محمود يعقوب
الحوار المتمدن-العدد: 7549 - 2023 / 3 / 13 - 00:47
المحور:
الادب والفن
أتفهمنـــي ؟
قصة قصيرة ــ محمود يعقوب
إذا قرأت نصّاً من نصوص ( وليام بوروز )* ، فلا بأس من أن تغطّي وجهك من فرط الحياء ؛ هذا ليس من باب النقد والتجريح ، بل هو الحقيقة العارية . هكذا هم جيل القاع الأمريكي جميعاً ، قراءة كتاباتهم أشبه بالسير بين الألغام .
زجّ ( بوروز ) في أعماله الكثير من الكتابة عن المؤخرات ، وقد تحدّث في هذا الصدد على نحو فاضح وصريح ، من دون أن يتلكأ أو يحذر من شيء ؛ بل يمكنني القول أنه تمادى في إشاراته الفظّة ، وتلميحاته الجسيمة . كتب في موضع يقول :
" هل حدثتكم يوماً عن الرجل الذي علّمَ مؤخرته الكلام ؟ كان بطنه يتحرك صعوداً ونزولاً ، أتفهمني ؟ ضارطاً الكلمات ، لم أرَ ذلك مطلقاً في حياتي . كلام تلك المؤخرة كان نوعاً من تردّد في الأحشاء ، تردّد يدفعك للذهاب إلى الغائط ، كأن أمعاءك تضربك في الأسفل ، فتحسّ ببرودة ما تدفعك إلى الإسهال . ذلك الصوت السميك ، الراكد ، ذو الرائحة . عمل الرجل في كرنفال ، أتفهمني ؟ في البدء كان عرضه للدمى الناطقة طريفاً ومضحكاً ، عرض من عروضه " الأفضل " كان مضحكاً للغاية ؛ لقد نسيت معظمه ، لكنه كان ذكياً ، مثل " ما زلت هناك أيها الشيء الطاعن في السنّ ؟ " ، " لا ، كان عليّ أن أقضي حاجتي " . بعد مدّة من الزمن ، بدأت مؤخرة الرجل بالحديث من تلقاء نفسها . كان الرجل يبدأ عرضه بالتكلم دونما إعداد ، وكانت مؤخرته تتكلم وتجيب خارجة عن أي نص مكتوب ، وهي ترتجل الكلام . وفي كل مرّة كانت تسخر منه " .
" ثم نَمّت المؤخرة نوعاً من السنانير الصغيرة المعقوفة ، التي تشبه الأسنان ، وبدأت في تناول الطعام . في بادئ الأمر ، ظن الرجل الأمر لطيفاً ، وأنشأ حوله عرضاً ، لكن المؤخرة مزّقت سرواله ، وبدأت تتكلم في الشارع ، صارخة أنها تريد مساواة في الحقوق ! . كما أنها صارت تخمر ، وتصرخ في نوبات من البكاء أن أحداً لا يحبها ، وإنها تريد أن يتم تقبيلها ، تماماً مثل أي فم آخر . أخيراً تحدّثت المؤخرة ، بلا انقطاع ، ليلاً ونهاراً . أمكنك سماع الرجل يصرخ فيها أن تخرس ؛ يضربها بقبضته ، يغرس الشمع فيها ، لكن من دون جدوى . قالت له المؤخرة " أنت من سيخرس في النهاية ، ليس أنا ، لأننا لا نحتاج إليك هنا أكثر ، يمكنني أن أتكلّم ، وآكل ، وأخرأ " .
على الرغم من أن ( وليام بوروز ) مضى قُدماً وهو يصف ما آل َ إليه أمر الرجل ، وكيف أنه أغلق فمه في نهاية المطاف ، ولم يعد بوسعه قول شيء ، " وكاد رأسه يستأصل بالكامل عفوياً " ؛ إلّا أنه لم يعرض لحال المؤخرة ، بعد تمرّدها ، وتحرّرها من محبسها .
◘◘◘
في ٢ أغسطس من عام ١٩٩٧ نجح ( بوروز ) في أن يموت . لقد فعلها هذه المرّة ، أكثر من المرّات السابقة ، فأغمض عينيه ، وأسبل يديه ، ولم يعد يتنفّس ، أو يشتم روائح الماريجوانا ، أو الحشيش المكسيكي ؛ حتّى إن أخبار تلك المؤخرات ، التي شغلته كثيراً ، غابت عن وعيه .
اعتاد ( بوروز ) ، في نصوصه ، أن يختم الفقرة ، التي حدّدها ، بنقطة ، من غير أن يعود إليها ثانية ، في عمل بعيد عن التكاسل والإهمال . إن ما قام بتحديده هو كافٍ لتوقّع ما سوف تؤول إليه الأمور . وبالنسبة لي ، فإن ما يختفي خلف كلماته ، وما بين سطوره ، قادرٍ على أن يشرح لي الكثير ؛ وأحسب أن الأمر كذلك بالنسبة لأغلب قرّائه المخلصين . ولهذا السبب لم يشغل الكاتب فكره في محاولة الإسهاب ، في كتابة ما سوف تؤول إليه حال تلك المؤخرة النزقة ، التي شقّت عصا الطاعة بإصرار وعناد .
إن تلك المؤخرة الرائدة ، وعقب تحرّرها ، وانزلاقها خارج حمى الأسر ، أعلنت لفورها أنها رسول من رسل الحرية والثقافة الإنسانية ، في عصر ما بعد الحداثة ، وانطلقت من مهدها تنشد الأناشيد التي تحضّ وتؤلب المؤخرات جميعاً على الانعتاق . ، راحت تعتلي المنصات ضارطة الأشعار أبياتاً تلو الأبيات ، من قصائد حماسية بين جماهير غفيرة ، تلهب الدنيا بالصفير والتصفيق . بينما صورها تُغرق صفحات التواصل ، وتضيق بها قنوات التلفزة الحديثة .
لعل بريق الألق الذي أحاطت بها نفسها ، قد أغرى الآلاف االمؤلفة من المؤخرات ، وزيّن لها عالم الانطلاق . في غفلة من التاريخ ، صارت تملأ المقاهي ، والصالونات بدخان سجائرها ، وتزين الحدائق والمتنزهات بهمسها وكركراتها ، وأترعت الميادين ببهجتها . وأسرعت تمضي متبخترة إلى المنتديات . وسرعان ما دلفت عالم السياسة ، وهي تطالب الجميع أن يمحضوها كامل ثقتهم . أخذت تعمل بطاقة مذهلة ، ولربما كان سرّ تلك الطاقة هو الآمال التي تحدو بها لقطف ثمار رغباتها الصريحة ، والغامضة أيضاً . جيوش من المؤخرات الذكرية والأنثوية أمست تدلي بآرائها ، وتعلن عن أفكارها في كل موقع ومكان ، وتنشغل مليّاً بكتابة الخطابات الحماسية ، والتغنّي بشعارات من مثل : " ارفع ذراعك أعلى وأعلى يا تمثال الحرية " ، ومثل : " في كل مكان ستتشابك الفتاة مع الفتاة ، والفتى مع الفتى " .
لم يكتب عن ذلك ( وليام بوروز ) ، ولكنه كان يعرف كل شيء ، أتفهمني ؟ .. لم تكن هذه المؤخرات صبورة ، كانت تقف متململة ، تمدّ أعناقها متشمّمة كأنها خيول في الإسطبل . تترقّب الانطلاق بأقرب فرصة ، ولم يطل بها المقام حتّى اندفعت تنشد السلطة والقيادة ، تريد تغيير العالم ونظمه .. بدا الأمر وكأنه ليس من قبيل الصدفة ، أتفهمني ؟ ..
◘◘◘
أتكهّن أن يستيقظ ( بوروز ) في مضجعه ذات يوم . سوف يصحو من نومه ، كما لو أنه الشيطان : بوجهه المهدود ، وعينيه العصبيتين ، وفيض السخرية الذي يتساقط من بين شفتيه المطبقتين . سيعود من موته هادئاً ، مُعافى ، كما كان يعود من الحجر الصحي كل مرّة . سوف يفغر فمه في عجب ما بعده عجب ، ويرى بأم عينيه ما فعلته تلك المؤخرة الأولى ، التي أطلق لها العنان في كتاباته ، كيف صنعت دولاً ، وحكومات ، وأنظمة . آنئذٍ ، سوف يهرع إليها ، ويمطرها بالقبلات ، وأمام مرأى الجميع ، سيغرز في جانبها الأيسر وسام الفرسان ! . سيفعل ذلك ، لا من باب الاحترام والتقدير لها ، ولا من باب الإعجاب أو الاستحقاق ؛ كلا سيفعل ذلك نكاية بأخيار العالم ، وهو يراهم يقفون من دون اكتراث ، أشبه بالعجزة ، ينظرون بعيون غارقة بالكسل لضياع العالم الجميل من بين أيديهم ، ومن غير أن يحرّك أحد منهم ساكناً ... إنه يعلم جيداً إلى أين تمضي تلك المؤخرات ، وما الذي تريده حقّاً ، فهو ، ورهطه من جيل القاع ، طالما هبطوا على الجانب المظلم من سطح القمر ، أتفهمني ؟ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* : وليام بوروز ( ١٩١٤ ـ ١٩٩٧ ) ، كاتب أمريكي ، وفنان بصري ، ومؤلف ما بعد حداثة رئيسي ، وأحد الشخصيات الرئيسية التي انتمت لجيل البيت ( القاع ) الأمريكي . أثرت مؤلفات ما بعد الحداثة لبوروز على الثقافة الشعبية والأدب في العالم ، وأمريكا على وجه الخصوص .
#محمود_يعقوب (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟