أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عزالدين بوغانمي - رسالة إلى العقلاء في السلطة وفي الاتّحاد الاتحاد العام التونسي للشغل: ركيزة الدولة المهدّدة !















المزيد.....

رسالة إلى العقلاء في السلطة وفي الاتّحاد الاتحاد العام التونسي للشغل: ركيزة الدولة المهدّدة !


عزالدين بوغانمي
(Boughanmi Ezdine)


الحوار المتمدن-العدد: 8566 - 2025 / 12 / 24 - 11:06
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


يمرّ الاتحاد العام التونسي للشغل اليوم بأخطر أزمة داخلية في تاريخه المعاصر، تتقاطع فيها هشاشة القيادة، وانسداد الأفق التنظيمي، وخصومة صامتة مع سلطة لا تبدو واعية بحجم المخاطر التي يطرحها انهيار هذه المنظمة. فغياب الاتحاد، أو تفكّكه، لن يخلّف فراغًا محايدًا، وإنما سيفتح المجال أمام ظواهر اجتماعية غريبة وغير متوقّعة، تتخذ أشكالًا من التسيّب والانفلات، وحتى العنف، وستجد الدولة صعوبة كبيرة في مواجهتها أو احتوائها.

وفي لحظة كهذه، لا يدور النقاش حول صراع مواقع أو أشخاص، بل نحن حقيقة أمام مسألة تتعلّق بمنظمة هي جزء من جينات الدولة، وأحد أعمدتها التاريخية في نفس الوقت.

لذلك لا بدّ من العودة إلى التاريخ، لا للتمجيد ولا للتبرير، بل لتذكير هؤلاء وأولائك، ما الذي يعنيه الاتحاد في تونس، ولماذا لا يمكن العبث به دون كلفة وطنية باهظة.

1/ اتحاد الشغل محصّلة الكفاح ضد الاستعمار.

ولدت نواتات الحركة العمالية التونسية إثر دخول الاستعمار، وتحوّل تونس إلى مستعمرة سنة 1881 تحت عنوان "الحماية".
أدّى تسرّب الرأسماليّة إلى بلادنا، إثر دخول الآلة، فتغيرت طرق الإنتاج تدريجيا. وانتشر نظام الأجرة، وتوسّع تقسيم العمل..

تنحدر النواة الأولى للطبقة العاملة التونسيّة من أبناء الريف المفقرين والنازحين إلى المدن والقرى المنجميّة ومن صغار الحرفيين والصنايعية الذين قضت عليهم المزاحمة الأجنبيّة فضلا عن أفواج العاطلين. وتجمعت تلك النواة في الصناعة الاستخراجيّة بالمناجم (مناجم الفسفاط في منطقة قفصة والقلعة الجرداء. ومناجم الرصاص والحديد بالجريصة. وملاحات تونس وسوسة وغيرها) والخدمات (النقل والموانئ والوظيفة العمومية) والضيعات الكبرى وصناعة مواد البناء والأشغال العامة والصناعات التحويلية (مثل الصناعات الغذائية كالمعاصر ومصانع الصابون والمطاحن)، وفي المؤسسات الصناعية الكبرى مثل ترسخانة فريفيل ومصنع التبغ.
يبدو أنّ تنوّع الشرائح الاجتماعية التي تعرضت للتفقير والتهجير بعد استيلاء المعمّرين على الأراضي، هو الذي جعل التجارب النقابية الثلاثة تشمل شرائح عديدة. حيث ضمّت عمال الزراعة وعمال الصناعات والعمال في قطاع الخدمات والموظفين. ولكن أيضا الحرفيين والتجار الصغار والفلاحين قبل أن يستقلّوا باتّحادات خاصة بهم.

هذا الطابع الشعبي المعادي للاستعمار الذي ميّز الحركة العمالية منذ الولادة، سيكون له تأثير مباشر على الدور الذي لعبه اتحاد الشغل على المستوى السياسي. وهو الذي أعطاه ثِقَلًا بشريًّا مكّنه من احتلال موقع قيادي في الحركة الوطنية. ذلك أن الفئات الاجتماعية التي انخرطت في النضال النقابي، هي كل ذلك الجمهور الواسع الذي كان فريسة آفتين مُتراطتين: الاضطهاد الطبقي والاضطهاد العنصري. فقد كان التوانسة في مرتبة دونية بعد الفرنسيين وباقي الأوروبيين التمتّعين بامتيازات مادية ومهنية ومعنوية. فهم يتقاضون أجورا أرفع ومنحا أكثر، إضافة إلى الامتيازات المختلفة مثل منحة الثُّلث الاستعماري والتسهيلات في السكن الخ...
ورغم مشاركة العمال التونسيين في الحركة الإضرابية التي اندلعت في السنوات الأولى من القرن العشرين (1900، 1904، 1909، 1919، و1920 الخ). ورغم انخراطهم في النقابات المنضوية في الكنفدرالية العامة للشغل (الس. ج. ت)، لم يجدوا فيها النّصير الحقيقي لمطالبهم بسبب طابعها الاستعماري العنصري. لذلك سعوا دائما إلى تأسيس نقابات تونسية مستقلة.

إذن، كما هو واضح، تأسّست النقابات التونسية على أساس وطني. إذ كانت فكرة محمد علي الحامي: "إن العملة التونسيين انتبهوا اليوم من غفلتهم وشاهدوا أنهم لم يربحوا أبدا أيّ شيء من انضمامهم لجمعية اتّحاد الشغل الفرنسوية، فأرادوا تكوين جمعية اتّحاد وحدهم بصفتهم أمة لها ذاتية، ثم تنضم بعد ذلك إلى إحدى الجمعيات العالمية بصفتها قسما تونسيا مستقلا. ولا يستفاد من هذا أن جمعيتنا التي أسسناها هي إسلامية محضة أو ملّية، بل هي تسعى وراء ضم كل العملة، وتقبل في عضويتها الإيطالي والفرنساوي على السواء كالتونسي..."

في هذا السياق يُغفل الدارسون مسألة كفاحية في غاية الأهمية. وهي كون جامعة عموم العملة افتكّت حقّ تأسيسها خارج قوانين الاستعمار. ففي ذلك الوقت لم يكن هناك قانون يسمح للتوانسة بتأسيسها، خلافا لذوي الجنسية الفرنسية الذين كانوا يتمتعون بالحق النقابي بمقتضى قانون سنة 1884. ولن يصدر أمر يعترف بذلك الحقّ في تونس إلا سنة 1932. وهذا يعني أن محمد علي ورفاقه لم ينتظروا تأشيرة من الإدارة الاستعمارية لتأسيس الجامعة..

التقت مصلحة السلطة الاستعمارية الحريصة على التفوق الفرنسي، وأحزاب اليمين، والحزب الاشتراكي واتحاد النقابات، وأعضاء القسم التونسي في المجلس الكبير، لِوَأْد التّجربة النّقابية النّاشئة. وأُحيل ستة من قيادييها على المحاكمة بتهمة المؤامرة ضدّ أمن الدّولة الدّاخلي ومناصرة الشيوعية، وسُلّطت عليهم أحكام قاسية.

أُعيد إحياء جامعة عموم العملة التونسيّة من جديد سنة 1937 على أيدي رفاق محمد علي، الذين بقوا أحياء، وعلى رأسهم بلقاسم القناوي. لكن هذه التجربة الثانية لم تدم الا بضعة أشهر...

تغيّرت الأوضاع بعد الحرب العالمية الثانية. ونجح فرحات حشاد في تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل سنة 1946 في ظرف صعب، حيث كان المستعمر يسعى إلى إحكام ربط المستعمرات بالإمبراطورية الفرنسية من خلال مشروع "الاتحاد الفرنسي". فكان تأسيس الاتحاد العام التونسي للشّغل تكسيرًا سياسيا ورمزيًّا لذلك المشروع الاستعماري.

لقد دأب النقابيون في تونس اليوم على وصف نضال الاتحاد من أجل المطالب السياسية بالبعد الوطني. والحقيقة أن لهذه المسألة جذور بعيدة في عقيدة الاتّحاد منذ النّشأة والتّأسيس. ففي محاضرة ألقاها فرحات حشّاد بباريس أمام طلبة شمال أفريقيا (20 ديسمبر 1946) يقول متحدثا عن المناضلين النقابيين ودورهم إنهم "يقومون بكفاح مزدوج ضد رأس المال وضد الاستعمار الغاشم". وفي سنة 1948 كتب ما يلي: "الحركة النقابية التي تأسست لتنظم صفوف العمال، إنما هي حركة ترمي لتحرير الطبقات العاملة من براثن الاستعمار". ويقول أيضا "إنّ منظمتنا لا تخوض في المسائل السياسيّة الّا تَجنُّبا لأسباب الاختلاف الفكري، التي تتبع المسائل الحزبية، والتي من شأنها أن تعود بالتفرقة بين صفوف العمال. ولكن هناك مسائل وطنية هامة هي موضوع اتفاق الجميع يتحتم علينا أن نسير على ضوئها وأن نسعى لتدعيمها وتصويبها".
كما نجد إشارة إلى البعد السياسي في القانون الأساسي للاتحاد آنذاك في فصله الثاني: "الدفاع عن الحريات الديمقراطية العامة والحقوق الطبيعية للفرد". ومن المعلوم أن الاتحاد طالب في أفريل 1949 ب"برلمان وطني منتخب وبحكومة ديمقراطية". كما نجد تشديد الجامعة العامة للموظفين في ذلك الوقت على الطابع الوطني لمطالبها. ففي سنة 1948 طالبت ب"أن تتوفر الجنسية التونسية لدى جميع موظفي الدولة التونسية الذين تعيّنهم السلط التونسية دون غيرها وأن يستخدم الأجانب كمتعاقدين لمدة معينة عند الحاجة. وبإجبارية استعمال اللغة العربية في المناظرات الإدارية باعتبارها اللغة الرسمية الوحيدة".
وفي مؤتمر أفريل 1949 طالب الاتحاد ب"تأميم المؤسسات الكبرى ذات المصلحة العامة وبمقاومة البطالة والتعليم الإلزامي".
وفي سنة 1951 طالب المؤتمر الرابع ب"إدخال إصلاحات هيكلية على الحياة الاقتصادية والاجتماعية مثل تجهيز البلاد صناعيا وتوزيع الأراضي على الفلاحين".
وسيصبح الموقف من الاستعمار ومن المطالب لوطنية أكثر وضوحا وتجذّرا في هذا المؤتمر (مارس 1951) حيث أكد أن "خدمة القضيّة القومية واجبنا الأول" وقال خلاله حشاد في مداخلته: "لا سبيل إلى تحقيق هدف واحد من أهدافنا النقابية، إلا إذا بدّلنا النظام السياسي الاستعماري المنافي للمصلحة الوطنية بنظام اقتصادي وسياسي وطنيّ بحت".

وفي مؤتمر 1956 طالب بوضع مخطط للتنمية الاقتصادية والاجتماعية تتمحور حول فكرة تكوين التعاضديات. وكانت هذه أبرز محطة في هذا المسار السياسي، حين طرح برنامج اقتصادي سنة 1951 (قبل استشهاد حشّاد) تم تقديمه للمؤتمر السادس للاتحاد في سبتمبر 1956. وهذا البرنامج المتمحور حول سياسة التعاضد، سيتحول إلى برنامج حكم عندما تولى الأمين العام للإتحاد، أحمد بن صالح، كتابة الدولة للتخطيط والمالية سنة 1961.

هذا علاوة على إدارة معركة التحرير على الأرض، من خلال الإضرابات العامة كإضراب 21-22-23 ديسمبر 1951 . وإضراب 1 فيفري 1952 احتجاجا على عمليات التمشيط والقمع في الوطن القبلي وإضراب 1 أفريل 1952 احتجاجا على تردي أوضاع الحريّات، وعلى ممارسات المقيم العام تجاه السلط التونسية ك(إبعاد أربعة من الوزراء التونسيين بمن فيهم محمد شنيق الوزير الأكبر إلى الجنوب، والضّغط على الباي لسحب الشكوى ضدّ فرنسا أمام مجلس الأمن). وفي غياب القيادة السياسية التي وقع تشتيتها في السجون والمنافي، تكفلت قيادة الاتحاد بتنظيم المقاومة ضد الاستعمار، سواء كانت في شكل مظاهرات، أو مقاومة مسلحة (تأسيس المنظمة الخاصة المسلحة على يد الزعيم أحمد التليلي الأمين العام السابق).

2/ الاتحاد شريك أوّل في بناء الدولة.

لا يختلف إثنان حول دور الاتحاد في بناء الدولة كهياكل وكمضامين سياسية وتشريعية. فهذه مسألة معروفة، ويكفي التذكير بأنه في أول حكومة مباشرة بعد الاستقلال، تولى عدد من النقابيين حقائب وزارية هامة، ومسؤوليات عالية في الدولة: مصطفى الفلالي وزير الزراعة، الأمين الشابي وزير التعليم ، عزالدين عباسي وزير الأشغال العامة، محمود خياري وزير البريد والبرق والهواتف. علاوة على محمود المسعدي، أحمد التليلي، أحمد بن صالح، والحبيب عاشور ... وآخرون كأعضاء المجلس التأسيسي والديوان السياسي للحزب في نفس الوقت.

3/ إقصاء اتحاد الشغل يُعادل دخول الدولة في معركة ضد نفسها، وضد المجتمع.

عندنا شواهد كثيرة تؤكّد ارتباط نجاح سياسة الدولة وفشلها بموقف الاتحاد من تلك السياسات، وموقعه من المآلات. فعلى سبيل المثال، عام 1955، لما انفجر الصراع بين جناح الحبيب بورقيبة مدير الحزب الدستوري الذي ينادي ـ بسياسة المراحل وبمبدأ خذ وطالب- وبين جناح صالح بن يوسف الأمين العام للحزب الذي كان ينادي "بمواصلة الكفاح المسلح" ومبدأ ـالتحرير الكامل-، وجد الاتحاد العام التونسي للشغل نفسه مجبرًا على المشاركة في الصراع الداخلي للحزب الدستوري، لأنّه صراع له علاقة بمصير البلاد، ولا يحتمل الحياد. وما كان لبورقيبة أن يحسم الصراع ويجتاز أكبر أزمة شهدها حزبه في تاريخه، دون التحالف مع الاتحاد.

الشاهد الثاني، لما قرّر بورقيبة في مؤتمر بنزرت سنة 1964، تحويل المنظمات الوطنية إلى خلايا تابعة لحزب الدستور، ورفض الحبيب عاشور ذلك القرار،، متمسكا باستقلالية الاتحاد، واندلعت الأزمة الأولى سنة 1965، والتي أعتبرها أخطر منعرج على الإطلاق شهدته البلاد، سيكون له بالغ الأثر على كل المسار اللاحق. فعلى إثر تلك الأزمة، دخل النظام في مواجهة مفتوحة مع شعبه من خلال قمع انتفاضات الفلاحين، ومع بقايا اليوسفية التي عادت من جديد. وولدت المعارضات القومية واليسارية. وتبيّن أن نظام الحكم بات عاجزا على حلّ خلافاته دون قمع حتى مع أنصاره. وسرعان ما فشلت تجربة التعاضد. تلاها انقسام الحزب الحاكم في مؤتمر المنستير 1971، ثم انقلاب مؤتمر قربة الطلّابي وحلّ اتحاد الطلبة، وبداية ولادة التيار اليساري الرّاديكالي الذي سيكون له تأثيره الخاص على جميع الأحداث اللّاحقة، منها أن هذا التيار سيُجذّر معركة استقلالية الاتحاد، ويحسمها، ويحولها إلى ركن أساسي في وعي النّقايين.

في إطار مواجهة أزمة مطلع السّبعينات، عاد النظام للتحالف مع الاتحاد بإعادة الحبيب عاشور. وبذلك تمّ تمرير قانون 1972، الذي شكّل أساس سياسة الانفتاح والعنوان الأول لنهج حكومة الهادي نويرة.
شهدت البلاد نوعا من الاستقرار من سنة 1973 إلى غاية ديسمبر 1977، تاريخ اندلاع الأزمة الثانية (أزمة الخميس الأسود 26 جاني 1978). وعلى امتداد فترة التوتّر والشدّ والجذب بين الاتحاد والحكومة، لم يكن هنالك استقرار، ولا تطور ولا رخاء.
ضُرِب الاتّحاد، وزُجّ بقيادته في السّجون، بعد سقوط المئات من القتلى والجرحى، وجيء بالتيجاني عبيد الموالي للسلطة على رأس المنظمة. واستمرت أزمة النظام في مواجهة المعارضات التي تدفّقت واحتلت ذلك الفراغ دُفعة واحدة في وضع من الخلل وعدم التوازن : التيارات اليسارية، التيار الاسلامي، التيار القومي، حركة الوحدة الشعبية، حركة الديمقراطيين الاشتراكيين، الحزب الشيوعي، شرعِيي الاتّحاد العام التونسي.

كان الوضع الداخلي في أسوأ أحواله، وربّما بسبب ذلك جاءت أحداث قفصة لتضع نظام بورقيبة أمام تهديد مُسلّح، يقف وراءه العقيد القذافي، الرّجل الذي يأوي كل أنواع المرتزقة، ويملك أطنانا من السّلاح الرّوسي، وأموال البترول الطائلة، والكثير من التهوّر. فحاول النظام ترميم الجبهة الداخلية من خلال إعادة الشّرعيين للاتحاد في مؤتمر قفصة (بإستثناء الحبيب عاشور)، والدخول معه في تحالف مُخاتل. رُفِع الحظر على عدد من الأحزاب، ونودِي إلى الانتخابات التشريعية التعددية الأولى في تونس. شارك فيها حزب الدستور ضمن جبهة مع الاتحاد العام التونسي للشغل، حركة الديمقراطيين الاشتراكيين متحالفة مع الاتجاه الاسلامي، حركة الوحدة الشعبية، الحزب الشيوعي، والمستقلين.
تمّ تزوير الانتخابات طبعًا. وتواصلت الأزمة. وتحت ضغط النقابيين، سيُرفع الاستثناء عن الأمين العام السابق للاتحاد. غير أنّ جراح 26 جانفي لن تندمل أبدًا.
اندلعت انتفاضة الخبز في 3 جانفي 1984، وكان النقابيون في قلب المعركة. فاتُّهم الاتّحاد بالوقوف وراء الأحداث. وفي السنة الموالية هوجِمت مقرّاته بميليشيات الحزب الحاكم، وأُحيل عدد كبير من قيادته على المحاكمات الجائرة خلال النصف الثاني من سنة 1985، وجيء بالشُّرفاء. وعاد الاضطراب. فجُنّدت أعداد مهولة من الطلبة ليُرمى بهم في محتشد رجيم معتوق. ولُوحِقت جميع العائلات السياسية أمام محاكم أمن الدولة بالتوازي مع تمرير برنامج الإصلاح الهيكلي. وبلغت أوضاع البلاد ذروة التدهور عام 1987 الذي انتهى بالإطاحة بالرئيس بورقيبة عبر انقلاب قاده الجنرال بن علي، مُستبقًا انفجار الشارع.

4/ الاتحاد قطعة من تونس يستحيل حذفها.

خُلاصة القول، عندما نتحدث عن الأدوار السياسية التي لعبها الاتحاد في تاريخ تونس، لا نقول ذلك من باب النّوستالجيا، ولا من باب تبرير تدخّله في السياسة اليوم، ولا بمنطق المزايدات السّخيفة. بل لكي نُبيّن للنّاس من خلال وقائع التاريخ أن هذه المنظمة تستمدُّ قوّتها من ظروف نشأتها، من ثقلها البشري، من دورها في تحرير البلاد، من مشاركتها في بناء الدّولة، من اندماجها في المسار السياسي للبلاد منذ اليوم الأوّل. ومن عدة عوامل أخرى جغرافية وثقافية، لها علاقة بصغر مساحة البلد ومحدودية موارده، بتنوع النسيج الصّناعي، بتطور قطاع الخدمات، بحجم الطبقة الوسطى، بتلاؤم الخلفية الاجتماعية مع معطيات الثروة والبعد الديمغرافي، بنسبة الفقر، بنسب البطالة... وكل هذه العوامل مجتمعة، هي من جهة مهد ولادة الاتّحاد وتربته الحاضنة واتجاه تطوّره، ومجال شغله واختصاصه، ومبرّر انغراسه في حياة التوانسة، وجوهر قوانينه. ومن جهة أخرى جعلت هذه العوامل من اّتحاد الشّغل جزء من النّظام العام، ومحور توازن الدّولة وركن استقرار المجتمع.

أبني على ما تقدّم، وأختم:

تعيش المنظمة الشغيلة اليوم أزمة عميقة لم تنشأ فجأة، ولم تفرضها عوامل قاهرة، وإنما انتهت إلى هذه اللحظة الحرجة نتيجة خيارات سياسية وتنظيمية خاطئة تراكمت عبر الزمن. وقد انقضت عمليًا مرحلة تدارك تلك الخيارات أو تفصيلها أو الخوض في أسبابها، ولم يعد في استعادتها اليوم أي جدوى. فالمرحلة الراهنة لا تحتمل نقاش الماضي، وإنما تفرض تحمّل المسؤولية كاملة تجاه المستقبل.
ولو توفّر حدّ معقول من الذكاء والمسؤولية التاريخية لدى بقية أعضاء المكتب التنفيذي، لكان القرار الطبيعي هو الإعلان الفوري عن موعد مؤتمر استثنائي عام في أقرب الآجال، ثم الانسحاب من الباب الكبير، حفاظًا على وحدة المنظمة، وصونًا لإرثها، وتفاديًا لتشظّيها. إنّ التشبّث بالمواقع في ظرف كهذا تعبير عن عجز سياسي وتنظيمي، ولا يوفّر حماية للاتحاد، وإنما يدفع به خطوة إضافية نحو المجهول.
وعلى النقابيين جميعًا إدراك أنّ طبيعة هذه الأزمة، في سياق سياسي استثنائي ومختلّ، تجعلها أخطر أزمة وجودية يمرّ بها الاتحاد منذ تأسيسه. فكلّ محاولات الالتفاف، أو الترقيع، أو إدارة الأزمة بعقلية الوقت الضائع، ستقود حتمًا إلى كارثة كبرى تطال منظمة مُنهكة، مُعطّلة، ومستنزَفة منذ سنوات.
كما يتعيّن الانتباه إلى مسألة بالغة الخطورة: فالسلطة هذه المرّة تفتقر إلى سياسيين قادرين على وقف النزيف عبر التسويات، ولا يبدو أنها تدرك حجم المخاطر التي قد تتهدّد الدولة نفسها في حال انهار الاتحاد. إنّ التعامل مع ضعف المنظمة أو أزمتها بارتياح، أو النظر إليها كفرصة لتحييدها، تحت وطأة الحسابات الضيّقة، هو خطأ تاريخي ستكون كلفته وطنية وشاملة.



#عزالدين_بوغانمي (هاشتاغ)       Boughanmi_Ezdine#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الاختلاف، التسامح، وحدود المشترك في الدولة الحديثة
- قراءة نقدية في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي (2025–2030): ...
- وثيقة -الوصاية الجزائرية المزعومة- كيف نفهمها؟
- مأزق الرّمز في ذاكرة الشعوب، إضاءة على رسالة السيد منذ الزنا ...
- الانقسام داخل الفضاء العام في تونس: هل هو انعكاس لاختلاف سيا ...
- التوانسة فرّوا من حركة النهضة، وليس من الديمقراطية
- ملاحظات حول مسيرة 17 ديسمبر 2025
- لن يُهزم الاستبداد من داخل الوصاية والتحالفات السامّة
- خرافة الأيام الأخيرة: أو صناعة الوهم
- حول أزمة الاتحاد العام التونسي للشغل
- قصة من تاريخ تونس، أو درس في هندسة السلطة
- توازن الرهانات الخاطئة: بين السلطة والاتحاد والمعارضة، لعبة ...
- المشترك الوطني ودوامة الفشل الديمقراطي: الجزء (الثالث)
- من المحاصصة إلى الشعبوية: مسار تآكل الشرعية الديمقراطية في ت ...
- من المحاصصة إلى الشعبوية: مسار تآكل الشرعية الديمقراطية في ت ...
- العقلانية كشرط للسيادة: تونس بين صخب الشعارات ومتطلبات الدبل ...
- تصنيع -الحقيقة- واستراتيجية إعادة تشكيل الوعي
- بين السلطة والاتحاد: هشاشة الداخل ومساحات النفاذ الأجنبي
- السيادة الوطنية
- عوامل سقوط النظام


المزيد.....




- فيديو متداول لـ-اشتباكات الأمن السوري وفلول الأسد باللاذقية- ...
- هل تحتاج بريطانيا إلى إعادة تعريف -الإسلاموفوبيا- لحماية الم ...
- ديربي عربي اليوم بين الجزائر والسودان في مستهل مشوارهما بالك ...
- زلزال بقوة 6.1 درجات يضرب جنوب شرقي تايوان
- زينة عيد الميلاد تضفي أجواء احتفالية على دمشق
- مقتل قائد الجيش الليبي- تركيا تعثر على الصندوق الأسود للطائر ...
- الوحدة الشعبية في اربد يقيم حفل استقبال بالذكرى الخامسة والث ...
- قانون طارئ في فرنسا لتجنب إغلاق حكومي بعد فشل إقرار ميزانية ...
- -كلنا في إقامة جبرية-.. المعارضون في تنزانيا يتخوفون من تزاي ...
- كأس الأمم الأفريقية 2025: الجزائر والسودان يتواجهان وساحل ال ...


المزيد.....

- الوثيقة التصحيحية المنهجية التأسيسية في النهج التشكيكي النقد ... / علي طبله
- الطبقة، الطائفة، والتبعية قراءة تحليلية منهجية في بلاغ المجل ... / علي طبله
- قراءة في تاريخ الاسلام المبكر / محمد جعفر ال عيسى
- اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات، ... / رياض الشرايطي
- رواية / رانية مرجية
- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - عزالدين بوغانمي - رسالة إلى العقلاء في السلطة وفي الاتّحاد الاتحاد العام التونسي للشغل: ركيزة الدولة المهدّدة !