إسماعيل نوري الربيعي
الحوار المتمدن-العدد: 8550 - 2025 / 12 / 8 - 03:08
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
يشكّل سؤال موقع اليسار العراقي في المشهد الراهن أحد أكثر الأسئلة إشكالية في الحياة السياسية والاجتماعية للعراق المعاصر. فالعراق بلد يفيض بالأزمات البنيوية وتراكمات الدولة المأزومة وتضارب الولاءات وهشاشة الطبقة الوسطى، وهي جميعها سياقات كان يفترض من اليسار أن يكون فيها قوة تفسيرية وتنظيمية فاعلة. لكن المفارقة أن حضور اليسار اليوم يبدو خافتاً مقارنة بما كان يمثله تاريخياً من حيوية، سواء في خمسينيات القرن العشرين حين لعب دوراً شعبياً، أو في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين حين شكّل تياراً ثقافياً وفلسفياً مؤثراً. ويصبح هذا السؤال أكثر تعقيداً إذا ما قُرئ عبر عدسة شوقي جلال في كتابه عن نهاية الماركسية، حيث لا تُطرح النهاية كإعلان موت للماركسية، بل كتحول فرضته حركة التاريخ وتغيّر شروط إنتاج الفكر وصراع السلطة والمعنى. بهذا المعنى، فإن سؤال اليسار العراقي لا يمكن فصله عن سؤال الماركسية نفسها. هل انتهت بوصفها منظومة تفسيرية؟ هل ما زالت قادرة على قراءة واقع كالعراق، يتسم بتداخل الطائفة والعشيرة والسوق والسلاح والدولة الريعية وصناعة الولاءات؟ وهل العطب في الفكر أم في طرق توظيفه؟ هذه الأسئلة ليست ثانوية، بل هي المفتاح لفهم حالة التراجع الراهن لليسار وغيابه عن صناعة القرار أو التأثير في الشارع إلا في مناسبات رمزية عابرة.
اليسار العراقي بين الفكرة والواقع
ينطلق شوقي جلال من الفجوة بين الفكر والواقع، وهي فجوة عاشتها الماركسية عالمياً وعاشها اليسار العراقي مضاعفة. فالتاريخ الاجتماعي والسياسي للعراق لم يكن يوماً أرضاً ملائمة لقراءة ماركسية كلاسيكية تحصر التحليل في علاقة العامل بالرأسمالي أو في التناقض بين البنية التحتية والبنية الفوقية. العراق بلد يتقاطع فيه الاقتصادي بالرمزي، والديني بالسياسي، والعشائري بالمديني، دون أن يتخذ الصراع الطبقي شكله الصناعي الصريح كما في أوروبا القرن التاسع عشر. لذلك كان على اليسار العراقي أن يطوّع الماركسية لتلائم الواقع، لا أن يطوّع الواقع ليلائم النص. لكن ما حدث فعلياً هو أن كثيراً من القراءات اليسارية العراقية ظلت أسيرة النص المغلق. فبدل أن يستعيد اليسار العراقي روح ماركس التي تقوم على النقد المستمر، وقع بعضه في التقديس النصي الذي يتجاوز تعقيدات المجتمع العراقي. وبذلك تحوّلت الماركسية من منهج نقدي إلى شعارات، بينما كان ينبغي أن تكون أداة لتفكيك البنى الدينية والاقتصادية والسلطوية التي شكّلت محور تشكّل الدولة والمجتمع في العراق الحديث.
التحولات الكبرى وسقوط النماذج المغلقة
تكشف أطروحة شوقي جلال عن سقوط النماذج المغلقة في القرن العشرين، ليس بوصفه سقوط الفكرة بل سقوط التطبيق. وهذه القراءة تبدو مناسبة لفهم مسار اليسار العراقي بعد ٢٠٠٣. فقد دخل العراق مرحلة سياسية جديدة لم تستطع الأحزاب اليسارية التعامل معها بالمرونة التي تتطلبها التحولات البنيوية. فالسوق السياسي الجديد لم يعد قائماً على البرامج، بل على الهويات الفرعية وشبكات المصالح والولاءات العشائرية والدينية واحتكار الدولة الريعية للموارد. في مثل هذا السياق، تراجعت القدرة التحليلية لخطاب اليسار التقليدي الذي ظل يشتغل بأدوات مؤدلجة لم تعد تنتج تفسيراً مقنعاً. وحين تتفكك البنى المركزية للدولة ويتوسع اقتصاد الريع ويتلاشى دور الطبقة العاملة الصناعية، تصبح الماركسية التطبيقية التي صُممت لعالم القرن التاسع عشر عاجزة عن قراءة العراق الراهن ما لم تُعاد صياغتها جذرياً. ومع ذلك، فإن هذا السقوط ليس سوى سقوط الشكل القديم. فالقيم التي قامت عليها الماركسية، مثل نقد السلطة وكشف هيمنتها، وتحليل علاقات الإنتاج، والدفاع عن العدالة الاجتماعية، لم تفقد قوتها، بل لعلها اليوم أكثر إلحاحاً في ظل تفكك الدولة واحتكار الثروة وغياب التوزيع العادل.
الماركسية كرافد للتنوير ودلالاتها على اليسار العراقي
يرى شوقي جلال أن الماركسية ليست مجرد نظرية اقتصادية، بل رافد راديكالي للتنوير. هذا الإدراك يسمح لنا بفهم الإشكالية الأساسية لليسار العراقي: هل نجح في أداء دور تنويري؟ وهل استطاع أن يكون قوة تحرر اجتماعي وثقافي في لحظة تتراكم فيها الخطابات المحافظة والموروثات الطائفية والتقاليد العشائرية؟ من الواضح أن اليسار العراقي لم ينجح تماماً في تحويل الماركسية إلى قوة تحرير اجتماعي واسعة، رغم محاولات عديدة قام بها مثقفون يساريون منذ منتصف القرن العشرين. فالثقل الاجتماعي للطائفة والعشيرة لم يترك مساحة كبيرة لخطاب يقوم على المواطنة والعدالة وتفكيك البنى التقليدية. لكن في المقابل، فإن الفراغ القيمي الذي يعيشه الشباب العراقي اليوم ـــ الناجم عن تفاقم البطالة والاغتراب وضعف الدولة ـــ جعل القيم اليسارية قابلة للاستعادة، وإن بشكل غير حزبي. والدليل على ذلك أن حراك تشرين ٢٠١٩ حمل ملامح يسارية واضحة، رغم أنه لم يُعرّف نفسه يسارياً ولم يقُده حزب يساري.
الحاجة إلى تجديد المشروع الفكري لليسار في العراق
يؤكد شوقي جلال أن السؤال ليس "هل انتهت الماركسية" بل "ما الذي يجب أن يتغيّر فيها". وهذا السؤال يمثل مفتاحاً لقراءة المستقبل الممكن لليسار العراقي. فالمشكلة ليست في قيم اليسار، بل في ضعف أدواته التحليلية والتنظيمية وعدم قدرته على قراءة اقتصادات جديدة ظهرت في العراق مثل اقتصاد الخدمات، والوظيفة الحكومية بوصفها سلعة سياسية، واقتصاد الميليشيات، والتحويلات المالية، والبطالة المقنّعة، واستبدال الطبقة العاملة الصناعية بطبقة شبابية غير مستقرة. يحتاج اليسار العراقي إلى تجديد لغته ومقولاته من أجل الاندماج في هذه التحولات، تماماً كما يطالب شوقي جلال بأن يستعيد الفكر روحه الجدلية في مواجهة تحولات الرأسمالية المعولمة. وهذا يعني أن وظيفة اليسار اليوم ليست فقط نقد السلطة، بل نقد المجتمع أيضاً، عبر تفكيك العلاقة بين الوعي الطائفي والاقتصاد الريعي وتكوين السلطة. كما يحتاج اليسار إلى إعادة بناء شبكاته الاجتماعية التي تضررت بعد عقود من القمع والحروب والهجرة والانقسامات الداخلية. فالمجتمع العراقي الذي يتوزع اليوم بين مدن كبرى تنهكها الازدحامات، وبلدات صغيرة تستعيد ثقلها العشائري، وجيل شاب يبحث عن معنى جديد، يحتاج إلى خطاب يساري قادر على مخاطبة ما هو أبعد من الصراع الطبقي التقليدي، خطاب يضع سؤال الإنسان في مركز التحليل، كما يريد شوقي جلال حين يعيد الماركسية إلى وظيفتها الأصلية "النقد والتحليل وكشف السلطة".
أين يقع اليسار في العراق الراهن؟
إذاً، ما هو موقع اليسار العراقي اليوم؟ يمكن القول إنه يقع على هامش الفعل السياسي لكنه في قلب الأسئلة الكبرى للناس. فهو لا يمتلك كتلة انتخابية وازنة ولا يمتلك تأثيراً مؤسسياً، لكن الكثير من أفكاره حاضرة في خطاب الاحتجاج، وفي نقاشات الفساد والعدالة والحقوق المدنية، وفي المطالب بإنهاء الدولة الريعية، وفي الحديث عن بديل اقتصادي جديد. بتعبير آخر، اليسار ضعيف كتنظيم قوي كفكرة. والتحدي الأكبر للسنوات المقبلة هو قدرة اليسار على الانتقال من مستوى الفكرة إلى مستوى التنظيم. فالإصلاح السياسي في العراق يحتاج قوة اجتماعية لا تكفي فيها النخب الثقافية وحدها. ومن دون تجديد الماركسية بوصفها منهجاً مفتوحاً لا عقيدة، سيظل اليسار عاجزاً عن تقديم قراءة مقنعة للتغيير. لكن إذا استطاع أن يستعيد روحه النقدية وأن يبني خطاباً يعالج قضايا الشباب والبطالة وتحولات سوق العمل والعلاقة بين الدولة والمجتمع، فسيتمكن من استعادة موقعه بوصفه تياراً نقدياً ضرورياً. يشير شوقي جلال إلى أن نهاية الماركسية ليست نهاية للفكر، بل نهاية لمرحلة من قراءته. وهذا بالضبط هو الدرس الذي يحتاجه اليسار العراقي. فما انتهى ليس اليسار، بل نمط معين من اليسار، نمط شاعري وطقوسي ومنغلق على النصوص. أما الماركسية باعتبارها أداة لتحليل السلطة ورأس المال والاغتراب فما زالت صالحة، بل أكثر ضرورة من أي وقت مضى في بلد يتفكك فيه العقد الاجتماعي بسرعة كبيرة. إن العراق الراهن بحاجة إلى يسار جديد، يسار يعيد اكتشاف المجتمع لا أن يفرض عليه نموذجاً مستورداً، يسار يحوّل القيم الماركسية من شعارات إلى أدوات تحليل للفساد والاقتصاد غير المنتج وهيمنة الهويات، ويسار يضع سؤال الإنسان في قلب السياسة. وبهذا فقط يمكن القول إن سؤال نهاية الماركسية يصبح سؤالاً عن البداية الجديدة لليسار العراقي، لا عن نهايته.
#إسماعيل_نوري_الربيعي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟