إسماعيل نوري الربيعي
الحوار المتمدن-العدد: 8549 - 2025 / 12 / 7 - 10:32
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
في الوعي العراقي المعاصر تتردّد عبارة أنّ العراقي "سليل حضارة خمسة آلاف سنة"، ويذهب آخرون إلى المزايدة وصولًا إلى سبعة آلاف سنة. تتحوّل هذه العبارة من توصيف تاريخي إلى شعار هوياتي، ومن شهادة انتماء إلى وسيلة تفاخر، بل إلى تعويض نفسي عن الإخفاقات السياسية والاجتماعية الراهنة. غير أنّ هذه الفكرة حين تُفحص علميًا، وخصوصًا في ضوء ما يقدّمه غاي د. ميدلتون في كتابه "فهم الانهيار: بين التاريخ القديم والخرافات المعاصرة"، فإنها تكشف عن مشكلة أعمق تتصل بكيفية صياغة الماضي، وكيف تُحوَّل بقايا الحضارات القديمة إلى رموز أيديولوجية وتبريرات سياسية وهويات معلّبة أكثر من كونها حقائق تاريخية متماسكة. يبدأ ميدلتون تفكيكه لمفهوم الانهيار بنقاش جذري حول كيفية سرد التاريخ. فعلى خلاف التصوّر الشائع بأن الحضارات "تنهار" فجأة وتختفي من الوجود، يؤكد أن المجتمعات القديمة كانت أكثر قدرة على التكيّف ممّا نتخيّل. إنها لا تفنى بل تتحوّل، ولا تنقرض بل تعيد إنتاج نفسها وفق شروط جديدة. هذا المنظور الذي ينقض سرديات الفناء الكارثي يقدّم مدخلًا مهمًا لفهم الادعاء العراقي المعاصر بالسلالة الحضارية الطويلة، إذ يجعلنا نفكّر في طبيعة الاستمرارية والانقطاع، وفي العلاقة بين الماضي القديم والذات الحديثة. يضع ميدلتون أمام القارئ سلسلة من دراسات الحالة حول حضارات مصر القديمة، الأكديين، وادي السند، الميسينيين، الرومان، المايا، الإنكا، الخمير، وغيرهم. وجميعها تشترك في نتيجة أساسية: لا وجود لانهيار شامل، ولا لفناء مفاجئ، وإنما يوجد تحوّل متعدد الأبعاد يمتد قرونًا، حيث تتغير مراكز القوة، وتتنقل التجمعات البشرية، وتُعاد صياغة البنى الاقتصادية والسياسية. لذا فإن أي محاولة لربط مجتمع معاصر مباشرة بمجتمع عاش قبل خمسة آلاف سنة هي مغالطة منطقية قبل أن تكون مغالطة تاريخية، لأن المجتمعات سلسلة متواصلة من التحولات لا يمكن اختزالها في رواية سلالية بسيطة.
الفكرة القومية التي تقول إن العراقي اليوم هو الامتداد المباشر للسومري أو البابلي تتجاهل كل هذه التعقيدات، وتحوّل الماضي إلى وثيقة هوية أحادية. وإذا كان ميدلتون يحذّر من السرديات الكارثية التي تصوّر الانهيار كحدث مطلق، فإن العراق المعاصر يقع في الجهة المقابلة: سردية "الاستمرارية المطلقة" التي تصوّر التاريخ وكأنه مسار مستقيم لم ينقطع أبدًا. كلا السرديتين (سردية الفناء وسردية الاستمرارية الخام) نتاج الخيال الحديث أكثر من كونها قراءة علمية للماضي. يُظهر الكتاب أن نهاية الإمبراطورية الأكادية مثلًا لم تكن اختفاء، بل تفككًا تدريجيًا بفعل عوامل بيئية وسياسية وإدارية. ومع ذلك، بقيت اللغة الأكدية حاضرة في الممالك اللاحقة، وتحوّلت نظم الحكم، وتبدلت موازين القوى. فهل يمكن القول إن سكان العراق في العصر البابلي الثاني هم "سليل" الأكديين بمعنى الاستمرارية العضوية غير المنقطعة؟ إن هذا النوع من الأسئلة يعبّر عن الحاجة إلى هوية أكثر من كونه يعكس حقيقة يمكن إثباتها. التاريخ لا يعمل بهذه الطريقة، لأن المجتمعات القديمة لم تكن كتلًا نقية ولا وحدات عرقية متجانسة، بل فضاءات تفاعلية متغيرة تتقاطع فيها الهجرات والتزاوج، وتبدلات اللغة والدين والاقتصاد. من هنا يمكن فهم ما يقترحه ميدلتون حين يؤكد أن خطاب "الانهيار" في العصر الحديث هو إسقاط لحالة الخوف المعاصر أكثر من كونه تعبيرًا عن الماضي. والادعاء العراقي بالسلالة الحضارية هو إسقاط معكوس: محاولة استعادة الماضي لتجاوز أزمات الحاضر. إنّه رد فعل عاطفي على الشعور بفقدان الدولة، وضعف البنية المؤسسية، وتراجع الخدمات، والانقسامات الداخلية. فبدل مواجهة تعقيدات الواقع، يُستدعى الماضي كدرع رمزي: لقد كنّا عظامًا، إذن يجب أن نكون كذلك اليوم. وفي هذا الكلام قدر من التسامي لكنه يخفي بُعدًا أسطوريًا لا يمكن الدفاع عنه علميًا.
يساعدنا الكتاب على إدراك أن الماضي ليس كتلة صلبة يمكن نقلها عبر آلاف السنين، بل شبكة من التحولات. فالدولة القديمة في مصر لم تختفِ حين ضعفت السلطة المركزية، بل أعادت تشكيل نفسها. والمايا لم يختفوا، بل ظلوا يعيشون ويطورون ثقافتهم رغم انهيار المدن الكلاسيكية. والإمبراطورية الرومانية الغربية لم تسقط فجأة بل تحوّلت إلى أوروبا القروسطية عبر قرون من الهجرات والتفاعلات. فلماذا نعتقد أن العراق يشكّل استثناءً للتاريخ؟ لماذا نصر على تحويل خمسة آلاف سنة من التحولات إلى "نسب عائلي" متصل؟ إن سردية السلالة عند العراقيين لا تنطلق من دراسة تاريخية، بل من حاجة نفسية وثقافية. إنها استعادة لرمزية حضارات الرافدين باعتبارها إحدى أعظم منجزات الإنسان القديم. غير أن هذه الاستعادة تخلط بين ثلاثة مستويات متمايزة: الماضي الفعلي كما تكشفه الآثار والنصوص، والماضي المتخيّل كما تبنيه الهوية الحديثة، والماضي الموظف سياسيًا في الخطاب الوطني. هنا تصبح عبارة "نحن أحفاد السومريين" ليست وصفًا بل وظيفة: إنها تؤدي دورًا في التماسك الاجتماعي، وفي رفع المعنويات، وفي الدفاع عن الذات أمام الآخر. لكن هذه الوظيفة لا ينبغي أن تُفهم بوصفها حقيقة تاريخية صلبة. يدعونا ميدلتون إلى تجنّب القراءة الدرامية للماضي، سواء كانت قراءة انهيارية أم قراءة تمجيدية. فالتاريخ شبكة من الطبقات المتراكبة، ومن الهجرات المتداخلة، ومن التحولات التي تعيد تشكيل المجتمع باستمرار. وإذا كان الأكديون والبابليون والآشوريون والكلدانيون والفرس واليونان والعرب قد تفاعلوا جميعًا في فضاء العراق عبر آلاف السنين، فإن النتيجة ليست سلالة واحدة، بل تراكمات حضارية معقدة لا يمكن تحويلها إلى هوية نقية. إن القول إن العراقي اليوم هو "خلاصة" هذه الحضارات قد يكون أقرب إلى الصواب من القول إنّه "سليل" إحداها، لأن الخلاصة تعني الامتزاج والتحوّل، بينما السلالة تعني الثبات. هنا تبرز رؤية ميدلتون التي تربط بين التاريخ القديم والخرافات المعاصرة. فكما اخترعت الثقافة الغربية خرافة "سقوط الحضارة" لتعبّر عن قلقها البيئي والسياسي، فإن الثقافة العراقية الحديثة اخترعت خرافة "السلالة الحضارية الممتدة" لتعبّر عن حاجتها إلى الاستقرار النفسي والرمزي. كلا الخرافتين نتاج لحظة معاصرة أكثر من كونهما انعكاسًا صادقًا للماضي. وفي هذا السياق يصبح شعار "حضارة خمسة آلاف سنة" جزءًا من منظومة التخييل الوطني لا من منظومة البحث التاريخي. لكن هذا لا يعني نفي الماضي أو التقليل من شأنه. فحضارات الرافدين قدّمت للعالم أعظم الابتكارات في الكتابة والري والزراعة والقانون والتنظيم السياسي. غير أن قيمتها الحقيقية لا تكمن في ادعاء السلالة، بل في فهمها التاريخي الدقيق. إن الفخر بالماضي مشروع، لكن تحويل الماضي إلى أسطورة يعطّل النظر العلمي ويمنع المجتمع من فهم نفسه في الحاضر. وهذا ما يحاول ميدلتون تجنّبه حين يدعو إلى رؤية أكثر تعقيدًا للمجتمعات القديمة، وإلى قراءة خالية من المبالغات والتهويلات، سواء كانت في اتجاه الفناء أو في اتجاه التمجيد.
يقدّم الكتاب أيضًا نقدًا مهمًا لتوظيف الماضي في السياسات المعاصرة. فكما تُستخدم سرديات الانهيار في الخطاب السياسي الغربي للتحذير من نهاية الإمبراطورية أو الكارثة البيئية، فإن سردية "السلالة الحضارية" تُستخدم في العالم العربي والعراق خصوصًا لإثبات التفوق الرمزي وشرعنة بعض التصورات الهوياتية. وهذا الاستخدام السياسي للتاريخ لا يقلّ خطورة عن الاستخدام الدرامي له، لأنه يحوّله من مجال للمعرفة إلى مجال للدعاية، ومن مساحة للفهم إلى مساحة للتبرير. يذكّر ميدلتون القارئ بأن الحضارات القديمة كانت قادرة على التكيّف بدرجة أكبر مما يتصوره الناس. إنها تعيد بناء نفسها، وتحوّل أشكالها، وتغيّر لغاتها ودياناتها وهياكلها السياسية. وإذا كان العراقيون اليوم يحملون شيئًا من هذا الإرث، فهو إرث القدرة على التكيّف لا إرث السلالة الثابتة. إنهم ينتمون إلى تاريخ طويل من التحولات، لا إلى نسب نقي يمتد آلاف السنين. وهذا الانتماء أكثر اتساعًا وعمقًا وإلهامًا من أي ادعاء سلالي ضيق. في النهاية، يحرّرنا ميدلتون من أوهام الفناء ومن أوهام الاستمرارية المطلقة معًا. فالحضارات لا تنهار دفعة واحدة، ولا تبقى ثابتة إلى الأبد. إنها تتغير، وتتناسل، وتتداخل، وتولد من جديد. وإن فهم هذا المنطق التاريخي هو شرط أساسي لفهم الذات العراقية الحديثة من دون أن تستقوي بأساطير أو تتقوقع داخل سرديات تمجيدية. فالعراق ليس سليل حضارة واحدة، بل وريث شبكة حضارات، وليس امتدادًا خالصًا للماضي، بل نتاج مسار طويل من التغيرات التي صنعت المجتمع الحالي بتعدديته وتاريخه وثقافته. وهكذا، لا تنفي القراءة العلمية للماضي العراقي وجود عمق حضاري، لكنها تعيد صياغته بعيدًا عن الخرافات. فالعراقي اليوم ليس ابن خمسة آلاف سنة، بل ابن الحاضر الذي يتفاعل مع الماضي، يعيد قراءته، ويصنع منه معنى جديدًا. وهذه هي القوة الحقيقية للحضارة: القدرة على التجدد، لا القدرة على الادعاء.
#إسماعيل_نوري_الربيعي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟