إسماعيل نوري الربيعي
الحوار المتمدن-العدد: 8549 - 2025 / 12 / 7 - 01:19
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
تبدو علاقة العراقيين بالحزب الشيوعي ظاهرة سياسية معقدة تتجاوز ثنائية الحب والخذلان، إذ يكشف التاريخ العراقي الحديث أن التعاطف الشعبي مع الشيوعيين ظل واسعًا ومتجذرًا، لكنه لم يتحول في صناديق الاقتراع إلى أصوات حاسمة. في الشارع والذاكرة والسرديات اليومية يظهر الشيوعي بوصفه رمزًا للعدالة الاجتماعية، مدافعًا عن الفقراء، مناضلًا ضد الطغيان، وصاحب سجل تضحوي طويل. لكن حين تصل اللحظة الانتخابية، تتراجع هذه الصورة لصالح خيارات براغماتية أو زبائنية أو طائفية. هذا التناقض الظاهر يمكن فهمه بعمق أكبر إذا قُرئ في ضوء منظور إسحاق دويتشر في كتابه "الثورة التي لم تتم"، حيث يرى أن الثورات، والحركات التي تتغذى من خيالها الجمعي، قد تعيش طويلا بوصفها مشروعًا رمزيًا، بينما تفشل كقوة سياسية واقعية. من هنا يصبح المزاج العراقي تجاه الشيوعيين ليس حالة عراقية صرفة، بل صورة من صور الثورة غير المكتملة التي تحدث عنها دويتشر، والتي تسكن الوجدان ولا تتمكن من تجسيد ذاتها داخل مؤسسات الدولة. يرى دويتشر أن الثورات الكبرى تكتسب شرعيتها الأصلية من اندفاع الجماهير وقدرتها على إحياء الأمل في العدالة والمساواة. وقد شهد العراق، منذ أربعينيات القرن العشرين، لحظات توهج شيوعي مماثلة لما وصفه دويتشر عند حديثه عن بدايات الثورة الروسية، حين اقتحم العمال والفلاحون التاريخ بصفتهم فاعلين واعين. في العراق، لم يكن الشيوعيون مجرد حزب، بل حركة اجتماعية واسعة جذبت الطلبة والعمال والمثقفين وشرائح من الفقراء، حتى تبدّت في بعض الفترات كما لو أنها القوة الأكثر تمثيلًا للطبقات الدنيا. هذا التعاطف الشعبي العابر للطوائف والعشائر يشبه ما يسميه دويتشر "الطاقة الأخلاقية للثورة"، أي تلك اللحظة التي يشعر فيها الناس بأن التغيير ممكن وأن الصوت الضعيف قادر على اختراق بنية السلطة. لذلك دخل الشيوعيون مبكرًا في نسيج المجتمع، لا كقوة أيديولوجية صلبة فقط، بل كحامل لمشروع خلاص اجتماعي يتجاوز الانتماءات التقليدية.
لكن دويتشر يلفت النظر إلى أن الطاقة الأخلاقية لا تكفي لإكمال مشروع الثورة. فالثورات التي لا تتحول إلى بنى سياسية مستقرة ينهكها الزمن، وتغدو مشروعات غير مكتملة، تعيش بين المثال المعلن والواقع القاسي. هذا ما حدث للحزب الشيوعي العراقي تاريخيًا، إذ سرعان ما وجد نفسه محاصرًا بين جهاز دولة سلطوي، وصراعات إقليمية ودولية، وانقسامات داخلية، وقمع دموي متكرر. النتيجة كانت نشوء مسافة بين الرمز الشيوعي المتخيل في المخيال الشعبي وبين الحزب السياسي الفعلي الذي أصبح مثقلًا بذكريات الماضي وأوجاعه. في ضوء تحليل دويتشر، هذا النوع من الانفصال يشبه الانفصال الذي أصاب الثورة الروسية نفسها، حين تحولت من وعد تحرري جذري إلى دولة بيروقراطية تخشى الجماهير بدل أن تستند إليها. وهكذا بقي الرمز حاضرًا بقوة في الذاكرة، بينما تراجع الفعل السياسي إلى حدود ضيقة يصعب توسيعها انتخابيًا. يرى دويتشر أن أحد أخطر الانقطاعات في مسار الثورات هو ما يسميه "تفكك القاعدة الاجتماعية" التي تمنح الحركة قوتها. في العراق، يبرز هذا التفكك واضحًا في صعود الطائفية السياسية بعد 2003، إذ انقسم المجتمع إلى هويات فرعية متنافسة، بينما فشلت الأحزاب المدنية واليسارية في إنتاج قاعدة صلبة قادرة على أن تترجم التعاطف الأخلاقي إلى صوت انتخابي. التعاطف هنا يظهر في صورة احترام، أو حنين، أو تقدير للرمز التضحوي، لكن هذا كله لا يحمل القدرة على مواجهة سطوة الهويات الفرعية التي باتت، مثل الدولة البيروقراطية في تحليل دويتشر، تمتلك أدوات تعبئة ضخمة تتجاوز إمكانات الحزب الشيوعي. ولأن الحزب لم يعد يمتلك نفوذًا مؤسسيًا، ولم يستطع تقديم مكاسب ملموسة للناخب، باتت الجماهير تميل في الانتخابات إلى الخيارات الأقرب لمصالحها المعيشية الآنية، حتى إن تعارضت مع ميولها العاطفية التاريخية.
يقدم دويتشر تفسيرًا إضافيًا يمكن تطبيقه بوضوح على الحالة العراقية، وهو فكرة "ازدواجية الوعي"، حيث تعيش الجماهير بين صورتين: صورة مثالية تستلهم الأخلاق الثورية القديمة، وصورة عملية تحكمها شروط الحياة اليومية. في ضوء هذا التحليل، يصبح من الممكن تفسير سر المفارقة العراقية، إذ يتعاطف الناس مع الشيوعيين بوصفهم مصنعًا للأمل، لكنهم يصوتون ضمن شبكات الزبائنية والطائفة والعشيرة لأنها توفر لهم الاطمئنان الآني الذي لا يستطيع الخطاب الثوري أن يقدمه في ظروف اقتصادية وسياسية مضطربة. هذا النمط من السلوك الانتخابي لا يعني بالضرورة عداءً للشيوعيين، بل يعكس ما يسميه دويتشر "انقسام الوعي تحت ضغط البيروقراطية والاضطراب العالمي"، أي حالة يعيش فيها المواطن بين الذاكرة والمصلحة، بين الانحياز الأخلاقي والتصرف البراغماتي. ولأن دويتشر يرى أن الثورات تتحول مع الزمن إلى مشاريع رمزية، فإن الحزب الشيوعي العراقي اليوم أصبح أقرب إلى "ثورة مؤجلة" يجلها المجتمع في الوجدان أكثر مما يساندها في الصناديق. فالتجربة السوفيتية التي يناقشها دويتشر بعمق انتهت إلى انفصال حاد بين الجماهير والدولة، الأمر الذي جعل الخطاب الثوري يفقد قدرته على تحريك الناس رغم أنهم لم يكفوا عن الاعتزاز بتراث الثورة. وتتكرر الظاهرة نفسها في العراق، إذ يعرف الناس قيمة الشيوعيين، ويحترمون صمودهم، ويستعيدون سير شهدائهم ورموزهم الثقافية، لكنهم في الوقت ذاته يتعاملون مع السياسة بمنطق مختلف تمامًا، محكومًا بتوازنات هشّة تفرضها بنية الدولة ما بعد 2003، وبنية المجتمع التي أعادت إنتاج نفسها في صورة هويات متنازعة. يؤكد دويتشر أن الثورة لا تكتمل إلا إذا تمكنت من تجديد ذاتها عبر دمقرطة مستمرة تعيد ربط القيادة بالجماهير. هذا الشرط غائب تقريبًا في العراق، ليس في الحزب الشيوعي وحده بل في الحياة السياسية كلها، حيث ضعف مؤسسات التداول الداخلي، وغياب القنوات التي تمكن الجماهير من ممارسة دورها الطبيعي. لذلك فإن تعاطف الناس مع الشيوعيين يتخذ شكل تقدير أخلاقي أكثر مما هو علاقة سياسية فاعلة. وحين يذهب الناخب إلى صندوق الاقتراع، فإنه يتحرك وفق شبكة ضغوط وتعقيدات لا تشبه إطلاقًا صورة التضامن الرمزي التي يظهر فيها الشيوعي في المخيلة العراقية. بعبارة أدق، يوجد الشيوعي في العراق داخل فضاء ثقافي واسع، لكنه يتقلص داخل الفضاء السياسي الضيق الذي تتحكم فيه موارد الدولة وشبكات النفوذ الطائفية.
يقدم دويتشر في كتابه تصورًا مهمًا يمكن أن يساعد في فهم المستقبل، وهو أن الثورات غير المكتملة تظل تحمل إمكانًا للتجدد في اللحظات التاريخية الحرجة. إذا طبقنا هذا الفهم على الحالة العراقية، يمكن القول إن التعاطف الشعبي، على محدوديته، ليس بلا معنى سياسي، بل يشير إلى أن شرائح واسعة من المجتمع لا تزال تبحث عن خيار مدني عابر للهويات، حتى إن كانت عاجزة مؤقتًا عن ترجمة هذا البحث إلى فعل انتخابي. هذا التعاطف يشبه ما يسميه دويتشر "الطبقة العاملة بالقوة"، أي الطبقة التي لم تُنتج بعد وعيها السياسي الكامل لكنها تمتلك شروط تحوله في سياقات معينة. لذلك فإن التخلي الانتخابي لا يعني نهاية الشيوعية في العراق، بل يعكس أزمة بنيوية في النظام السياسي ذاته، أزمة تجعل أي مشروع عابر للطوائف عاجزًا عن تنظيم نفسه بما يكفي لخلق قوة انتخابية مستقرة. في النهاية، تكشف قراءة الظاهرة العراقية من خلال منظور دويتشر أن التعاطف مع الشيوعيين ليس لغزًا، بل نتيجة طبيعية لصراع بين مثال ثوري لم يكتمل وبين بنية اجتماعية وسياسية تفرض على الناخب قرارات لا تشبه قيمه العميقة. ولعل ما يجعل الحزب الشيوعي حاضرًا رغم ضعفه الانتخابي هو أنه يمثل في الوعي العراقي ما تمثله "الثورة التي لم تتم": وعدًا أخلاقيًا أكثر منه مشروعًا سلطويًا، ذاكرة مقاومة أكثر منه برنامجًا انتخابيًا. ومن هنا يمكن القول إن العراقيين لا يتخلون عن الشيوعيين في الحقيقة، بل يضعونهم في المكان الذي يرونه ممكنًا في ظل شروط سياسية خانقة، مكان الاحترام والتقدير والتعاطف العميق، لا مكان القوة الانتخابية القادرة على خوض صراع السلطة. هذا التناقض ليس علامة ضعف فحسب، بل هو أحد الأوجه البارزة للثورات غير المكتملة التي تحدث عنها دويتشر، ثورات تعيش لأنها لم تكتمل، وتظل مصدرًا للمعنى لأنها لم تتحول إلى دولة.
#إسماعيل_نوري_الربيعي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟