إسماعيل نوري الربيعي
الحوار المتمدن-العدد: 8549 - 2025 / 12 / 7 - 00:08
المحور:
كتابات ساخرة
تبدو مقولة نازك الأعرجي الساخرة: "الزمن الجميل؟! حين كانت الجرائد لتنظيف الزجاج، وساعة الأخبار في التلفزيون لإعداد وجبة العشاء في المطبخ"، مدخلا بالغ الأهمية لقراءة تحولات الوعي الجمعي العراقي من منظور علم الاجتماع السياسي. فهذه الجملة القصيرة، المتخفية في ثوب الدعابة، تكشف بنية كاملة من التمثّلات الاجتماعية، وتفضح فجوة عميقة بين الذاكرة الفولكلورية التي أعادت صياغة الماضي وبين واقع الممارسة اليومية آنذاك. وهي أيضا تضع الباحث أمام سؤال مركزي: لماذا تميل المجتمعات، ولا سيما تلك التي مرّت بصدمات سياسية ممتدة، إلى صناعة "زمن جميل" خرافي، وتغليفه بالنوستالجيا كآلية دفاعية ضد التدهور الراهن؟ من الوهلة الأولى، تكشف المقولة عن مستوى من "التأريخ الشعبي" أو "الذاكرة الجمعية" التي يعاد إنتاجها خارج المؤسسات الأكاديمية للدولة. فعلم الاجتماع السياسي يميز بين الذاكرة الرسمية التي تشكّلها أجهزة الدولة عبر المناهج والخطاب الإعلامي، وبين الذاكرة الجمعية المعاشة في تفاصيل الحياة اليومية. وهنا، تتقاطع السخرية مع مفهوم "النوستالجيا المصنّعة" التي لا تبحث عن ماضٍ حقيقي بقدر ما تؤدي وظيفة سياسية-نفسية: خلق مساحة ذهنية يتنفس فيها المجتمع، ويبرّر بها ذاته، ويتعامل من خلالها مع حاضره المأزوم.
إن الصورة التي ترسمها الأعرجي تستدعي تحليلا من منظور "الاقتصاد السياسي للمعرفة". ففي سياق سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، كان الإعلام العراقي موجها، يدار عبر منظومة مركزية تابعة للدولة الريعية التي تمسك بكل مصادر القوة المادية والرمزية. ولهذا، لم يكن المواطن بحاجة إلى قراءة الجرائد إلا بقدر ما تفرضه السلطة من واجب شكلي. فالجريدة كانت أداة بروباغندا، لا أداة معلومات. استخدام الجريدة لتنظيف الزجاج ليس فقط مشهدا عابرا، بل هو إعلان يومي عن "لا-شرعية" المعرفة الرسمية، وغياب الثقة بين المواطن والدولة. فالعلاقة بين الطرفين لم تكن تبادلية، بل رأسية، قائمة على فرض الرواية الرسمية وتغذية الولاء الرمزي. وفي هذا السياق، تبدو الجملة الساخرة تفكيكا للعلاقة بين رأس المال الإعلامي ورأس المال المعرفي: كلاهما كان متضخما شكليا، ولكنه عديم القيمة العملية في حياة المواطن العادي. أما العبارة الثانية: "وساعة الأخبار في التلفزيون لإعداد وجبة العشاء في المطبخ"، فتكشف طبيعة "الطقس الإعلامي السلطوي". فالتلفزيون، في علم الاجتماع السياسي للدولة السلطوية، لا يؤدي وظيفة الإخبار، بل وظيفة "الحضور الرمزي" للدولة داخل البيت. كان التلفزيون جهازا مركزيا لإعادة إنتاج الهيمنة، لا مصدرا للنقاش أو للتعددية. وبالتالي، فإن تهميش نشرات الأخبار في الممارسة اليومية، وتحويلها إلى توقيت منزلي لإعداد الطعام، يعكس مستوى اللامبالاة السياسية التي تولدت حين فقد الإعلام قدرته على الإقناع والتحريك. وهذا يعيدنا إلى مفهوم "اللامشاركة السياسية القسرية" التي تتشكل حين يختطف النظام السياسي كل قنوات الفعل العام، فينكمش المجال السياسي ويتحوّل المواطن إلى فرد منزلي لا إلى فاعل عام.
من زاوية أخرى، تحمل السخرية معنى مضادا لخطاب الحنين الشائع. فالكثير من العراقيين يستدعون عبارة "الزمن الجميل" دون تفكير نقدي. وهذا الاستدعاء يتغذى من "ميكانيزمات الدفاع النفسي الجمعي" التي تعمل وفق منطق: كل ما هو بعيد يبدو جميلا. لكن الأعرجي تقاوم هذه الميكانيزمات بتذكير أن "الزمن الجميل" لم يكن جميلا من حيث الوظيفة السياسية للمؤسسات. لقد كان زمنا مكتظا بالرقابة، وبهيمنة الدولة الأمنية على الإعلام، وبافتقار الحياة اليومية إلى قنوات التعبير الحر. كان الزمن "مستقرا" ظاهريا لكنه استقرار مُراقَب، استقرار قائم على كتم الصوت، لا على تعدد الأصوات. ذلك يعيدنا إلى مفهوم "إعادة إنتاج الهيمنة" عند غرامشي: فالدولة لا تكتفي بالقمع، بل تنتج خطابا يجعل الناس ينسون قمعها، أو يحنّون إليه لاحقا. ولهذا، تتولد نوستالجيا تخدم النظام حتى بعد زواله. فالنظام السلطوي يترك خلفه أثرا في البنية النفسية للمجتمع: خوف من الفوضى، وشوق إلى "اليقين"، حتى لو كان يقينا مزيفا. وهكذا تنشأ مفارقة: الناس الذين عانوا من القمع ذات يوم، يصبحون هم أنفسهم المدافعين عن استقرار القمع حين يعصف بهم اضطراب الديمقراطية الهشة. في هذا السياق، تسخر الأعرجي من وظيفة الذاكرة الجمعية حين تتحول إلى أداة تجميل سياسي، لا إلى أداة فهم. فالذاكرة الجمعية، كما يعرّفها موريس هالبواكس، ليست خزانة حقائق، بل بناء اجتماعي يتغير تبعا لاحتياجات الحاضر. وحين يعيش المجتمع صدمات متتالية، فإن عملية "تجميل الماضي" تصبح شكلا من أشكال الهروب النفسي. لكنها أيضا تحمل وظيفة سياسية خطيرة: حجب المسؤولية عن القوى التي سببت الانهيار، والبحث عن نموذج سلطوي يمنح "إحساسا بالأمان". من خلال هذه المقاربة، يمكننا قراءة عبارتي الأعرجي بوصفهما نقدا لخطاب "التطييف الزمني". فالمجتمع لا يكتفي بتقديس الماضي، بل يصنع منه "زمن هوية": زمن تصبح فيه الدولة أقوى، والمجتمع أهدأ، والاقتصاد أكثر توازنا، والشارع أكثر أمانا. لكن هذا النوع من الذاكرة يمارس عملية إقصاء مزدوجة: يهمّش الحقيقة التاريخية، ويمنح شرعية لزمن لم يكن بالضرورة أفضل. والأعرجي هنا تكسر هذه الشرعية عبر استخدام مفردات الحياة اليومية التي لا يمكن لأي مخيال جماعي أن يخفيها. فالمطبخ والزجاج أكثر صدقا من نشرات الأخبار، لأنها تعكس علاقة الناس بالإعلام، لا علاقة الإعلام بنفسه. إن علم الاجتماع السياسي يرى أن الحنين ليس فعلا بريئا، بل هو فعل محمّل بدلالات سياسية. فالتوق إلى الماضي هو أيضا وضع معيار لمحاكمة الحاضر، بل وقد يتحول إلى مطلب سياسي لاستعادة نمط حكم معين. وهذا يفسّر كيف يُستخدم شعار "الزمن الجميل" في الخطابات السياسية العراقية الراهنة: إنه ليس مجرد شكوى من الواقع المتعب؛ إنه ترميز لرغبة دفينة في استعادة الدولة المركزية الصارمة التي تفرض النظام بالقوة، لا بالقانون. وهنا يصبح الحنين وقودا لخيارات سياسية قد تعيد إنتاج الاستبداد.
لكن قراءة الأعرجي تضع حدودا لهذا الحنين، وتعيد تعريف العلاقة بين المواطن والمؤسسة الإعلامية. فحين كانت الجريدة أداة تنظيف، كانت في الوقت نفسه أداة كشف عن انهيار الثقة بين المواطن والدولة. وحين كانت نشرة الأخبار مجرد ساعة لطهي العشاء، كانت في جوهرها ساعة "فقدان للشرعية الرمزية". ومع ذلك، يأتي جيل اليوم ليعطي تلك الساعة نفسها هالة من القداسة، وكأنها كانت لحظة يجلس فيها الجميع ليستمعوا إلى دولة رصينة صادقة. المفارقة التي تكشفها الأعرجي هي أن الناس يتذكرون ما لم يحدث، ويحذفون ما حدث فعلا. من هنا، يمكن القول إن المقولة تمثل نقدا لآليات "اختزال التعقيد التاريخي". فالمجتمعات التي تتعرض لتشظيات سياسية متعاقبة تميل إلى تشكيل قصة بسيطة يمكن روايتها بسهولة: كان الماضي جميلا، والحاضر سيء. هذا التبسيط يوفر راحة نفسية لكنه يدمّر القدرة على الفهم السياسي. لأن الحقيقة التاريخية أكثر التباسا: فهناك دول قوية لكنها قمعية، وهناك إعلام منسجم لكنه مفبرك، وهناك استقرار لكنه مصحوب بانعدام الحرية. والأعرجي تذكّر بأن "الماضي" ليس لوحة مثالية بل شبكة من الممارسات اليومية التي يمكن قياسها بما كانت تساويه فعلا في حياة الناس. يتضح إذن أن المقولة ليست مجرد حسرة ساخرة، بل هي ممارسة نقدية تعيد موضعة "الزمن الجميل" ضمن سياقه الحقيقي. ففي علم الاجتماع السياسي، يمكننا اعتبار هذا الخطاب خطابا "تفكيكيا" يعمل على فضح العلاقة بين الوعي الجمعي ونظام السلطة. إذ يحوّل السخرية إلى منهج لفهم العلاقة بين الدولة والمجتمع: الإعلام المراقَب ينتج مواطنا غير مكترث، والمواطن غير المكترث ينتج ذاكرة مشوّهة، والذاكرة المشوّهة تمنع المجتمع من رؤية حقيقة الماضي والحاضر معا.
وبهذا تصبح مقولة الأعرجي مرآة لتحولات الوعي العراقي، ومرشدا لتحليل ديناميات "السياسة اليومية" التي تتجاوز المؤسسات لتظهر في تفاصيل العيش العادي. فهي تشكّل دعوة إلى إعادة النظر في سرديات النوستالجيا، وفي الطريقة التي يعيد بها المجتمع كتابة ماضيه من أجل التكيّف مع أزماته الراهنة. إنها قول مكثّف يفضح بنية ثقافية-سياسية كاملة، ويضعنا أمام سؤال جوهري: هل الحنين إلى الماضي هو بحث عن معنى ضائع، أم هو رفض لمواجهة تعقيدات الحاضر؟ إن الجواب، كما توحي الأعرجي، يكمن في فهم العلاقة بين السلطة والذاكرة، وبين الإعلام كمؤسسة وبين المواطن كفاعل اجتماعي يبحث دائما عن رواية تريحه، حتى لو كانت غير حقيقية. وهكذا يتكشف "الزمن الجميل" كأكبر سردية سياسية في الوعي العراقي الحديث، سردية تعيد إنتاج الحاضر بقدر ما تتحدث عن الماضي. ومع ذلك، يبقى صوت نازك الأعرجي تذكيرا بأن الوعي السياسي يبدأ من الاعتراف: ليست الجريدة التي تنظف الزجاج زمنا جميلا، وليست نشرة الأخبار التي لا يشاهدها أحد لحظة وطنية. بل إن الجمال الحقيقي يبدأ حين نستعيد قدرتنا على رؤية الماضي بلا زجاج مضبب، ونسمع أخبارنا دون ضجيج الرواية الرسمية، ونصنع زمنا حقيقيا لا نحتاج لاحقا إلى تجميله.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟