أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - زهير سوكاح - في النسيان وثقافته














المزيد.....

في النسيان وثقافته


زهير سوكاح

الحوار المتمدن-العدد: 8380 - 2025 / 6 / 21 - 14:01
المحور: الادب والفن
    


في كل من الثقافتين العربية والغربية يتبدّى النسيان، بخلاف التذكر، في صورة سلبية؛ فلا يتمتّع النسيان في الثقافة العربية بصورة إيجابية باعتباره من الشيطان بينما يحتل التذكّر مكانة الفضيلة. أمّا في الثقافة الغربية، فيُجسّد النسيان العجز بوصفه "رمزًا للهشاشة" بتعبير ريكور، حيث يظل دائمًا ذاك التهديد المُقلق، الذي يبدو في خلفية فينومينولوجيا الذاكرة وإبستيمولوجيا التاريخ (سوكاح 2025: 188). في نهاية مسرحية فاوست للأديب الألماني غوته، يتبدّى بطلها فاوست شيخًا طاعنًا في السن، ظل تابعًا لمفيستوفليس، الشيطان، الذي أنساه كل ماضيه، لكنه لم يتمكّن من أن ينتزع روح فاوست، لأن العناية الإلهية سبقته في ذلك، وهنا تتصارع في هذه المسرحية قوّتان مُتناقضتان، قوة النسيان متمثلة في مفيستوفليس الشيطان، وقوة الذاكرة المتمثلة بالخالق المنتصر القهّار، ممّا يعكس بوضوح التّصورات الشعبية عن الصراع المفترض بين التذكر والنسيان. غير أن التعاطي الفكري بل وحتى الأدبي مع النسيان لم يكن دائمًا ذا طابع سلبي؛ فقد أكّدت نصوص فكرية وأدبية، عبر العصور، على محورية النسيان في الوجود البشري.
في الأدب الإغريقي، كان هوميروس ربما من أوائل من منحوا تيمة النسيان أهمية كبيرة. ثم انتقلت إلى الرومان، حيث برز أوفيد في تناوله لموضوعة "الحب الليثي" الذي ينبغي أن يُنسى. وهكذا أصبحت تيمات النسيان والموت وتخليد ذكرى الأموات من أكثر الموضوعات شيوعًا في الأدب الغربي، ويبرز دانتي في "الكوميديا الإلهية" كأحد أبرز من خلّدوا ذكرى الأموات، إذ يسعى في رحلته بين الجحيم والمطهر والفردوس إلى تخليد قصصهم في شعره. ويظهر ذلك أيضًا في طلب بعض أهل الجحيم منه تخليد أسمائهم، بينما يفضّل آخرون النسيان، كما كان الحال في القانون الروماني الذي يقضي بمحو ذكرى الحُكّام المخلوعين (نفسه: 190).
تعود جذور تصوّراتنا الثقافية حول النسيان إلى عصور سحيقة؛ فقد كان المصريون القدماء يضعون أزهار النيلوفر في قبور موتاهم كي ينسوا حياتهم على الأرض ويخلدوا إلى الحياة الأخرى كما يقول جمال شحيد (شحيد 2011: 92). وتحتفي الأساطير الإغريقية بنهر ليثي، نهر النسيان في العالم السفلي، حيث ينسى الإنسان أفراحه وأتراحه. ويبدو أن نهر ليثي كان يعجّ بصنوف النسيان، كما يقول الشاعر الروماني فيرجيل. ويقول دانتي عن ماء هذا النّهر أنها تخلّص الروح من ذكرى الخطيئة. بل ويختلق هذا الشاعر نهرًا ثانيًا قرب الليثي، وهو نهر إينوي، نهر الأبرار، الذي يُذكّر الموتى بحسناتهم، التي صنعوها قبل الممات. وقد أدرك ثيميستوكليس أهمية النسيان، متحدثًا عن "فن النسيان" كبديل لفن الذاكرة، وهو ما تمنّى الباحث الألماني هارلد فاينريش أن يتطوّر في عصرنا الحديث، موازيًا لفن التذكّر الذي احتفى به فرانسيس بيتس. ولاحقًا، التقط أمبرتو إيكو هذه الفكرة (1988)، متحدثًا عن فن النسيان في ثوبه المعاصر.
في الأدب الحديث، يُبرِز خورخي لويس بورخيس مخاطر الذاكرة المفرطة من خلال شخصية فونيس في قصة "فونيس الذي لا ينسى" (1942)، حيث يؤدي تراكم التفاصيل إلى عجز بطل القصة عن التجريد والتعميم، فبعد حادثة سقوطه من حصانه وإصابته في الرأس، يكتشف فونيس أنه صار يمتلك القدرة على تذكّر كل شيء بتفاصيل واضحة، وهكذا صار الحاضر لا يُطاق تقريبًا في حدّته وكثافته، تمامًا مثلما هي الذكريات البعيدة والأكثر تفاهة، لدرجة أنه يصف ذاكرته المتضخمة بأنها "كومة نفايات". ترى كيت إيكورن أن نهاية النسيان التام لا بد أن تصحبها أمراض جديدة، وتشير إلى أن بورخيس قد استشرف مبكرًا مخاطر الماضي الذي لا يمكن نسيانه في عصر الأرشيف الرقمي؛ فقد كان بورخيس يعتبر أن النسيان هو شكل من أشكال الذاكرة، بل إنه قاعُها العميق، ووجه الميدالية السّري، ولهذا شبّه النسيان بالساعة الرملية التي تنساب حبات رملها من أعلاها إلى قعرها (سوكاح 2025: 203).
يتكامل النسيان والتذكّر في عمل الذاكرة البشرية؛ فالنسيان ليس مجرد "تعطيل وظيفة" بلغة ريكور، بل هو عملية أساسية ضمن عمليات الذاكرة،. وترى إيكورن أن النسيان، من منظور أكاديمي، قد أصبح يحيل إلى تعريفات وتفسيرات لا تُحصى، تتنوع عبر التخصصات وداخلها. وفي هذا الصّدد تصف الباحثة الإيطالية إلينا إسبوزيتو النسيان بأنه وظيفة ضرورية لبقاء الإنسان، إذ لولاه لكان العقل مثقلاً بالأحداث، عاجزًا عن التجريد والتعميم. وقد سبق أن تنبّه كل من فريدريش نيتشه ومارتن هايدغر إلى هذه الوظيفة الحيوية للنسيان. فقد كتب نيتشه: "من الممكن أن نعيش من دون ذكرى تقريبًا، بل أن نعيش سعداء، لكن من المستحيل أن نستمر في الحياة من دون نسيان." أما هايدغر، فيٌصرّ على أن "التذكّر لا يكون ممكنًا إلا على أساس النسيان، وليس العكس"؛ بالنسبة له، النسيان ليس محوًا فوريًا للخبرة البشرية، بل هو الأفق الخلفي الذي يقيّد الحاضر الذي نفهم فيه أنفسنا (نفسه: 188).

المصادر:
جمال شحيد، الذاكرة في الرواية العربية المعاصرة، بيروت ـ لبنان: المؤسسة العربية للدراسات والنشر 2011.
زهير سوكاح: دراسات الذاكرة في العلوم الإنسانية والاجتماعية: مقاربات وقضايا جديدة. عمان ـ الأردن: دار خطوط وظلال للنشر 2025.



#زهير_سوكاح (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بيير نورا: مؤرخ الذاكرة وأب -أماكن الذاكرة-
- كلّ كتب هذا العالم / هيرمان هيسه
- الجائزة العربية ويورغن هابرماس: من التواصل إلى اللاتواصل
- في وداع مصطفى ماهر: عرّاب الأدب الألماني
- صيادون على بحر البلطيق روبرت موزيل
- هاينرش هاينه: حينما أمُر بجانب بيتك
- أنت مثل زهرة/ هاينرش هاينه
- أقصوصات مغتربة جدًا- الجزء الثاني
- أقصوصات مغتربة جدًا-الجزء الأول
- الأندلس، المغرب والصحراء: هل تمت ذاكرة حضارية جامعة؟
- نظرية أماكن الذاكرة لبيير نورا: التاريخ الجديد والذاكرة
- نظرية الذاكرة الجمعية لموريس هالبفاكس: التذكر بوصفه ظاهرة مج ...
- قصيدة -توم المسكين- لشاعر البروليتاريا الألمانية غيورغ فيرت
- أقوال هاينية خالدة
- جرائم منسية: ألمانيا وماضيها الاستعماري في إفريقيا
- بنات الرياض في الصحافة الألمانية
- يواخيم كامبه..نضال من أجل -ألمنة- الألمانية!
- قراءة في إصدار ألماني حول الذاكرة والتاريخ في الإسلام
- توم المسكين للشاعر الألماني غيورغ فيرت
- إلى ديوتيما فريدريش هولدرلين


المزيد.....




- يونس عتبان.. الاستعانة بالتخيل المستقبلي علاج وتمرين صحي للف ...
- في رحاب قلعة أربيل.. قصة 73 عاما من حفظ الأصالة الموسيقية في ...
- -فيلة صغيرة في بيت كبير- لنور أبو فرّاج: تصنيف خادع لنص جميل ...
- باللغة الفارسية.. شيخ الأزهر يدين استمرار الغارات الإسرائيلي ...
- “اخر كـلام “موعد عرض مسلسل المؤسس عثمان 195 الموسم السابع في ...
- فيلم -المخطط الفينيقي-.. كم تدفع لتصبح غنيا؟
- حرارة الأحداث.. حين يصبح الصيف بطلا صامتا في الأفلام
- -بردة النبي- رحلة كتاب روائي في عقل إيران الثورة
- تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك 2025 بتحديثه الجديد على النايل ...
- قصة الرجل الذي بث الحياة في أوليفر تويست وديفيد كوبرفيلد


المزيد.....

- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - زهير سوكاح - في النسيان وثقافته