اللفظ والمعنى في صحيفة بشر بن المعتمر

كريم الوائلي
كاتب وناقد ادبي وتربوي .
(Karim Alwaili)

الحوار المتمدن-العدد: 7623 - 2023 / 5 / 26 - 00:22
المحور: الادب والفن
    

اللفظ والمعنى في صحيفة بِشْر بن المعتمر

أ. د كريم الوائلي
(1)

بشر بن المعتمر ( 210 ه ) أديب ومفكر معتزلي ، يعد رأس معتزلة بغداد ، له مؤلفات عديدة ، تدل عنواناتها على تأصيل الفكر الاعتزالي والرد على خصومه ، ولم تصلنا إلاّ بعض أشعاره وصحيفته المشهورة1 التي أذاعها تلميذه الجاحظ ( 255هـ ) في البيان والتبيين 2، وتابعه ابن عبد ربه ( 328 هـ ) في العقد الفريد3 ، وأبو هلال العسكري ( 395 هـ ) في الصناعتين 4.
وتهدف صحيفة بِشْر بن المعتمر إلى تعليم الناشئة ، فلقد نقل الجاحظ " مرّ بِشْر بن المعتمر بإبراهيم بن جَبَلة بن مخرمة السِّكونيِّ الخطيب، وهو يُعلّم فتيانهم الخَطابة؛ فوقف بِشْر فظن إبراهيم أنه إنما وقف ليستفيد أو ليكون رجلًا من النَّظَّارة، فقال بِشْر: اضربوا عمّا قال صفحًا واطووا عنه كشحًا ، ثم دفع إليهم صحيفة من تحبيره وتنميقه" ويتضمن هذا نقدًا وتأصيلاً ، أما النقد فإن بشرًا لم تَرُقْ له طرائق التعليم السائدة ، بسبب تقليديَّتها ، أو كونها لا تسهم في صناعة مبدعين ناشئين ، أما التأصيل؛ فإنّه يقوم بعملية مزدوجة من الإزاحة والإحلال ، إزاحة مفاهيم الخطاب وأساليب الإبداع القديمة وإحلال تصورات جديدة تضمنتها صحيفته .
واشتملت صحيفة بِشْر على الموضوعات الآتية :
1 آليات الإبداع .
2 اللفظ والمعنى .
3 الطبع والتكلف
4 موافقة الحال وما يجب لكل مقام من المقال .

(2)

اللفظ والمعنى :
يقترن اللفظ بالمعنى على نحو التلازم اللفظي ، غير أن هذا التلازم لا يعني تماهيهما ؛ إذ يستقل كل عنصر منهما عن الآخر ، بمعنى أنَّ له وجودًا موضوعيًّا مستقلاًّ ينفرد به عن صنوه ، وقد أسهم في ذلك مفسرو القرآن الكريم واللغويون والنحاة والبلاغيون والنقاد ، ولعل الخليل بن أحمد الفراهيدي ( 170 هـ ) أول من رسخ الفصل بين اللفظ والمعنى في معجمه ( العين )؛ إذ يشتمل على ألفاظ مستعملة وألفاظ مهملة ، 5 وكذا الأمر في كتاب سيبويه ، وهو كتاب ليس للنحو ، فحسب ، وإنما هو ـــ بحسب محمد عابد الجابري ــ قوانين للفكر داخل اللغة 6 ؛ إذ يؤكد سيبويه ( 180ه) " اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين ، واختلاف اللفظين والمعنى واحد ، واتفاق اللفظين واختلاف المعنى " 7.

وليس بِشْر بن المعتمر بعيدًا عن هذا المناخ الثقافي إذ يقول : " وإياك والتوعّر فإن التوعر يسلمك إلى التعقيد، والتعقيد هو الذي يستهلك معانيَك، ويُشين ألفاظَك" 8. حيث يتأسس فكر بِشْر على أساس منطقي؛ بحيث يكون التوعر علة التعقيد ، والتعقيد علة قبح الكلام ، وإذا كان التوعر يدل على صعوبة الألفاظ؛ فإن التعقيد يعني التأليف على وجه يعسر فهمه ، الأمر الذي يقود إلى قبح الأداء ؛ لأن التعقيد يستهلك المعاني ويشين الألفاظ .
وتتفاوت المعاني من حيث كرمها وشرفها ، وتتفاوت معَها ألفاظها بالضرورة ، الأمر الذي يؤكد الفصل بين اللفظ والمعنى ، ولذلك يقول بِشْر " ومن أراغ معنىً كريمًا؛ فليلتمس له لفظًا كريمًا؛ فإن حق المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما أن تصونهما عما يفسدهما ويهجنهما، وعما تعُودُ من أجله أن تكون أسوأ حالًا منك قبل أن تلتمس إظهارهما، وترتهن نفسك بملابستهما وقضاء حقهما " 9، وهذا يعني أننا إزاء احتمالات متعددة للمعاني وللألفاظ ، وعلى النحو الاتي :
معنى كريم أو شريف لفظ كريم أو شريف
معنى كريم أو شريف لفظ غير كريم أو شريف
معنى غير كريم أو شريف لفظ كريم أو شريف
معنى غير كريم وغير شريف لفظ غير كريم وغير شريف

وهذا يعني أن المعنى ــ مهما كانت قيمته ــ يظل متقدمًا على اللفظ ، وتكون الألفاظ لاحقة له ، وقد تطابقه وقد تقصر عنه ، ومن الجدير بالذكر أنَّ بشرًا يؤكد في موطن آخر أنَّ العلاقة بين اللفظ والمعنى كالعلاقة بين الجسم والثوب ، ولذلك فإن المعاني تكسوها الألفاظ.10.
إن التفاوت الكريم والشريف بين المعاني والألفاظ وجد صداه لدى ابن جني ( 392 ه) الذي يعنى بإصلاح الألفاظ وتهذيبها، وهي عناية ليست للألفاظ بذاتها، وإنما خدمة للمعاني، أو " عناية بالمعاني التي وراءها وتوصلاً إلى إدراك مطالبها "11 ، ويضرب ابن جنّي لذلك مثلا، تشبيها بين الوِعاء ــ أي اللفظ ــ والموعى عليه ــ أي المعنى ــ وأنّ العناية بالوِعاء من أجل الإبانة بوضوح عن الموعى عليه، أو من أجل ألا تتكدر المعاني الفاخرة بسوء الألفاظ المستخدمة، وأكثر من هذا أنّ ابن جنّي يوزع الألفاظ والمعاني توزيعًا طبقيًّا، ويسعفه في ذلك تصور اجتماعي معين، فهو يرى أن الألفاظ خدم للمعاني التي تتسم بشرف السيادة » والمخدوم ــ لاشك ــ أشرف من الخادم « .
ولقد تلقف ابن قتيبة (276 ه ) الفصل بين اللفظ والمعنى في أثناء تعرضه لأضرب الشعر على أساس التمايز بين اللفظ والمعنى في كتابه الشعر والشعراء بقوله: " تدبرتُ الشعر فوجدتُه أربعة أضرب : ضرب منه حسنٌ لفظُه وجادٌّ معناه ... وضرب منه حسن لفظه وحلا، فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى ... وضرب منه جادٌّ معناه وقصرت ألفاظه عنه ... وضرب منه تأخر معناه وتأخر لفظه " 13.
إن لفظة " أراغ " التي وظفها بِشْر بن المعتمر لتدل على القصد في الطلب والتخير14 ، بمعنى أنه فعل إنساني مقترن بإرادة الإنسان لاختيار متقصد للمعاني ، ولعل هذا قد مهد لفكرة " مخض المعاني " التي نادى بها ابن طباطبا العلوي ( 322 ه ) ، كونهما ــ بِشْر وابن طباطبا ــ ينهلان من المرجعية المعرفية العقلية/ الاعتزالية ، ويؤكدان أهمية الفعل الإنساني ودوره"، يقول ابن طباطبا: "فإذا أراد الشاعر بناء قصيدة مخض المعنى الذي يريد بناء الشعر عليه في فكره نثرًا ، وأعد له ما يلبسه إياه من الألفاظ التي تطابقه ، والقوافي التي توافقه ، والوزن الذي يسلس له القول عليه"15.

وتتجلى أول مراحل الإبداع في «مخض المعنى » وهو جهد إنساني فردي يؤديّه المبدع ، ويقوم فيه بانتزاع شيء من شيء آخر ؛ لأن توصيف الإبداع بعملية المخض ــ وهي استخلاص الزبدة من اللبن ــ تعني مماثلة الفعلين ــ أي فعلي المخض والإبداع ــ وكلاهما يقتضي جهدًا يبذله الإنسان ، وأن نتيجة هذا الجهد ، انتزاع/إبداع شيء من شيء آخر ، مأخوذ منه ، ومستقل عنه ومختلف : الزبدة / القصيدة .

ويظل الفصل قائمًا بين اللفظ والمعنى في المنازل التي تحدّث عنها بِشْر؛ بحيث " يكون لفظك رشيقًا عذبًا، وفخمًا سهلًا، ويكون معناك ظاهرًا مكشوفًا، وقريبًا معروفًا ".16 ومن الملاحظ أن عبارات بِشْر موشحة بلغة أدبية بلاغية ؛ إذ لا نعرف حدود ( الرشاقة والعذوبة والفخامة والسهولة للألفاظ ) كما لا نعرف ما يقصده من ( المعنى الظاهر المكشوف والقريب المعروف )
ويصدق هذا على أغلب صحيفة بِشْر التي تكتنفها العبارات الأدبية التي تحجب الدلالات العلمية المحددة ، الخاضعة لمفاهيم اصطلاحية معروفة .
ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل جعل أقدار الحالات لدى المتكلم مرة، ولدى المتلقي مرة أخرى بقوله: " تتحكم بالمعاني والألفاظ كما أنها تتوزع بحسب الخاصة والعامة " ينبغي للمتكلم أن يعرف أقدار المعاني، و يوازن بينها و بين أقدار المستمعين، و بين أقدار الحالات، فيجعل لكل طبقة من ذلك كلامًا، و لكل حالة من ذلك مقامًا، حتى يقسم أقدار الكلام على أقدار المعاني، و يقسم أقدار المعاني على أقدار المقامات، و أقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات . 17 "
إن صحيفة بِشْر بن المعتمر على الرغم من الجوانب الإنشائية والبلاغية التي تكتنف بعض فقراتها تعد أساسًا نقديًّا وبلاغيًّا مهما تأثر به، وأفاد منه النقاد والبلاغيون ، ولعلي لا أكون مبالغًا إذا قلت إنها حددت مسارات مهمة في البلاغة والنقد الأدبي .

هوامش البحث :
1 ينظر بالتفصيل عن مؤلفاته : عدنان عبيد العلي ، بشر بن المعتمر شعره وصحيفته البلاغية ، مجلة معهد المخطوطات العربية ، مجلد 31 ، ج 2 ص 507 ــ 509 .
2 الجاحظ ، البيان والتبيين ، تحقيق عبد السلام هارون ، مكتبة الخانجي ، القاهرة ، 1998م ، 1/135 .
3 ابن عبد ربه ، العقد الفريد ، تحقيق مفيد محمد قميحة ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، 1983م ، 4/146 .
4أبو هلال العسكري ، الصناعتين ، تحقيق محمد علي البجاوي ، دار إحياء الكتب العربية ، القاهرة ، 1952 م ، ص 134 .
5على سبيل المثال " ع ق ه ــــ ق ع ه مهملان " الخليل بن أحمد الفراهيدي ، العين ، تحقيق مهدي المخزومي وإبراهيم السامرائي ، مؤسسة الأعلمي ، بيروت ، د ت ، 1/ 96 .
6محمد عابد الجابري ، بنية العقل العربي ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ، 2009م ، ص 44 .
7 سيبويه ، الكتاب ، تحقيق عبد السلام هارون ، مكتبة الخانجي ، القاهرة ، 1988 م ، 1 /24 .
8 نفسه .
9 نفسه ص 36. ومثل هذا ما قاله أبو هلال العسكري بقوله :" إذا أردت أن تصنع كلاما فأخطر معانيه ببالك وتنوق له كرام اللفظ " الصناعيتين ، ص 133 ، والتنوق المبالغة في التجويد .
10 الجاحظ ، البيان والتبيين ، 1 /136 .
11ــ ابن جنّي، الخصائص، تحقيق محمد علي النجار، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1952 ــ 1956 م. 1/217 و220 .
12ــ نفسه، 1/220 .
13 ابن قتيبة ، الشعر والشعراء ، تحقيق أحمد محمد شاكر، دار المعارف ، القاهرة ، د . ت 1/64 ، 69 .
14 ابن منظور ، لسان العرب ، مادة : روغ ، وهناك دلالات أخرى معروفة تدل على المراوغة ، ولم يقصد بشر بن المعتمر هذه المعاني البتة .
15 ابن طباطبا العلوي ، عيار الشعر ، تحقيق محمد زغلول سلام، منشأة المعارف ــ الإسكندرية، 1984م ص 9 .
16 الجاحظ ، البيان والتبيين ، ص 136 .
17نفسه ، ص 138 ــ 139 .

#كريم_الوائلي (هاشتاغ)       Karim_Alwaili#          

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات