|
من طعن - ابن المقفّع - ، كليلة أم دمنة ؟ قصة قصيرة محمود يعقوب
محمود يعقوب
الحوار المتمدن-العدد: 7162 - 2022 / 2 / 14 - 21:26
المحور:
الادب والفن
الأمر ليس بمثل هذه البساطة !
على الرغم من أن " ابن المقفّع " نجح في ابتكار حيوانات وطيور في غاية الأناقة والجمال ، من خلال طرفته القيّمة ، ( كليلة ودمنة ) ، التي متّعت الأذواق ، والعقول ، والمشاعر ، والأحاسيس ، على مدى الدهور والأعوام . وأطلق تلك المخلوقات الباهرة ، في بادئ أمرها ، في بريّة حاضرة البصرة الفسيحة ، لتعيش حكاياتها الطريفة المحبّبة لكل نفس ؛ وتسكن جوار بعضها بشيء من الألفة .. شيء مهما كان يسيراً من هذه الألفة ، بعيداً عن الأنظار . عاشت ردحاً من الزمن على سجيتها ؛ إلّا أنها سرعان ما سقطت فريسة لأمراض الغل ، والحقد ، والكراهية ، والعداوة . ولم تلبث أن انطفأت الأنوار في صدورها ، وكفّت قلوبها عن الحب .
كثيراً ما نشبت الفتن والاضطرابات واحتدمت الحروب بينها ، بحكم الجشع ، والطمع ، والغيرة ، وطغيان الأنانية . ما انفكّ الكثير من تلك الحيوانات تتساقط قتيلة أو جريحة ، ويتعرّض البعض منها إلى عاهات بليغة تظلّ تقاسيها طوال حياتها ، جراء ما ابتليت به من تلك الأمراض . كانت عرضة لحوادث كارثية خطيرة رغم أنف الكاتب ، حتى أنه وجد نفسه ، بعد لأي ، ينكص ، بخجل ، عمّا بدر منه ، وعمّا صنعت يداه ، وبات يعرض عن ذكر تلك الشخصيات التي افتقرت إلى الحكمة وعفوية الخاطر، وانغمرت في الفتن والحروب ، وسُفكت دماءها أينما حلّت فوق الأرض .
من بين جميع الحيوانات كان هناك ابنا آوى ، يُقال لأحدهما " كليلة " وللآخر " دمنة " . وكانا ذوي دهاء وأدب . وهما خير شاهدين على تلك الخصومات ، والفتن ، والحروب ؛ فقد عُرِفَ كلاهما بتجواله المتواصل وتنقّله الدائم ، فتهيأ لهما الإلمام بتفاصيل كل حادثة ، والدراية بكل شاردة وواردة .
ترافق كليلة مع دمنة في التجوال بحثاً عن الطرائد ، وطلباً لأماكن الانتجاع ؛ فكانا يتنقّلان من ضيعة إلى ضيعة ، ومن مزرعة إلى مزرعة ، ومن أرض إلى أرض . حتى وجدا نفسيهما ، ذات يوم ، عند ضفاف الأهوار والمستنقعات ، التي تمتدّ إلى الشمال من البصرة مباشرة . وكانت تلك المستنقعات تغطّي مساحات على مدّ البصر ، وتغصّ بأسراب غفيرة من أصناف كثيرة من الطيور ، التي تعشّش في نباتاتها الكثيفة . وفي الأدغال الملتفّة من حول ضفافها ، وعاشت هنالك أيضاً جماعات لا تُعدّ ولا تُحصى من الحيوانات . كان هذا المكان مرتعاً خصباً ، ومعيناً لا ينضب . وهو بعد جنة من الجنان بجماله ولطافة أجوائه . وتوطّن ّعزم كليلة ودمنة على الإقامة فيه وعدم مفارقته .
اتخذ كليلة ودمنة مسكناً لهما بعيداً عن شواطئ الماء ، حيث تتزاحم وتصطخب الحيوانات الأخرى ، وحيث يتردّد الصيّادون الخطرون من بني الإنسان عادة . شقّا لهما بيتاً يأويان إليه في أعماق تربة رخوة ، في أجمة تغصّ بالدغل والأشجار الظليلة ، الكثيفة الأغصان . في تلك البقعة حيث تزدحم بأسراب كبيرة من الطيور كان من السهولة بمكان أن يتواريا عن جميع الأنظار. تمتّع كلاهما بصيد وفير في كل الأيام . وفي النهار كانا يجوبان الشواطئ ، ويتنزّهان على امتدادها ، ويلتقيان بالكثير من الحيوانات ، ويستمتعان بقصصها ، وأخبارها .
ذات مساء من مساءات الشتاء ، أوى كلاهما إلى الوكر ، بعد أن اصطادا ألذّ وأشهى الطيور وشبعا من لحومها . ناما مبكّرين ، وفي نومهما كانا متيقظين ومنتبهين . كانت السماء مدلهمة الغيوم ، والتف في أركانها ظلام حالك . لم يكد الهزيع الأول من الليل يمضي ، حتى تناهى لسمعيهما أصوات نعيب راحت تمزّق صمت البطاح ، وحدث اضطراب في الأشجار القريبة منهما ، وأصوات ارتطام بالأرض توحي بتساقط أجسام ، تظل تتقافز على الأرض . وما لبث النعيب أن أمسى ضجّة رهيبة في جوف الليل . فأدرك كليلة ودمنة أن الأمر ينذر بالشر المستطير ، فخرجا من مخبئهما مسرعين لاستطلاع ما يجري من حولهما ، ليجدا أن أعداداً هائلة من البوم كانت تنقض على الغربان التي وَكَنَت في الأشجار القريبة منهما . شاهدا في ذلك الليل أفظع مأساة ، حيث " وقعت البوم على الغربان ، فأكثرن فيهنّ القتل والجراح " ؛ حتى تناثرت الغربان يميناً وشمالاً ، وسقط عدد لا يحصى منها مثخناً بجراحه . كانت معركة رهيبة تقشعر لها الأبدان . واجهت فيها الغربان الهول من نقمة البوم في ليلة عصيبة لم يُشهد لها مثيلاً .
وفي الصباح ، بان المشهد فريداً ومروّعاً ، كانت الأرض مفروشة بجثث الغربان ، ودمائها التي صبغت كل مكان ، وريشها الذي غطّى الأرجاء . حضرت جميع الحيوانات والطيور ، زرافات ووحدانا ، وألقت نظرات ذهول على أرض المعركة ، ورأت بألم ممضّ ، ما لحق بالغربان من كارثة مميتة .
ظلّت الأجمات ، والأدغال تتحدّث عن هذا الشجار الدامي ، وتردّد أصداءه طوال ذلك الشتاء . وعلى الرغم من مضي شهور عليه ، إلّا أن جميع الطيور والحيوانات لم تنسَ ما جرى ، وظلّت تلك القصة المريرة لهجاً على كل لسان .
في صباح أحد الأيام الدفيئة ، وكان هذا بعد مضي وقت طويل على حادث الغربان الأليم ، شرع كليلة ودمنة بالتجوال عند أطراف المستنقعات ، إذ صادفهما عدد من بنات آوى ، فأوقع ذلك سروراً وانبساطاً في نفسيهما ، فقد كان ذلك الموسم هو موسم التزاوج والملذات عندها . سرعان ما تعارفا وتصاحبا معهن ؛ ثم انطلق الجمع يمرح ، ويلعب لاهياً ، حتى انقضى النهار بطوله ، فلجأن جميعاً إلى أطلال وخرائب أثرية قديمة الدهر ، كانت تجثم على ساحل الماء مباشرة ، وقلّما تجرّأ أحد على الولوج إليها آنذاك ، لغموض المكان ، وخوفاً من المفاجئات التي يمكن أن تحدث فيها . اقتحمت بنات آوى تلك الخرائب ، من غير أن تعلم حقيقتها ، واتخذت مواضع لها ، وأخذت تتمتّع بقسط من الراحة .
لم ينتبه كليلة ولا دمنة ، ولا حتى بنات آوى الأخريات ، إلى من كان يكمن متوارياً في أعماق الأطلال وزواياها ، فقد كانت تلك الأطلال ممتلئة بالليل والصمت . لم يراود النوم كليلة أو دمنة ، كانا يثقبان الليل بنظراتهما ، وهما يصغيان إلى الصمت بتوجس لا ينقطع . لم يلبث أن أخذ عدد من البوم كان مختبئاً في أعشاش ، غير ظاهرة للعيان ، ينبثق من أعشاشه الخفية ، وكانت أصوات انطلاقاتها مفزعة . وسرعان ما تبعها أعداد هائلة أخرى ، أثارت عجب ودهشة كليلة ودمنة ، وقد شقّت أسرابها بحر الليل سريعاً . خرجت تبحث عن غذائها لساعات قبل أن تعود إلى أوكانها .
عند الهزيع الأخير من الليل ، قبيل الفجر ، في برودة السماء وسكونها الشامل الخدر ، انفجر على حين غرّة صراخ ونعيب مدوّي من كل جهة في تلك الأطلال . قفزت بنات آوى من محل نومها مرعوبة ، وهي لا تعي ما الذي كان يجري . حتى إذا ما راقبت الأمر من حولها فترة وجيزة ، أدرك كل منهم أن ثمة معركة حامية الوطيس ، بين أسراب من الغربان والبوم ، كانت تدور رحاها .
عند الخيط الأول للفجر ، شنّت الغربان هجومها الانتقامي ، وفتكت بأسراب البوم فتكاً ذريعاً . كان الأمر مفاجئاً للجميع ، حتى أن معشر البوم لم يلحق أن يتهيأ للدفاع عن نفسه ، فأخذ يتساقط كأوراق الشجر من الأعالي . وكانت صغارها تروم الهروب ، لكنها تجد دروب السماء موصدة أمامها بآلاف الغربان الثائرة ، وسرعان ما تسقطها الغربان أرضاً وتفترسها .
لقد أُخذ البوم على حين غرّة ، فقُتِلَ من قُتِل ، وجُرِح أعداد كبيرة منها ، سقطت ترفس على الأرض ، ولم يُكتَب النجاة إلّا لنفر ضئيل ولّى هارباً لا يلوي عل شيء . وفي عجاج المعركة ونقعها سارعت بنات آوى للاختفاء في شق عميق من الأرض ، وهي ترتجف من هول الرعب .
في صبيحة اليوم التالي ، تسنّى لجميع الطيور مشاهدة أثار القتال الضاري عن كثب . كانت الدماء تغطي الأرض ، ومزع اللحم متناثرة في كل مكان ، بينما الريش غمر الأرض كالمطر . كانت مأساة حقيقية ، استطاعت فيها الغربان أن تثأر لنفسها ثأراً ألقى الروع في نفس أكثر الحيوانات شراسة وافتراساً .
♦♦♦♦
أحدثت الحروب ، التي خطّط لها ونفّذها كلّاً من البوم والغربان ضدّ بعضهما البعض ، ردود أفعال بليغة الأثر ، في دواخل الطيور والحيوانات جميعاً ؛ وجعلت عالم البراري ، يتوشّح بالغم والكدر . حتى أن تغاريد الطيور الساحرة أصبحت مُشابة برنّة حزن . وأورثت تلك المعارك الكثير من الأقاويل والإشاعات العارية عن الصحة ؛ وكانت أغلبها محض دسائس مغرضة كانت تدفع بها بعض الحيوانات الخبيثة . العجيب في الأمر أن تلك الأقاويل كانت تجد لها مرتعاً ، وقبولاً حسناً في نفوس الكثير من الطيور والحيوانات ؛ ولا عجب في ذلك ، فهذه الكائنات بلا عقول ، وهي تعمل وتسلك وفق غرائزها ، وما يمليه عليها الآخرون . وكان أخطر تلك الأقاويل ما نال شخصية الرجل الكريم " عبد الله بن المقفّع " ؛ حيث أن ضرباً من الكراهية والحقد ، والكذب الصريح ، صار يُرمى به ذلك الشخص الجليل من دون مسوّغ . شاع الأمر أولاً بين الثعالب ، ثم تلقفه معشر الذئاب ، قبل أن ترمي به إلى بقية المخلوقات الأخرى .
أشيع بين الجميع أن علّة الحروب والمعارك الدموية التي تشهدها البراري يكمن في شخص " ابن المقفّع " ، فهذا الرجل هو من جعل الغربان والبوم على عداء دائم ، وهو من مهّد لسكنها إلى جوار بعضها البعض في ذلك المكان . أظهرت تلك المخلوقات ، في نهاية الأمر ، قدراً من التواء الذهن وانحرافه بحيث سارعت إلى ازدراء سيدها من غير سبب حقيقي يُركن إليه .
ومن الغريب في الأمر أن كليلة ودمنة كانتا ضحية سهلة لمثل هذه التخرصات ، وتلقفتاها على عواهنها كما لو أنها حقائق مسلّم بها . كان الأمر أشبه بدس السم .
ذات يوم ، قصد كليلة ثعلباً هرماً يُدعى " تابو " ، وكان عجوزاً لئيماً ، ذا دهاء ومكر ، وملمّاً بالكثير من الحكايات والقصص . وقف كليلة حياله وسأله :
« سيدي الثعلب ، ما سرّ العداوة بين الغربان والبوم ؟ » .
« السبب قديم العهد يا بني ، وليس وليد البارحة » .
« كيف ذلك ؟ » .
« يُقال أنه في السنوات الغابرة ، جاء صيّاد يصطاد في هذه الأنحاء ، وتربّص لطائر كركي قرب الماء ، ثم أرداه قتيلاً بسهم من سهامه . كان ذلك الكركي هو ملك الكراكي وسيدها الكبير . وبموته أصبحت أسراب الكراكي من دون قائد ؛ فاضطربت أمورها وتردّت أحوالها . ولأجل السيطرة على جموعها ، راح الكبار فيها يبحثون عن ملك لهم ، ولكنهم اختلفوا فيما بينهم وتصادموا ، حتى صار الأمر أخيراً إلى أن يقصدوا ملك البوم الحكيم ، الذي يجاورهم ، ويطلبون منه أن يصبح ملكاً عليهم . وذهبوا إليه يتفاوضون معه في هذا الأمر . ما أن سمعت الغربان ، التي كانت تسكن ، وتعشّش إلى القرب منهم ، بما يجري من حولها ، حتى نهشتها الغيرة ، فهبّ أحد حكمائها ، وكان ينطوي على قدر كبير من مهارة الإقناع ، وأسرع ليجتمع مع الكراكي ، ويوسّوس لها بأن ملك البوم شخص أجنبي وغريب عن الكراكي ، وإذا تسيّدها سوف لن يرحم بها أو يحكم حكماً عادلاً بينها ، ثم ختم أقواله بعبارة فيها الفصل والقطيعة عندما أخبرهم قائلاً " تصوّروا الأمر ، لو حدث لكم مكروه في وضح النهار ، ما الذي يمكن أن تفعلونه والبوم يغطّ في نومه ، وهو يعشو من الضوء لا يكاد يرى شيئاً ؟ .. وكانت رجاحة أقواله كافية لجعل الكراكي تحجم عن البوم . علمت البوم بما حصل ، ومنذ ذلك اليوم اضطرمت نيران العداوة والبغضاء بينهما » .
« ولكن الجميع يقولون أن النار التي أجّجت الحرب بينهما أشعلها " ابن المقفّع " أولاً » .
« بالتأكيد .. بالتأكيد ، إنه مسؤول عن كل ما يجري هنا ؛ مَنْ كتب ( كليلة ودمنة ) ؟ ، أنتما الاثنان ، أم أنا ، أم الجاموس الذي يطفو في عرض المستنقعات ؟ إنه هو " ابن المقفّع " ولا أحد غيره » .
عاد كليلة ليخبر دمنة بهذه الحكاية ، وفي الحال انتشر أمرها بين الجميع ، ليورث ذلك موجة من الكره والغل لشخص " ابن المقفّع " . وقد حدث هذا الموقف الصادم سريعاً ، وكأنه جيء به من مكان آخر . سرعان ما امتلأت تلك المخلوقات بالأحقاد والضغينة ، ولم يعد لديها ما يشغلها سوى أن تزداد حقداً وضغينة . وهكذا وجدوا أنفسهم ، بين ليلة وأخرى ، منزلقين إلى خلاف عميق مع خصمهم المفترض " ابن المقفّع " ، وجراء ذلك غضبوا عليه غضباً لا يُقاس . وكان في بعض الحيوانات والطيور من هو ذو حلم ومروءة ، جعل يتساءل بحكمة قائلاً :
« ما دَخْل ابن المقفّع فيما يحدث بينكم ؟ لو كان الرجل يروم الانتقام منكم لسلّط عليكم حيوانات الغابة المفترسة ، أو الطيور الكبيرة الجارحة ، أ ليس كذلك ؟ . لكنه كان حصيفاً ، مسالماً ، لم يشأ أن يؤلب بعضكم على بعض . إن الحماقة ، وقلة الحيلة والإدراك هي من أودت بكم إلى هذا الدرك الأسفل » .
ولكن الدفاع والحكمة شيء ، والنزق وقلة الحلم شيء آخر ، فقد سرت رياح الكراهية تهبّ من ركن إلى آخر ، تلك الرياح المشحونة بالغضب والتحامل . وتلبّست الجميع فكرة الانتقام . سرعان ما بدوا كارهين إياه . وكانت الذئاب هي من اندفع أولاً ليروّج لفكرة الانتقام قبل غيرها ، بحكم طباع الغدر التي جُبلت عليها . وقد حدث في حفلة خطوبة صاخبة ، أُقيمت بالقرب من وجر بعض الذئاب ، أن تناخت الذئاب لقتل " ابن المقفّع " ، وهي في ذروة هرجها ومرجها ، فتراقصت جميع الحيوانات ، التي دُعِيَت إلى الحفلة ، طرباً لهذه الفكرة الدموية ، والعجيب أن البهجة غمرتها لمجرد ذكر القتل !.
أرادت الذئاب تهيئة الأذهان ، وتطويع نفوس الجميع لفكرة الانتقام ، فبادرت إلى اقتراح الخروج بتظاهرة ينتظم فيها الجميع ، وتساهم فيها أطياف من الحيوانات والطيور . وفي الغد بدأت تعدّ العدّة لهذه الغاية ؛ وراحت تجوب القرى، والدساكر ، والنجوع ، وهي تثير القلاقل واللغط ، وتؤلب الجميع ضد شخص " ابن المقفّع " . وما لبث أن انساق كل حيوان وراء تلك الأقاويل ؛ ولأول مرّة أظهرت البرّية قوتها وتماسكها ، وقد جعل الجميع إيذاء " ابن المقفّع " نصب أعينهم . لم يكن عدد المعارضين لهذه الفكرة ، للأسف الشديد ، سوى نفر طفيف لا يُذكر ، وكان هؤلاء قد أثنوا على " ابن المقفّع " ثناءً عاطراً ، ولكن حتى هذا الثناء كان عرضة للتحريف ! .
بعد أيام قليلة ، انطلقت تلك التظاهرات الحاشدة . طافت في كل الأرجاء القريبة من أوكارهم ، واستمع الجميع إلى الخطب الحماسية ، والشعارات التحريضية ؛ بصورة أوغرت الصدور ، وأترعتها برغبة الانتقام . كانت الذئاب تُرَجّح أن يتعاطف الجميع معها ، وهذا ما حدث حقّاً ، حين أخذت البريّة ، برمّتها تردّد الهتافات الصاخبة . لقد بلغت ردود أفعال من وقف جانباً يتفرّج على هذه التظاهرة ، أن راح يسرف في ذم " ابن المقفّع " ، ويقول :
« لو كان لدى هذا المؤلف ذرّة مروءة لحضر إلى هنا وتفقّد البوم ، وشاهد بأم عينيه ما حلّ بجمعها من كارثة حقيقية » .
العجيب في تلك التظاهرة ، أن الخنازير البريّة تقدّمت الجموع ، وهي تهزّ بمؤخراتها السمينة على وقع الأهازيج ؛ فكان موكبها الظريف قد استثار طيور الإوز ، التي راحت تحلّق فوقها ، وهي تزعق مبتهجة .
وبذل المراسلون مجهوداً لا يُوصف بإرسال تقاريرهم إلى كل الأرجاء ، عن طريق قرع الطبول من مكان لآخر ، كما يفعل الزنوج في الغابات الأفريقية .
في ذلك اليوم ، انكمش كتاب ( كليلة ودمنة ) ألماً ، ولو كان " ابن المقفّع " قد رأى ما يحصل لندم أشدّ الندم على ما خطّت أنامله .
حالما نزل الغسق ، انفضّت التظاهرة ، وأوى كل حيوان إلى وكره . وما أن سكنت قليلاً والتقطت أنفاسها ، حتى بدأ يتراقص أمام عيونها ما هو أسوأ شيء في البراري ؛ إذ عاد الجميع إلى حيوانيتهم المتأصّلة ، وهم يحلمون بأن تغرق أسنانهم في لحم ساخن ، طري . فشرعوا بالبحث عن غذائهم ، تقود بهم غريزة الافتراس .
وكان " ابن المقفّع " ، آنئذٍ ، يقيم في ضيعة لطيفة ، من ضياع مدينة البصرة ، كثيرة النبات والأشجار ، معتكفاً على نفسه ، ومنصرفاً إلى كتاباته ، حينما طلّ عليه خادمه الأمين ، ليخبره بما تناهى لسمعه في شأن الحيوانات والطيور ؛ ولم يتخلّف عن إخباره بتحاملها على شخصه البريء بالقول :
« إنها يا سيدي قد عزمت على النيل منك وقتلك ، وهي ترى أنك سبب كل نازلة تلمّ بها » .
اهتزّ " ابن المقفّع " ضاحكاً من طرافة هذه الأخبار ، وردّ على خادمه يقول :
« بتنا لا نسمع من الكلام غير ما يضحكنا ويثير سخريتنا ، هذه المخلوقات هي طيوري وحيواناتي الجميلة ، دعْها تأتي وتفترسني متى ما طاب لها ذلك » .
ولم يكن الرجل قد حمل هذا الخبر محمل الجد ، ولا تنبّه واحترس من شيء . حتى جاء يوم أخذت فيه تلك الحيوانات تظهر في تلك الأرجاء ، وهي تحوم حول سكن " ابن المقفّع " ، من غير أن تدع أحداً يكتشفها أو يشكّ في أمر وجودها .
في إحدى الليالي المقمرة ، كان " ابن المقفّع " جالساً في حديقة الدار ، وإلى جنبه مصباح زيت متوهّج الضوء ، وهو منكبّاً على المطالعة في مخطوط كبير الحجم . كانت عمّته تقبع إلى القرب منه ، وأنامل كفّه تعبث بشعره الطويل ، المسترسل على جانبي وجهه . كان المصباح الصغير يبعث دخاناً خمري اللون ، ولاح خيط الدخان مثل عرق سوس يخط على لوحة الليل السوداء كلمات ورموز مبهمة تنذر بالشر المستطير . وفجأة ، ومن دون أدنى جلبة ، انطلق غصن شجرة صلب يشبه الرمح القصير تماماً ، من بين طيّات الظلام الذي يلفّ المكان ، في سرعة خاطفة ، لينبت في ظهر " ابن المقفّع " ويطيح به منكفئاً على كتابه ، وهو يطلق صرخة ألم مدوّية ، وراح الدم يشخب من ظهره . تحامل على نفسه ، ورفع جذعه إلى الأعلى ، وهو يستاف الهواء بصعوبة بالغة ، ثمّ التفت ببطء وألم إلى الخلف ، حتى استطاع أن يرى شيئاً يسيراً من قوام عدوّه المتخفي بين الأشجار ، ولكن نباهة " ابن المقفّع " وفطنته يسّرت له تشخيص العدو في الحال ؛ فجحظت عيناه ذهولاً ومرارة ، وهو يرى أجمل حيواناته قاطبة ، كليلة ودمنة .
#محمود_يعقوب (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هاروكي موراكامي في مذكرات أسفاره . محمود يعقوب
-
أن تقرأ ( الأمريكي القبيح ) في العراق . قصة قصيرة
-
المزامير قصة قصيرة
-
الحذاء
-
كفى نواحاً يا هوراكي موراكامي
-
الخروج من سجلماسة
-
بشر الحافي في ثورته الروحية
-
اليقظات قصة طويلة
-
روعة اللمسة الأخيرة / قصة طويلة
-
تحت جسر الهولندي قصة طويلة
-
التاريخ السري للعقرب / قصة طويلة
-
يوميات معتقل سياسي
-
فورة الشكوك
-
الشجرة الرابعة
-
أكاليل حب إلى نقاهة الشاعر خلدون جاويد
-
عصفور الشطرة الكحلي
-
حامل شمعة الحب .. ( سمنون المحب )
-
بائع الصُوَر المقدسة : قصة
-
النوم مُبتَلاّ ً : قصة قصيرة
-
أسرار النجم الغجري
المزيد.....
-
مترجمة إيطالية تعتذر عن ارتباكها في البيت الأبيض.. وميلوني ت
...
-
لحظة محرجة في البيت الأبيض.. مترجمة ميلوني تفقد السيطرة ورئي
...
-
فريد عبد العظيم: كيف تتحول القصة القصيرة إلى نواة لمشروع روا
...
-
جمعة اللامي يرحل بعد مسيرة حافلة بالأدب ومشاكسة الحياة
-
رجل نوبل المسكون بهوس -الآلة العالِمة-: هل نحن مستعدون لذكاء
...
-
لماذا لا يُحتفل بعيد الفصح إلا يوم الأحد؟
-
-ألكسو-تكرم رموز الثقافة العربية لسنة 2025على هامش معرض الرب
...
-
مترجمة ميلوني تعتذر عن -موقف محرج- داخل البيت الأبيض
-
مازال الفيلم في نجاح مستمر .. إيرادات صادمة لفيلم سامح حسين
...
-
نورا.. فنانة توثق المحن وتلهم الأمل والصمود للفلسطينيين
المزيد.....
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
-
عشاء حمص الأخير
/ د. خالد زغريت
-
أحلام تانيا
/ ترجمة إحسان الملائكة
-
تحت الركام
/ الشهبي أحمد
-
رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية
...
/ أكد الجبوري
-
نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر
...
/ د. سناء الشعلان
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
المزيد.....
|