أي في سياق سيطرة الطبقة البورجوازية الإمبريالية كطبقة قائدة وموجهة لاكتشافات العلم وشكل توجهه واستخداماته في صراعها مع خصومها وفي سعيها لتأبيد سيطرتها الطبقية في المجتمع المدني. ولكن ما المجتمع المدني؟
"إن شكل التعامل المعين بالقوى الإنتاجية الموجودة في جميع المراحل التاريخية السابقة، والمعين بدوره لهذه المراحل ، هو المجتمع المدني "45 أيديولوجية  .. إن المجتمع المدني يشتمل على مجمل علاقات الأفراد المادية ضمن مرحلة معينة لتطور القوى الإنتاجية ." 45 إن الذي يعين المراحل التاريخية هو المجتمع المدني كعلاقات إنتاج (شكل تعامل ) أو علاقات ملكية محددة تدخل في تناغم أو تصارع مع درجة معينة لتطور القوى الإنتاجية لعصر بعينه. فأشكال وأساليب الإنتاج القائمة في مرحلة معينة والمعينة بشكل الملكية المسيطر هي التي تحدد المراحل التاريخية من إقطاعية، ورأسمالية الخ.. إذاً القوى الإنتاجية ومنها التقنية وفق درجة تطورها تعمل ضمن نظام اجتماعي معين بعلاقات الإنتاج وتحت سيطرة شكل محدد من الملكية . هذا النظام وشكل الملكية المسيطر هو الذي يعين شكل استخدام التقنية وأشكال التقنية وتوجيهها المرغوب . إن إلحاح سؤال التقنية على الفلاسفة الأوربين بين الحربين يشير في أحد معانيه إلى أن التقنية ومنها النووية في استخداماتها المدمرة والمرعبة قد وضعت على جدول الأعمال بقاء النظام الرأسمالي وحياته وموته على مستوى علاقته بتطور قوى الإنتاج البشرية.
إن هيدغر الذي استعاض عن مقولة النظام الاجتماعي لعصر تاريخي بمقولة الفلسفة وقيادتها هذه الاستعاضة جعلته يربط حديثه عن الفلسفة بـ التراث اليوناني وبأصل كلمة فيلوسوفيا. إنه حنين الغرب لفجر تفلسفه، ونكوس عند هيدغر نحو الماضي علّه يجد تفسيراً لضياع التناغم عند البورجوازي الأوربي؛ ضياع التناغم بين علاقات إنتاج رأسمالية وقوة تقنية ذرية! . فأنت تعرف موت التناغم إذا استطعت معرفة شكل ولادته . إن التشقق الذي حصل في عصر هيدغر بفعل صعود الظاهرة الفاشية في الإمبريالية الرأسمالية بين الحربين العالميتين؛ في أوربا الغربية جعل هايدغر يدخل في حوار أو حديث كما تشاؤون مع تفكير اليونان كأصل للتفلسف الغربي عموماً . يقول هيدغر: "كلمة فيلوسوفيا تبدو كما لو كانت مكتوبة على شهادة ميلاد الحقبة المعاصرة من تاريخ العالم (تاريخ أوربا)، وهي تلك التي تسمى بـ "العصر الذري" " 55 . هل هذا مديح أم ذم لهذا الأصل بخصوص موضوع السؤال ، وكيفية السؤال ؟ هل يريد هيدغر أن يوجه اللوم لطريقة السؤال اليونانية بخصوص نتيجة هذا الطريق من التفكير وما آل إليه من "العصر الذري" . لسان حاله يقول : الطريقة التي بها نسأل ، والتي تفضي إلى جواب يفسر الموجود ويجعله طاقة مرعبة في يدنا هي طريقة يونانية وهذه  الطريقة في التفسير وصلت إلى مأزق تاريخي مميت . وسنبين فساد هذا الاستنتاج لاحقاً .
لكن كيف يقارب هيدغر طريقة السؤال اليونانية؟ إنه يبدأ : إننا نسأل ما هذا؟ فنلقى جواب : إنها شجرة ؛ ما هذا الذي هناك على البعيد؟ الجواب يتضمن أننا أطلقنا اسماً على شيء لم  نتعرفه تعرفاً دقيقاً  جاء في سورة البقرة : "وعلّم آدم الأسماء كلها .."[ 2/31]  .. إن علم آدم بالأسماء كلها يأتي جواباً على سؤال : ما هذا؟ "تي إستن" باليونانية. لكن إذا تقدمنا في السؤال واقتربنا من الموجود أكثر، نكون في حضرة الـ "تي استن" اليونانية  بحيث نسأل : "ما هي الشجرة؟" ؛ إنه ذلك الضرب من التساؤل الذي كشف عنه سقراط وأفلاطون ، وأرسطو . إن التقدم نحو الموجود والاقتراب منه في السؤال أكثر بدأ مع سقراط بشكل سلبي وتبلور مع أفلاطون وأرسطو بشكله الإيجابي . هذه المسافة من سؤال "ما هذا الموجود هناك ؟" إلى  سؤال " ما هو هذا الموجود؟" هو الانتقال من الحدس والعرافة بالأشياء إلى معرفة جواهر الأشياء " قال يا آدم أَنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم اقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون" [2/33 ]. إن سؤال : ما هذا؟ يشير إلى اهتمامنا بالأشياء من جهة ما هو حسي ؛ مرئي؛ أو فيزيائي . أما سؤال ما هو؟ فيقود إلى طريق معرفة جواهر الأشياء يقول الفارابي في كتاب الحروف: "ذلك أنا إذا قلنا "ما هذا المرئي" فإنا نعتقد في كل شيء نحسه .. إنما نسأل عن القصد الأول عن الشيء الذي ندرك فيه بالبصر هذه الأشياء أو أحدها .. فإن كان هكذا أي محمل على طريق "ما هو" فليس بمحسوس ولا الذي يحسه يخطر بباله في الذي حس به أنه كذلك.. والقدماء يسمون الموضوع الأخير وكلياته المحمولة عليه من طريق ما هو "الجوهر " على الإطلاق.. " 180-181 ويضيف الفارابي" "حرف "ما" الذي يستعمل في السؤال ، فإنه وما قام مقامه في سائر الألسنة إنما وضع أولاً للدلالة على السؤال عن شيء ما مفرد " 165 الحروف . وباعتبار الألف ليس حرفاً في العربية لأن الصوت فيه يخرج من دون أن يحد أو يقطّع في طريق خروجه و الألف يسري في مخارج الحروف كلها سريان الواحد في مراتب الأعداد كلها ، لهذا فهو قيّوم الحروف ، لأن أعيان الحروف تقوم به . والألف لا يتقيد بمرتبة ويخفي عينه أعين اسمه في جميع المراتب فيكون الاسم هناك للباء والجيم والحاء الخ.. والمعنى للألف " رسائل ابن عربي 52-53  لهذا كانت الميم (م) في العربية هي حرف السؤال. والميم هو النموذج الأول للنبوة خصوصا محمد ... وهو الاسم (حجاب الاسم) الذي به يدعو المؤمنون الله . الميم تحجب العلم عن عامة الجمهور لا عن خاصته ، الميم شأنها شأن صيغة العلم التي تدعو الفكرة للعقل دون أن تتدخل في فهمها . نقول إن الميم هي "حاجز" يجب اجتيازه لأنها تحجب المعنى . شخصيات قلقة 67-68 
ما يركز عليه هايدغر هو إبلاغنا بوجود مرحلتين في السؤال اليوناني ، الأولى "لم يكن يبحث في الأسئلة التي ذكرناها تواً عن تحديد أدق لما هي الطبيعة، ولما هي الحركة ، ولما هو الجمال " هذه المرحلة هي السؤال "ما هذا؟" سؤال عام وكلي ، سؤال عن أسماء الأشياء للتعرف الحدسي عليها من دون معرفة أو علم بماهيتها . المرحلة الثانية هي سؤال الماهية ؛ ما هو؟ ما هي الطبيعة؟ ما هي الحركة؟ الخ.. وعلى كل كما يقول هيدغر: "فقد تحددت الماهية خلال عصور الفلسفة المختلفة تحديداً متبايناً : فلسفة أفلاطون مثلاً إن هي إلا تفسير خاص لما يعنيه الـ "تي" (ما) ، إنه يعني بالضبط الـ "أيديا" [الفكرة، المثال، الصورة] بحيث يكون من الأمور الواضحة بذاتها ، والتي لا جدال فيها أن نعني المثال ونقصده حينما نسأل عن الـ "تي" . ويقدم أرسطو تفسيراً للـ "تي" يختلف عن تفسير أفلاطون .. هو الإنيرجيا [القُدْرة] . ويقدم كانط  تفسيراً ثالثاً ، وهيغل تفسيراً رابعاً ، والذي هو موضوع السؤال في كل مرة ، إذا أخذنا الـ "ما" دليلاً ومفتاحاً ، يظل باستمرار في حاجة إلى التحديد من جديد " إذن لدينا سلسلة تاريخية من التفسيرات أو الأجوبة على سؤال "ما" أو "تي" طريق يغتني بالمحتوى التاريخي ، هو حركة محتوى المعرفة المتقدمة بالتاريخ والتي هي حركة المعرفة العلمية. والتاريخية سمتها الأصيلة ، وهي المغتنية بهذا التاريخ. أما هيدغر فله مقصد آخر من هذا العرض . يريد أن يوضح به أن هذا الطريق هو تنويعة من التفاسير على سؤال هو يوناني في أصله ، كذلك الذي يجمع هيغل مع كانت وأفلاطون وأرسطو هو أنهم جميعا من أصحاب التفاسير المقدمة تجاه "ما" [تي]؛بكلام  آخر، هم أصحاب الإجابة ؛ لم يكتفوا بالسؤال ما هذا؟، بل توغلوا للإجابة على سؤال الماهية ؛ سؤال : ما هي طبيعة هذا الموجود؟ إن هيدغر يشيد بسؤال ما هذا؟ الذي يعتبره "سؤالاً يونانياً في أصله." 56 .
يقول هيدغر :[ السؤال : "ما الفلسفة؟... سؤال تاريخي ؛ بمعنى أنه سؤال مصيري، بل هو السؤال التاريخي لوجودنا الغربي الأوربي"]. إذن هيدغر يستشعر خطراً يهدد أوربا أو وجود الغرب الأوربي ، وأصل هذا الخطر من وجهة نظره ، هو أن إنجاز الغرب العلمي والتقني يأتي تتويجاً للطريق الذي بدأه اليونان اعتباراً من سقراط ! ألا يشبه هذا الوهم وهم الخطيئة الأصلية التي وقع بها آدم وورثتها البشرية ! بكلام آخر ، أليس هذا الطرح لاهوتاً متجدداً متستراً بسؤال ما الفلسفة!؟
مسألة أخرى: إن التمييز في السؤال اليوناني الأصلي بين "ما هذا؟ " من جهة وبين "ما هو؟" من الجهة الأخرى هو تقسيم للفلسفة اليونانية إلى مرحلتين حاسمتين على هذا المستوى ؛ المرحلة الأولى تشمل الفلاسفة قبل سقراط ؛ وهم "أعظم الفلاسفة" لأنه لم يكن هناك بعد فلسفة بل فلاسفة عظماء ، كان هناك سؤال ما هذا؟ كانت هناك الدهشة العظيمة الغامضة ، كان هناك الحدس بالموجود ، لم يولد التفسير بعد ، كان الجواب عن ماهية الوجود في عالم القوة ، كان اللوغوس مندمجاً بالصوت البشري ، هذا أقرب إلى فكرة هيغل العامة Notion ؛ يكتب هيدغر نشوان بهذه اللحظة "الطبيعية": "إن اللغة اليونانية ليست مجرد لغة كاللغات الأوربية المعروفة لنا؛ فاللغة اليونانية واللغة وحدها هي "لوغوس".. إن ما يقال عادة في اللغة اليونانية يكون في نفس الوقت، وبطريقة متميزة ، هو ما سماه القول باسمه . فإذا سمعنا كلمة يونانية فإننا لنتبع نطقها بحضورها المباشر . وهذا الذي يحضر هو الواقع أمامنا .. بالكلمة اليونانية المسموعة نكون في حضرة الموجود نفسه الواقع أمامنا مباشرة ، لا في حضرة معناها وحده  " . 58 هذه مسيحية متجددة، هذه الكلمة هي المسيح عيسى ، فالموجود حاضر من خلال الصوت بالجسد والمعنى : عيسى كجسد والمسيح كمعنى (الكلمة صوت ومعنى!). "إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب" [3/59] "فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه.." [2/37] لقد خطف صوت اللغة اليونانية جسد الأشياء التي يدل عليها ؛ لقد استولى عليها . فالفعل الإنكليزي appropriate يعني: يستولي على ، يأخذ من غير إذن ؛ ينتحل " 57 المورد إن صوت اللغة اليونانية حسب هايدغر ينتحل جسد الموجودات ، يستولي عليها. ولكن أليس "صدفة" أن نرى الياس مرقص يستخدم هذا الفعل الإنكليزي بدلاً من كلمة science كي يتغلب على التقنوية وعلى النزعة الوضعية في الفلسفة الماركسية ، أي ، ألا يذهب به هذا الاستبدال إلى الغنوصية المسيحية مباشرة وإلى اللوغوس اليوناني ما قبل سقراط ؛ اللوغوس كحدس فلسفي غامض ومختلط  "إن اللفظ اليوناني "غنوسيس" يعني "معرفة" . فمبدؤها أن العرفان الحق ليس العلم بواسطة المعاني المجردة والاستدلال كالفلسفة ، وإنما هو العرفان الحدسي التجريبي الحاصل عن اتحاد العارف بالمعروف.  وأما غايتها فهي الوصول إلى عرفان الله .. بكل ما في النفس من قوة حدس وعاطفة وخيال " تاريخ الفلسفة اليونانية 244 . إن هيدغر بحديثه الذاهل عن اللغة اليونانية يحولها من لغة اعتباطية تواضعية (اتفاقية) إلى لغة لا هوتية ، تستطيع متى تشاء الاستيلاء على جسد الموجودات ، وتستطيع بالتالي في أي لحظة انتحال جسدية الموجودات أو الأشياء . ونريد أن نشكر فوكو هنا لأنه فرق في تسمية كتابه بين الكلمات والأشياء!
يقول هيدغر ممجداً الفيلسوف العظيم ما قبل السقراطي : "الكلمة اليونانية "فيلوسوفيا"" ترجع إلى كلمة "فيلوسوفوس" (محب الكلمة) وهذه الكلمة هي ، في الأصل ، صفة مثل كلمة فيلارجوروس ؛ (محب الفضة) ، وكلمة فيلوتيموس (محب الشرف)" . وأغلب الظن أن هرقليطس هو أول من صاغ الكلمة "فيلوسوفوس" . وهذا يدل على أن كلمة "فيلوسوفيا" عند هرقليطس لم توجد بعد . .. ذلك أن الصفة اليونانية "فيلوسوفوس" تعبر عن شيء مختلف تماماً عن الصفة "فلسفي " . الأنيروفيلوسوفوس (الإنسان الفليلسوف) هو من يحب "السوفون" (الحكمة) والفعل اليوناني "فيلين" يحب ، يعني هنا بالنسبة لهرقليطس ، يتحدث بالطريقة التي يتحدث بها "اللوغوس" ؛ أي يكون مطابقاً للوغوس . وهذه المطابقة تكون في اتفاق مع السوفون والاتفاق هو الهرمونيا (الانسجام ) .. وهذه الهرمونيا هي الخاصية المميزة للحب بمعناه عند هرقليطس " 59 وهو ذاته الحب المسيحي في المسيحية المبكرة والمقتبسة عن فيلون الاسكندري المتأثر بالفلاسفة اليونان ؛ الحب كوحدة للصوت والمعنى وهذا مستوى أول للحب المسيحي خاصة والأسطوري عموماً. الفلسفة بالمعنى المجرد عن شخص الفيلسوف ؛ الفلسفة كفكرة موضوعية لم توجد بعد إلا مع أفلاطون . هيدغر يفتقد في أوربا الغربية بين الحربين هذا الانسجام وهذه الهرمونيا ، مما يولد لديه حنين رومانسي نحو الحب الهيراقليطي أو الحب المسيحي المبكر! لكن ألا يظهر هذا حماقة فلسفية إذا ما قورنت بجهود نيتشه أستاذ هيدغر ومثله الأفلاطوني . يكتب نيتشه: "لكن أين نقع على مثال لشعب مريض استطاعت الفلسفة أن ترد له عافيته المفقودة ؟ وإذا كان للفلسفة يوماً ما دوراً في الحماية والخلاص ، فإن هذا الدور قد برز بالنسبة لشعوب متعافية ، لقد ضاعفت الفلسفة دائماً من سوء حالة الشعوب المريضة. فإذا ما تفتت شعب ما وتراخت العلاقات التي كانت تشد أفراده بعضهم إلى بعض ، فإن الفلسفة لم تجده نفعاً في إعادة لحمة أفراد هذا الشعب وشدهم إلى مجموع أفراد الأمة. وكلما سعى فرد ما إلى الاكتفاء الذاتي ، كانت الفلسفة جاهزة دائماً لمضاعفة عزلته ولتحطيمه داخل هذه العزلة . إن الفلسفة لخطيرة حين لا تكون مالكة لجميع حقوقها ، وهذه الشرعية لا تمنحها إياها إلا عافية الشعب ، ولكن ليس مطلق شعب " بهذه الكلمات يشير نيتشه إلى مرض الشعب الألماني الذي توج بالفاشية الألمانية ، ويكون نيتشه عبر جنونه 1888 هو سقراط ألمانيا الذي زادت الفلسفة من عزلته وحطمته ؛ نيتشه الذي كان ضحية مرض الشعب الألماني وضحية اكتفائه الذاتي وعزلته الفلسفية ؛ تححسس ألام الشعب الألماني في بواكيرها. ونكون قد استطعنا تلمس سر عودته إلى ما قبل الفلسفة ؛ أي إلى مرحلة الفيلسوف العظيم . يقول : "بعد هذه الملاحظات ، لا عجب أن أتناول الفلاسفة السابقين لأفلاطون ، وكأنهم مجتمع منسجم ، وأن أسعى لأن أكرس لهم مجمل هذا الكتاب . إن أفلاطون يمثل بداية جديدة كلياً .. إن شيئاً جوهرياً ينقص لدى الفلاسفة منذ أفلاطون ... سنكون أكثر عدلاً وموضوعية لو اعتبرنا هؤلاء الأخيرين فلاسفة هجناء والأول النماذج الصافية " 43 نيتشه الفلسفة في العصر المأساوي الإغريقي. إن مثل هيدغر كمثل نيتشه يبحث عن التناغم والصفاء والبساطة بعد أن مزقت الإمبريالية الرأسمالية المجتمع الألماني، ومجتمعات أوربا الغربية، وهيئت القوى المتعادلة بين البروليتاريا من جهة والبورجوازية الإمبريالية الألمانية من الجهة الثانية لظهور وباء الفاشية (النازية) هذا التمزق المأساوي للكل الألماني والأمة الألمانية بفعل الفاشية التي كانت العلامة على تأخر المانيا التاريخي هي ما يدفع هيدغر للنكوس إلى هيراقليط باحثاً عن الـ "هن بانتا" . يقول : "السوفون (الحكمة) .. على ضوء تفسير هراقليطس نفسه .. تعني "هن بانتا" "الواحد (هو) الكل" وكل تعني هنا "بانتا أو أونتا" كل الموجودات أي الكل، أي كل ما هو موجود . و "هن" تعني الواحد ، الوحيد الموحد للكل. لكن كل الموجود واحد في الوجود ، فالسوفون يقول [الحكمة تقول] : الموجود كله في الوجود. بعبارة أخرى نقول: إن الوجود هو الموجود . وهنا كلمة "هو " متعدية تعني التقريب "التجميع".. إنه اللوغوس" 59-60 . وحتى نزيل اللبس في كلمة وجود علينا تفحصها بالعربية : "وجد المطلوب: .. وجداً ووجوداً ووجداناً:  أدركه .. والوجد: الغنى، .. وأوجده أغناه .. وأوجده بعد ضعف قوّاه...ووجد عن عدم (ولا نقول موجود من عدم لأنه قول فارغ لا معنى له) .. فهو موجود ، ولا يقال وجده الله تعالى، وإنما يقال: أوجده الله تعالى " المحيط 324 الله أغناه ؛ أغنى الموجود ولم يخلقه من العدم ؛ أغناه بأن أناره وكشفه للإدراك والوعي.[3]
هيدغر يحن إلى اللوغوس اليوناني ؛ إلى الكلمة اليونانية "فكرة" أفلاطون ، و"قدرة" أرسطو ، يحن إلى الكلمة المسيحية حيث "الواحد (هو) الكل" . أي يحن إلى أحادية الصوت بعد أن مزق العصر الإمبريالي هذه الوحدة هذا التناغم بين الصوت والموجود ، بين الوجود والموجودات . يقول هيدغر: "على أن تفكيرنا المعاصر لم يعثر بعد بوضوح على طريقه الفريد المميز. . نغمات للتفكير متعددة . الشك واليأس من ناحية ، ومن ناحية أخرى اعتناق أعمى لمبادئ غير ممحصة ، يصارع بعضها بعضاً . الخوف والقلق اختلطا بالأمل والثقة ." 71
هوامش
1-وهي منشورة بين مجموعة مقالات لمارتن هيدغر عام 1974 عن دار الثقافة، القاهرة،  ترجمة  فؤاد كامل و محمود رجب . راجعها على الأصل الألماني وقدم لها عبد الرحمن بدوي. المقالة موضوع تعليقنا من ترجمة الدكتور محمود رجب
2- مارتن هايدغر : ما الفلسفة؟ ص 55
3- يقول ابن عربي: "الحمد لله الذي أوجد الأشياء عن عدم وعدمه " ص 41 الجزء الأول من الفتح المكي. يعلق المحقق بالقول: ""عن عدم" : الأشياء موجدة عن عدم لا من عدم . ففي الحالة الأولى ، إيجادها هو انتقالها من طور الكمون (وهو الوجود بالقوة ، ويسميه ابن عربي الوجود العلمي) إلى طور الظهور (وهو الوجود العيني أو الوجود بالفعل).  أما في الحالة الثانية (وهو الإيجاد من عدم ) فهو تصور غير صحيح عقلاً، لأنه يفضي إلى نفي المبدأ الموجد نفسه.  " وعدمه" : أي عدم العدم، وهو الوجود الغيبي في حضرة العلم الإلهي ، الذي هو "العين الثابتة" لكل موجود بالفعل. " ص 41 هامش. يلتبس الوجود بالقوة عند المحقق بالوجود العلمي، حيث للوجود الباطني نوعان: وجود قوة، ووجود علمي.
 


[1] - وهي منشورة بين مجموعة مقالات لمارتن هيدغر عام 1974 عن دار الثقافة، القاهرة،  ترجمة  فؤاد كامل و محمود رجب . راجعها على الأصل الألماني وقدم لها عبد الرحمن بدوي. المقالة موضوع تعليقنا من ترجمة الدكتور محمود رجب
[2] - مارتن هايدغر : ما الفلسفة؟ ص 55
[3] - يقول ابن عربي: "الحمد لله الذي أوجد الأشياء عن عدم وعدمه " ص 41 الجزء الأول من الفتح المكي. يعلق المحقق بالقول: ""عن عدم" : الأشياء موجدة عن عدم لا من عدم . ففي الحالة الأولى ، إيجادها هو انتقالها من طور الكمون (وهو الوجود بالقوة ، ويسميه ابن عربي الوجود العلمي) إلى طور الظهور (وهو الوجود العيني أو الوجود بالفعل).  أما في الحالة الثانية (وهو الإيجاد من عدم ) فهو تصور غير صحيح عقلاً، لأنه يفضي إلى نفي المبدأ الموجد نفسه.  " وعدمه" : أي عدم العدم، وهو الوجود الغيبي في حضرة العلم الإلهي ، الذي هو "العين الثابتة" لكل موجود بالفعل. " ص 41 هامش. يلتبس الوجود بالقوة عند المحقق بالوجود العلمي، حيث للوجود الباطني نوعان: وجود قوة، ووجود علمي.