إسماعيل نوري الربيعي
الحوار المتمدن-العدد: 8563 - 2025 / 12 / 21 - 20:29
المحور:
الادب والفن
ليست الكتابة عن محمد خضير فعلاً نقدياً عادياً، يمكن إنجازه بأدوات منهجية جاهزة أو بمفاهيم مستعارة من قوالب نقدية مستقرة، بل هي امتحان معرفي حقيقي يضع الناقد أمام تحدٍّ مزدوج، يتمثل في فهم طبيعة النص أولاً، وفي ابتكار زاوية قراءة قادرة على ملامسة عمقه الوجودي ثانياً. فمحمد خضير لا يقدّم نصوصاً مطواعة للتصنيف، ولا يكتب سرداً يمكن إدراجه بسهولة في خانة القصة أو الرواية أو التأمل الفلسفي الخالص، بل يشيّد عالماً سردياً مركّباً تتداخل فيه طبقات متعددة من المعنى. في هذا العالم، لا تظهر المدينة بوصفها مكاناً جغرافياً محايداً، بل تتحول إلى كيان رمزي حي، تختلط فيه الأسطورة بالذاكرة، ويتجاور فيه التاريخ مع المتخيّل، وتصبح الحرب خلفية وجودية تعيد تشكيل اللغة والوعي، بينما يغدو الحلم وسيلة للمعرفة لا نقيضاً لها. من هنا تتجلى أهمية أن يتصدى ناقد مثل د. مالك المطلبي لهذا المشروع السردي الإشكالي، لا بوصفه قارئاً تفسيرياً يسعى إلى شرح النص أو تبسيطه، بل بوصفه شريكاً في الكشف وإعادة البناء. فالنقد هنا لا يقف خارج النص، بل يدخل في نسيجه، ويتحاور مع أسئلته، ويعيد تنظيم خرائطه الداخلية. إن اختيار المطلبي لمحمد خضير ليس مصادفة عابرة، ولا استجابة لإغراء اسم أدبي كبير، بل هو التقاء واعٍ بين مشروعين متوازيين ومتقاربين في الجوهر. مشروع سردي بصري عميق ينشغل بالمدينة والذاكرة والحرب والحلم، ومشروع نقدي معرفي يسعى إلى تفكيك البنى العميقة للنص، لا الاكتفاء بسطحه الجمالي أو لغته المصقولة. ويكتسب هذا اللقاء أهميته مضاعفة حين يصدر في شكل رباعية متكاملة عن منشورات اتحاد أدباء العراق، ما يؤكد أن النقد هنا لا يؤدي وظيفة التلقي اللاحق أو التعليق الهامشي، بل يمارس دور التأسيس والتأريخ وإعادة الاعتبار لنصوص طالما وُضعت في مناطق القراءة الصعبة أو المؤجلة. فالمطلبي لا يتعامل مع نصوص محمد خضير بوصفها منجزاً مغلقاً، بل بوصفها مشروعاً مفتوحاً يستدعي قراءة طويلة النفس، قادرة على مرافقة تحوّلاته المعرفية والسردية. تكمن أهمية هذا الاشتغال النقدي في أن المطلبي لم يكتب عن محمد خضير من موقع الانبهار الذي يشلّ التحليل، ولا من موقع الوصاية النقدية التي تفرض على النص معايير جاهزة، بل من موقع الحوار المعرفي العميق. لقد أدرك أن نصوص خضير تحتاج إلى ناقد "مولع باستكشاف الوجود في ثنائياته"، المادي والافتراضي، التاريخي والأسطوري، الواقعي والتخييلي، أي ناقد يرى في السرد فعلاً أنطولوجياً يسائل معنى الوجود ذاته، لا مجرد تقنية فنية أو حرفة لغوية. بهذا المعنى، تصبح كتابة المطلبي عن خضير فعلاً فكرياً موازياً للسرد، لا تابعاً له، ومساهمة حقيقية في توسيع أفق تلقيه وفهمه.
الحفر المعرفي وفضاء الأبراج، حين يصبح النقد شريكاً للنص
في الجزء الأول من الرباعية "الحفر المعرفي"، لا يتعامل المطلبي مع "بصرياثا صورة مدينة" بوصفها نصاً سردياً فحسب، بل بوصفها أرشيفاً معرفياً وميتافيزيقياً للمدينة. البصرة هنا ليست مكاناً، بل كياناً رمزياً تتراكم فيه طبقات الذاكرة، وتتشابك فيه الأزمنة، ويتحوّل إلى نص مفتوح على التاريخ والأسطورة والذات الكاتبة. أهمية كتابة المطلبي في هذا الجزء أنه حرّر "بصرياثا" من القراءة الوصفية، وأدخلها في حقل حفريات المعرفة، حيث يصبح السرد أداة تفكير في الوجود لا مجرد حكاية. أما في الجزء الثاني "فضاء الأبراج"، المخصص لمجموعة "رؤيا خريف"، فإن المطلبي يكشف عن وحدة الهاجس بين السرد المعرفي والسرد القصصي لدى خضير. الحرب هنا ليست حدثاً خارجياً، بل شرطاً وجودياً يعيد تشكيل اللغة والخيال والوعي. يميّز المطلبي بدقة بين تجلي هذا الهاجس في "بصرياثا" بوصفه جنساً معرفياً، وفي "رؤيا خريف" بوصفه جنساً سردياً، لكنه يؤكد أن المصدر واحد، هو قلق الكتابة في زمن الانكسار. تكمن أهمية هذه القراءة في أنها تنقذ "رؤيا خريف" من الفهم الاختزالي الذي يراها مجموعة عن الحرب فقط، لتضعها في سياق أوسع هو تحولات الكتابة نفسها تحت ضغط العنف والتاريخ. هنا يصبح النقد فعلاً توضيحياً يوسّع أفق النص، لا يختزله.
بحيرة الرئيس، حين يتماهى الراوي مع الرسام
في الجزء الثالث "بحيرة الرئيس"، المخصص لرواية "كراسة كانون"، يبلغ مشروع المطلبي ذروة نضجه التحليلي. الرواية التي تفتتح بتجاور مكانين وزمانين متباعدين، البصرة في كانون الثاني 1991 ومدريد في 1791، لا تُقرأ عند المطلبي بوصفها لعبة سردية، بل بوصفها بنية وعي مركّبة تقوم على توازي الحروب وتشابه الهواجس الإنسانية عبر التاريخ. أهمية قراءة المطلبي هنا أنه لا يتوقف عند المقارنة الشكلية بين الحرب العراقية الأمريكية والحرب الفرنسية الإسبانية، بل يتجاوز ذلك إلى تحليل تماهي العقلين، عقل الراوي وعقل غويا. هذا التماهي لا ينتج استعارة فنية فقط، بل ينتج تحوّلاً في الهوية، حيث يغادر الراوي مهنة الكاتب ليدخل مهنة الرسّام، أي ينتقل من اللغة إلى الصورة، ومن السرد إلى الرؤية. بهذا المعنى، تصبح "كراسة كانون" نصاً عن حدود التعبير نفسها، وعن عجز اللغة أحياناً، وعن لجوء الوعي إلى الفن بوصفه خلاصاً. كتابة المطلبي عن هذا النص تكشف أهميته بوصفه لحظة مفصلية في مشروع محمد خضير، حيث يبلغ السرد درجة من الكثافة تجعله قريباً من الفلسفة البصرية، لا من الرواية التقليدية.
ميتافيزيقيا السرد، حين يتحرّر النص من منطق اليقظة
في الجزء الرابع والأخير "ميتافيزيقيا السرد"، ينعطف المطلبي بذكاء نحو سرد الأحلام في "أحلام باصورا". هنا تتجلى أهمية الناقد القادر على مرافقة النص في تحوّلاته الجذرية. فالأحلام لا تخضع لمنطق السبب والنتيجة، ولا لمنطق الإيهام بالواقع، بل تفتح السرد على فضاء حرّ يتجاوز العقل اليقظ وحدود المادة. يشير المطلبي إلى أن هذا الانحراف عن منطق الواقعية ليس ضعفاً، بل تحرّراً. الحلم، بوصفه شكلاً سردياً، يمنح النص شرعية كسر القواعد، وتقويض الأسس المنطقية التي استقر عليها الوعي اليومي. هنا تتحول الكتابة إلى ممارسة ميتافيزيقية، لا تُسأل عن صدقها الواقعي، بل عن قدرتها على كشف ما يعجز العقل عن قوله في اليقظة. أهمية أن يكتب المطلبي عن هذا الجزء تحديداً تكمن في أنه يضع "أحلام باصورا" في سياق فلسفي عميق، مستلهماً رؤية بول ريكور عن السرد بوصفه سلسلة وجود لا تنقطع. الحكّاء يموت، لكن الحكاية تستمر، وإذا انقطعت السلسلة خرج الوجود إلى عدمه. بهذا الفهم، يصبح مشروع محمد خضير ليس مشروع كاتب فرد، بل مشروع سردي إنساني طويل النفس.
إن أهمية أن يكتب د. مالك المطلبي عن محمد خضير لا تنبع من مجرّد تلاقي اسمين بارزين في المشهد الثقافي العراقي، ولا تُختزل في قيمة التحليل النقدي الذي قدّمه، ولا في أناقة الأجزاء الأربعة أو جمال إخراجها الطباعي، على الرغم من أن كل ذلك يظل عناصر داعمة لا يمكن تجاهلها. الأهمية الحقيقية تكمن في أن المطلبي أنجز فعلاً نقدياً يليق بمشروع سردي نادر، مشروع ظلّ طويلاً عصياً على القراءات السهلة، ومقاوماً للتصنيف والتبسيط، ومحتاجاً إلى ناقد يمتلك الحس المعرفي والقدرة التأويلية التي تسمح له بمرافقة النص، لا الوقوف خارجه. لقد قدّم المطلبي قراءة لا تتعامل مع نصوص محمد خضير بوصفها مادة للشرح أو التفكيك المدرسي، بل قراءة تعيش داخل النص، وتتحرك في فضاءاته، وتستجيب لإيقاعه الداخلي وأسئلته الوجودية. فهو لا يسعى إلى اختزال التجربة السردية في خلاصات نهائية، ولا إلى فرض مناهج جاهزة عليها، بل يعمل على توسيع آفاقها، وفتح مسارات جديدة لتلقيها وفهمها. وبهذا المعنى، يصبح النقد هنا فعلاً إبداعياً موازياً، لا مجرد نشاط لاحق أو تعقيب خارجي. إن "رباعية المشروع البصرياثي لمحمد خضير" لا تُقرأ بوصفها كتاباً عن كاتب بعينه فحسب، بل بوصفها محاولة جادة لإعادة رسم موقع هذا الكاتب في خارطة السرد العربي الحديث، بعيداً عن التهميش أو القراءة الجزئية. لقد منح المطلبي نصوص خضير مكانها المستحق، لا من خلال التمجيد أو الإشادة، بل عبر قراءة عميقة تكشف عن اشتغالها على المعرفة والوجود والمدينة والحلم، وتبرز طابعها المركّب الذي يجعلها تتجاوز الحدود التقليدية بين الأجناس الأدبية. بهذا المعنى، تتحول الرباعية إلى وثيقة ثقافية تتجاوز حدود النقد الأدبي الضيق، لتطرح سؤالاً أوسع عن معنى أن يكون السرد شكلاً من أشكال المعرفة، وعن دور النقد في مرافقة هذا السرد بوصفه شريكاً في إنتاج المعنى لا تابعاً له. فالمطلبي لا يضع نفسه في موقع القاضي أو المفسّر النهائي، بل في موقع القارئ الخلّاق الذي يفتح النص على احتمالاته القصوى، ويعيد إدخاله في حوار حي مع الثقافة والذاكرة والتاريخ. ومن هنا تأتي القيمة الحقيقية لهذا العمل، بوصفه نموذجاً لما يمكن أن يكون عليه النقد حين يتحرّر من وظيفته الوصفية، ويتحوّل إلى ممارسة فكرية تشارك في بناء المعنى وصياغة الوعي الأدبي.
#إسماعيل_نوري_الربيعي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟