أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - زهير سوكاح - دراسات الذّاكرة والإبادة الجماعية














المزيد.....

دراسات الذّاكرة والإبادة الجماعية


زهير سوكاح

الحوار المتمدن-العدد: 8567 - 2025 / 12 / 25 - 22:47
المحور: القضية الفلسطينية
    


يُنظر إلى دراسات الذاكرة بأنها تعاطٍ مع ما هو غائب (أو بالأخرى مُغيّب) بقدر ما هي دراسة لِما هو حاضر؛ فهي محاولة واعية وحثيثة لملء الفراغات التي يُخلفّها المحو، وكشف اللثام عن "المسكوت عنه". ومع ذلك، نجد أنفسنا اليوم ـ على عتبة نهاية سنة غير هيّنة وبداية سنة جديدة محفوفة بالهواجس ـ أمام مُفارقة أخلاقية ومعرفية كُبرى، تجعلُنا نتسائل كيف يُمكن للحقل العلمي الذي تأسّس أخلاقيًا على أنقاض الهولوكوست، كردّة فعل على الصمت الأوروبي الجمعي تجاه الإبادة، أن يُمارس الصّمت ذاته تُجاه الحرب الإبادية في غزة؟
تأسّست دراسات الذاكرة لمُواجهة ثقافة الصمت التي سادت أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية (سوكاح 2025: 16ـ15). وكان الهدف أنذاك يتمثّل في تحويل الذاكرة من مجرد استذكار عاطفي إلى مسؤولية أخلاقية تمنع تكرار الجُرم. هنا، لا تصير الذاكرة مُجرد استحضار لما حدث، بل هي فعل كشف لكل ما يُراد نسيانه. لكن، حين يجري حصر هذا الحقل في مركزية أوروبية ضيّقة، فإنه يتحوّل بلا شكّ من أداة للتّحرر إلى أداة للانتقائية.
تكمن المُفارقة في أن الإطار النظري الذي يُستخدم لتخليد ذكرى ضحايا الهولوكوست هو نفسه الذي يُعطّلُ أو يُمنع استخدامه اليوم عند الحديث عن غزّة؛ فبينما تطرح دراسات الذاكرة شعار Nie wieder (لن يحدث مُجدّدًا) كقيمة كونية، يبدو أنها في ظرفنا الراهن تُطبّق كقيمة حصرية. أكثر من هذا، تُعامل جريمة الهولوكوست منذ عقود في الأكاديميا الغربية كحدث فريد singulaer لا يقبل المُقارنة، ممّا يجعل أي محاولة لربطه بإبادات أخرى - مثل ما حدث في غزة - تبدو وكأنها تدنيس لهذه الذاكرة، بدلاً من كونها استمرارًا منطقيًا وإنسانيًا للموقف الأخلاقي ضد الإبادة.
إن تجاوز هذه المفارقة يتطلّب إدراك أن الذاكرة الإنسانية ليست حلبة صراع تُلغي فيها ضحيةٌ ضحيةً أخرى، بل هي جسر للتآزر. وهنا تعالت أصوات نقدية من داخل الأكاديميا الغربية ذاتها، لعلّ أبرزها صوت مايكل روثبيرغ الذي طرح مفهوم التّذكر مُتعدّد الاتجاهات (المصدر السابق:65). أوضح روثبيرغ أنّ الذاكرة لا تعمل وفق منطق التّنافس، بل هي أداة تآزر كوني تُتيح للذاكرات المُختلفة أن تُآزر بعضها بعضًًا (المصدر السابق:66). وانطلاقاً من هذا المنظور، نجد أنفسنا بحاجة إلى التّشديد مُجدّدّا على مفهوم الذاكرة الجمعية المُتعدّدة (المصدر السابق: 239ـ242)؛ وهي ذاكرة لا تنكفئ على جرح ذاتي واحد، بل تدرك أن العدالة لضحايا الماضي لا تكتمل إلا بالانتصار لضحايا الحاضر؛ فالذاكرة الحقيقية هي فعل تأزُري كوني، حيث يصبح استذكار بشاعة الهولوكوست قُوّة دافعةً لرفض بشاعة الإبادة في غزّة، وليس ذريعة للصمت عنها. وعليه، فإنّنا نعيش اليوم أزمة بنيوية في دراسات الذاكرة الغربية؛ وهي أزمة في الإرادة الأخلاقية قبل أن تكون في الأدوات البحثية. فقد تحوّلت ذاكرة الهولوكوست في الغرب من ذاكرة ضحية تُقاوم الصمت والنسيان إلى ذاكرة أنظمة ومؤسسات تُستخدم لشرعنة سياسات أحادية مُعيّنة أو لإسكات النقد المُتنامي، ولاسيما في ألمانيا.
وإذا كانت دراسات الذاكرة هي تعاطٍ مع الغياب أو التّغييب كما أسلفنا أعلاه، فإن غياب غزّة عن إنتاجات رُوّاد هذا الحقل هو بحد ذاته جُرم إبستيمولوجي؛ فهذا الصمت ما هو إلا إعادة إنتاج للآلية ذاتها التي سمحت بوقوع إبادات الماضي، أي: تجريد الضّحية من حقّها في أن تُذكر وتُستذكَر. بعد عامين من الحرب الإبادية التي شهدتها غزّة، أصبح صمت حقل دراسات الذاكرة بمثابة إفلاس معرفي، بل وانحيازًا فاضحًا لبنية المحو الاستشراقية. وبالتالي فإنّ ما تفعله غزة اليوم هو أنها تضع دراسات الذاكرة الغربية أمام مرآتها الحقيقية: هل أنتم تدرسون الذاكرة الإنسانية لمنع الإبادة، أم للتّحكم في من يحقّ له أن يكون ضحية لها؟
إنّ الذاكرة الحقيقية هي تلك التي تمتلك الشّجاعة لتجاوز الحدود الاستشراقية، لتعلن أن الإبادة واحدة لا تتجزّأ؛ فلا وجود لإبادة فريدة وأخرى مسكوت عنها. إن كشف اللثام عن المسكوت عنه صار من أسمى أدوار المُثقفين في المجال العام، الذين يتعيّن عليهم - كما قال إدوارد سعيد - أن يعملوا كنوع من الذّاكرة العامّة، أن يتذكّروا ما نُسي أو جرى تناسيه (المصدر السابق: 246)، وإلا فسيغدو هذا الحقل أداةً للتّوظيف الإيديولوجي، يُستدعى فيها ضحايا الماضي لتوفير غطاءٍ أخلاقي لجلادي الحاضر والمُستقبل!

المراجع:
سوكاح، زهير: دراسات الذاكرة في العلوم الإنسانية والاجتماعية. مقاربات وقضايا جديدة، دار خطوط وظلال للنشر – الأردن 2025.



#زهير_سوكاح (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- في النسيان وثقافته
- بيير نورا: مؤرخ الذاكرة وأب -أماكن الذاكرة-
- كلّ كتب هذا العالم / هيرمان هيسه
- الجائزة العربية ويورغن هابرماس: من التواصل إلى اللاتواصل
- في وداع مصطفى ماهر: عرّاب الأدب الألماني
- صيادون على بحر البلطيق روبرت موزيل
- هاينرش هاينه: حينما أمُر بجانب بيتك
- أنت مثل زهرة/ هاينرش هاينه
- أقصوصات مغتربة جدًا- الجزء الثاني
- أقصوصات مغتربة جدًا-الجزء الأول
- الأندلس، المغرب والصحراء: هل تمت ذاكرة حضارية جامعة؟
- نظرية أماكن الذاكرة لبيير نورا: التاريخ الجديد والذاكرة
- نظرية الذاكرة الجمعية لموريس هالبفاكس: التذكر بوصفه ظاهرة مج ...
- قصيدة -توم المسكين- لشاعر البروليتاريا الألمانية غيورغ فيرت
- أقوال هاينية خالدة
- جرائم منسية: ألمانيا وماضيها الاستعماري في إفريقيا
- بنات الرياض في الصحافة الألمانية
- يواخيم كامبه..نضال من أجل -ألمنة- الألمانية!
- قراءة في إصدار ألماني حول الذاكرة والتاريخ في الإسلام
- توم المسكين للشاعر الألماني غيورغ فيرت


المزيد.....




- مصر.. نقل رفات أمير الشعراء أحمد شوقي يثير جدلًا واسعًا وسط ...
- البرهان يجري مباحثات حول السودان مع أردوغان في أنقرة
- دعونا رجلاً إلى منزلنا في عيد الميلاد، فبقي معنا لمدة 45 عام ...
- بعد كشف وثائق جديدة.. ناجية من جرائم إبستين تطالب بتقديم الأ ...
- زيلنسكي يواصل مباحثاته مع الأمريكيين بشأن خطة السلام المعدلة ...
- أردوغان والبرهان يبحثان قضايا التعاون الثنائي
- الأنمي الياباني.. كيف تحوّل من رسوم متحركة إلى ظاهرة ثقافية ...
- نفط فنزويلا.. من بوابة للتعاون مع واشنطن إلى مصدر للصراع
- مقتل 5 في تحطم مروحية على جبل كليمنجارو بتنزانيا
- دليل على القلق.. ناشطون يعلقون على تقرير بشأن الصواريخ النوو ...


المزيد.....

- قراءة في وثائق وقف الحرب في قطاع غزة / معتصم حمادة
- مقتطفات من تاريخ نضال الشعب الفلسطيني / غازي الصوراني
- الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والموقف الصريح من الحق التاريخي ... / غازي الصوراني
- بصدد دولة إسرائيل الكبرى / سعيد مضيه
- إسرائيل الكبرى أسطورة توراتية -2 / سعيد مضيه
- إسرائيل الكبرى من جملة الأساطير المتعلقة بإسرائيل / سعيد مضيه
- البحث مستمرفي خضم الصراع في ميدان البحوث الأثرية الفلسطينية / سعيد مضيه
- فلسطين لم تكسب فائض قوة يؤهل للتوسع / سعيد مضيه
- جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2]. ... / عبدالرؤوف بطيخ
- جبرا نيقولا وتوجه اليسار الراديكالي(التروتسكى) فى فلسطين[2]. ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - زهير سوكاح - دراسات الذّاكرة والإبادة الجماعية