أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - إسماعيل نوري الربيعي - القصيدة بوصفها تميمة لغوية ضد وهم الاكتمال؛ قراءة في قصيدة باهرة عبد اللطيف















المزيد.....

القصيدة بوصفها تميمة لغوية ضد وهم الاكتمال؛ قراءة في قصيدة باهرة عبد اللطيف


إسماعيل نوري الربيعي

الحوار المتمدن-العدد: 8564 - 2025 / 12 / 22 - 19:25
المحور: الادب والفن
    


لا يمكن قراءة قصيدة باهرة عبد اللطيف بوصفها بوحا ذاتيا مباشرا أو اعترافا نفسيا بسيطا، بل بوصفها خطابا لغويا تتشكل فيه الذات عبر التوتر بين القول والصمت، بين الرغبة والنقص، وبين ما يُقال وما يستعصي على القول. وفق منهج جاك لاكان، الذات لا تسبق اللغة ولا تتحكم بها، بل تولد داخلها منقسمة، مشروخة، ومحمولة على دوال لا تمتلكها بالكامل. من هنا، فإن القصيدة لا تكشف عن ذات متماسكة تروي تجربتها، بل عن ذات تتكون أثناء الكتابة، وتعيد ترتيب علاقتها بذاتها وبالعالم من خلال شبكة من الدوال المركزية، أبرزها الوحش، الوطن، الأمل، والصمت. العنوان "بوح لا يعني أحدا سواي" يضعنا منذ البداية أمام مفارقة لاكانية واضحة. فالقول الذي يدعي الانغلاق التام هو في الحقيقة أكثر أشكال الخطاب انفتاحا على الآخر. لاكان يؤكد أن كل خطاب هو خطاب موجّه، حتى وإن أنكر صاحبه ذلك. العنوان إذن لا يلغي الآخر، بل يستحضره ضمنا بوصفه ذلك الحضور الغائب الذي لا يمكن للغة أن تتجاهله. هكذا تدخل القصيدة فضاء الرمزي منذ سطرها الأول، معلنة أن الذات تتكلم لا لتشرح نفسها، بل لتكشف انقسامها.
الوحش بوصفه تجليا للواقعي
يمثل "الوحش الغافي في صدري" الدال الأكثر كثافة في القصيدة، وهو مفتاح القراءة اللاكانية للنص. فالوحش هنا ليس مجرد استعارة شعرية عن القلق أو الخوف، بل هو تمثيل لما يسميه لاكان "الواقعي"، أي ذلك البعد من التجربة الذي لا يمكن احتواؤه كليا داخل اللغة أو النظام الرمزي. الواقعي لا يظهر بوصفه معنى واضحا، بل بوصفه ثغرة، ألما مبهما، حضورا صامتا يضغط على الذات من الداخل. تحية الشاعرة للوحش وقولها "سلاما له" تكشف عن موقف بالغ الأهمية. الذات لا تحاول القضاء على الوحش ولا إنكاره، بل تعترف بوجوده وتتعلم منه. في التحليل النفسي اللاكاني، لا يكون الشفاء في محو الواقعي، بل في إعادة تنظيم العلاقة معه. الوحش يتغذى من قلق الوطن، أي من جرح جماعي وتاريخي، لكنه يسكن الصدر بوصفه تجربة فردية لا يمكن فصلها عن البنية النفسية للذات. تعليم الوحش للذات التوقف عن العدو والتأمل في الخطوة يشير إلى انتقال من الإنكار إلى الوعي. فالعدو هنا ليس حركة جسدية فقط، بل هو هروب دائم من مواجهة الذات مع نقصها. التوقف هو لحظة مواجهة، لحظة قبول بأن الذات لا تستطيع الاستمرار في مطاردة وهم الاكتمال. الوحش إذن ليس عدوا خارجيا، بل هو المعلم القاسي الذي يجبر الذات على الإصغاء إلى ما كانت تتجاهله.
الرغبة والذاكرة وانزلاق الدوال
تشتغل القصيدة على حركة مستمرة بين الماضي والحاضر والمستقبل، دون أن تستقر في زمن واحد. هذا الاضطراب الزمني يمكن فهمه لاكانيا بوصفه نتيجة لانزلاق الدال. فالمعنى لا يثبت، والذاكرة لا تستعاد بوصفها حدثا منتهيا، بل بوصفها مادة لغوية يعاد تشكيلها في الحاضر. أغاني الصبا التي هربتها عقود الحرب ليست مجرد ذكريات، بل دوال فقدت سياقها الأصلي وعادت مشوهة، محملة بآثار الفقد. صورة الرضيع المتشبث بثدي أمه تستدعي بوضوح مرحلة المرآة، حيث يتكون الإحساس الأولي بالذات عبر صورة خارجية تمنح وهم التماسك. استدعاء هذه الصورة في القصيدة لا يعني حنينا ساذجا إلى الطفولة، بل كشفا عن استمرار الحاجة إلى ذلك الوهم. الذات الراشدة لا تزال تتشبث بلحظات يومها بأصابع رضيع، أي أنها لا تزال تبحث عن طمأنينة رمزية تعوض انقسامها الداخلي. الرغبة في تلوين شروق الغد بلون الغروب تكشف أيضا عن منطق لاكاني دقيق. فالمستقبل لا يُبنى من فراغ، بل من بقايا الماضي. الرغبة لا تتجه نحو موضوع محدد، بل تتحرك باستمرار، مؤجلة إشباعها. لهذا لا تقدم القصيدة وعدا بالخلاص، بل تقدم حركة رغبة واعية بنقصها، راغبة في الاستمرار لا في الاكتمال.
الصمت والإنصات وإعادة كتابة الذات
التحول الجوهري في القصيدة يحدث عند لحظة الاكتشاف. إدراك أن آلاف التفاصيل المرهقة لم تكن مهمة لصنع كتاب الحياة يمثل انهيارا لمنظومة رمزية كاملة كانت الذات تستند إليها. الأحلام، الكتب، الحوارات، الانتظار، كلها كانت دوالا اعتقدت الذات أنها تمنح المعنى، لكنها تكتشف فجأة هشاشتها. قذف هذه العناصر من نافذة الأيام ليس رفضا للحياة، بل رفضا للوهم الذي كان يحجب الإصغاء الحقيقي. النافذة هنا حد فاصل بين الداخل والخارج، بين ما يُرى وما يُقصى. ظهور الوحش من خلالها بالصمت يؤكد فكرة لاكان الأساسية بأن ما يتم تجاهله يعود دائما في صورة أخرى. الرسائل التي بثها الوحش سرا ولم تُسمع تعود الآن بقوة، بعد أن صمت جوق العصافير المعشش في الرأس منذ الولادة. صمت العصافير هو صمت الضجيج الرمزي، صمت الأصوات التي كانت تملأ الوعي دون أن تسمح بسماع الألم الحقيقي. الإنصات إلى نحيب الوحش هو لحظة مواجهة مع الواقعي. ليست لحظة شفاء، بل لحظة صدق. الذات لا تدعي السيطرة، بل تقبل بالإنصات. في هذا القبول يتشكل نوع جديد من العلاقة مع النفس. شحن القلب بالأمل لا يعني إنكار الأنين، بل تنظيمه. الأمل هنا ليس خلاصا، بل إيقاعا يسمح للقلب بالاستمرار. إطلاق سراح القلب والانطلاق متخففة "منه ومني" هو تعبير بالغ العمق من منظور لاكاني. الذات لا تتخلص من ذاتها، بل تتحرر من التماهي الكامل معها. إنها لحظة فصل رمزي تسمح بالعيش دون ادعاء الامتلاء أو الخلود. هكذا تنتهي القصيدة لا بنهاية مغلقة، بل بفتح أفق جديد للوجود داخل النقص.
وفق منهج جاك لاكان، لا تقدم قصيدة باهرة عبد اللطيف حلا نفسيا ولا عزاء أخلاقيا، بل تقدم لغة قادرة على احتواء الانقسام دون إنكاره. التميمة التي تتحدث عنها الشاعرة ليست أداة سحرية للشفاء، بل هي اللغة نفسها، حين تُستخدم لا لتغطية الجرح، بل لتسميته دون ادعاء السيطرة عليه. في هذا المعنى، تصبح القصيدة فضاء يعيد فيه القارئ أيضا علاقته برغباته وألمه وواقعه. إن قوة النص لا تكمن في جمال صوره فقط، بل في صدقه البنيوي. الذات هنا لا تدعي الحكمة ولا البطولة، بل تعترف بإنسانيتها الهشة. ومن خلال هذا الاعتراف، تفتح القصيدة إمكانا نادرا للقراءة لا بوصفها استهلاكا لمعنى، بل بوصفها تجربة إنصات لما يسكننا جميعا، ذلك الوحش الغافي الذي لا يطلب الخلاص، بل الاعتراف.



#إسماعيل_نوري_الربيعي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مالك المطلبي ومحمد خضير: قراءة معرفية في سرد المدينة والحلم
- الضوء الذي يعيد كتابة القصيدة؛ قراءة في قصيدة إيمان بلبلي
- أين يقف اليسار العراقي في لحظة العراق الراهنة؟
- سردية الزمن الجميل: قراءة في مقولة نازك الأعرجي
- الهوس بالسلالة: كيف تحوّل الماضي إلى خرافة هوية معاصرة؟
- إجلال في الوجدان أكثر من المساندة في الصناديق
- الاقتصادي الدولي نوزاد الهيتي؛ قراءة في سيرة اقتصادي مؤثر
- التاريخ والتأويل
- العالم رهن النظرية
- العرب وتفاعلات السلطة والمجتمع


المزيد.....




- يوروفيجن تحت الحصار.. حين تسهم الموسيقى في عزلة إسرائيل
- موجة أفلام عيد الميلاد الأميركية.. رحلة سينمائية عمرها 125 ع ...
- فلسطينية ضمن قائمة أفضل 50 معلمًا على مستوى العالم.. تعرف عل ...
- أفلام الرسوم المتحركة في 2025.. عندما لم تعد الحكايات للأطفا ...
- العرض المسرحي “قبل الشمس”
- اكتمال معجم الدوحة التاريخي للغة العربية.. احتفال باللغة وال ...
- المدير التنفيذي لمعجم الدوحة: رحلة بناء ذاكرة الأمة الفكرية ...
- يعيد للعربية ذاكرتها اللغوية.. إطلاق معجم الدوحة التاريخي
- رحيل الممثل الأميركي جيمس رانسون منتحرا عن 46 عاما
- نجم مسلسل -ذا واير- الممثل جيمس رانسون ينتحر عن عمر يناهز 46 ...


المزيد.....

- مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - إسماعيل نوري الربيعي - القصيدة بوصفها تميمة لغوية ضد وهم الاكتمال؛ قراءة في قصيدة باهرة عبد اللطيف