أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الرديني - الليالي الخمسة















المزيد.....



الليالي الخمسة


محمد الرديني

الحوار المتمدن-العدد: 1943 - 2007 / 6 / 11 - 05:02
المحور: الادب والفن
    


الليلة الأولى

في يوم غائم من أيام يناير الباردة انطلقت الباخرة (اليم) من ميناء البصرة متجهة إلى المحيط الهادئ، وفي هذا اليوم بالذات كانت الأمطار لا تكف عن السقوط. كانت الساعة تشير إلى الثالثة والنصف بعد الظهر, والجو الغائم يوحي بالكآبة رغم أن البحارة كانوا مشغولين عن كل شيء إلا عن ترتيب أغراضهم الشخصية فوق سطح الباخرة, والتأكد من أنهم قد أكملوا كل ما يحتاجونه.

أطلقت الباخرة وهي من بواخر الصيد الحديثة صفاراتها معلنة مغادرة الميناء، ولم تكد تمضي نصف ساعة حتى كانت الباخرة "اليم" تمخر مياه شط العرب بهدوء غريب.

اصطف طاقم البحارة فيما كان رئيسهم الذي يطلق عليه (الكابتن قاسم) يقف في منتصف الطابور إلى الأمام قليلاً، في الثلاثين من عمره, ذو وجه ممتلئ يخيل لمن يراه أنه خلق للعيش في البحر فقط. يقولون عنه أنه كتلة نشاط وهّاجة دائماً، يشرب الكحول ويأكل بإفراط ولكنه لا يدخن. من يقترب منه يحس أنه يملك ملامح ودودة تعكس طيبةً ونبلاً طبيعيين. سريع في تنفيذ الأوامر الصادرة كما سريع في حركته حين يراه البحارة وهو يتسلق طوابق الباخرة صعوداً ونزولاً.

كان الطابور ينتظر قدوم قائد الباخرة للتفتيش, ورغم أن الظلام بدأ يغطي سطح الباخرة إلا أن البحارة ظلوا معتدلي القامة إلا بعضهم الذين أخذوا يتمايلون في أماكنهم ضجرين من طول الانتظار. صرخ قاسم بصوت مخنوق بعض الشيء طالباً من البحارة أن يقفوا بانتظام. جاء قائد السفينة ذو الوجه الأحمر المنمش وتفحص الوجوه بوجه روتيني لا يكاد يخلو من ضجر المهنة. كان ينظر إلى الصف المتراص أمامه بعينين محتقنتين وتعابير وجهه تنبئ عن رجل فقد المتعة في هذه الوظيفة.

انتهى العرض الروتيني للبحارة, ولم تمضِ دقائق معدودة حتى خمد سطح الباخرة تماماً, إذ اصطف البحارة في طابور طويل انتظاراً لأوامر الكابتن قاسم في المغادرة بعد توزيع أرقام القمرات عليهم. لم تمضِ دقائق حتى كان الجميع قد حصلوا على أرقام قمراتهم, وبدأ كل واحد منهم يتفحص وجه الآخر.

كان محمد ينظر إلى النوارس وهي تحلق قريبة من سارية الباخرة حين أحس بيد أحدهم تربت على كتفه: "ماهر محمود، البحار الذي سيسكن معك في قمرة واحدة".

بإيجاز رد محمد: "أهلاً وسهلاً, أنا محمد العسكر".

في القمرة استطاع محمد أن يحشر أغراضه في دولاب خشبي صغير معلق فوق سريره من جهة الرأس. كان واضحاً أنه مثل هذه القمرة للمرة الأولى مستغلاً انكباب ماهر على ترتيب أغراضه ليلقي عليه نظرة متفحصة. كان يبدو في العشرينات من عمره، أسمر الوجه ممتلئ كأنما ولدته أمه وتركته لسنوات تحت الشمس، لا تخلو نظراته من بعض السخرية, ولكنه يبدو على قدر من الذكاء.

ـ "هل أنت بحار جديد"؟

سأل ماهر.

ـ "نعم هذه هي المرة الأولى أركب فيها باخرة".

ابتسم ماهر: "ستعتاد عليها وعلى شخيري".

ـ "إني معتاد على شخير أبي".

ضحك ماهر بقوة: "ولكن شخيري هو شخير البحارة الموالين".

لم يستطع محمد أن يفهم ماذا يقصد بكلمة الموالين. بالحقيقة إن الأمر ليس على هذه الصورة, فهو يعرف نفسه جيداً، إنه صعب المراس, كما أنه صعب التآلف منذ أول وهلة, ولهذا فهو يغلق أذنه عن بعض الكلمات التي لا يريد سماعها حتى لا يزداد الآخر تقرباً منه. ولكن الذي يعرفه جيداً لا يمكن إلا أن يقول أنه طيب القلب, جيد الإصغاء, دافئ الحديث, ولكنه ليس سريع الميل للذين لا يعرفهم جيداً.

ـ "بعد أن تنام سأتحدث مع نفسي قليلا".

قال ماهر ذلك وهو يضحك نفس ضحكته السابقة. لم تمضِ دقائق حتى كان شخير ماهر يعلو شيئاً فشيئاً حتى ملأ جو قمرة الباخرة العائمة في وسط البحر، هذه القمرة التي لم يتجاوز عرضها المترين تحوي سريرين متعامدين وكوة زجاجية تطل على البحر يمتد أسفلها صنبور المياه. حاول محمد بعد أن مد رأسه نحو السرير السفلي أن يصرخ بوجه ماهر ليكف عن هذا الشخير, ولكنه آثر في آخر لحظة أن ينزل من سريره العلوي ويهزه من شعرات رأسه، ولكن حتى هذه المحاولة لم تنجح, فقد كان شابكاً ذراعيه الواحدة فوق الأخرى فاتحاً ساقيه إلى أقصاها، وكانت اللحظات التي يتوقف فيها عن الشخير هي تلك التي يمص فيها شفتيه العلوية ثم السفلية بانتظام غريب. لم تجدِ محاولات شد الشعر ولا خضه بقوة في إيقاف هذا الهدير الذي خيم على هواء هذه الجحر الرباعي ذو الكوة الزجاجية ذات الصنبور القصير.

كان جسد ماهر يوحي وهو نائم أنه من ذلك النوع يستسلم للنوم بسهولة, إنه يجد فيه ملاذه الوحيد على ما يبدو، يدخله في مغارة لها فتحة ضيقة ينحبس فيها الهواء بقوة، في داخلها ظلام دامس لا تحسه إلا العين التي ينفتح فيها البؤبؤ ليس من أجل زيادة الرؤية, ولكن لتمر عليه نسمة هواء باردة، بعد ذلك لا يهم أن يبقى البؤبؤ مفتوحاً أم لا, فالظلام الأسود يكون قد انتشر في كل مسامات الجسد وخدره إلى حين.

لم يكن قد تجاوز الخامسة والعشرين من عمره, حنطي اللون لا يبدو قصير القامة, ولكن سحنة وجهه تنبئ عن ذلك الفيض من الدعة والاستسلام لكل من حوله. لم يكن يؤثر أن يظل واقفا يبحلق في وجه هذا البحار ذو الهدير العالي، حمل نفسه وغادر إلى سطح السفينة.

لم يكن قد تعود على ركوب مثل هذه البواخر العملاقة, والتي بدت كأنها نوع من الحيتان الزرق التي تتهادى وسط البحر وهي تغط رأسها في الماء بين الحين والآخر. ورغم أن البحر كان هادئا في تلك اللحظات إلا أن مقدمة السفينة التي يبرز منها ضوء أصفر خافت كانت تغط هي الأخرى في الماء, ولكن أسرع بكثير من غطسة الحيتان الزرق.

بدت أنوار الساحل تخفت تدريجيا وينفرط عقدها نصف الدائري بعد أن كان وهاجا وهو يلف نخيل شط العرب, وبدأ الظلام يلف كل شيء، الساحل والبحر والنخيل الذي بات بعيدا جدا. وفي تلك الساعات كانت الأمطار لا تكف عن السقوط.

لم يكن محمد عبد الرحمن حمد العسكر –وهذا هو اسمه الكامل– بحارا بالمعنى المعروف, فقد ساقته الظروف ليكون على ظهر هذه السفينة التي ستقطع المحيط الهندي وصولا إلى المياه الدولية، هي من أجل صيد الأسماك, وهو من أجل المغامرة كما يقول, ولكن الحقيقة هي من أجل لقمة العيش.

قبل سنوات كانت أمنيته الوحيدة أن يركب البحر، قرأ عنه كثيرا. كانت قصص البحارة ومغامراتهم تملأ مسامعه. حين يدلف إلى الفراش ليلا ويغمض عينيه يبدأ رحله الليلية، يبتسم لتلك الحورية الطالعة من البحر والتي تناديه كاشفة عن صدر مرمري لا يتحرك وابتسامة لا تقاوم.

ـ تعال انزل إلى البحر.

ـ.......

ـ سأعلمك السباحة. إنها ليست خطرة إلى هذا الحد.

ـ أنا ابن الشط والبحر مغامرة هلامية في رأيس.

ـ هل بدأت تخاف؟ تمنيت أن تكون بحارا لتكون مثل هؤلاء الذين يصارعون الأمواج ويصطادون أسماك القرش ويطحنون لحمه ليستخرجوا منه الزيت، وعلى سطح السفينة يخلطون النبيذ مع العرق ويشربون الكاسات الثلاثة الأولى دفعة واحدة, ثم يرقصون عراة حتى الصباح تحت ضوء المصابيح المنتصبة على طول سياج الباخرة. وحين تلوح لهم أرض قريبة يحسبون عدد الساعات التي سيصلون بها إليها لتبدأ حفلة الكافيار المجفف والنبيذ الأبيض.

ـ إني لا أعرف ذلك.

تستطرد الحورية غير آبهة:

ـ وقبل أن يصلوا إلى الأرض القريبة بزمن قصير يصطف البحارة في صفين متقابلين, يمسك كل واحد منهم زجاجة نبيذ تكون قريبة إلى فمه، وما أن يسمعوا صفارة رئيس البحارة حتى يفرغ كل واحد منهم ما في زجاجته في جوفه.

ـ لماذا كل ذلك؟.

ـ استعدادا لنساء الموانئ المنتظرات بلهفة على الرصيف.

ـ ولكن...

ـ لم أكن أعلم أنك ممل إلى هذا الحد.

يستيقظ متوفزا. حبات العرق تغطي كل جسمه المشبع بلهاث من كان يتدحرج من جبل مسنن، احتفت إلا، مصابيح شط تماما وأخذ الظلام الدامس يحجبان عنه ما يريد أن يراه في هذا البحر الذي يطل عليه لأول مرة.

ها هو البحر يمتد أمامك، ظلامه يبعث الرهبة حتى ليخيل إليك أن تلك النجوم البعيدة كانت ترتجف خوفا من تلك الرهبة, إذ بدت أصغر حجما من تلك النجوم المنتشرة في سماء شط العرب.

ـ أهذا هو البحر؟ أهذا هو الذي كان مادة حديث الشباب كل ليلة في مقهى داغر المطلة على نهر العشار؟

قال أحدهم:

ـ آه لو أتنقل بين بحار العالم طيلة حياتي.

قال آخر:

ـ انهيت اليوم قراءة رواية حنا مينا (الياطر). لقد أدهشتني تلك الصور الرائعة عن البحر والصيادين ومغامراتهم في تلك الموانئ الصغيرة.

قلت باحتجاج: إن بحار العالم كلها متشابهة.

صاح أحدهم بوجهي: وكيف تسنى لك أن تعرف ذلك؟

ـ من الروايات والقصص.

ـ وهل كل الروايات والقصص متشابهة؟

ـ لم أقصد ذلك.

ـ إذن ماذا تقصد؟

كنت أعرف أن النقاش سيدور كالعادة في دوامة لا تنتهي, وكنت أعرف أن الواحد فينا لا يطيق أن يخالفه أحد في الرأي وإلا سيكون الاعتراض على كل ما تبقى من الحديث هو الفيصل.

دنوت من أقربهم لي في الجلسة وهمست له مراوغاً: لماذا بعضهم يبغض الديكتاتورية في تنظيراته ويمارسها بلذة مع الآخرين؟

أجاب ببرود: هذه حال المثقفين الشباب.

وفجأة اخترق صوت فلاح حاجز التوتر: لقد تأخرنا عن موعد العرق يا شباب.

في تلك الليلة بكى فلاح بعد أن غنى طويلا. كان نحيلا طويل القامة، وكان طول رقبته يجعلنا نتخيل أن رأسه سيسقط على كتفيه في أية لحظة، حتى إذا هدأ قليلا جرع كأسه المليان مرة واحدة وأمسك قلمه التلفع بريشة بيضاء أنيقة وطفق يرسم.

لم يكن فلاح موهوباً في الرسم فقط, وإنما كان خطاطا رائعا لا يمل من الحديث عن الرسم ويبلغ الحماس فيه أشده حين يتحدث عن وجوه الأطفال التي لا تتكرر فيها التعابير إلا مرة واحدة في العمر. وإذا تغيرت دفة الحديث فإنه ينزوي مع قلمه وأوراقه ساندا ذقنه على يده اليسرى ساهما في الورقة البيضاء التي أمامه ثم يبدأ يحرك قلمه ذو الريشة البيضاء عليها.

في تلك الليلة أحس الجميع أن بكاء فلاح هذه المرة لم يكن ضمن الخطة اليومية المعتادة. لم نكن نطلب البكاء ونحن نكرع كؤوس العرق، الأمر لم يكن بهذه البساطة فما تدخل تلك النشوة الرائعة داخل القلب حتى يمشي بها كدبيب النمل إلى كلوريد وشريان، حتى العظام تبدأ تلين, وإذا ما استقرت هناك لاح في الأفق خيط أرجواني، إنه يتوسد الزاوية من السماء دائما، إنه بالحقيقة يكون على يسارنا دائما حين نجلس على الحشيش المبلل أمام شط العرب مولين ظهورنا لتمثال السياب الذي يلوح بيده نحو مشاحيف وابلام الشط. وما هي إلا لحظات حتى يدندن أحدنا بأغنية ما، ندندن معه، ترتفع الدندنات قليلا، يتحشرج صوت احدنا، يكاد يختنق صوت آخر، نحس بنشيج صوت ثالث يصيبنا بعدوى البكاء، يبكي الجميع كما لو أن العالم توقف برهة ليتفرج على تلك الجبال المترامية من الحزن والأسى المحمولين على أكتافنا.

في تلك الليلة نعرف جميعا أن فلاح لم يكن يبكي مثلنا، كان بكاءً له صوت آخر, كان الواحد فينا يعرف وهو مغمض العينين أن هذا النشيج أو ذاك هو خاص بواحد فينا لا يمكن مماثلته مع الآخر. ولكن نحيب فلاح هذه المرة كان مختلفا جدا.

سقط المطر غزيرا على سطح السفينة واشتد صقيع البرد الذي زاد من لسعاته هذه الريح التي كانت تأتي من كل الجهات، لم يكن بالإمكان الصمود أكثر على هذا السطح الذي لم يكن رطبا فقط وإنما مشبعا بهواء لزج تبعثه محركات الديزل في قاع الباخرة. حين عدت إلى القمرة كان ماهر مستيقظا وعرفت منه أن شخيره هو الذي أيقظه, ولم تكن تلك هي المرة الأولى التي يحدث فيها ذلك.

ـ أنا أعرف أنك هربت من شخيري.

قال ماهر ذلك بطريقة ساخرة.

ـ لا عليك فقد أتحت لي فرصة رؤية البحر ليلا من على سطح سفينة.

قلت ذلك لأخفف ربما عنه شعوره بالذنب.

رد ضاحكا وهو يمسك زجاجة العرق: بهذه لن تهرب بعد الآن. تعال نشرب صحة التعارف.

لم تغرني المرأة كما يغريني كأس العرق، لهذا لم أجد غضاضة في قبول دعوته على الفور.

عند الكأس الثالثة بدأ ماهر يدندن بأغنية ريفية، ارتفع صوته قليلا ولكنه سكت فجأة، التفت إلي مستفسرا:

ـ أتعرف لماذا اخترت أن أكون بحارا؟

ـ.........

ـ كنت أسمع منذ الصغر عن الموانئ التي تنتظر فيها النساء البحارة القادمين من أعماق البحارو كما كنت أسمع عن تلك المغامرات التي لم أكن اتخيلها أبدا في حياتي. كنت أسترق السمع إلى أبي وهو يحدث أصدقاءه عن مغامراته البحرية. سمعته ذات مرة يقول:

ـ حطت بنا الباخرة ذات يوم في أحد الموانئ الأفريقية، في ذلك الميناء كانت السمراوات ينتظرن عند البوابة، كانت هناك أكثر من أربعين فتاة لا يزيد عمر الواحدة منهن عن العشرين سنة.

وفي تلك اللحظة يسكت أبي ليرى تأثير ما قاله على وجوه مستمعيه, وحين يتأكد من أن كل شيء يسير ضمن الخطة يعود للحديث بحيوية أكثر:

ـ كانت الفتيات يلوحن لنا كأنما جئن لاستقبالنا خصيصا.

ويسكت أبي بعد أن يرسم علامة الدهشة على وجهه, ولكنه يضحك يعد حين ويكمل:

ـ قال لي أحد البحارة أن نساء البحر كما يطلق عليهن يتابعن صفحة الموانئ كل يوم, ولهذا فهن يعرفن مواعيد وصول البواخر ويستعدن لاستقبالها.

ويصمت أبي مرة أخرى، يبدو أنه كان يتلذذ بهذا التلهف المرسوم على الوجوه وكان وجهي المختفي وراء الباب أحدهم. يعود أبي للحديث مرة أخرى ولكن بصوت أشبه بالهمس:

ـ كان نصيبي فتاة في الثامنة عشر من عمرها، لوحت لي بيدها ثم ركضت نحوي وضمتني إلى صدرها، كانت ترطن بكلمات لم أفهمها, ولكني لم أعر ذلك اهتماما فقد كنت أحس بصدرها الكاعب ينهش صدري, بينما امتلأت خياشيمي برائحة شعرها، تلك الرائحة التي تنبعث من الأرض حال سقوط المطر. كان امامنا أربع وعشرون ساعة قبل أن تغادر باخرتنا إلى ميناء آخر –هكذا استمر أبي في الحديث- وفي الساعات الأولى من تلك الليلة نمت على صدرها، كان حنانها يدفعني إلى السكون، إلى ذلك الإحساس بكونها ليست غريبة عني, إلى الذي انهمدت فيه كل أحاسيسي الشهوانية بعد أن ثارت وزمجرت تخدرت فيها أصابع يدي وخمدت شعرات رأسي وبادت ساقاي وعيناي وحاجباي وحتى مؤخرتي ليحل محلها ذلك الإحساس الذي يشبه إحساس الطفل حين يحتاج إلى رضعة من حليب أمه.

يزفر أبي ويكمل:

ـ كانت هذه السمراء تعرف تماما كيف تعامل أمثالي.

يسكت أبي مرة أخرى, ولكن ليسترجع ذكرياته هذه المرة كما يبدو، بعد ثوان استطرد:

ـ وكما الطفل تغير له أمه ملابسه كانت تنزع عني ملابسي قطعة قطعة, وتطبع قبلاتها الحارة كلما لاح لها جزء عار من جسدي. كنت أتوه حتى ليخيل إلي أن هذا التأوه قد انقلب إلى مواء شبيه بمواء القطة التي ترى وجبة الطعام تقدم إليها.

وجدت نفسي بعد لحظات عار تماما، لا إراديا كنت أضع يدي على عورتي، سمعتها تضحك بقوة حتى اغرورقت عيناها بالدموع. تقدمت إلي وعيناها ما تزالا تشعا بالضحك. كنت أرتجف رهبة فلأول مرة أقف عاريا أمام امرأة. تضاعفت رهبتي حين طبعت قبلتها الأولى على خدي ثم سارعت لتنهش جسدي بالقبل نازلة من الأعلى مرورا بصرتي وانتهاءً بأصابع قدمي. كنت دمية آدمية تلهو بها طفلة بلغت سن الرشد قبل أوانها، مددتني على الأرض، كنت أبحث عن مقاومتي التي ذابت حين تمددت علي بحيوية لم أجد مثلها. وكيف لي أن أجد مثلها وأنا لا افقه شيئا من هذا الذي اراه أمامي؟ يا إلهي‍ هل أتمكن من الصراخ الآن؟ هل يمكنني أن أتأوه حتى يسمعني مارة الطريق؟ كيف يمكنني الآن أن أواجه ضعفي؟ عيب على الرجل أن يفضح مشاعره الجنسية, وهو نفس العيب على المرأة التي ستكون من بنات الهوى إذا تأوهت آه بان ما يكشف عن لذتها آه سبقها.

كنت أقول لنفسي وأنا في غمرة الذوبان: عيب يا ولد ليس مثلك الذي يتأوه ويصرخ أو يبان ضعفه أمام امرأة. انقلب عليها، خذها بين يديك ولا تدعها تأخذ المبادرة، احضنها بقوة، مارس رجولتك بالكامل عليها، لا تسمح لها أن تكون هي الرجل، ولكن لم لا؟ لماذا لا تجرب العكس بعد أن اخفقت منذ المرة الأولى. منذ أن تزوجت وانت الرجل الذي يريد من المرأة ما يريده في أي وقت يشاء, والمرأة هي المستجيبة. إنها الحوض المهيأ دائما لاستقبال حيامن الرجل, أما بيضها فلا أكثر من حيوانات صغيرة تقف بالطابور تنتظر من يقع عليه القرعة ليحضنها. سلمت أمري لها ولم يكن ذلك بالأمر السهل, فقد كنت أتلوى كأن هذا الجسد الذي فوقي قد انقلب إلى أسياخ حديد ملتهبة. يزداد اللهيب سعيرا كلما كانت آهاتها تخترق أذني التي لم تسمع مثل هذا الأنين من قبل. هل صحيح أن المرأة تلتهب كما الرجل؟ لم أسمع ذلك من قبل. ربما تكون هذه المرأة ممثلة جيدة, ولكن ما أجمل التمثيل حين يكون المتفرج شخصا واحدا.

كان ماهر يلهث وهو يتكلم، لم أعرف عدد الكؤوس التي شربها, ولكني اكتشفت أنه كان نصف عار وقد افترش الأرض وبان في عينيه وميض غريب وعاف الدم وجهه حتى بدا وكأنه مسجون في زنزانة انفرادية لفترة طويلة, ثم أخرج إلى النور فجأة. إنه تماما مثل ذلك الذي يقودونه إلى ساحة الإعدام وهو لا يدري ما هي تهمته. تدلت رقبته على جنبه الأيسر وهو ما يزال يفترش الأرض, وغط في نوم عميق ولكن بدون شخير هذه المرة.

يعد ستة أيام رست الباخرة في ميناء موريشيوس على المحيط الهندي.

بدت تلك الجزيرة لأول وهلة كأنها عملاق أخضر حنى ظهره نحو المحيط الهندي, أو ربما بدت مثل القوقعة الضخمة غطس نصفها السفلي في ساحل البحر بينما بان نصفها الأعلى وهو يومئ نحو نقطة بعيدة عن الشاطئ كأنما ترحب بالبحارة القادمين على الطريقة الصينية.

دب نشاط غريب في حركات ماهر حين عرف أن الباخرة رست في موريشيوس. ما أن غادرنا أرض الميناء أنا وماهر حتى انهمر علينا مطر غزبر، كان يسقط على شكل كتل مائية منفصلة عن بعض احتمينا بأول بار صادفناه.

بعد سنوات قليلة أدركت –وهو حس تآمري على أية حال– ان المطر وموقع البار القريب من مدخل الميناء كانا السبب الحقيقي وراء اختفاء ماهر وسط أدغال موريشيوس ليوم كامل.

كانت تتوزع في البار طاولات لا يعرف لها لون ورغم ان البار لم يكن مزدحما في تلك الساعة إلا أن الصخب الذي كان يصدر من الطاولة التي حاذت مشرب البار كان قويا وملفتا للاهتمام. تحلقت حول تلك الطاولة ثلاث سمراوات متقاربات في العمر، الواحدة منهن لا يزيد عمرها على العشرين عاما, فيما احتلت الطاولة المجاورة عجوز بدت أكثر بياضا من أن تكون أفريقية، فهي تتمتع بأنف طويل يتوسط خدين ناتئين ورأس صغير يستند على رقبة بانت أوردتها بشكل يفضح عمرها الحقيقي الذي ربما تعدى الستين. ورغم أنها حاولت ان توحي بفستانها القصير والملون بألوان زاهية وشعرها المرتب بعناية بأنها ما تزال تحب الحياة وتريد أن تغرف منها ما تريد إلا أن ساقيها بأوردتها الناتئة قد خذلتها خارج البار وعلى يمينه شارع مرتفع انتصبت فيه كنيسة متواضعة ارتمت داخل سياجها عشرات المقابر ذات الشواهد العالية, وماعدا ذلك كان الشارع خاليا من المارة, ومياه الأمطار بدأت تجرف معها أوراق الأشجار إلى المنحدر الضيق المطل على المحيط.

ـ بماذا تفكر؟

سأل ماهر.

ـ لاشيء.

ضحك ورد بصوت حاول أن يجعله غنوجا:

ـ كل هذا الشرود ولا تفكر بشيء؟ أراهن أنك تفكر في الطريقة التي تحصل فيها على جسد أسمر.

ـ .....

أدرت وجهي بعيدا. كنت أفكر فعلا ولكن ليس بجسد أسمر وإنما حلقت بعيدا نحو البصرة وتمثال السياب وكأس عرق.

تنبهت إلى صوت أنثوي يتحدث بإنجليزية طليقة:

ـ هل يدعوني أحدكم إلى كأس نبيذ؟

كانت صاحبة الصوت قريبة من طاولتنا، رأيتها منتصبة أمامنا بقامة بدأت تميل إلى الامتلاء قليلا خصوصا عند الردفين, بينما برز صدرها المتكور إلى الأمام وبدا وجهها ضحوكا إلى الدرجة التي لا يحتاج المرء إلا إلى قليل من الجرأة ليدعوها إلى فنجان قهوة، كان في صوتها بحة من يدخن بأقراط.

هب ماهر كأنما لسعته أفعى وصاح مرتبكا:

ـ تفضلي‍

صحت به بعد أن سحبت كم قميصه إلى الأسفل: هل تعتقد أنها تتكلم العربية.

تهالك على الكرسي وبالكاد سمعته يقول: أرجوك ادعوها إلى الجلوس.

رأيت وجهها يزداد ضحكا حين دعوتها للجلوس بلغة انجليزية مزودة بالإشارات. تمتمت بكلمة شكر وجلست بعد أن وضعت حقيبتها اليدوية الضخمة على الطاولة, وبدا عليها الارتياح كأنما أنجزت الخطوة الأساسية في مشروع مهم. كان رأس ماهر قد اقترب كثيرا من وجهها بينما رسم على وجهه ابتسامة انتصار بدت رائعة حتى في غبائها.

قال ماهر دون أن ينظر إلي: اطلب لها نبيذ يا أخ.

ـ حاضر.

قلت هذه الكلمة متأففا.

أنا –أيها السادة– رجل قادم من الشرق, بل من شرق الشرق, ومن مدينة يركض فيها الرجل نحو المرأة، يلهث ويشعر بأنه طير كناري حين يلتقط أنفاسه ثم يعاود اللهاث مرة أخرى، ولديه كل العزم والإصرار ليظل يلهث طول العمر من أجل نظرة من عينيها، ينام وفي شرايينه تجري تلك النظرة، إنها تدغدغ كرياته الحمراء والبيضاء, وحين تصل إلى القلب تغفو هناك، وإذا صحا وجهها في قلبه فإنه أيضا يقف أمام عينيه ليملأ كل المكان حوله. وتكون الكارثة لو أنها هي التي تلهث وراءه، حينها سيذبل كل شيء، لا القلب يدق ولا الريق ينشف ولا الساقين يستطيعان حمل بعوضة، كل شيء في الجسم يذبل ولا يمكن أن يجري فيه الدم لكي ينتصب مرة أخرى، إذ هل يمكن أن نتصور أن المرأة تلهث وراء الرجل.

ـ قلت لك اطلب لها نبيذ يا أخ ‍

ـ حاضر.

سمعتها تقول: من أين أنتم؟ أراكم تتكلمون بلغة العيون.

ضحكت وترددت قليلا قبل أن أرد, ولكن ماهر سبقني وقال لها بالإشارات بأن النبيذ سيصل حالا. دارت إليه جسمها بالكامل وظل صدرها منتصبا أمام وجهه وقالت فجأة مخاطبة ماهر:

ـ لك عينان ساحرتان وأهدابك مقوسة, إنها تدل على القوة والعنفوان.

ضحكت مرة أخرى بينما نظر إلي ماهر بنشوة طالبا ترجمة فورية لما قالته. استطعت بعد محاولات جادة أن أوصل إلى ماهر ما قالته. رأيته ينتصب واقفا كأنما اكتشف خللا في عقله وهجم على وجهها يقبل كل مكان فيه بسرعة لم أكن أتصورها أبدا. وكأنما كانت تنتظر من ماهر هذه الحركة فبادلته بوساته بقبلة طويلة طبعتها على شفتيه.

لا أدري لماذا ماهر في تلك الصورة كالعصفور (اللحيمي) الذي خرج للدنيا لتوه ولا يعرف بالضبط ماذا عليه أن يفعل.

ـ إنها فتاة أحلامي يا محمد. لا أريد أن أضيع هذه الفرصة، حاول. حاول –عيني محمد- أن تجعلها تحبني.

ضحكت للمرة الثالثة, ولكن لم تكن ضحكة سخرية هذه المرة, بل كانت مزيجا من الدهشة والألم والاستفزاز والحنق على كل شيء.

هل أنا مريض فعلا أم أني معقد إلى درجة لا يصعب الشفاء منه؟ إن الأمر يبدو طبيعيا، إنها امرأة مثلها مثل أية امرأة في هذا العالم, رأت رجلا, أعجبت به وبادرته بكلمات الغزل قبل أن يبادرها هو، إنه أمر طبيعي. ولكن آخ من ذلك الشرقي الذي يعيش في ذلك المكان الذي يبدو وكأنه هناك منذ آلاف السنين، هو. هو نفسه منذ آلاف السنين، آخ منك لا تريد أن تنتظر وتعرف النتائج، قليل الصبر سريع الانتصاب، سريع الميلان والجفاف, بل إن عطبك أسرع من أداء الواجب الثقيل, ولكن هيهات أن يكون الأمر مفهوما كما يفهمه الآخرون.

كان يقف الساعات الطوال أمام بيتها فقط من أجل أن يراها تطل من الفتحة الصغيرة التي تتوسط باب البيت الحديدي، فقط يريد أن يراها إن كان في الليل أو في النهار لا يهم، المهم أن تطل أو أن تسد برأسها سياج سطح البيت أو بابه الحديدي.

حينها يعود إلى البيت مثل أي فارس منتصر، لا يهم إن لم يرَ ملامحها كاملة فهو يقف في ركن الشارع، وجهها يبعد عنه أكثر من ثلاثين مترا، وهي تعرف أنه ينتظرها وهذا هو المهم. كان بوده أن يرى ملامح وجهها، تقاطيع جسدها. ماذا لو أرادت أن تراه، كيف سيتعرف إليها؟ ظل أكثر من ثلاث سنوات وهو لا يفارق المكان, وظلت هي مواضبة على إطلال رأسها من فتحة الباب الحديدي أو فتحات سياج السطح. كل الذي يعرفه أنها طويلة أو كما يقولون أنها ممشوقة القوام, ذات بشرة بيضاء على غير العادة وشعر أسود فاحم.

وكانت المفاجأة ذات يوم حين سلمتني أختها الصغيرة رسالة قائلة أنها من أختها أحلام، ولأن هذه البني صغيرة لم تتجاوز السبع سنوات فقد أخذتها بالاحضان وقبلتها في كل وجهها ولم أكترث لدهشتها واصفرار وجهها.

قرأت الرسالة: تقدم إلي أمس خطيب يحمل رتبة عالية في الجيش, وقد فرح أبي وأبدى موافقته في الحال, أما أنا فما زلت مترددة لا أدري ماذا أفعل. هل يمكنك أن تشير علي؟ أرجوك‍ إني في حيرة من أمري.

هل هي الصاعقة أم الخراب الكبير الذي وقع علي؟ كيف سأشير عليها وأنا مازلت أستلم مصروفي اليومي من أمي وبيني وبين التخرج من الثانوية عشرون شهرا. في ذلك اليوم بكيت كما لم أبكِ من قبل، وتمنيت أن أكون حفيدا لأحد التجار المعروفين في مدينتنا، على الاقل يمكنني أن أفعل شيئا.

وأخيرا قررت أن أكتب لها, ولكن ماذا سأكتبظ إنها المرة الأولى التي أكتب فيها إلى امرأة. هل أنسج لها قصائد غزل أم أنشد لها أناشيد الحب وأسطر لها ما قاله قيس في ليلى؟ لا وقت. لذلك فأبوها سيقرر مصيرها بعد أيام. حسنا لأكتب أي شيء, على الأقل ستشعر أني أقف بجانبها. استهليت رسالتي بأغنية لفريد الأطرش (وحداني حاعيش كده وحداني)، أما لماذا هذا الاستهلال, فلم أكن أجد له تفسيرا سوى شعوري بأن الأغنية كانت تعبر عما في داخلي بصدق، ولكني مع هذا لم أجرؤ إلا على كتابة كلمات حسبتها في ذلك الحين أنها ستوفي بالغرض.

وكانت الرسالة اليتيمة التي نقلتها أختها صاحبة السبع سنوات، وبعدها لم تعد تطل من فتحات سياج السطح ولا من الباب الرئيسي. كانت أياماً صعبة تعلمت منها كيف للإنسان أن ينزوي وحيدا، يتعلم كيف يفكر لوحده, ويأكل لوحده, ويمشي بمحاذاة النهر لوحده, ويصرخ أو يتكلم مع نفسه لوحده.

وكان الخراب الآخر بعد ذلك إذ نقل إلي أحد الأصدقاء أن فتاة أحلامي لم تكن فتاة أحلام أحد. كانت تتصيد المعجبين وتضيفهم إلى قائمتها التي وصلت إلى أكثر من خمسين معجبا. وكانت طريقتها للتخلص من معجب قديم رسالة استنجاد, فالخطيب على الباب ينتظر وهي تريد الحل السريع.

ماذا جرى لهذا العالم، كيف يمكن أن يكون بهذه القسوة؟ أي فخ سخيف سقط فيه؟ ولكن لا, إن هذا الفخ سيكون الدرع الأمين ليصد عني كل تلك السفاسف، لقد كان فعلا درعا سخيفا ومهترئا وضخما جعلني لسنوات طويلة أنظر إلى المرأة على أنها كائن قادم من كوكب آخر.

أيقظني ماهر بصوت مبحوح:

ـ يا محمد. يا عسكري. أين ذهبت بحق الجحيم؟

ابتسمت ابتسامة اعتذار وقلت: ماذا حدث؟

ـ إنك لست معنا على الإطلاق.

كررت سؤالي السابق بعفوية ولكن ماهر كان عصبيا إلى الحد الذي رأيته يصك على أسنانه بطريقة مزرية. كنت عفويا حتى في صمتي, ولم أكن أنتظر أن أكون مترجما لماهر في وسط المحيط الهندي.

سمعتها تقول لماهر بدلال: ماهر, أريد منك ولدا.

حدق بي ماهر بقوة كأنه ينتظر خبرا مدهشا, وكان له ما أراد حين استطعت أن أنقل إليه ما قالته بالحرف الواحد. نط ماهر من على كرسيه ومد يده لها طالبا منها أن تقوم، قامت بدلال بعد أن عدلت من هندامها. سألته بدوري عن المكان الذي سيذهب إليه، لم يجب, وإنما مسكها راكضا نحو الباب الخارجي ولم أستطع حتى أن ألحق به، رأيته ينعطف نحو شارع خلفي ينتصب في بدايته عمود ضخم علقت في أعلاه ساعة حجرية كبيرة شبه دائرية كانت تشبه ساعة القشلة في البصرة وكانا ميلاها يشيران إلى الرابعة والنصف عصرا, ولكن ساعة القشلة توقف ميلاها منذ سنوات طويلة.

كان قبطان الباخرة ذو الوجه المنمش قد أمر بالانتظار ساعة واحدة فقط بعد أن تبين غياب ماهر. ولكن الساعة مرت سريعا وأعقبتها ساعات دون أن يظهر ماهر, وكنت الوحيد الذي أعرف عنه شيئا, ولكني كذبت حين قلت لرئيس البحارة أن ماهرا أراد أن يتعرف على المدينة وربما ظل طريقه.

بعد ساعات طوال وقبل أن يوعز القبطان بالمغادرة جاء رجل شرطة لم أرَ أضخم منه: شفتان حمراواتان سمينتان، كان يمسك ماهر كما يمسك القصاب خروفا صغيرا جاهزا للذبح وطلب مقابلة القبطان. لم تمضِ دقائق حتى رجع ماهر إلى القمرة وكنت بانتظاره.

ـ أين ذهبت؟

سألته بفضول شديد. وبدا أن صمته زادني رغبة في معرفة ما حدث. كررت السؤال مرة ثانية, ولكني لم أجد جوابا, بل سمعت ماهر يغني.

انطلق صوته رخيما ناعما: (ياريل صيح بقهر صيحة عشك ياريل). كنت قد كرعت كأس العرق الثانية وماهر انطلق بأعلى صوته يكمل الأغنية. لم أصمد أمام صوت ماهر طويلا. تذكرت تلك الرسالة اليتيمة ووجه أحلام يغمر القمرة بضحكة مفاجئة. رأيتها تحدق في دليل المعجبين لتتأكد من أن جميع الشباب (شباب المحلة) قد استولت عليهم. رأيتها فجأة تعبس وتطوي الدليل بيد قاسية وتنهض واقفة. كنت أعرف أنها أظل مني بكثير. تمشت في الغرفة، لقد فلت واحد من شباب المحلة من خيوطها. كان القمر بدرا فوق سطح بيتها. أطلت من إحدى فتحات السطح علها ترى هذا المتردد الذي خرج عن طوعها، لابد أنها تعرفه جيدا ليكن إذن وفي الصباح رباح.

وجدت نفسي أدندن مع ماهر. لم أسمع صوته, بل كانت دندنات متبادلة. لم يرني ماهر وأنا أبكي كنت أضع يدي على وجهي. أحسست بيد ماهر تضغط على كتفي. مرت ثوان, لا بل دقائق وربما ساعات لا أدري. أحسست أن أحدهم كان يخضني. رفعت يدي عن وجهي، كان ماهر هناك يصرخ بي. سأله وجهي فسمعته يقول:

ـ مالك يا محمد؟ لماذا تبكي؟

لم أجد غير الصمت. ضحك ماهر بشيء من السخرية وقال: أنا بكيت من الفرح، وأنت لماذا بكيت؟

ـ من الفرح؟ أنت بكيت من الفرح؟

ـ نعم من الفرح فقد ولدت من جديدز تعال انزل من فراشك لأحدثك بما حصل.

سمعت ماهر يقول وكأنه يلقي قصيدة غزل.

أخذتني المرأة إلى بيتها. كانت تمسك بيدي طول الطريق تماما مثل امي حين كانت تخاف علي من أن أتيه في سوق الهنود بالبصرة القديمة.

ومثل ما أفعل مع أمي سلمت أمري له. كانت عيناي تجولان بين أسماء المحلات والرجال السود. آخ من هؤلاء النساء اللواتي لا يرتدين حمالات الصدر.

وفيما يشبه النائم تخيلتها تقول: تعال يا حبيبي, تعال إلى عشنا.

دخلنا بيتا بوابته واسعة ومدخله يشبه مداخل أبواب دور السيمر والسيف بالبصرة.

مازالت تمسك بيدي ولم أقوَ على الفكاك منها، ولماذا أفعل ذلك؟

في آخر المدخل دلفنا إلى اليسار ودخلنا غرفة واسعة تنبعث منها رائحة أشبه برائحة البخور الهندي الممتزج برائحة التراب. قادتني إلى حيث الفراش المغطى كله بأغطية بيضاء بدت نظيفة ومشبعة بنفس رائحة البخور.

قالت لي بعينيها: اخلع ملابسك يا صديقي، وربما قالت يا حبيبي, وربما قالت يا ماهر, لا يهم. رأت الحيرة في عيني. أدارت رأسها إلى الحائط. لثوان كنت عاريا أمامها أرتجف من الخوف والرهبة.

حين كنا صغارا كنا نمسك العصافير ونغطسها بالماء، كنا نشعر بمتعة غريبة ونحن نراها وقد التصق ريشها على جسمها وبدت كما الكرة مكورة. هكذا كنت. لا، لم أكن كذلك. كنت العصفور الذي خرج من بيضته لتوه, لا يعرف وهو يدور بعينيه إلى أين يذهب. مسكت يدي مرة أخرى وأدخلتني تحت الفراش الأبيض. احتضنتني، كانت يداها تلفان رأسي. وصدرها النابض يلسع وجهي بحرارته. كان لصدرها رائحة التراب المبلل.

خرج العصفور من البيضة وأخذ ينظر حواليه، كانت النقرات خفيفة. زادت النقرات حدة.

لم تكن على الصدر فقط, بل تعدتها إلى أعلاه وأسفله ثم أسفل الأسفل وأعلى الأعلى. ولم تسكت النقرات حتى وهي تفك ذراعيها عن رأسي. سبلت يداها كأنها لا تقوى على فعل أي شيء. ومن أسفلها كنت أنظر إليها. كانت مغمضة العينين. لم أجد أروع من هذه الإغفاءة في عينيها. تخيلتها تقول هل من مزيد. وكنت أزيد النقرات. كنت عصفورا صغيرا يريد حليب أمه ونور الشمس والنوم في بؤبؤ الصدر. كانت كل قطعة من جسدي ترتجف. وكانت هي تعرف ذلك. أخذت تمسك قطع جسدي واحدة تلو الأخرى لا تترك لواحدة منها حتى تحس بدفئها. هي جسدي مرة واحدة, قطعة من الدفء.

وقف منتصبا عليها. أغمضت عيني حين بدأت تلف ذراعيها على ظهري.

لم أسمع سوى أناتها. زادت الأنات حدة. وضعت يدي اليمنى على فمها, أزاحتها بقوة. وقالت بعينيها لا تخجل فكل الناس تعرف هذا التأوه. من أين لي أن أعرف؟ وهل كنت أسمع هذا الأنين من قبل؟ وهل كانت فتياتنا يتأوهن؟ هدأت قليلا، ثم أخذت تلعب بشعر صدري

ياللسماء هل كانت تعرف أني أحب هذه الخربشات على صدري؟ هل كانت تقرأ أفكاري؟ كيف عرفت كل ذلك؟ هل يفيد الصراخ في مثل هذه اللحظات؟ كنت أريد أن أقول لها أن الذي يرتبط بك أيها (التوفي) الجميلة سيظل يلهج باسمك إلى الأبد. سيعرف ان الذين يموتون في سبيل الحب ترفرف أرواحهم هناك في السماء, لا يبالون بهؤلاء البشر الذين ينوحون على خيباتهم وأحزانهم. إنهم حتى لا يعرفون لماذا مات هؤلاء البشر. كل الذي يرغبونه هو البكاء، إنه ليس بكاء من أجل الآخرين, وليس على أولئك الذين رحلوا إلى السماء, وإنما يبكون خيباتهم الطويلة وأحزانهم التي لا تنتهي.

سكت ماهر وأرخى رأسه بين يديه ثم أناخ رقبته نحو حائط القمرة. آخ يا ماهر لماذا كل هذا العذابظ هل صحيح أن الرجال لا يعرفون تأوه النساء في الليالي المتهدجة؟ في الليالي التي تصعد فيها الآهات إلى قطبي الأرض شمالا وجنوبا. إن عاهرتك هذه تكذب حتى النخاع. من من نسوان الشرق يتأوهن؟ هل سمعتم عن امرأة تضحي بشرفها من أجل أن تتأوه وهي تحت الرجل. إنها تكتم أنفاسها ليس من التأوه, ولكن خوفا من أن تقول آه لقد خذلتني رجولتك يا رجل.

مرة سمعت إحدى صديقات أمي تقول لها: في إحدى الليالي أحسست لأول مرة في حياتي بأني أشتهي زوجي، لا أدري ماذا جرى لي, كل جسمي كان يختض, وحين أشعرته بذلك، أشعرته بأني أشتهيه, ثار في وجهي وصاح: لا يحق ذلك يا امرأة، تخيلي أني لست راغبا فيك هذه الليلة, ماذا سيحدث؟ ستتطلعين إلى غيري وهذه هي الخيانة الزوجية.

يوم آخر سمعت صديقة أخرى تقول لأمي: حين ينتهي زوجي من وطره أهرع إلى الحمام وأدخل يدي في عضوي لأخرج كل السائل الذي أدخله بي، لا أدري لماذا, ولكني أحس أن جسمي كله قد تلوث. وأسمعها بعد ذلك تضحك قائلة: كل النساء يتحممن قبل المضاجعة, إلا أنا فالحمام بعده يشعرني بأني أنا نفسي وليست تلك التي كانت تحت رجلها قبل قليل.



--------------------------------------------------------------------------------


الليلة الثانية


بصراحة لم أعد أطيق هذا الوضع, إنه وضع غريب بالنسبة لي على الأقل، فالكل ينعتني بالجنون أو العته حينما أتحدث –ويتكرر ذلك في ديوان القرية- عن ضرورة الاستماع إلى الآخرين واحترام آرائهم حتى باتوا يلقبونني بـ "الديمكراتي العجوز".

كنت في البداية أحس بأني مثل الأطرش بالزفة بين هؤلاء, ولكني لم أستطع أن أعتاد على هذا الوضع بسبب أن ناس قريتنا -لا يزيد عددهم عن ألفي نسمة- ألفوا وتداولوا قصص وحكايات كثيرة عما كان يدور بيني وبين ابني، بعضها ملفق, والآخر مبالغ فيه, والنوع الثالث لا أساس له من الصحة.

هي في الحقيقة ليست مشكلة عويصة كما يتصورها البعض. فقد حدث منذ سنوات طويلة أن نذرت لله تعالى حين يرزقني بأول ولد أن أتركه يقول ما يريد، يتعلم متى يتحدث ومتى يصغي. كما نذرت بأني لا أستعمل أي أفعال أمر في حديثي معه, فالقاموس زاخر بأفعال الرجاء والسماح والطلب غير المباشر.

ولم أكن أعتقد أن تلك المسألة ستكون لب المشكلة، كنت أريد أن أسمع منه ثم أحاول أن أقول له رأيي بصراحة ودون إصرار. كنت مولعا بالحوارات التي أشاهدها في الأفلام التلفزيونية -خصوصا الأمريكية- متمنيا في داخلي أن اكون واحدا من هؤلاء الذين يتكلمون ببراعة في هذه الافلام ويتمتعون بإصغاء رائع من الذين في سنهم او من هم أصغر منهم سنا.

دعوني أتحدث قليلا عن هذه النقطة, فأنا أعتقد أنها مهمة جدا. حين كنت أتابع المسلسلات الأجنبية خصوصا تلك التي تعالج المشكلات الأسرية، كنت أهتم بنقطتين، الأولى تعابير الوجه أثناء الحديث, والثانية فرق العمر بين المتحدثين. ففي النقطة الأولى أجد –وهذا ما يحدث دائما– أن المُحاور -صغيرا كان أم كبيرا لا يهم– يقنع الآخر بوجهة نظره، إنه يقنع الآخر بسهولة, فهو يتمتع بمنطق واضح وحجة مفحمة، قد يقول بعضكم أن ذلك ما أراده كاتب السناريو، هذا صحيح ولكن الكلمات المستملة في الحديث هي نفسها المتداولة بين الناس إن كانوا في بيوتهم أو عملهم أو في فراش نومهم.

وفي النقط الثانية أجد تعابير الوجه التي تشع احتراما وتقديرا وتبجيلا للمتحدث تنبئ هي الأخرى عن هذا الأدب الجم في تبادل الاتهامات وبروح رياضية كما يقولون. أما في الأفلام الفرنسية فحدّث ولا حرج! فالأب يصرخ في وجه ابنه, والابن يصرخ في وجه أبيه, ثم تسود فجأة فترة صمت يحاول كل منهما أن يعيد التوازن إلى عقله, وسرعان ما يحتضن الواحد منهما الآخر-ولا يهم من يكون البادئ- وتذوب المشكلة التي يتخيل المشاهد أنها ستكون نقطة انعطاف حاد في حياة أحدهما.

بصراحة كنت أتمنى أن أكون أحد هؤلاء. وكانت تأسرني تلك الحوارات وأنا مستلقٍ على فراشي, أما إذا غفوت –وكنت متزوجا حينذاك- فكل الأحلام تنصهر في حلم واحد: الأب يجلس في باحة المنزل، قلقا يرسم على وجهه تعابير قاسية, يفكر في الطريقة المجدية التي يفتعل فيها مشكلة مع ولده البالغ من العمر خمسة عشر عاما، ويسترجع في ذهنه بعد ذلك سيناريو الحوار الذي سيؤديه، وفي النهاية أي بعد أن تنتهي المشكلة وحواراتها المتبادلة ينظر الأب إلى ابنه, والابن إلى أبيه ثم تسود فترة صمت ويحتضن كل منهما الآخر.

وحين يصل الحلم إلى هذه النقطة كنت غالبا ما ألف يدي على رقبة زوجتي –أثناء الحلم طبعا- فتستيقظ مرتعبة وتدفعني إلى حافة الفراش صارخة: "ابتعد عني أيها المراهق".

وأبتعد، وأبدأ مرة أخرى بالسؤال... لماذا تصرخ هذه المرأة، لماذا لا تقول مثلا بكل ود: "إني متعبة هذا اليوم، ولكني أقدر تلك اللمسة الرائعة... شكراً". ماذا يحدث لو قالت هذه الكلمات؟

أنا سأقول لكم ماذا سيحدث. ستنقلب الدنيا رأسا على عقب لا كما يتصور البعض, بل عالية سافلها وواطيها عاليها وعاليها واطيها... وستصرخ: "لقد تحملت بما فيه الكفاية، كنت سكيرا ورائحة فمك لا يدنو منها حتى البقر- أهناك أنثى رقيقة تستطيع أن تتفوه بهذه الكلمات القاسية- وهددتك بالطلاق ذات يوم إذا شربت هذا الزفت مرة أخرى. ومثل أي رجل يخاف الفضيحة وكلام الناس أقسمت ألا تعود إلى الخمرة وكنت عند وعدك. ولم تمض شهور عدة حتى أصبحت مدمنا على الجنون. كل الناس يتناولون ثلاث وجبات في اليوم, إلا أنت تتناول سبع وجبات. ومعظم الناس يتناولون الحلويات في المناسبات إلا أنت تتناولها قبل وبعد وجبات الأكل.

- كنت تخافين علي من السمنة.

- لتذهب أنت وسمنتك إلى الجحيم.

- إذن دعينا نناقش الأمر بديمقراطية.

- كفاك خزعبلات، من هي هذه الديمقراطية التي تريد أن تحتج بها.

- إنها ليست امرأة على أية حال.

- حتى ولو كانت امرأة، فأنا أعرفك جيدا، ألست أنت صاحب القصة إياها؟

- أرجوك لا تكرري ذلك مرة أخرى.

- بل أكرره، أما كنت تقول أن مراهقتك كانت تعيسة واكتشفت تلك التعاسة على يدي إحدى بنات الهوى. كنتم أربعة شباب ينتظر كل منكم دوره، وحين جاء دورك دخلت وأنت تغني فسألتك المرأة إياها وهي مضطجعة على السرير فاتحة فخذيها كالعادة عن سبب العناء فقلت أنك لا تعرف لماذا ولكنك كنت تريد –حسب روايتك التي رددتها أكثر من مائة مرة- أن تهيئ الجو الشاعري المناسب، وكنت تقول أنك كنت تغني (ياما جلسنا تحت الشجر يا وهيبة وأكلنا برتقال) وأنت تنام فوقها باكيا وحين سألتك مرة أخرى عن السبب قلت لها: لا شيء، كنت أريد أن أغني فقط فدفعتك بيديها لتسقط من السرير على الأرض وهي تقول لك: أنك لا تصلح حتى للبكاء.

- أرجوك...

- دعني أكمل قصتك التي حفظتها عن ظهر قلب.

- لا... أرجوك.

- إذن دعني أنام.

- حسنا.

في هذه اللحظة أعرف تماما ما يتوجب علي أن أفعل.. أبحث في قنوات التلفزيون عن فيلم أو مسلسل تكون المرأة أو الرجل فيه في غاية الاسترخاء حتى أنه لا ينادي زوجته باسمها الأول بل يقول لها:

- هل تسمحين لي أن أدعوك إلى وجبة عشاء متواضعة؟

- بكل سرور يا حبيبي، بكل سرور.

- هل لديك مكان محدد نذهب إليه؟

- بل كل الأماكن التي تريدها فأنا رهن إشارتك.

- إشارتي؟

- نعم إشارتك, ألستَ زوجي وأبو بيتي وحبيب عمري؟

- ولكن...

وتدور الكاميرا وأعتقد أنه من الأفضل أن نعود إلى حديث قريتنا، ولعل الكثيرين لا يعرفون السبب وراء هذه الحكايات التي يسردها الناس وخصوصا في ديوانية القرية.

فقد حدث ذات يوم أن طلب مني ابني أن آخذه معي إلى الديوانية فلم أمانع, سيما وأنه أصبح شابا لا يستهان بحديثه. وبعد أن دار القهوة بين الحاضرين انبرى أحدهم ملتفتاً إلي:

- يا أبو محمد! إن الديوانيات مجمع الرجال وليس المراهقين.

فرد ابني ببرود أعصاب:

- هل تعرف من هو المراهق؟

ارتبك المتحدث، ليس من السؤال ولكن من برودة أعصاب ابني التي لا تتآلف مع من في مثل عمره.

أسرعت إلى الرد لإنقاذ الموقف:

- جاء محمد لكي يتعلم من الكبار يا بو كاظم.

وتفاجأت بصوت ابني قائلا:

- وهل جئت أتعلم الإهانات.

- اخرس ياولد!

ساد جو من التوتر بين الجميع وما كان إلا أن وقفت وأمسكت بيد ابني واستأذنت في الانصراف. بعد أيام أصابتني وعكة برد ألزمتني الفراش لعدة أيام، ولم أعلم أن ابني حضر إحدى أمسيات الديوانية بدون علمي.

قال أبو كاظم أثناء زيارته لي:

- جاءنا ابنك قبل يومين وكنا في غاية الصبر معه فقد كان لسانه طويلا.

- وماذا قال يا بو كاظم؟

- كنا نتحدث عن موسمنا الزراعي والقحط الذي أصاب معظم المحاصيل بسبب -كما تعرف- العين التي أصابتنا من ناس القرية المجاورة.

- وماذا بعد.

- هب ابنك واقفا وصاح بغضب: تريدون إراحة ضمائركم برمي عيوبكم على الآخرين، تماما مثل حديثكم عن البعبع الأمريكي والغول اليهودي الذي بلع فلسطين. تتباكون وأنتم تدخنون في هذا الديوان بعد أن رميتم كل خذلانكم على الآخرين. تريدون إراحة ضمائركم فسعيتم إلى تبرير أفعالكم ورمي الأخطاء على الآخرين.

يسكت ابنك لبرهة ثم الصراخ: أي عين هذه التي تحرق مزارعكم، ثم أي مزارع هذه التي تتحدثون عنها وأنتم لم تحرثوها منذ سنتين؟ وهل تستطيعون أن تقولوا كيف ولماذا قتل محمد الرضوان؟ أنا أقول لكم, لأنه أراد أن يحفر بئرا خاصا ليروي مزرعته، واعتبرتم ذلك خروجا على التقاليد (تقاليدكم), إذ كيف يحق له، هذا محمد الرضوان أن يتخذ هذا القرار دون الرجوع إلى شيوخ القرية, خصوصا وأنه قال لكم: إن هذه المياه ليست ملكا لأحد، إنها ملك لله عز وجل فقط, وإذا أردت أن أسأل أحدا فعلي أن أسأل ربي الذي يمطر السماء وينبت العشب والزرع.

- وماذا بعد يا بو كاظم؟

- هل هناك بعد؟ لقد خرج ابنك راكضا كمن أصابه مس من الجنون، كان يضحك بعصبية.

لا أخفيكم، أنا أيضا كنت أضحك بعصبية, ولكن في داخلي, إذ تحاشيت أن أظهر مشاعري أمام صديق عمري، وبصراحة لم أكن أعرف سبب ضحكي, ولكن الذي أدريه أن ابني كان على حق.

سمعت أبو كاظم يقول:

- يجب أن تعاقبه وتمنعه من الذهاب إلى الديوانيات مرة أخرى.

وحاولت أن أكون مجاملا جدا:

- لقد تعدى ابنك حدوده وحان موعد عقابه.

عاقبت ابني ولكن على طريقتي الخاصة. استمعت إليه جيدا, فأنا معروف بين الجميع بأني أجيد فن الإصغاء, ولدي خبرة مع المسلسلات التلفزيونية –كما تعرفون- واقتنعت بوجهة نظره، ومن هنا بدأت المشكلة, إذ سرعان ما بدأت الأقاويل تنتشر بعد أن أعلنت رأيي في الديوانية. فقد همسوا من ضمن ما همسوا به أن هذا الأب ضعيف الشخصية, وإلا لما استمع لابنه. ثم كيف يستمع الأب إلى ابنه ومن المفروض أن يحدث العكس، وحتى لو حدث ذلك فأين سلطة الأب؟ ثم ألا يجب أن يكون كل ذلك الحديث سرا بين الاثنين؟ وعلى الأب أن يعلن بغير ما يبطن، لأنه الأب في كل الأحوال. إنها فعلا علامة من علامات يوم القيامة.

وتذكرت أن ابني رسم صورة قلب على جذع شجرة ذات مرة وكانت مصادفة على ما أعتقد, إن هذه الشجرة كانت قريبة من أحد الآبار فثارت ثورة الآباء وقاد حملة الغضب أبو كاظم نفسه وكان يصيح في الديوان:

- هذا الولد يريد إفساد بناتنا لقد بتن يعرفن أن هذه العلامة تعني القلب العاشق, وتخيلوا لو أن إحداهن أرادت رسم هذه العلامة على شجرة ثانية, وتأتي أخرى وترسم علامة أخرى.

كانت همهمات الحاضرين تعلو وتنخفض ولا يمكن لأحد في تلك اللحظة أن يلتقط جملة مفيدة واحدة من أحدهم.

تركت الديوان دون أن يشعر بي أحد إلا أبو كاظم الذي كانت تعابير وجهه تقول طبعا أن هذا الحديث لا يعجبك ولا يعجب ابنك أيضا, فكلاكما من طينة واحدة. في تلك الليلة لم أستطع أن أخفي غيظي على جميع الموجودين في البيت. كنت مستعدا للمشاجرة انتظارا للأول إشارة, وكانت أم محمد هي الضحية الأولى.

قالت:

- لماذا كل هذا العبوس؟

صرخت:

- وهل تستكثرون علي العبوس متى أريد؟

- وهل تريد جوابا أم تريد أن تتعارك؟

- الاثنين معا.

-يجب أن تختار، ألست من المؤمنين بالديمقراطية؟

- وما علاقة كل هذا بذاك؟

- .......

- لماذا خرست؟

- .......

- تكلمي، قولي أي شيء!

خرجت ام محمد بهدوء. كانت تعرف جيدا أن الحديث إذا استمر على هذا المنوال سوف ينتهي بكارثة, والكارثة هي الصراخ ولا شيء غير الصراخ. رباه لو لم تخرج بهذه الطريقة الاستفزازية... لو أنها أدارت وجهها إلي بدلا من ظهرها... لو أنها أقبلت رافعة يديها نحوي... لو أنها ضغطت على أعصابها وقالت:

- ماذا حل بك؟ لماذا كل هذا الهم المرسوم على وجهك؟ انفض عنك كل هذا العبوس يا رجل! ثم تسكت قليلا لتضيف ضاحكة:

- ادخرت مبلغا من المال وأستطيع أن أدعوك اليوم على العشاء في أرقى مطعم تختاره.

وكنت سأجيب بالتأكيد:

- لقد تعبت يا حبيبتي. لماذا يتوجب علي أن أكون حاملا الراية بدلا من صاحبها.

- هكذا خلقت وعليك أن تتقبل قدرك.

- لا أعتقد أن الأمر بهذا الشكل؟

- ماذا عن دعوة العشاء؟

- هل يمكن تأجيلها؟

- كما تريد.

في اليوم التالي قال لي ابني محمد وملامحه تعبر عن هدوء تام:

- أريد أن أعتمد على نفسي.

- وما هو المطلوب؟

- أن أغادر البيت.

- تغادر البيت؟

- نعم.

ودون أن يتنظر مني أي رد أدار ظهره نحوي واتجه مباشرة إلى باب البيت الرئيس. مرت عدة ثوان حاولت خلالها أن أستوعب الأمر. كان الأمر بالنسبة لي أكثر من رمي صخرة كبيرة في مستنقع ماء راكد. استرجعت في ذهني كل اللقطات السينمائية التي تعالج مثل هذا الموضوع، خصوصا تلك اللقطات الأمريكية, ولكن دون جدوى, فقد توقف كل شيء داخل جمجمتي وبات من العسير أن أفكر في شيء محدد... لماذا أنا هكذا؟ لماذا هو كذلك؟ لا أحد يدري.

هل هي الضريبة التي يجب علي دفعها؟ أم أن بقايا العقل الذي احتفظ به هو الذي قاد إلى ذلك؟ لا يمكن لي أن أعترف بسهولة رغم أن قرار محمد هو قرار طبيعي سيتخذه عاجلا أم آجلا. من أين لي تلك الشجاعة التي أعترف بها أن الأمر بهذه السهولة؟ مازال الحال كما هو عليه في هذه القرية البائسة، ماعدا نظريات السخرية التي تصادفني يوميا من أبو كاظم والآخرين. لم أعر الأمر اهتماما، كان كل اهتمامي ينصب على ابني محمد، أنا أعرف أنه سيشقى ويتعذب. أنا أعرف أنه يحمل عقلا يتعب جسمه. أنا أعرف أنه سيعاني كثيرا. لقد سمعته يقول لأمه ذات يوم:

- سأبحث عن حياتي في البحر كما فعل أبي.

لا سبيل إلى النسيان سوى تذكر أيام البحر. آه أيها البحر الجميل! ما أعذب وما أشهى نساءك.





--------------------------------------------------------------------------------


الليلة الثالثة


كان جدي حمد العسكر كثير الأسفار، تساعده في ذلك بنيته القوية وعمله كحرفي ماهر في صناعة الأنابيب الحديدية. هذا العمل كان يدر عليه دخلا يفيض عن حاجته. ورغم أني لم أره إلا مرات قليلة في السنة حينما يأتي لزيارة أمي ويسأل عني بشكل خاص إلا أني كنت أهابه, وهي نوع من الرهبة الممتزجة بكثير من الإعجاب والخوف حين أقف أمامه. كان نوعا من أولئك الرجال الذين يحبون الصمت, ينظر إليك بقوة حين تكلمه، يشعرك أنه يصغي إليك ولكنه في الحقيقة يسمع منك ما يريد هو أن يسمعه فقط. قالت أمي عنه ذات يوم أنه يستطيع أن يجلس لوحده أسابيع دون أن يتحرك. رجل يحب الصمت ولا أحد يعرف السبب.

في تلك الأوقات كنت أحاول أن أقترب منه كانت شخصيته طاغية، يملأ البيت صخبا وضجيجا من الدقيقة الأولى لزيارته وكان الوحيد التي تسمح له أمي بقرص خدها والهبث بشعرها. يستهل صخبه بالذهاب إلى المطبخ يفتش عن طبخة اليوم. إنها حركة أصبحت مكشوفة للاختلاء بأمي, ولكنه يعرف أيضا أن أمي طباخة ماهرة. وأمام الفرن يسألها مداعبا وبقايا الأكل في فمه:

- هل أنت راضية عن أبو محمد؟

تنكس رأسها خجلة وتمتم بكلمات غير مسموعة. يصيح هو:

- قلتها عشرات المرات إنه لا يصلح لك، إنه مزاجي لديه أفكار غريبة تبعث على الجنون. نعم، نعم, إنها آخر مرة, سأكلمه آخر مرة, ولكن هل يفيد الحديث معه؟ إنه حائط أسمنت.

وترد هي بصوت خجول وخافت:

- إنها القسمة يا أبي.

-أي قسمة هذه، إنكن غريبات الأطوار فعلا، حين تحب إحداكن رجلا لا تجاهر بحبها إن كان في حضوره أو غيابه, ولكنها تردد كل الكلمات التي قيلت قبل قرن من السنين... إنها قسمة، إنه زوجي, إنه أبو عيالي، ظل راجل ولا ظل حيطة.

ينهض جدي غاضبا أو بالحقيقة يتصنع الغضب, فأمي اعتادت على سلوكه هذا. نفس الكلمات ونفس تعابير الغضب كل مرة. وسرعان ما تتبدل ملامح وجهها وترتسم عليه إشراقة طفل وهو يحتضن لعبته حين يبدأ يقص عليها آخر أخبار سفرياته. كانت تنصت إليه بخشوع غير مبالغ فيه وإصغاء قلما يتكررعند الآخرين. كنت مأخوذا بهذا الإصغاء حتى أني تمنيت حين أتزوج لألا يكون هم زوجتي سوى الإصغاء كما تفعل أمي.

وتستغل أمي فترة شرود جدي للحظات لتسرع إلى المطبخ وتلقي نظرة على الأكل، حينها يلتفت جدي إلي فجأة ويقول:

- سافر يا محمد، إن السفر يعلمك أشياء كثيرة، إنه يشعرك بالفخر كما يشعرك بالخيبة واليأس.

يتنهد قليلا ثم يعاود الحديث:

- للسفر مرارة قلما يقدر بعضنا على هضمها، ولكنها أحلى بكثير من الثبات في مكان واحد. إنه عالم فسيح, فلماذا نستقر في مكان واحد؟

وفي مرات عديدة كان جدي يأخذني معه إلى مجلس الحي وهناك كنت أسمعه يسرد القصص الطويلة عن تلك العوالم التي رآها وتعابير وجهه لم تكن مثل التي كان يتحدث بها مع أمي. ذات مرة سمعته يتحدث إلى أصدقائه وكان قد عاد لتوه من سفرة طويلة. كنت أحس في صوته تعب شديد وبحة لم تكن موجودة من قبل. قال أشياء كثيرة عن الحب والحياة والبشر الذين يعيشون في وديان الجبال, والهضاب التي ضمت أناسا لا يعرفون سوى السماء والعشب المترامي بين السهول. ولكن الذي لم يقله حمد العسكر في ذلك اليوم قاله أحد فتيان شط العرب ذات يوم:

- تحركت العبارة بصعوبة بالغة متجهة إلى الجهة المقابلة من شط العرب, وكان حمد العسكر يقف وسط حشد من البشر ينظر إليهم ولا يراهم، ولولا النسيم البارد الذي كان يداعب وجنتاه لما أحس أنه في هذا المكان.

في وسط الشط توقفت العبارة قليلا وسمع الركاب صوت الأسطى حسن سائق العبارة وهو يصرخ:

- تمسكوا جيدا فالموج بدأ يعلو والرياح ستصبح قوية.

ضحك حمد العسكر في سره فالأسطى حسن يبالغ دائما في الحديث عن الجو. الركاب المدمنين على العبور معه كل يوم يعرفون ذلك جيدا. ولكن يبدو أن الصيحة في هذه المرة كانت جادة فلم تمض دقائق حتى بدأ الموج يرمي بالعبارة يمينا وشمالا, وسرعان ما لف الضباب كل شيء, وأصبحت الرؤية معدومة تماما.

أحس حمد العسكر براحة غريبة وشعور طاغ بأنه خفيف جدا وهو ينظر إلى أمواج الشط ذات اللون الطيني. لأول مرة يشعر بأنه صافي الذهن يمكنه أن يفكر بصوت عال وهو يقف وسط هؤلاء البشر.

لم تتح له الفرصة إلا نادرا أن يفكر بصوت عال، فإذا كان في البيت وأراد أن يرفع صوته قليلا في غرفة نومه فإن امرأته تأتي إليه مذعورة وتتوسل إليه:

- مالك يا حمد؟ ارحم نفسك قليلا. لماذا كل هذا الهم؟ أتشكو من شيء؟ أتريد أن آخذك إلى الطبيب؟ هل.....؟

ويقاطعها بشكل صارخ:

- اسكتي...

ويعيد الرجاء بتوسل هذه المرة:

- اسكتي أرجوك!

وكأنها لم تسمع ما قاله حين تختفي برهة ثم تظهر حاملة بيدها صينية صغيرة تنفث دخانا:

- تعال يا حبيبي! تعال أبخرك بالحرمل.

وكالنيزك يخرج من الغرفة ثم من الباب الخارجي بعدها إلى الشارع العام وإلى أقرب بار. هل تراه كان مصيبا حين كان يتصرف بهذا الشكل؟ لا أدري، أنا أعرف أنها تحبني ولكن ليس هو الذي أريد، لا أريد هذا الذل في عينيها وهي التي تسميه حبا. أريدها أن تكون مثل... أستغفر الله العظيم.

كانت العبارة تتحرك مثل السلحفاة فوق المياه، والأسطى حسن يبذل جهدا ملحوظا في السيطرة عليها. أنا أعرف تماما أن قلبها يستوعب حب الناس جميعا. مرة بكت لأنها رأتني أدوس على صرصار في مطبخ البيت:

- لماذا لم ترمه خارج البيت؟ إنه كائن حي على أية حال.

يلفني الصمت، لا أعرف كيف أجيبها, هل أصرخ؟ هل أعوي؟ هل أبكي وأقول لها أني رجل وأنت امرأة ولكن الذي بيننا مثل العبارة التي يقودها الأسطى حسن، لا تستطيع أن تقود نفسها بنفسها إنها كتلة حديد لا أكثر ولا أقل.

- أتعرفين كيف يعمل الحداد؟

بدهشة تفتح عينيها الواسعتين.

- نعم؟

- أقول هل تعرفين كيف يلوي الحداد الجديد؟

تضحك. (كنت في السابق أحسب عدد ضحكاتها فقد كانت تعد على الأصابع).

- بواسطة النار طبعا.

- ولكنه حديد.

- نعم إنه حديد. ماذا تريد أن تقول؟

- لاشيء، إنها فكرة طرأت برأسي فجأة.

أتذكر جيدا تلك الليلة إن كنت أحس بسعادة لا أعرف سببها, وبالتأكيد لم تكن بفعل الشراب الذي تناولته, فأنا أعلرف نفسي جيدا. صحيح كنت متوهجا، أكاد أشعر بأن جسمي كله يرسل إشعاعات إلى كل الجهات, وجوفي بات فارغا خفيفا, وعيناي تبتسم لسبب لا أعرفه جيدا.

حين وصلت إلى البيت كانت زكية في انتظاري وكعادتها سألتني:

- أين كنت؟

استغربت من الرقة التي سألتني بها، وبنفس الموجة الصوتية أجبت:

- أين أكون؟ في البار أو أتسكع في الشوارع والطرقات.

- ولكنك تبدو سعيدا.

هذا هو الخيط الذي يربطني بها، أنها تعرف كل شيء بمجرد أن تنظر إلى عيني. ذات يوم أعجبتني أغنية قديمة فطربت لها وبدأت آخذ صالة البيت طولا وعرضا وأنا أرقص رقصتي الخاصة, وحين انتهيت همست في أذني:

- هل ستلتقي بأحداهن غدا؟

صعقت، إنه خبر صحيح, فقبل يومين خرجت من البار المجاور لبيتنا ولم أكد أضع أي خطواتي على رصيف الشارع حتى كانت تقابلني وجها لوجه. نظرت إليها. نظرت إلي. تخيلت أنها تبتسم. زال عني كل الخجل الذي حملته معي طيلة ثلاثين عاما, وهمست لنفسي ببحة أذوب لدى سماعها: "ستكون مغامرتك الأولى. ها أنت تنال ما تريد بعد أن كنت تنوح وتقول لجميع المعارف والأصدقاء أنك مازلت عذراء داخل شرنقة. هيا تقدم فربما ستكون فاتحة خير لمغامرات مقبلة.

- أنا... أنا اسمي... اسمي حمد، هل أتشرف... أتشرف بمعرفتك؟

- أنا مريم.

- تشرفنا.

يا رب ألهمني القول، كيف أستمر، إنني لا أعرف كيف يتسنى لهؤلاء الملاعين أن يتحدثوا في هذه المناسبات دون انقطاع.

كادت أن تواصل سيرها لولا بقايا شجاعة كانت مخزونة في مكان ما في أعماقي.

- هل أدعوك لشرب كوب من الشاي؟

قالت: هل أنت مصرّ؟

بسرعة البرق قلت: نعم... نعم.

- حسنا.

ومشينا معا. كنت أتمنى في تلك اللحظة أن يراني كل أصدقائي. يروني وأنا أتمشى معها، صحيح أن خطواتي كانت واسعة ومقصودة كأنما أريد أن أستعد للهروب بعد أن أتركها ورائي عدة خطوات, ولكن اللبيب يعرف أنها معي رغم أن خطواتي كانت تتوسع بحذر حتى لا أشعرها أني ملتصق بها.

قالت: تبدو وكأنك من الطراز القديم.

- لم أفهم قصدك.

- كان الرجال في الماضي يستحون إن يمشوا بمحاذاة زوجاتهم ولهذا تراهم يتقدمون عليهن بمسافة لأنهم ولا أدري لماذا يشعرون بالخجل من ذلك. وكانت الواحدة منهن تحاول اللحاق بزوجها ولكن دون جدوى, فهو كيف يسرع من خطواته أو يبطئها عند الضرورة، إنه اختصاص الرجال هنا على أية حال.

ضحكت بخوف: لم أكن أقصد ذلك.

- إذن كنت تريد ألا يعرف الناس أنك معي.

- ما هذه الأفكار؟

ضحكت وحسبت أن هذه الضحكة هي نهاية الحديث.

شربنا الشاي صامتين، لأول مرة لا أعرف ماذا أشرب, فقد كان ذهني يغلي وجسمي يرتجف ويداي تختضان. لماذا لا تعرف كيف تدير الحديث؟ لو كانت هي التي تقابلك الآن لعرفت كيف تتحين الفرصة لكي تناكدها وتبحث عن ألف سبب لكي تغلق باب غرفتك وتسرح في اللاشيء. تكلم، هل فرغ ذهنك من كل المواضيع؟

- لماذا أنت صامت؟

- لا أعرف عن أي شيء أتحدث, فهذه هي المرة الأولى التي ألتقي بها مع حسناء مثلك.

- كل الرجال يقولون ذلك.

هل أقسم لها؟ هل أقول لها أن زوجتي قالت ذات مرة لصديقاتها: لو أني رأيت حمد مع إحداهن في غرفة نومي لكذبت عيناي؟ ماذا أقول أيها الناس؟ كل أصدقائي يسخرون مني حين يبدؤون الحديث عن مغامراتهم العاطفية, بينما أنا أركن إلى الصمت.

أحدهم يضحك: حكة خبيثة.

- وأنت يا حمد ألم تزل عذراء داخل شرنقة؟

وتجلجل الضحكات، وأضطر إلى تمثيل دور الزعلان وأغادر إلى أقرب بار أنفث فيه خيبتي.

- أين ذهبت؟

- لا، أنا معك.

- حسنا ظهرت أول خصلة فيك.

- ما هي؟

- الكذب.

- حاشا لله، فقد سرحت قليلا.

- أين؟

- ليس بعيدا. هل نتمشى قليلا.

تأخر الوقت وعلي أن أذهب.

أيتها السماء! إنها ستذهب، ماذا أفعل؟ ماذا يقولون في هذه المناسبات؟

استحضرت كل مواهبي وخيالاتي والمشاهد التي رأيتها في حياتي في مثل هذه المناسبة, ولكن دون جدوى فكل شيء طار من مخي.

وأخيرا استجمعت قواي وقلت بصوت مضطرب: هل سألقاك مرة أخرى؟

- بعد يومين في نفس المكان.

حين عدت إلى البيت كانت كل عضلة في جسمي توشي بالذي فعلته, حتى أن رائحة جسدي باتت غريبة عني.

قالت زكية: إنها رائحة الانفعال. أين كنت هذا اليوم؟

- نفس المكان الذي كنت فيه أمس وأول أمس وقبل سنتين وقبل...

كنت قد انتهيت من رقصتي الخاصة ودلفت إلى الحمام لأغتسل هروبا من زخات الأسئلة.

أدرت ظهري وأنا على الفراش حتى لا تشي عيني بما أفكلر. إنها ملعونة هذه المرأة. قد يخطئ العرافون في قراءة الكف أو الفنجان, ولكن هذه المرأة لا تخطئ معي حين تنظر إلى عيني.

مدت يدها لتربت بها على كتفي وفهمت الرسالة: اتركيني فأنا متعب هذا المساء.

وكطفل مطيع تتلحف بذراعي وتغطي حتى رأسها وتغط بعد ثوان بنوم عميق.

بعدها بلحظات كنت أبحلق بالظلام وأسحب يدي بخفة من تحت رأسها لأتركها تحط على كتفها. أيتها المرأة النائمة التي تقرأ صفحات عيني، هل تقرئين ما يجول بخاطري الآن؟ علك تعرفين فعلا ما أعانيه، هل تدركين أن الرجل حين ينام مع زوجته يكون هو الشاي وهي السكر.. حين يختلطان ببعضهما ينتجان شيئا لا علاقة له بالشاي أو السكر؟ هل تفهمين ذلك أم أضع كل هذه الأسئلة في عيني حتى تقرئينها؟

في الصباح تنهض باكرا، توقظ الأولاد برفق وتدخل المطبخ مثل أي طباخ أمضى سنوات طويلة يطبخ في الفنادق الراقية. وأسمع ثرثرة الأولاد الذين لا يحلو لهم الكلام إلا في الصباح الباكر. أسمعها تتحدث إليهم بصوت خافت مثل أي امرأة في هذا العالم لا تعرف من الدنيا سوى أنها أم، كل أحاسيسها الأنثوية تتمحور في خانة الأمومة.

ذات ليلة صرخت وأنا فوقها: كفى لقد مللت.

- ماذا دهاك؟

- لست أحد أطفالك حتى تعامليني بهذا الشكل.

- وكيف تريدني أن أعاملك؟

- هذه أشياء لا تدرس، إنها تعرف بالغريزة، الأنثى تعرف كيف تتصرف تماما في مثل هذه الظروف ولا أحد يعلمها.

- لم أفهم قصدك.

- ومنذ متى كنت تفهمين قصدي؟

بدأت وطأة الأمواج تخف قليلا وأخذت العبارة تستقيم في سيرها وحين رست في الجهة الثانية من الشاطئ كان هو آخر المغادرين. في منتصف الطريق إلى البيت قرر أن يتناول كأسا من العرق في البار القريب من البيت، ابتسم وهو يعرف تماما أن الكأس الواحدة لا تكفيه. وحين طلب أول كأس تذكر أن سؤالا أزليا يسمعه حين يصل إلى البيت.

- أين كنت هذا اليوم؟

ولكنه بدلا من ذلك سمعها تقول: لقد جاء حفيدك محمد اليوم ليودعك.

سأل باهتمام: يودعني؟ إلى أين؟

- قال أنه سيكون بحارا.

صرخ حزينا: ولكنه اختار عملا يدوس على القلب.

غزت رأسه بعد ذلك أفكار شتى جاءته من كل حدب وصوب، ولكنه يعرف لماذا تجهم. إنها الغيرة. البحر لا يناسبه الآن, فماذا يفعل؟





--------------------------------------------------------------------------------


ملحق الليلة الثالثة


في الثالث عشر من تشرين الأول رحل حمد العسكر من المدينة* موليا وجهه صوب الصحراء. في البداية وهو يمشي سيرا على الأقدام قادته رجلاه باتجاه معاكس لسير القطار الذي يمر بالمدينة من طرفها الجنوبي كل يومين وليلة، لا يعرف لماذا اتخذ هذا الاتجاه, ربما لأنه كان يحب أن تلفحه الرياح أثناء المشي.

منذ كان صغيرا لا يحب أن تدفعه الرياح إلى الأمام وهو يمشي لذلك اعتاد حتى في أيام المطر أن يسير لعكس اتجاه المطر.

إنه يتذكر جيدا حين يبدأ المطر بالانهمار، وهو طفل يافع، كيف ينتابه شعوره بالغبطة والفرح، يجد نفسه بدون أن يدري يقف عند عتبة باب البيت الخارجي لبرهة ثم يندفع نحو الشارع العام بعد أن ينظر إلى السماء ويبدأ المسير العكسي باتجاه رذاذ المطر.

على حافة الطريق الضيق الذي يفصل بين حاجزي سكة الحديد وقف قليلا يسترجع أنفاسه وآثر بعد ذلك أن يجلس بعد أن أحس أنه سار لمسافة طويلة. الشمس مازالت في كبد السماء قوية مبهرة يغطي نورها مدى بصره.

هل من الطبيعي أن يترك زوجته وخمسة أولاد منفردين في هذه المدينة الصاخبة دون معيل. ولكن... هل من الطبيعي أن يبقى هو في ذلك المكان حتى يصاب بالجنون؟

الجنون؟ ربما تحمل هذه المفردة آلاف المعاني, ولكن (جنونه) هو لا يوجد له مرادف في أي قاموس لغوي. مثلا هو يكره الشمس لأنها رتيبة تشرق من الشرق وتغرب من الغرب. تطلع لساعات يسمونها ساعات النهار ثم تغيب. هي كذلك منذ آلاف السنين، لم تتغير, ومن الصعب أن تتغير حتى بعد وفاته. ومن العجيب ألا تصاب هذه الشمس بالجنون من كثرة الرتابة التي تعيشها، هل يعقل أنها هناك في المكان نفسه تشرق يوميا منذ ملايين السنين ولا تضجر؟ إنه نفس ضجر منها، بل إنه كان يحمل (الشمسية) كلما رآها تتوسط السماء وترسل أشعتها المحرقة بعكس القمر هذا الذي تغنى له وبه مئات الشعراء، ولعل أغلبهم أدرك أن هذا القمر الأبيض يغيب كلما يحلو له ويظهر كلما أراد، إنه يطل بين الحين والآخر, وقد تحجبه غيمة ثقيلة ولكنه يصبر عليها حتى تنقشع ثم يعاود الطلوع.

ابتسم. استمع أمس إلى نشرة الأخبار الرئيسية من التلفزيون الملون في مقهى المدينة. قالوا أن المدينة المجاورة لمدينتهم والتي تشهد منذ سنوات قتالا مريرا بين فصائل متعارضة، استطاع سكانها أن يناموا الليلة الماضية بهدوء لأول مرة في حياتهم بعد أن اتفق رؤساء الفصائل على استلام السلطة بالتناوب, وأن يبدأ الاختيار حسب الحروف الأبجدية*.

زادت رقعة ابتسامته هذه المرة، غطت وجهه, أحس بها أكثر شفافية من أي ابتسامة رسمها على شفتيه في السابق وهو يتذكر حكاية الكاتب العدل*.

مر القطار الحديدي سريعا من أمام ناظريه، ورغم الدخان الكثيف الذي خلّفه وراءه, إلا أنه لمح وجه طفل شبه مغمض العينين يطل من إحدى نوافذ القطار. مر الوجه سريعا, لم يستطع أن يتبين ملامحه جيدا, ولكنه لا يدري لماذا تذكر أمه في تلك اللحظة.

نهض متثاقلا غير عابئ بتلك الأحاسيس التي تتضارب في رأسه, رماها كلها جانبا, فلا زوجته يمكنها أن تكون صديقته, ولا أولاده يمكن أن يتخلصوا من إدمان التلفزيون, ولا الشمس ستعاند وتضرب عن الشروق عدة أيام, ولا هو ينوي أن يحلق لحيته الكثة, ولا القطار الذي مر الآن سريعا يمكن أن يقف إلا في المحطات المعتادة. المعتادة... آه من هذه الكلمة، إنه أبي ذلك الذي أورثني الجنون.

في يوم ما كنت صغيرا وأحساسي بأني المدلل في العائلة هو الذي أوقعني في مآزق جنونية لاحقة. كان إخوتي يتسابقون صباح كل يوم, وميدان سباقهم صالة البيت التي لم تكن تتسع لهرجهم وركضهم، وحين تحتج أمي صائحة بصوت قوي يرد عليها أكبرالأولاد سنا: إنها رياضة الصباح.

كنت أجد فرصتي في دخول الحمام قبلهم بعد أن يصل السباق إلى حد العراك المعتاد. ولكن الذي حدث في صباح أحد الأيام قلب هذه المعادلة، فقد وجدت نفسي في خضم معركة قاسية معهم أناضل من أجل أن أحتفظ بحقي في الدخول إلى الحمام قبلهم كعادتي دائما، وفجأة انقشع غبار المعركة عن قامة أبي الذي اتجه إلي مباشرة ومسك يدي وخضني بقوة كما يخض الفلاح عذق النخلة.

سمعته يقول بوحشية: أما آن لك أن تتخلص من هذه العادة؟

لم أدرك في حينها ماذا كان يعني بذلك. مرت سنوات طويلة تزوجت فيها ورزقت بولد سمعته يصرخ في وجه أمه ذات يوم: لماذا تركت أبي يدخل الحمام قبلي؟ إنه يعرف أني معتاد على الدخول في مثل هذه الساعة.

فجأة شعرت أن الدم الذي تجمع في شرايين قحف الرأس قد اندلق على وجهي وغطى عيني أولا رغم أني كنت أرى أبي وهو يقف أمامي بقامته المديدة وهو يضحك... يضحك حتى شعرت أنه قام من قبره الذي انفلق إلى فلقتين وهو يضحك, ومشى بين المقابر وهو يضحك. ليس هذا كل ما هنالك, بل إنه دخل الحمام ووقف أمامي وهو يضحك ورأى الدم يغطي عيني وهو يضحك.

ومنذ ذلك اليوم لم أعتد الدخول إلى الحمام في المواعيد (المحددة).

خفت حرارة الشمس ونهاية الطريق الترابي مازالت غير واضحة. شعر بالجوع يدغدغ معدته. أدار عينيه حواليه لم يجد ما يستحق الأكل، كل الذي رآه شجيرات صبار مرمية هنا وهناك. ما حاجتي إلى الأكل الآن؟ حاجتي الحقيقية هي لوجه صبوح, وجه يبتسم كله، وجه مثل الذي وجدته في ذلك اليوم, التقيته صدفة رغم أني أخاف النساء ولا أحب الاقتراب من عالمهن، إلا إذا الوجه قادني إليه، وجدت نفسي أقف أمامه:

- هل يمكن أن أقول شيئا.

- قل ولو أني لا أعرفك.

- لا يهم ولكنها أمنية غالية أن أقول لك شيئا عزيزا على نفسي.

- قل يا هذا! فأنا مصغية.

- أجمل ما في وجهك عيناك.

- شكرا.

قالت ذلك وأدارت ظهرها.

صاح: تعالي لم أكمل بعد.

- حسنا.

- من أين لك هاتين العينين؟

ضحكت ببراءة, زادت من ضحكة عينيها وقالت:

- إنهما من ربي.

- إنهما تضحكان رغما عنك.

كاد أن يقول أنهما تضحكان رغم عبوس وجهك، ولكنه تدارك في اللحظة الأخيرة. ضحكت مرة أخرى ربما لتؤكد قولي في عينيها, وأدارت ظهرها للمرة الثانية وهي تضحك. شعرا بخفة عجيبة، إنها المرة الأولى التي أحس فيها أن جوفي أصبح أجوفاً: لا معدة ولا أحشاء ولا كولون، تماما كما لو أن أحدهم مد يده إلى الداخل ورمى كل هذا الجوف بما فيه إلى خارج الجسد. لم أكن أعتقد أن هذه الأحشاء ثقيلة على جسدي إلى هذا الحد... ظللت أتابعها بنظري حتى اختفت. كنت أريدها أن تختفي إذ لو حدث غير ذلك لانكسر كل شيء.

في ذلك اليوم والأيام التي تلت ظل حمد العسكر يبحث عن عينين ضاحكتين، يبحلق في المارة حتى رأى ذات يوم امرأة على قارعة الطريق كانت تضحك, فطلب منها الزواج فظلت تضحك ولم ترد.

--------------------------------------------

ذيليات:

1 - مضت سنوات طويلة ومازال سبب رحيله غامضا, حتى أن زوجته التي عاشت معه أكثر من خمسة عشر عاما لم تعرف السبب الحقيقي وراء هذا الانقلاب. ولكن الرواة يقولون –وهو قول غير موثق- أن سبب رحيله كان خلافا بسيطا بينه وبين أحد المتنفذين في المدينة، ولكن هؤلاء الرواة لم يستطيعوا تفسير كلمة متنفذين, إذ أن معظم الأهالي كانوا يطلقون كلمة (الشيخ) على عدد محدود من الأشخاص الذين يملكون محال تجارية كبيرة اشتروها إبان الحرب بينهم وبين أهالي المدينة المجاورة والتي استمرت سنوات طويلة.

2 - بعد شهور اندلع القتال في المدينة أعلاه لسبب غير معروف, ولكن المقربين من الجهاز المشرف على اختيار الحروف الأبجدية للرؤساء أكدوا أن سبب القتال هو أن عددا من رؤساء الفصائل المتعارضة احتجوا على تأخر استلامهم للسلطة بحجة أن الأحرف الأولى من أسمائهم لا تحمل أي إشارة لوجودها في القاموس اللغوي.

ويذكر –حسب الأخبار– أن القتال مازال دائرا رغم أن القانون المدني لهذه المدينة يعطي حرية تغيير أسماء الأهالي دون الرجوع إلى كاتب العدل.

3- يقال أن كاتب العدل في المدينة هو الجد السابع لكاتب العدل الحالي الذي يشير بفخر إلى أجداده الستة, حيث يتحدث عن مآثرهم في الديوانيات ولكنه يتحاشى الحديث عن جده السابع، فقد قال الرواة مرة أخرى أن هذا الجد ليس فقط لا يعرف القراءة والكتابة, وإنما كان يستعمل قلم (القوبيا) في تلطيخ بصمته من أجل تصديق الأوراق الرسمية. ذات مرة -وهي من المرات النادرة التي يشعر فيها هذا الجد بالبهجة- طلب من زوجته أن تريه إبهامي رجليها فلبت له ما طلب رغم استغرابها الشديد, ولكن استغرابها زال حينما رأته يقعد عند رجليها ويمسك قلم (القوبيا) ويرسم دوائر صغيرة على كل إبهام, وحين انتهى من ذلك –ومازال الحديث للرواة- فرش عدة أوراق رسمية على أرض الغرفة الوحيدة في منزله وطلب منها أن تدوس على حاشية كل ورقة ولكن من الأسفل، وظل هذا الجد يستعمل هذه الأوراق في عقود الزواج والميراث والوصاية لفترة طويلة.

4- البلاهة تعني أن وجه حمد العسكر سترتسم عليه كل علامات البلاهة.

5- بعد شهور أقسم شاهد عيان أنه رأى حمد العسكر نائما في الطريق الذي يربط بين حاجزي السكة الحديدية وقد لف يديه بشجرة صبار صغيرة. وزاد بعد أن أعاد القسم بشكل غليظ هذه المرة بأن جسد حمد العسكر لم يكن يتحرك, بل أصبح امتدادا لهذه الشجرة. ولكن أهالي المدينة لم يصدقوا هذا القول لأنهم يعرفون الطريق جيدا, وبعضهم يسلكه لحاجة ما راكباً أو راجلا, ولم يحدث أن رأوا شخصا ينام هناك أو أنه يحتضن شجرة صبار.

ولكن رواة آخرين أكدوا أن حمد العسكر قد تزوج من امرأة مجهولة النسب والأبوين كانت كما يقولون تمتلك وجها عبوسا بعينين ضاحكتين.




--------------------------------------------------------------------------------

الليلة الرابعة


وجد فلاح نفسه في غرفة طويلة، ولكن طولها يتناسب مع عرضها بالتساوي، وفي ركن قصي يتجه إلى أبعد نقطة من يمين الغرفة كان يجلس شخص ما، يبدو حين يدخل عليه أحد بعيدا عن مستوى النظر لا ترى ملامحه بوضوح، مجرد ظل كبير يجلس وراء طاولة مستطيلة إلى الحد الذي تثير فيه الانتباه لذلك. بينما رصت جدران الغرفة الثلاثة برفوف أنيقة حشرت بها عشرات أشرطة الفيديو. أما الجدار الرابع فقد كان مغطى بقماش أسود تقف عند وسطه مزهرية ورد عملاقة كانت خالية من الزهور.

لم يكن يعرف تماماً لماذا كل هذه الأفلام, وهل أن هذا الشخص استدعاه, أم أن هؤلاء الرجال الثلاثة الغلاظ هم الذين اقتادوه إلى هنا؟ ومع هذا فهو لا يدعي أنه لا يعرف شيئاً، إنه يتذكر الليلة قبل الماضية، تلك الليلة التي كان فيها كل شيء هادئا تماما حتى أن صديقه عمر همس في أذنه:

- أتسمع صوت الصمت يا فلاح؟

- نعم إني أسمعه بوضوح يرن في أذني.

ضحك عمر بصوت قوي وصاح:

- لو كانت هنا جدتي لقالت استر يا رب فالهدوء لا يسبب إلا المصائب.

لم يكمل عمر جملته حتى خرج من بين الأحراش رجلان لم يستطع فلاح أن يتبين ملامحهما, ولكنه سمع صوت عمر وهو يصرخ:

- اهرب يا فلاح! إنهما...

ضاعت الكلمات الأخرى في الهواء, إذ سرعان ما انقض عليه الرجلان بينما انشقت الأرض عن رجال آخرين مسكوه من يديه ودفعوه إلى الأرض ليتأكدوا من وثاقه جيدا, ثم كمموا فمه بطريقة تنم عن تدريب خاص وقادوه إلى مكان ما. أمره صوت ما بالاقتراب.

كانت حزمات الضوء المتساقطة على وجه الرجل الأمرد تؤكد مدى عنايته بصحته وأناقته, ولكن من المؤكد أن هذه الكلمات لا تعبر بوجه دقيق عن إدمان هذا الرجل -على ما يبدو- الوقوف ساعات متواصلة أمام المرآة ليس فقط ليتأكد من ربطة عنقه المشدودة بعناية إلى ياقة قميصه, ولكن أيضا ليتأكد من عدم زوال احمرار وجنتيه الحليقتين بعناية مبالغ بها, والتي استغرقت منه وقتا إضافيا هي الأخرى.

ولعله لم يدرك أو أنه تناسى أن عينيه تبان للناظر إليهما أنهما قد لصقتا في وجهه كيفما اتفق فقد كانتا صغيرتان يدور البؤبؤان فيهما يمينا وشمالا بسرعة غير طبيعية.

سمع الرجل يقول له:

- أنا اليوم في مزاج رائع ويمكنني أن أستمع إليك باهتمام رغم أن ذلك ليس من طباعي, ولكن قبل ذلك أود أن أقول لك أنك لست موقوفا بالمعنى الحرفي للقانون, فأنت هنا لتتعلم ما لم تتعلمه في حياتك الماضية كلها.

سكت الرجل قليلا وأخرج من درج مكتبه منديلا ناصع الزرقة مسح به جبينه وبعض أجزاء من رقبته ثم تابع باهتمام قليل:

- أنا أدعي أني صاحب منطق في العمل، جديد تماما, بل وحتى أنه غير معروف من قبل.

تابع: البداية تقليدية جدا فقد كنا نراقبك منذ فترة وحانت لرجالنا فرصة قبل يومين للقبض عليك واقتيادك إلى هنا.

ويستدرك بسرعة دون أن تتوقف عيناه عن الدوران:

- كانت تعليماتي للرجال واضحة: الضرب ممنوع في كل الأحوال، ليس خوفا من أحد, ولكن أساليبنا تطورت. في الواقع أنا صاحب هذا التطوير, بل قل الثورة في عالم الأمن والمخابرات. نحن لا نؤمن بالاغتيال السياسي لأننا ببساطة نريد الجميع أصحاء وفاعلين, يعملون تحت خيمتنا بقناعة تامة. لأننا ببساطة أيضا إذا فعلنا عكس ذلك نكون قد خسرنا آلاف الأشخاص وكسبنا عداوة أهلهم وأقاربهم وأصدقائهم. أنت مثلا لابد لك إخوة وأهل وأقارب, لا بل لديك أصدقاء كثيرون بحكم كونك من الشباب الواعين المثقفين, تخيل لو أنك مت تحت قسوة التعذيب فسنكون أمام موقف حرج, فالناس لا يصدقون أنك مت ميتة طبيعية لأنهم لا يصدقون أن مثلك شابا قويا يتمتع بصحة وعافية يموت مثلا بالسكتة القلبية أو النزلة الصدرية أو أي مرض عارض آخر. لنقرب الصورة أكثر، ماذا سنجني إذا مت أنت تحت التعذيب؟ قد تجيب على أسئلتنا قبل موتك وتساعدنا كثيرا في القبض على الآخرين المشتبه بهم، ولكن ألا تعتقد أنهم أيضا سيموتون بدورهم بعد أن يساعدونا أيضا؟ ولكن ماذا ستكون المحصلة؟ المحصلة هي أننا خسرنا رجالا نحن في أمسّ الحاجة إليهم وربحنا عداوتهم وعداوة أطفالهم.

حرك أصابع يده اليمنى كطفل حديث العهد بالكتابة وعاود الحديث بعد أن عدل ربطة عنقه, بينما سرح فلاح بكلمات هذا الرجل الأنيق التي حاول أن يحل رموزها ولكنه عجز حين أحس بأنه لم يفهم منها ولا كلمة واحدة. قال الرجل الأنيق:

"إن هذه الغرفة التي تراها الآن ستكون نواة لتجربة جديدة يمكننا أن نسميها تجربة ديمقراطية القوة. إنها تجربة كما ترى جديدة جدا حتى أنك من الناس القلائل الذين يسمعون بها, بل وتعيشها بشكل مطلق. أكرر لك أنها تجربة جديدة ولكننا نريد تطبيقها بالقوة, أقصد ديمقراطية القوة".

لم يتأكد فلاح من جنون هذا الرجل بعد, ولكن هذا الخاطر مر على باله سريعا رغم أنه آثر أن يلتحف بالصمت ويصغي إلى آخر الحديث. عاد الرجل إلى الحديث مرة اخرى وكأنه لايجد بديلا غيره في هذه اللحظة:

"سنبدأ الآن تطبيق أول بنود التجربة, وعليك أن تختار أحد أمرين وهذا الاختيار مهم لأنه أول أساسات الديمقراطية التي ننادي بها. الاختيار الأول يتعلق بأحد الأفلام، تختار أحدها ليعرض عليك ويجب في هذه الحالة أن تراه كاملا أو تختار الحجة والمنطق, فماذا تقول"؟

تنبه فلاح إلى أن الرجل يسأله وهو بذلك يريد جوابا. نظر إلى عيني الرجل الأنيق ببلاهة لم تكن مقصودة.

أعاد الرجل الأنيق سؤاله:

"إنها تجربة رائعة, هل تريد أن تجربها؟ ما عليك سوى أن تختار الفيلم الذي تريد مشاهدته, وإذا لم يعجبك يمكننا أن نختار غيره, أو تختار البند الثاني من التجربة, وهو أن تفتح قلبك للمناقشة ضمن الحجة والمنطق".

ماذا يريد منه هذا الرجل؟ إنه إما أن يكون مجنونا وضعوه هنا بالصدفة, أو أنه يملك عقل طفل ذي مزاجات متقلبة.

لم يكن امامه سوى مسايرته فقد في صوته خيط من العناد الذي لا تجده إلا في عقول الأطفال. تجولت عيناه بين عشرات الأفلام المرصوفة أمامه وكانت كلها تقريبا تحمل أرقاما متسلسلة بارزة. نظر إليها مرة أخرى ثم عاد إلى الرجل الأنيق الذي يبدو مرتبكا من هذه النظرات التي تسمرت على وجهه أو هكذا خيل لفلاح.

بصعوبة أخرج صوته:

- ليكن الفيلم رقم 11.

- عظيم.

صرخ الرجل الأنيق بمرح ثم نهض بنشاط وحيوية إلى حيث مكان الفيلم المقصود, فيما حمل إليه الهواء الذي حركه الرجل الأنيق وهو ينطلق نحو الرف عبير عطر رائع لم يشمه من قبل.

لم تمضِ إلا بضع ثوانٍ حتى دوت موسيقى خافتة, يبدو أنها منبعثة من الفيلم رقم 11. في هذا الفيلم شاهد امرأة تتحرك بغنج ودلال غير مفتعل فقد كانت في غاية الجمال. إنه نوع من ذاك الجمال الذي لا يأسرك فقط, وإنما يقودك إلى متاهات تعرق وتلهث في الوصول إلى بدايتها.

كان أمام المرأة جبل عالٍ مغطى بلون بني, لون بني يميل إلى السواد القاتم. كان جبلا موحشا يوحي للناظر إليه أنه مغرور أخرس, ويبدو أنه يمنح شعورا بالضعة للآخرين تميزا لهالته المدببة في قاع هذه العالة المدببة فتحة ليست كبيرة ولكنها تتسع لدخول جسم بشري إذا ما حشر نفسه بعناية.

انحنت الفاتنة نحو الفتحة وقد بانت عجيزتها أكبر مما هي خصوصا وإنها كانت تحاول أن تحشر مقدمة جسمها في الفتحة التي بدت أضيق الآن. استطاعت بعد محاولات مفتعلة أن تدخل من فتحة الجبل إلى الداخل. كان الظلام موحشا هناك ولكنها حين استقامت تحرك بصيص نور ليس بعيدا جدا. تقدم البصيص نحو الفتاة، انقلب البصيص إلى نور ساطع أشاع شيئا من الدفء داخل هذا الجيب فيما حاولت هي أن تنزع قميصها البني الذي بدا ملتصقا بجسمها. كانت حركاتها وهي تنزع القميص ثم البنطال أشبه بحركات راقصات الليل رغم أنها لم تكن تتقن تلك الحركات التي توقفت فجأة لتتناول من الأرض مفتاحا حملته إلى حيث الصندوق الأسود.

كان هذا الصندوق مربع الشكل صغير الحجم يلفه اللون الأسود الداكن. حملت الصندوق برفق وقربته من صدرها. ظل الصندوق هناك ثوان معدودات. بعد خطوات معدودة إلى الأمام توقفت أمام ظل رجل لم يكن طويلا, ولكنه بدا ثابتا, ووضعت الصندوق على الأرض بعد أن فتحت بابه برفق يشوبه شيء من الخوف. تراجعت إلى الخلف بسرعة حين أصبح الباب مفتوحا بالكامل.

كان الصمت مريعا في ذلك الوقت وظل الرجل داخل الجبل والقريب من الصندوق الأسود بدأ يتحرك يمينا وشمالا فيما تدلى من فتحة الصندوق رأس مكور يشبه رأس حية ضخمة، لا لم يكن يشبه رأس حية، إنه رأس الحية بالفعل.







--------------------------------------------------------------------------------

الليلة الخامسة


خرجت الفاتنة من فتحة الجبل فيما كان صراخ رجل الظل يعلو شيئا فشيئا. حانت لفلاح التفاتة للرجل الأنيق الذي بدا مسحورا بالمشهد وقد علت وجهه ابتسامة طفل حاز على لعبته أخيرا.

قال الرجل الأنيق: والآن كيف ترى المشهد؟

أي مشهد هذا الذي يتحدث عنه هذا الرجل المعتوه؟ هل ينوي إخافته بهذه المشاهد المضحكة أم أنه يرغب بالتسلية فقط؟

بالحقيقة إنها ليست مشاهد مضحكة، إنه يقول ذلك من باب المكابرة أو تهميش الأشياء كعادته... هل يعرف هذا الرجل الأنيق حقا أنه يخاف من الأفاعي؟ هل يعرف أنه ما من ليلة ينام فيها إلا ويرى الحية وهي تزحف من مكان قدميه، تقف ثوان عندهما، ثم تبدأ الزحف بين ساقيه إلى الأعلى حتى إذا وصلت إلى بطنه استقرت هناك فيما يكون بطنها المنفوخ قد غطى كل وجهه, بعدها يبدأ رأسها المدبب في التمايل يمنة ويسرة, ثم سرعان ما يبدأ يلطم وجهه بضربات تبدو رتيبة بادئ الأمر, ثم تتوالى سريعة فيما لعابها يغطي كل وجهه. لهاثها هذه المرة يهدأ قليلا, فيما لهاثه هو يزداد سرعة ونبضات قلبه تكاد تطفر إلى خارج جلده.

تطوي الأفعى نفسها لتجعل من جسمها حلقات تستقر على صدره بعد ذلك فيما يرتفع وجهها المثلثي نحو وجهه. يقولون أن الأفعى لا ترى وأنها تملك حواس أخرى تعوضها عن ذلك, ولكن من يصدق أن هذه الأفعى التي أراها كل يوم منذ ثلاثين عاما أو أكثر تراني بوضوح, حتى أن عينيها تبدوان صغيرتين غير مكترثتين بأي شيء عدا النظر إلي.

مرة رأى أفعى في الحمام، كانت طويلة جدا، توقف عن غسل وجهه –كان عمره آنذاك سبعة أعوام- وبالكاد استطاع أن يصرخ. جاءت أمه مهرولة –وكانت حاملا آنذاك- وقفت أمامه غير مبالية بعد أن عرفت السبب.

قالت له وهي تبتسم: إن الأفعى لا تؤذي مادامت بجانبها امرأة حامل.

لم يعرف لحد الآن مدى صحة هذه المعلومة، ولا يدري لماذا لم يكترث في البحث عنها بعد ذلك، ربما لم يكن الأمر على هذه الصورة, لأن الأساس في ذلك هو أنها ترعبه إن وقفت بجانبه امرأة حامل أم لا... لا يدري لماذا، ولكن هذا هو الواقع.

سمع الرجل الأنيق يقول له بصوت ساخر: من حسن الحظ أنك لم ترَ المشهد كاملا, لقد كنت متسامحا معك إلى حد كبير، هناك الكثير الذي يجب رؤيته.

لقد اقتنع أخيرا –أو هكذا خيل إليه– أن هذا الرجل معتوه بما لا يدع مجالا للشك, أو ربما يكون من هؤلاء الذين غسلت أدمغتهم السلطة وباتوا يتصرفون مثل الرجل الآلي.

قال الرجل الأنيق: لا تعتقد أن سكوتك سيفيد بشيء، إن الأمر لا يستاهل منك كل هذه المكابرة. ألا ترى معي أن الأمر لا يحتاج كل هذه المكابرة؟

أي مكابرة وأية قوة؟ إني مازلت أرتجف من هذه الأفعى التي تلتف حول ذلك الرجل البائس في الكهف. لم تعد عندي مكابرة. لقد امتصت هذه الأفعى كل طاقتي، لم أعد أرغب في شيء سوى باحتضان ذلك الوجه الجميل الذي أحلم به منذ عشرات السنين.

أي وجه...؟ ما هذا الذي تقوله، إن الرعب كلمة مغرية إزاء ذاك الذي تحلم به، أي وجه؟ عشرات الوجوه مرت عليك وأنت كما أنت لم تتغير.

مرة قال لك الوجه: ماذا تريد؟ كن معي فقط وأنا ألبّي كل رغباتك، نعم أنا أعرف أنك مجنون، مجنون بحب وكره الحياة. هذا أنت، لا تعرف حتى نفسك، إذن دعني أقودك إلى نفسي لعلك تجد ملاذا.

وفي ذلك اليوم ضحكت كما لم تضحك من قبل، وقفت أمام المرآة صفعت وجهك أكثر من عشرين مرة, وكنت تعلم أن هذا العدد هو مناصفة بين وجهك وذلك الوجه.

وجه آخر أتاك في يوم آخر وقال لك: هل تحب أن تنام معي وتكسر كل قوانين الدنيا؟ إذن هيا، تعال!

وجئت ويا ليتك لم تأتِ فقد اكتشفت أنك عديم الفائدة، عديم الأهمية، إنك لا تصلح لشيء. المغامرة عندك لا تتعدى ذهنك فقط, تمارسها بالضبط كما يمارس المراهقون عادتهم السرية. وتسقط، وتسقط يا صديقي في غياهب الحب, لا أحد يعرف عنك شيئا. وتعزي نفسك بالقول أن الحلم وحده هو الذي يخلق لك بعض الوجود.

أنا أعرف تماما أنك جثة متعفنة تمشي بدون حياة. أنا أعرف –وعذرا لهذا الاسترسال- أنك ضعيف إلى أنك لن تقاوم رؤية الأفعى وستجيب عن كل شيء يطلبونه منك.

قال الرجل الأنيق: والآن ماذا تريد أن تقول؟

- ماذا تريدني أن أقول؟ بالكاد استطعت أن أقول له ذلك.

- قل كل عندك، هناك الكثير يجب عليك قوله.

لم أفهم بالضبط ماذا كان يعني، ولكني كنت مستعدا للإجابة على كل سؤال، هذا ما توصلت إليه بعد أن كانت الأفعى في هذه اللحظة تتلمس رقبتي وأنا أرى الرجل الأنيق يتكلم.

سمعت صوته مرة أخرى: بإيجاز لا سياسة ولا دين.

مرت ثوان ثقيلة كان صوت الصمت فيها يطن بأذني.

أخيرا سمعت صوتي يقول له: لم أنخرط في السياسة أيها الرجل الأنيق حبا فيها، التقيت مرة فتاة في بيت أحد الأصدقاء. نظرت إلي بدلال، نظرت إليها مستفسرا لم تبال بنظراتي، ظلت تسلط علي إغراءات الدنيا كلها –أو هكذا خيل إلي– تخيلتها تنام إلى جانبي، تقبلني, كان لسانها يمتد داخل فمي يلوكه يعصره يمتص ما فيه. تأوهت، رفعتني كقشة ونامت فوقي، كان وجهها كله يغمر وحهي. لأول مرة أشعر أن الاختناق لذيذ. أي أوكسجين هذا الذي يتحدثون عنه، تعالوا انظروا، إنها الجنة التي تتحدثون عنها، لست ضعيفا كما تتصورون, أنا أقوى من معظم المتحركات حولكم ولكنها القناعات، القناعات التي تذوب الواحدة تلو الأخرى وتترك النفس سائبة.

حينما تتعود على رؤية اللون الأبيض طيلة سنوات وسنوات وتستيقظ فجأة ذات صباح لتجد الحية قد ماتت متعفنة واللون الأبيض انقلب إلى لون آخر ومعداتك تقفل باب غرفتك عليك وتنظر في المرآة وتسأل نفسك: ماذا جرى؟

وكالعادة لا تعرف الجواب، تسكت على مضض، تغمض عينيك تنكس رأسك ونذرع الغرفة جيئة وذهابا... لا تفكر، أنا أعرفك جيدا فإنك لا تجيد هذه اللعبة، كل ما هنالك أنك تبحث عن وجه، وجه يمضغ فمك جيدا، يجيد لعبة قطع الأوكسجين عنك، وتظل لعبة بيديه يديرها كما يريد.

سمعت الرجل الأنيق يقول: هل سمعت منك شيئا؟

لم أقل شيئا بعد، بل لم ولن يكون عندي شيء لأقوله فإنكم تعرفون عني كل شيء, أنا رجل مهووس بالحب، ليس الحب الذي تتصورونه، إنه ذاك الذي حين تنظر إليك المرأة يرتد إليها طرفها قرفا من ذلك الوجه العبوس وتلك التعابير.

هل سمعتني أقول شيئا أيها الرجل الأنيق؟ نعم سأقول لك، لا السياسة تغريني ولا الدين، أنا رجل مسكون بنفسي, بنفسي فقط، تلك التي تزحف من عند قدمي وتأتي إلى بطني تستقر فيها لثوان ثم تزحف إلى وجهي وتخنق كل مساماته، ثم يأتيك ذلك الصفير: اغمض عينيك لترى الوجه، الوجه الذي ينادي لتمارس معه لعبة الجنس.

حين كنت أسأل أمي وأنا ابن الخامسة: كيف أتيت إلى الدنيا يا أمي؟

تضحك أمي وهي حينما تضحك تبرز وجنتاها السمراواتان: من صرتي طبعا.

ولسنين طويلة ظللت أعتقد أن الصرة حين تنتفخ فهي علامة الولادة, ولكن لماذا صرة المرأة وليس صرة الرجل؟ لم أعرف الجواب حتى جاء اليوم الذي بكيت فيه طويلا، فقد رأيت كيف يخرج الطفل من رحم أمه مبللا، مغمض العينين يصرخ ضانا كلتا يديه بيديه.

لم يكن ذلك اليوم هو اليوم المشهود الوحيد في حياتي, بل كان هناك يوم آخر:

كنا نقتعد جلستنا المألوفة عند قدمي السياب حينما دندن محمود كعادته، جرع كأسه الأول بسرعة تلاه بالثاني. كنا ننظر إليه باستغراب وعند الكأس الرابعة قال: أي بشر نحن؟ ليس هناك أي تعريف لنا في القواميس الوضعية. نحن أيها السادة لا نفقه شيئا. قرأنا عدة كتب وكتبنا عدة خواطر وتقمصنا ما قرأناه وأصبحنا كتابا بين ليلة وضحاها.

خمط محمود الحشيش بين يديه واستطرد: هل يعرف أحدكم كيف يضاجع امرأة؟ هل رفستكم امرأة من قبل كما رفستني الليلة قبل الماضية وكنت حينها نائما فوقها. صاحت بي: قم يا هذا أما زلت لا تعرف أين تضع عضوك. زررت لباسي ونهضت من فوقها وأنا أتصبب عرقا ليس خجلا منها ولكن...

أكمل لاح في سره: من أمي التي كانت تقول أن الطفل يأتي من الصرة. لقد كذبوا علينا، ليست الصرة هي الكذبة الوحيدة, بل هناك عشرات الأكاذيب, بل هناك المئات من قصص العشق الخالدة, ولأكن دقيقا قصص الحب العذري، هذه القصص التي كتبها وقرأها أناس مازالوا يظنون أن الطفل جاء من الصرة.

سمع الرجل الأنيق: هل تريد أن تقول شيئا.

صرخ فلاح: نعم أريد أن أقول كل شيء، كل شيء عن خيباتي. أنا رجل جئت من الصرة، لا أحد يجرؤ على القول عكس ذلك. لا أحد دلني أو دلكم من اين يأتي البشر. عورة تلك التي أتيت منها ونحن عوران أيها السادة.

من خلال دموعي رأيت الرجل الأنيق يضحك ثم يومئ لاحدهم وغبت عن الوعي.

اذهب إلى أعلى


--------------------------------------------------------------------------------


ملحق الليلة الخامسة


أشبه بالحلم, أشبه باليقظة لا يدري، ولكنه سمع صوتا يبدو أنه سجل على آلة تسجيل. كان الصوت خشنا يحاول جهد الإمكان أن يضغط الحروف لكي ينطق بها بشكل صحيح.

قال الصوت وهو على وشك أن يضحك:

بعد أن جربت جزءاً من الخيار الأول دعنا نرى الخيار الثاني, ماذا تريد بالضبط؟ هل أنت قوي بما فيه الكفاية لكي تؤثر على الآخرين؟ أقرأت التاريخ؟ اقرأه إذن بعناية، بكل عناية! لا تقرأ ذلك المكتوب تحت إملاء السلطة, ولا تلك الكتب الصفراء, بل اقرأ تاريخ أولئك الذين عذبوا وذلوا على مدى الألف سنة الماضية, والذين سيذبحون في الألف سنة المقبلة دون أن يجدوا ملاذا. ملايين الحمقى راحوا ضحية حمقهم. إنهم حمقى بالفعل لا بل مغفلون لم يدركوا حقيقة بسيطة وهي أنك تستطيع أن تثلم صخرة في جبل أو صخرتين أو ثلاثة أو حتى مئة, ولكنك لا تستطيع أن تهد الجبل كله, وإن حدث ذلك -وهذا مستحيل- فإن مئات الجبال الأخرى سوف تنبت مثل الفقع في الصحراء.

يسكت الصوت المسجل قليلا ثم يعاود الفحيح:

لعلك تعتقد أننا متشائمون, ولكن الواقع غير ذلك, فمثل ما نضجت –كما تدعون- أفكاركم ونظرياتكم عبر السنين، كذلك أفكارنا ونظرياتنا، ولكن باتجاه مختلف. لقد عرفنا الطريق الصائبة، عرفنا ذلك لأننا توقفنا عن التنظير وجابهنا الحقائق كما هي، ولأننا الأقوى بحثنا عن الحقيقة في داخلنا وسألنا أنفسنا أسئلة مرعبة وأجبنا عليها قدر استطاعتنا, بينما بحثتم عنها في خارجكم، خارج نفوسكم، اشتريتم أفكارا كثيرة، قلدتم أساطير عديدة، سرقتم معظم حكايات الشعوب ولم تفلحوا حتى في الجواب على مبتغاكم. هناك خطأ مدمن، خطأ معتق، ربما في تاريخكم أو قيمكم أو حتى في أخلاقكم.

هل تعتقدون أن هناك حقائق ثابتة على الأرض؟ إذا كان كذلك فهذه هي إحدى خطاياكم الكبيرة. لم تتعلموا بعد كيف تصغوا. تمارسون لعبة الكلام وتجبرون الآخرين على الإصغاء، تعتقدون أنكم الوحيدون الأنقى والأعفف في هذا العالم.

أحس بلهاث قريب منه ربما كان كلبا، نعم إنه كلب، ها هو يشعر به وهو يلحس أصابع قدميه. كان الظلام ثقيلا جدا, وكان من المستحيل أيضا أن يرى ما هو هذا الذي كان يبخس أصابعه.

استلقى على الإسمنت الرطب. دخلت برودة لزجة إلى جسمه, تسربت من رجليه إلى الأعلى تماما كما تفعل الحية الرقطاء. انخفض قليلا. احتضن صدره بيديه. ظل يرتجف زمنا لا يعرف مداه.

وعاد الصوت يفح مرة أخرى:

كما تعرف أن العالم أصبح صغيرا جدا بفعل القوة, ولكنها ليست القوة التي كان يتغنى بها بروسبير أو فرانكو أو هتلر أو غيرهم. إنها قوة جديدة ليس لها شعار محدد, بل إنها تنطلق من مبدأ التعامل بالمنطق ونشر الحقيقة مستعينة بالتاريخ. والمنطق عندنا هو الإصغاء لما يقوله العقل المجرد غير المنحاز إلى أحد. نحن يا صديقي نؤمن بديمقراطية القوة، والقوة لا تعني إجبار الآخرين على الانحياز لنا، لا، بل حثهم على اتباع المنطق والصورة, أيهما يكون فعالا أكثر. لقد رأيت نتفا مما نريد قوله أو عرضه لك، وكنا نريدك أن تعرف أن زمن التعذيب الجسدي والاعتراف على الآخرين بما يصحبه من كذب سافر أو بطولة زائفة قد ولى، أصبح أسلوبا محنطا لا فائدة من. إننا الآن في عصر جديد، عصر يعتمد على مخاطبة العقل وتهديم كل الأخطاء المعشعشة فيه. إننا نريد تحريره من كل الشعارات المعلبة والجاهزة, وإقناعه بتركها وراءه, والبحث معنا على ثوابت المنطق الجديد الذي نسعى لترسيخه.

لم يستطع فلاح أن يغمض عينيه رغم الظلام الدامس حوله. إنه لا يرى شيئا, ولكنه يحس بجسمه يرتعش, هل من الخوف ـو الغضب؟ الخوف من تلك الحية الرقطاء أم الغضب من هذا الصوت المسجل؟

ماذا يريدون هؤلاء؟ هل هي نظرية جديدة في التعذيب أو هذيان من رجل لا يعرف ماذا يريد سوى المحافظة على سلطته؟ أي منطق وأي حقيقة يتحدث عنها ولسان هذا الكلب يلحس أصابعه. إنه يسمع نباحه الخافت ولا بد أن لعابه سال حين لحس يده. لقد بدأ يزمجر وهو يعرف أن هذه الزمجرة لا تصدر إلا من كلب ضخم أزبد البوز, ذي لسان أحمر قان يمتد خارج الفم وعينين بؤبؤهما ثابتين على مكان ما.

لا يدري كم من الوقت مضى عليه وهو منبطح على الأسفلت البارد, ولكن هذا الشخير المنتظم لم ينقطع, بل هناك شخير آخر. نعم هناك شخير منتظم آخر. إنه بالتأكيد لكلب أكثر ضخامة من الكلب الأول. أصبح هناك كلبان وربما سيرمون إليه الحية الرقطاء من مكان ما . كل هذا والصوت المسجل يتحدث عن نظرية تضم منطقا وتاريخا جديدين. يبدو أن أحدا مازال يعيش في زمن مختلف.

انبثقت الجدران الملساء عن موسيقا ناعمة دخلت جسده الرطب، أحالته إلى كتلة واهنة... آه من تلك الموسيقا, إنها نفسها التي كان يسمعها منذ سنوات طويلة, نفسها التي كان يهيم ويسبح فيها بالفضاء، يذهب بعيدا نحو تلك النجمات اللواتي كن يشكلن حزاما فضيا مع بعضهن وهو يتوسطهم قاعدا القرفصاء.

تحدثه النجمة الأولى:

وجهك ينبئ عن حزن عميق هذه المرة.

تقول النجمة الثانية:

يبدو كأنك ولدت مع الحزن.

يسمع صوت النجمة السادسة وهي أصغرهن تقول:

تحتاج إلى حضن دافئ.

يقول:

لا أدري ما هو الحزن أيتها النجمات. يقولون لي إن وجهك يقطر حزنا زايى ولا أدري لماذا، فأنا لا أعرف الحزن ولا الأسى. كنت طفلا طبيعيا ثم شابا أحب الحياة بكل قوة. في كل صباح أنظر إلى وجهي بالمرآة لا أرى علامة حزن, إنه وجه حنطي اللون كما مدون في جواز السفر، لا علامات فارقة، العينان بنيتان، الخدان مترفان في الصباح فقط والحاجبان سوداوان وشعرهما مبعثر بين الأعلى والأسفل. لا أدري ما هو سبب الحزن, ربما لأني ضعيف إلى الحد الذي لا أستطيع فيه تغيير ما أريد تغييره. كلا لا تفهموني بشكل معكوس, فأنا لا أريد تغيير العالم ولا قيادة الانقلابات الثورية. إني فقط أريد أن أقود حياتي، أن أقول ما بداخلي عن الأشياء التي تدور حولي.

الحزن أيتها النمات هو أني مثالي، هذا على الأقل ما قالوه بعض الأصدقاء . أنتظر من العالم أن يتغير من حولي دون أن أفعل ما يجب فعله. لم أهضم أية تجربة مهما كانت بسيطة في حياتي، جعلتها تمر كأنها لغيري. لهذا مازلت طفلا في داخلي... طفلا ساذجا لا يعرف ما يجب فعله في هذا العالم، هل ربما أنا ملعون من السماء والأرض، لا أدري، لماذا أنا بالذات، هل أحاول أن أبالغ في تصوير الأشياء من حولي، هل لذلك علاقة بالضحك. منذ أن فتحت سمعي على هذا العالم والكل يقول أن الضحك يجلب المصائب. أسمع أبي إذا ارتفعت ضحكاته مع أصدقائه يقول: اللهم اجعله خيرا، وإذا صفر أحدنا خصوصا في المساء فإن الطامة الكبرى ستنزل عليه لأن الصفير يوقظ الملائمة –كما تقول جدتي– ويجعلها تنزل إلى الأرض.

أسمع أمي تقول لأبي:

افرد وجهك يا رجل أمام الأولاد.

يصرخ في وجهها:

وهل تريدين مني أن أعلمهم الميوعة؟ أريدهم عبوسين دائما حتى يخافهم الجميع.

سمع صرير المفتاح يدور في باب الغرفة وصوتا بدا طبيعيا أو حاول أن يكون كذلك:

استعد.

فتح عينيه، نظر إلى الجدران الملساء، بحث عن أثر الكلاب، لم يجد سوى الجدران الملساء ومكبرات الصوت في أعلى السقف وبطانية شديدة السواد رميت في إحدى زوايا الغرفة التي تشبه إلى حد بعيد غرفة رجل لا يهمه سوى الاستلقاء على أرضها والبحلقة في السقف طول اليوم.

أدخلوه إلى غرفة الرجل الأنيق الذي استقبله بضحكة مجلجلة.

جاءه صوت الرجل الأنيق:

هل أنت مستعد للحديث؟

- ماذا تريدني أن أقول.

سمع ضحكات عديدة انطلقت في حزمات متفرقة, ولكنها انشدت كلها في حزمة واحدة بعد ذلك لتدخل أذنيه وتعصر مخه لتحيله إلى كتلة هلامية ملساء تماما مثل جدران الغرفة التي كان فيها قبل قليل.

نعم، ليضحك ويترك العبوس ولكن أية ضحكة ستكون



#محمد_الرديني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حبل الغسيل
- سؤال صعب
- كنائسهم ومساجدنا
- عن مدينة الصدر
- انا وباسم وصائغ الذهب
- ميوشة والعنكبوت
- اربع حكايات اسيوية
- ميوشة تقص شعرها وتنثره بين النسوان
- اروع مخابرات في العالم
- خطبة ابوبريص
- الحجاب الحاجز
- شبعاد
- بمناسبة مرور 5 سنوات على انشاء الحوار المتمدن
- بغداد ... في عيون مي
- يوميات صحافي ... سائق تاكسي/ الحلقة الرابعة
- يوميات صحافي .. سائق تاكسي / الحلقة الثالثة
- يوميات صحفي ... سائق تاكسي- الحلقة الثانية
- يوميات صحفي ... سائق تاكسي
- اتمنى ان اصير امرأة
- حتى الكلاب


المزيد.....




- التضييق على الفنانين والمثقفين الفلسطينيين.. تفاصيل زيادة قم ...
- تردد قناة mbc 4 نايل سات 2024 وتابع مسلسل فريد طائر الرفراف ...
- بثمن خيالي.. نجمة مصرية تبيع جلباب -حزمني يا- في مزاد علني ( ...
- مصر.. وفاة المخرج والسيناريست القدير عصام الشماع
- الإِلهُ الأخلاقيّ وقداسة الحياة.. دراسة مقارنة بين القرآن ال ...
- بنظامي 3- 5 سنوات .. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 الد ...
- مبعوث روسي: مجلس السيادة هو الممثل الشرعي للشعب السوداني
- إيران تحظر بث أشهر مسلسل رمضاني مصري
- -قناع بلون السماء-.. سؤال الهويّات والوجود في رواية الأسير ا ...
- وفاة الفنانة السورية القديرة خديجة العبد ونجلها الفنان قيس ا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد الرديني - الليالي الخمسة