محمود يعقوب
الحوار المتمدن-العدد: 8569 - 2025 / 12 / 27 - 09:37
المحور:
الادب والفن
لن يكون أدب الروايات البوليسية اليابانية كما هو عليه اليوم لولا إيدوغاوا رانبو، واسمه الحقيقي هيراي تارو ، الذي لا تزال قصصه مؤثرة للغاية في عالم الأدب ، بالإضافة إلى تحويلها إلى أفلام ومسلسلات تلفزيونية ومانغا وأنمي . وتعد إنجازات وأعمال هذا الكاتب الأدبية طليعية وغير تقليدية .
يبدأ الأدب الياباني الحديث مع حركة الانفتاح على الغرب ، ونشاط الترجمة ، لاسيّما ترجمة الأعمال من الإنجليزية إلى اليابانية، وينطبق هذا الأمر نفسه على أدب الجريمة والغموض . إلى جانب الاقتباسات والترجمات المختصرة ، أنتج كتّاب مثل أوكاموتو كيدو، ونومورا كودو مجموعات قصصية خاصة بهم من قصص الغموض التي تدور أحداثها في فترة إيدو [1603-1868]. . وكتب العديد من المؤلفين الأدبيين ، بمن فيهم إيزومي كيوكا ، وأوزاكي كويو ، وأكوتاغاوا ريونسكي ، والأديب الشهير جونشيرو تانيزاكي أعمالاً متأثرة بهذا النوع الأدبي المثير ، مما أشعل حماس رانبو الشاب قبل ظهوره الأدبي ، لكن كتب الغموض كانت تُعتبر عموماً أعمالا ً سطحية في الأوساط الأدبية ، وبينما راح رانبو يقلل من شأن قصصه الخاصة باعتبارها موجهة للأذواق الشعبية ، كان مقتنعا ًفي الوقت نفسه بأنها لا تقل جودة عن الروايات الأدبية .
تُعد أعمال رانبو المبكرة مثل “الكرسي البشري” ، و “المطارد في العلية” ، و “الوحش في الظلال” من بين أشهر أعماله. هذه القصص – التي وُصفت بأنها غريبة أو منحرفة أو تجمع بين الإثارة والغرابة – ترتكز أساسا ًعلى منظور رانبو الفريد وموهبته في استكشاف أعماق النفس البشرية ..
خلال عشر سنوات من النشاط الدؤوب قبل الحرب ، برزت أروع جوانب شخصيته الأدبية . أصبح رانبو كاتبا ً في الوقت الذي كانت فيه الفرويدية وأشكال أخرى من التحليل النفسي تدخل اليابان ، متأثرا ًبهذا العلم الذي يدقق في العقل البشري ، اتخذ الجانب المظلم من الناس ورغباتهم ومخاوفهم مادةً لكتاباته ، على وجه الخصوص ، كتب ببراعة عن متى وكيف يشعر الناس بالقلق والرعب . كان الخوف الذي أثاره دائما ً ذا منشأ إنساني . لم تكن هناك وحوش كما في فرانكشتاين أو ظواهر خارقة للطبيعة مثل الأشباح . كان عالما ً فيه البشر هم أكثر الكائنات رعبـاً .
في عام ١٩٣٠، نشر رواية (شيطان الجزيرة المنعزلة) ، التي تناولت موضوع الحب المثلي بين الرجال . كتابه “كورو توكاغي” (الذي ترجمه إيان هيوز إلى الإنجليزية بعنوان “السحلية السوداء”) عام ١٩٣٤، تم تحويله لاحقـا ً إلى مسرحية من قبل الروائي العظيم ميشيما يوكيو، ولا تزال تُعرض حتى يومنا هذا. في هذه القصة التي تدور حول كنز مخفي ، يواجه المحقق أكيتشي كوغورو السحلية السوداء ، وهي لصّة “أنثى ” مع ذلك ، كما يوضح إيشيكاوا، “كُتبت القصة الأصلية بأسلوب خاص يجعل من المستحيل الجزم بأن السحلية السوداء امرأة. بلغة اليوم ، يمكن اعتبار الشخصية متحولة جنسيـاً . في أعمال رانبو ، توجد أيضا ً شخصيات ذات سمات جسدية “غريبة”، ويبدو أن هذا نابع من اهتمامه بتصوير الأشخاص الذين تختلف دواخلهم عن أجسادهم .
وقد مُنعت قصته “إيموموشي” (ترجمتها : “اليرقة” ) التي نُشرت عام 1929، والتي تتحدث عن رجل يفقد أطرافه الأربعة في المعركة، من النشر عام 1939 من قبل الرقباء في زمن الحرب. بعد ذلك ، لم يتمكن من نشر قصصه. في الوقت نفسه ، يُعرف عنه أنه كتب مقالات لمجلة تابعة للبحرية لم تخضع للرقابة المسبقة. في مقال نُشر عام 1942 بعنوان “إيتاجيما كي” (حكاية إيتاجيما) ، عن زيارة لأكاديمية بحرية ، يوجد مشهد مؤثر فيه شباب “بوجوه وردية” و”جميلة” يعانقون زملائهم الخريجين بدموع حارة ، “كان لدى رانبو ميل للمشاعر الرقيقة للحب بين الأولاد”. لقد تأثر كثيراً برؤيتهم في ذلك الوقت العصيب ، حيث قد يموتون غداً ، ويبدو أنه عبّر بحرية عن ميوله الخاصة هذه .
انتعشت روايات الجريمة بعد الحرب ، بعد أن تم قمعها خلال الصراع باعتبارها مفسدة للأخلاق العامة . رواية رانبو المتسلسلة عام 1936 “كايجين نيجو مينسو” الشيطان ذو العشرين وجهًا” ، جمعت بين أكيتشي كوغورو ( وهي شخصية المحقّق التي اعتمدها رانبو في كتاباته ) وتلميذه الشاب كوباياشي يوشيو. وحققت شعبية كبيرة، تبعتها مغامرات أخرى لكوباياشي ونادي المحققين الصغار التابع له. في فترة ما بعد الحرب، استأنف رانبو السلسلة برواية “الشيطان البرونزي”، التي نُشرت على حلقات منذ عام 1949، واستمرت السلسلة حتى عام 1962، مع ظهور اقتباسات إذاعية وتلفزيونية وسينمائية عديدة لها .
في القصص المبكرة مثل “قضية القتل في تل دي” و”الاختبار النفسي” ، يبدو أكيتشي غير مصقول وغير ناضج ، لكن هذه الصورة تتغير في الأعمال اللاحقة . بحلول زمن سلسلة “نادي المحققين الصغار” ، كان يتمتع بذكاء حضري متطور، وتضمنت السلسلة مطاردات سيارات ومشاهد حركة مثيرة أخرى . لكن الجاذبية الطاغية للسلسلة تنبع ، في المقام الأول ، من الشرير “ذو العشرين وجهاً ” .
يقول أحد الباحثين في أدبه “هناك نوع من فلسفة الشر في عدم قتله أو إراقته للدماء “. كان المؤلف أيضاً أكثر حماساً لتصوير الشخصية الرئيسية في رواية “السحلية السوداء”. بدلاً من أن يكون أكيشي هو البطل، يمكن القول إنه موجود ليسمح للشر بالتألق ” .”
دعم الكتّاب الشباب :
نجح رانبو بأن يقدّم مساهمات كبيرة في أدب الجريمة في اليابان ما بعد الحرب، حتى بعد توقفه عن كتابة القصص والروايات للكبار . وأهم إنجازات رانبو هو اكتشاف ورعاية المواهب الشابة من خلال عمله التحريري في مجلات أدب الجريمة مثل مجلة “هوسيكي”. وكان نجاة منزله في إيكيبو كورو، طوكيو، من القصف الحارق خلال الحرب بمثابة ضربة حظ عظيمة . أصبحت مكتبته مصدراً للمراجع الأساسية لأدب الجريمة في فترة ما بعد الحرب، حيث كان الكتّاب يجتمعون في منزله لاستعارة الكتب ومناقشتها. وقد أدى ذلك إلى تأسيس نادي كتّاب أدب الجريمة، الذي يُعرف اليوم باسم رابطة كتّاب أدب الجريمة في اليابان ” . ”
في مقال نُشر عام ١٩٤٧، كتب رانبو عن اعتقاده بأن أدب الجريمة البوليسية يحتاج إلى شخصية مثل الشاعر الكبير باشو لتطوير هذا النوع الأدبي والارتقاء بمكانته ، تماما ً كما صقل الشاعر باشو فن الهايكو الياباني . لاحقاً ، أشاد رانبو كثيرا ً برواية ماتسوموتو سيشو “تين تو سين” ( نقاط وخطوط )، والتي نُشرت عام ١٩٥٨، قائلاً إن سيشو كان بالفعل “باشو عصره”. عندما توقّفت المجلة التي كانت تنشر رواية سيشو (نقطة الصفر) على حلقات، استؤنف نشر الرواية في مجلة “هوسيكي”، حيث كان رانبو رئيس التحرير ..
تدير جامعة ريكيو حاليا ًمنزل رامبو السابق كمركز إيدوغاوا رامبو التذكاري لدراسات الثقافة الشعبية، وهو مركز مخصص للبحث في أعمال الكاتب . كان رامبو شديد التعلق بالورق والمواد المطبوعة ، وقد احتفظ بجميع أنواع الأوراق، من الرسائل إلى سجلات المشتريات من المكتبات المستعملة. يوجد حوالي 40 ألفا ًمن هذه المواد ، بل وأكثر من ذلك إذا أضيف إليها المذكرات المكتوبة بخط اليد وما إلى ذلك . مع استمرار العمل على ترتيب هذه المواد وتحليلها ، من المؤكد أن تكون هناك العديد من الاكتشافات القيمة. على سبيل المثال، تعاون رامبو مع الشرطة، وساعد في التحقيق في حادثة تيجين عام 1948، ( تشير “حادثة تيجين” وهي حادثة تسمم جماعي سيئة السمعة لم يتم حلها حتى الآن، وقعت في فرع بنك إمبراطوري في طوكيو في 26 كانون الثاني 1948، حيث قام رجل متنكر في زي مسؤول صحة عامة بتسميم موظفي البنك بالسيانيد خلال عملية تلقيح مزيفة ضد الزحار، مما أدى إلى العديد من الوفيات وبقاء القضية لغزاً محيّراً ، مع إدانة الفنان ساداميتشي هيراساوا خطأً على الرغم من احتجاجه على براءته لعقود إذا تمكن العثور على سجلات رامبو من تلك الفترة ، فقد نتعلم شيئاً جديداً .
هناك أيضا ًاهتمام دولي متزايد بأعماله
في السابق، كان يُنظر إلى رانبو غالباً على أنه مقلد لكونان دويل وغيره من كتاب روايات الغموض باللغة الإنجليزية. الآن ، يلاحظ المزيد من الباحثين الشباب جوانب أخرى من أعماله . الكثير منهم مفتونون بالثقافات الفرعية، ويرون ألعاب الفيديو والأنمي والمانغا كجزء من الثقافة اليابانية الأصيلة. يبدو أن رانبو يُنظر إليه على أنه كاتب يمتلك عناصر من الثقافات الفرعية. بعد الحرب، تم تحويل أعماله بانتظام إلى أفلام وبرامج تلفزيونية، ولكن في عصر “مزيج الوسائط” الحالي، أصبحت الاقتباسات في المانغا والأنمي وأشكال أخرى متنوعة أكثر شيوعاً . سيظل رانبو بلا شك يتمتع بشعبية كبيرة ككاتب ومبدع لمحتوى أصلي قابل لإعادة الصياغة بأشكال أخرى ..
ـــ وُلِدَ إيدوغاوا في 21 تشرين الأول من عام 1894 في بلدة ناباري بمحافظة مي ، وهو ابن تاجر كان يمارس المحاماة أيضاً . أمضى معظم طفولته في ناغويا ، لكنه انتقل إلى طوكيو في سن السابعة عشرة من عمره لمتابعة دراسته العليا .التحق بجامعة واسيدا عام 1912 ، وتخصّص في الاقتصاد ، وتخرّج بامتياز بعد أربع سنوات . خلال السنوات الست التالية ، جرّب رانبو الكثير من المهن ، فعمل تباعاً كاتباً في شركة استيراد وتصدير ، ومحاسباً في حوض بناء السفن ، ومساعد محرّر في صحيفة ، ومندوب إعلانات ، وما إلى ذلك ، وفي كثير من الأحيان ، بين الوظائف ، كان يعمل في بيع السوبا ، أو المعكرونة اليابانية ، متنقّلاً بعربته ونافخاً في مزمار بائع السوبا ذي الصوت الغريب ، ليتمكّن من كسب قوت يومه .
#محمود_يعقوب (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟