أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - إسماعيل نوري الربيعي - حين تتحول زلة اللسان إلى محكمة: بلقيس شرارة والسياب وغضب الفضيلة الثقافية














المزيد.....

حين تتحول زلة اللسان إلى محكمة: بلقيس شرارة والسياب وغضب الفضيلة الثقافية


إسماعيل نوري الربيعي

الحوار المتمدن-العدد: 8571 - 2025 / 12 / 29 - 19:14
المحور: الادب والفن
    


في الثقافة العربية الحديثة لا تندلع العواصف دائماً بسبب الأفكار الكبيرة، بل كثيراً ما تبدأ بسبب جملة غير موفقة، أو كلمة خرجت من فم قائلها بغير ما أراد. هكذا وجدنا أنفسنا أمام ما يمكن تسميته بورطة بلقيس شرارة، حين قالت في حديث إعلامي إن بدر شاكر السياب كان "ضعيف الشخصية". جملة قصيرة، لكنها أشعلت سجالاً طويلاً، وسحبت النقاش من الشعر إلى الأخلاق، ومن النص إلى النيات، ومن النقد إلى محاكم التفتيش الافتراضية. الواقع، لمن يريد أن يفهم لا أن يثور، أن السيدة لم تكن في وارد الانتقاص من قامة شعرية بحجم السياب. أقرب ما تكون نيتها أنها أرادت وصفه بالمسالم الهادئ، الشاعر الذي لا يجيد الصدام ولا يحب العنف اللفظي أو الاجتماعي. لكن اللغة، كما يحدث كثيراً، خانت المتكلم، أو لعل المتكلم لم يحسن اختيار اللغة المناسبة لمنصة لا ترحم زلات اللسان. الفارق بين "ضعيف الشخصية" و"هادئ الطبع" في الوعي الجمعي العربي فارق أخلاقي لا لغوي فقط، ومن هنا بدأت المشكلة.
ما يثير السخرية حقاً ليس العبارة نفسها، بل الطريقة التي فزع بها كثيرون على السيدة، وكأنهم وجدوا فرصة ذهبية لاستعراض غيرتهم على السياب، أو بالأحرى لاستعراض عضلاتهم الأخلاقية خلف الشاشات. فجأة تحولت بلقيس شرارة إلى متهمة، لا لأنها أساءت قراءة شعر السياب، بل لأنها لم تجتز اختبار البلاغة التلفزيونية. وكأن المطلوب من امرأة في عقدها التاسع أن تكون متمرّسة في الخطاب الإعلامي، مدربة على إدارة العناوين المشتعلة، قادرة على توقّع كل تأويل ممكن لجملة عفوية. لا أميل هنا إلى جلدها كثيراً، بل لا أميل إلى جلدها أصلاً. فمن الواضح أنها ليست ناقدة أدبية بالمعنى الأكاديمي، ولا متخصصة في تفكيك النصوص أو تحليل البنى الشعرية. حديثها لم يأتِ في سياق نقد أدبي منهجي، بل أقرب إلى السرد الشخصي والانطباعات الذاتية التي تُقال في جلسة خاصة، ثم وجدت نفسها فجأة في فضاء عام لا يعترف بالفروق الدقيقة. وما يؤكد حسن النية أنها وصفت السياب نفسه بـ"العبقري"، وهي صفة لا تُمنح عادة لمن يُراد التقليل من شأنه.
المشكلة الحقيقية ليست فيما قالته بلقيس شرارة، بل فيما فعله المتلقون بكلامها. فمن يتناقل هذه الكبوة كان حرياً به أن يتابع الحلقة كاملة، لا أن يكتفي بمقطع مبتور صالح للإثارة. السياق العام يوضح بجلاء عدم التوفيق في طريقة التصريح نفسها، من حيث اختيار العبارات، وتوقيت طرحها، والمنصة التي قُدّم عبرها الحديث. لكن ذلك كله لا يبرر تحويل النقاش من قراءة أدبية إلى جدل جانبي أقرب إلى المبارزة الأخلاقية. هذه الملاحظة تتعلق بشكل الخطاب وأثره، لا بنيّة المتحدثة أو مقاصدها. فالفرق كبير بين أن نقول إن التصريح غير موفق، وأن نقول إن المتحدثة سيئة النية أو متعمدة للإساءة. غير أن كثيرين في فضائنا الثقافي يفضلون القفز مباشرة إلى النوايا، لأن النوايا مادة سهلة للاتهام، ولا تحتاج إلى معرفة أو قراءة. لو عدنا إلى أبجديات النقد الأدبي، كما تدارسها النقاد منذ زمن طويل، لوجدنا أن النقد يُعنى بالنص قبل أي شيء آخر. السياب يُقرأ من خلال شعره، لا من خلال توصيفات نفسية عابرة. يُعرف بلغته وصوره وبنيته الإيقاعية، بتحولاته الجمالية من الرومانسية إلى الواقعية، ثم إلى توظيف الأسطورة، وبالدور الذي لعبه في ترسيخ شعر التفعيلة عربياً. هذه هي المساحة الطبيعية للنقاش، لا شخصية الشاعر كما يتخيلها هذا أو ذاك.
اختزال تجربة شعرية بحجم تجربة السياب في أحكام انطباعية هو في حد ذاته خطأ، سواء صدر من بلقيس شرارة أو من غيرها. لكن الرد على هذا الخطأ بخطأ أكبر لا يخدم أحداً. استدعاء حياة الشاعر ومعاناته الإنسانية له مشروعيته فقط حين يأتي في سياق قراءة منضبطة تخدم فهم النص، لا حين يتحول إلى مادة للتلميح أو إطلاق الأحكام العامة، أو وسيلة لتسجيل النقاط الأخلاقية. السخرية هنا أن المدافعين الغاضبين عن السياب لم يدافعوا عنه كشاعر، بل كقديس. وكأنهم يخشون أن تنهار مكانته الشعرية إذا قيل عنه إنه كان مسالماً أو هادئاً أو حتى ضعيفاً في إدارة صراعاته الشخصية. هل العبقرية الشعرية مشروطة بالقسوة؟ وهل الإبداع يحتاج إلى شخصية صدامية كي يكون مقنعاً؟ هذه أسئلة لم يطرحها أحد، لأن الضجيج كان أعلى من التفكير.
بدر شاكر السياب قيمة شعرية ثابتة في الثقافة العربية الحديثة. تُدرّس تجربته في الجامعات، وتُقارن بمنجزات الحداثة الشعرية العالمية. لا يمكن مقاربته بمعايير الذوق الشخصي أو الانطباع العابر، ولا يمكن أيضاً تهديد مكانته بجملة عفوية قيلت في لقاء إعلامي. من يثق حقاً بصلابة منجز السياب لا يحتاج إلى هذا القدر من الهستيريا الدفاعية. أخلاقيات النقد، قبل مناهجه وأدواته، تقتضي التمييز بين الرأي الشخصي والنقد العلمي، وبين القراءة التي تُنير النص وتلك التي تنصرف عنه. كما تقتضي شيئاً من الرحمة الإنسانية، خاصة حين يكون المتحدث في عمر التسعين. الهجوم الشرس على امرأة مسنة لأنها لم تحسن التعبير، هو في حد ذاته تعبير عن ضعف آخر، ضعف في الأخلاق الثقافية، لا في الشخصية. كان الأجدر ببلقيس شرارة أن توضح أو تعتذر عما بدر عنها، لا لأنها أهانت السياب، بل لأنها فتحت باباً لسوء الفهم. اعتذار بسيط كان كفيلاً بإنهاء الجدل، وإعادة النقاش إلى حجمه الطبيعي. لكن الأجدر أيضاً بالمهاجمين أن يتعلموا كيف يفرّقون بين الزلة والخطيئة، وبين العبارة غير الموفقة والمؤامرة الثقافية. في النهاية، ما جرى ليس معركة حول السياب، بل اختبار لطريقة تعاملنا مع الاختلاف، ومع اللغة، ومع الشيخوخة أيضاً. لغة ساخرة هنا تبدو أقل قسوة من واقع النقاش نفسه. فحين يتحول الدفاع عن شاعر كبير إلى فرصة للشماتة، وحين تُسحق امرأة مسنة تحت عجلات الغضب الرقمي، نكون قد خسرنا الشعر والأخلاق معاً. وربما آن الأوان أن نكون أضعف قليلاً في هجائنا، وأقوى قليلاً في فهمنا.



#إسماعيل_نوري_الربيعي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جدلية التحوّل ورؤية التاريخ في قصيدة المؤرخ والشاعر خالد الس ...
- كريم شغيدل: حين يتحول السؤال إلى معرفة
- القصيدة بوصفها تميمة لغوية ضد وهم الاكتمال؛ قراءة في قصيدة ب ...
- مالك المطلبي ومحمد خضير: قراءة معرفية في سرد المدينة والحلم
- الضوء الذي يعيد كتابة القصيدة؛ قراءة في قصيدة إيمان بلبلي
- أين يقف اليسار العراقي في لحظة العراق الراهنة؟
- سردية الزمن الجميل: قراءة في مقولة نازك الأعرجي
- الهوس بالسلالة: كيف تحوّل الماضي إلى خرافة هوية معاصرة؟
- إجلال في الوجدان أكثر من المساندة في الصناديق
- الاقتصادي الدولي نوزاد الهيتي؛ قراءة في سيرة اقتصادي مؤثر
- التاريخ والتأويل
- العالم رهن النظرية
- العرب وتفاعلات السلطة والمجتمع


المزيد.....




- أحدثت بجمالها ثورة جنسية في عالم السينما.. وفاة بريجيت باردو ...
- عودة هيفاء وهبي للغناء في مصر بحكم قضائي.. والفنانة اللبناني ...
- الأمثال الشعبية بميزان العصر: لماذا تَخلُد -حكمة الأجداد- وت ...
- بريجيت باردو .. فرنسا تفقد أيقونة سينمائية متفردة رغم الجدل ...
- وفاة أيقونة السينما الفرنسية بريجيت باردو، فماذا نعرف عنها؟ ...
- الجزيرة 360 تفوز بجائزة أفضل فيلم وثائقي قصير بمهرجان في الس ...
- التعليم فوق الجميع.. خط الدفاع في مواجهة النزاعات وأزمة التم ...
- -ناشئة الشوق- للشاعر فتح الله.. كلاسيكية الإيقاع وحداثة التع ...
- وفاة أيقونة السينما الفرنسية بريجيت باردو عن 91 عاما
- وفاة أيقونة السينما الفرنسية.. بريجيت باردو


المزيد.....

- دراسة تفكيك العوالم الدرامية في ثلاثية نواف يونس / السيد حافظ
- مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - إسماعيل نوري الربيعي - حين تتحول زلة اللسان إلى محكمة: بلقيس شرارة والسياب وغضب الفضيلة الثقافية