أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - إسماعيل نوري الربيعي - جنة السلطة وجنة اللغة: قراءة شعرية في مفارقات كريم جخيور















المزيد.....

جنة السلطة وجنة اللغة: قراءة شعرية في مفارقات كريم جخيور


إسماعيل نوري الربيعي

الحوار المتمدن-العدد: 8571 - 2025 / 12 / 29 - 23:45
المحور: الادب والفن
    


في قصيدة "جنة ترمب" للشاعر البصراوي كريم جخيور، نواجه نصا ساخرا على قدر ما هو تأملي، نصا يشتغل على تفكيك المفاهيم الكبرى عبر مفارقة لغوية وأخلاقية حادة، مستثمرا الحس الشعري في مساءلة السلطة والثراء والمعنى. القصيدة، في ظاهرها، خطاب موجه إلى شخصية سياسية عالمية، لكنها في عمقها خطاب ميتاشعري عن الجنة بوصفها مفهوما رمزيا، وعن الفقر والإيمان والشعر بوصفها قيما منفية من عالم القوة. ومن خلال تطبيق فرضيات ومصطلحات تزفيتان تودوروف في نظرية الشعرية، يمكن قراءة النص لا بوصفه موقفا أيديولوجيا مباشرا، بل بنية شعرية تنتج دلالتها من خلال العلاقات الداخلية بين الخطاب والمرجع، وبين السرد والإنشاء، وبين المفارقة والتناص. ينطلق تودوروف في نظريته الشعرية من أن الأدب ليس مرآة للواقع، بل نظام لغوي مستقل، وأن تحليل النص ينبغي أن يركز على كيفية تشكل المعنى لا على نوايا المؤلف أو صدقية المرجع. من هذا المنظور، فإن شخصية "ترمب" في القصيدة لا تُقرأ كشخص تاريخي فحسب، بل كوظيفة دلالية داخل البنية النصية، أي بوصفها علامة تحيل إلى نمط وجودي معين، هو نمط الامتلاء المادي والسلطة القصوى. هنا يشتغل الشاعر على ما يسميه تودوروف "التحويل الدلالي"، حيث يتم نقل مفهوم الجنة من حقلها الميتافيزيقي إلى حقل دنيوي سياسي، فتصبح "أمريكا" هي الجنة الواقعية، بينما تتحول الجنة الأخروية إلى فضاء فائض عن الحاجة بالنسبة إلى من يملك كل شيء.
البنية الخطابية للنص تقوم على ما يمكن تسميته، وفق مصطلحات تودوروف، بالتوتر بين السرد والقول. فالنص لا يحكي قصة مكتملة، بل يقدم سردا احتماليا، يبدأ بصيغة "يقال"، وهي صيغة تعليقية تضع الخطاب في منطقة الشك والتداول، لا في منطقة اليقين. هذه البداية ليست بريئة، بل تؤسس لما يسميه تودوروف "تعليق المرجع"، أي فصل الخطاب عن ادعاء الحقيقة، وتركه يعمل كاحتمال شعري. "والعهدة على القائل" جملة تزيد من هذا التعليق، وتمنح النص مسافة تهكمية بين المتكلم والموضوع، بحيث لا يعود الشاعر مسؤولا عن صدقية القول، بل عن فاعليته الشعرية. في هذا السياق، تبرز المفارقة بوصفها الآلية المركزية في إنتاج المعنى. فالشاعر يقول "ان السيد ترمب عليه السلام"، مستعيرا صيغة دينية مخصصة للأنبياء، ليضعها على اسم سياسي معاصر. هذه الاستعارة لا تهدف إلى التقديس، بل إلى قلب الدلالة، أي إلى خلق صدمة شعرية ناتجة عن التناقض بين الحقلين الدلاليين. ووفق تصور تودوروف، فإن هذه الصدمة ليست زينة بلاغية، بل عنصر بنيوي يكشف عن طبيعة الخطاب الشعري بوصفه خطابا قائما على الانزياح.
القصيدة تبني جنتين متقابلتين: جنة الأغنياء وجنة الفقراء. الجنة الأولى حاضرة، ملموسة، دنيوية، مكتفية بذاتها. الجنة الثانية مؤجلة، أخلاقية، خالية من الإغراءات الجسدية. هذا التقابل يندرج ضمن ما يسميه تودوروف "البنية الثنائية"، حيث يتأسس المعنى من خلال التضاد لا من خلال الوصف المباشر. فالقيم لا تُقال صراحة، بل تُستنتج من المقارنة. جنة ترمب لا تحتاج إلى عنب ولا خمر ولا حرير، لأنها تمتلك ما يعادلها وأكثر في الواقع. في المقابل، جنة الفقراء هي جنة بلا سكر وبلا غناء وبلا تعر، أي جنة نقية، لكنها في الوقت نفسه فقيرة جماليا، كأنها تعويض أخلاقي عن الحرمان الدنيوي. من منظور الشعرية، لا يمكن قراءة هذا التقابل قراءة أخلاقية سطحية. فالشاعر لا يمجد جنة الفقراء ولا يسخر منها صراحة، بل يضعها في موقع إشكالي. فغياب الغناء والرقص والتعرّي لا يُقدَّم بوصفه فضيلة مطلقة، بل بوصفه علامة على اختلاف النظام القيمي. هنا يشتغل النص على ما يسميه تودوروف "تعدد الدلالات"، حيث لا يُفرض تأويل واحد، بل تُترك العلامات مفتوحة على احتمالات متعارضة.
النداء المتكرر "فيا سيد ترمب" يشكل بنية خطابية إنشائية، تقطع السرد وتحوّله إلى خطاب مباشر. ووفق تصنيف تودوروف للخطابات، فإن هذا الانتقال من الإخبار إلى النداء يعكس تحولا من مستوى الحكاية إلى مستوى الخطاب، أي من ما يُقال إلى كيفية قوله. هذا التحول يمنح القصيدة طابعها الجدلي، فهي ليست تأملا داخليا فحسب، بل محاورة رمزية مع الآخر القوي. غير أن هذا الآخر لا يجيب، ما يجعل الخطاب أحاديا، ويعيد السلطة النهائية إلى الشاعر. في المقطع الأخير، حين يقول الشاعر "ما عليك سوى أن تطلب من الله أن يترك جنته للفقراء والشعراء"، يبلغ النص ذروة شعرية ودلالية. فالجنة هنا تُسند إلى الشعراء، لا بوصفهم فئة اجتماعية، بل بوصفهم وظيفة رمزية. الشعراء، في تصور القصيدة، هم أولئك الذين لا ينتمون إلى جنة القوة، ولا يملكون سوى اللغة. وبهذا المعنى، فإن القصيدة تعكس ما يسميه تودوروف "وعي الأدب بذاته"، حيث يصبح النص تعليقا على موقع الشعر في العالم، وعلى علاقته بالسلطة والثروة. من زاوية أخرى، يمكن قراءة القصيدة بوصفها اشتغالا على "انتهاك التوقع"، وهو مفهوم قريب من الانزياح عند تودوروف. فالقارئ يتوقع هجاء مباشرا لشخصية سياسية، لكنه يجد نفسه أمام تأمل في معنى الجنة ذاتها. ويتوقع سخرية لاذعة، لكنه يواجه نبرة هادئة، شبه صوفية، تستخدم النفي أكثر من الهجوم. هذا اللعب على التوقعات يعزز شعرية النص، ويمنحه عمقا يتجاوز المناسبة السياسية.
لغة القصيدة بسيطة في ظاهرها، لكنها محكومة باقتصاد دلالي دقيق. فغياب الزخرفة البلاغية الكثيفة ليس علامة فقر لغوي، بل اختيار شعري يتماشى مع ما يسميه تودوروف "الوظيفة الشعرية للبساطة"، حيث تُستخدم اللغة اليومية لإنتاج دلالات مركبة. التكرار، النفي، الجمل القصيرة، كلها عناصر تخلق إيقاعا داخليا بديلا عن الوزن التقليدي، وتؤسس لنوع من الموسيقى الدلالية. في الخلاصة، يمكن القول إن "جنة ترمب" نص شعري ينجح في تحويل حدث سياسي وشخصية إعلامية إلى مادة شعرية، لا عبر المباشرة، بل عبر بناء بنية دلالية معقدة، قائمة على المفارقة، والتقابل، وتعليق المرجع. ومن خلال تطبيق فرضيات تودوروف في نظرية الشعرية، يتبين أن قوة القصيدة لا تكمن في موقفها، بل في كيفية تشكل هذا الموقف داخل اللغة. إنها قصيدة عن الجنة، لكنها في العمق قصيدة عن الشعر نفسه، عن موقعه بين جنة القوة وجنة الفقراء، وعن قدرته على أن يكون الملاذ الأخير لمن لا يملكون سوى الكلمات.



#إسماعيل_نوري_الربيعي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حين تتحول زلة اللسان إلى محكمة: بلقيس شرارة والسياب وغضب الف ...
- جدلية التحوّل ورؤية التاريخ في قصيدة المؤرخ والشاعر خالد الس ...
- كريم شغيدل: حين يتحول السؤال إلى معرفة
- القصيدة بوصفها تميمة لغوية ضد وهم الاكتمال؛ قراءة في قصيدة ب ...
- مالك المطلبي ومحمد خضير: قراءة معرفية في سرد المدينة والحلم
- الضوء الذي يعيد كتابة القصيدة؛ قراءة في قصيدة إيمان بلبلي
- أين يقف اليسار العراقي في لحظة العراق الراهنة؟
- سردية الزمن الجميل: قراءة في مقولة نازك الأعرجي
- الهوس بالسلالة: كيف تحوّل الماضي إلى خرافة هوية معاصرة؟
- إجلال في الوجدان أكثر من المساندة في الصناديق
- الاقتصادي الدولي نوزاد الهيتي؛ قراءة في سيرة اقتصادي مؤثر
- التاريخ والتأويل
- العالم رهن النظرية
- العرب وتفاعلات السلطة والمجتمع


المزيد.....




- أحدثت بجمالها ثورة جنسية في عالم السينما.. وفاة بريجيت باردو ...
- عودة هيفاء وهبي للغناء في مصر بحكم قضائي.. والفنانة اللبناني ...
- الأمثال الشعبية بميزان العصر: لماذا تَخلُد -حكمة الأجداد- وت ...
- بريجيت باردو .. فرنسا تفقد أيقونة سينمائية متفردة رغم الجدل ...
- وفاة أيقونة السينما الفرنسية بريجيت باردو، فماذا نعرف عنها؟ ...
- الجزيرة 360 تفوز بجائزة أفضل فيلم وثائقي قصير بمهرجان في الس ...
- التعليم فوق الجميع.. خط الدفاع في مواجهة النزاعات وأزمة التم ...
- -ناشئة الشوق- للشاعر فتح الله.. كلاسيكية الإيقاع وحداثة التع ...
- وفاة أيقونة السينما الفرنسية بريجيت باردو عن 91 عاما
- وفاة أيقونة السينما الفرنسية.. بريجيت باردو


المزيد.....

- دراسة تفكيك العوالم الدرامية في ثلاثية نواف يونس / السيد حافظ
- مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - إسماعيل نوري الربيعي - جنة السلطة وجنة اللغة: قراءة شعرية في مفارقات كريم جخيور