أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - هاني الروسان - الأكاديمي والبحث عن السلطة: صراع الضمير مع انتهازية الهوى















المزيد.....

الأكاديمي والبحث عن السلطة: صراع الضمير مع انتهازية الهوى


هاني الروسان
استاذ جامعي مختص بالجيوبوليتيك والاعلم في جامعة منوبة ودبلوماسي

(Hani Alroussen)


الحوار المتمدن-العدد: 8566 - 2025 / 12 / 24 - 11:05
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


في العادة ينبثق السؤال عن العلاقة بين الاكاديمي والسلطة من سؤال الفساد أو الخيانة والانتهازية، في حين ان حقيقته هي انبثاق من توترٍ بنيويّ أعمق بين موقعين متعارضين في الجوهر: موقع المعرفة بوصفها فعلَ فهمٍ ونقد وحراسة مشددة على النقاء النظري، وموقع السلطة بوصفها فعلَ تقريرٍ وتملّك وموائمة للخروج بأقل الخسائر. فالأكاديمي، بحكم اشتغاله على المجرد والمفاهيمي، يميل عادة الى الاحتماء بعلوية النظرية وحدّيتها وقدسيتها، لا فقط كأداة للتحليل، بل كدرع رمزي يقيه من مساءلة الواقع، ويمنحه شعورًا بالتفوّق على الفاعلين فيه. غير أن هذا الاحتماء نفسه قد يتحول، في لحظة ما، إلى منفذ ناعم نحو السلطة، ليس من خلال التخلي عن الفكرة، بل عبر توظيفها بوصفها شهادة طهارة أخلاقية ومعرفية متعالية على واقع السلطة في راهنيته تلك.
من هنا ومن هذا المعنى بالذات فان النظرية، لا تبقى دائما بريئة، خاصة عندما تتحول من أفقٍ تجريدي لفهم العالم إلى لغة مغلقة يُستبعد بها الآخرون، لانها ستفقد وظيفتها النقدية وتغدو أداة تعالٍ، وهنا يلتبس النقد بالاستعلاء، ويُستبدل السجال المعرفي بإيماءة تفوّق أخلاقي، يصبح معها الأكاديمي أقرب إلى حارس حقيقة مطلقة منه إلى باحث في شروطها، وهذا التموقع الفوقي هو ما يسمح لاحقًا بتبرير القرب من السلطة، إذ إن من يعتقد أنه يمتلك الحقيقة الكاملة فانه سيرى في نفسه أحقية تقرير مصائر الآخرين، ولو باسم الإصلاح.
غير أن الانزلاق الحقيقي لا يبدأ عند باب السلطة، بل قبل ذلك بكثير، حيث يتمركز في وعي او لاوعي الاكاديمي عند مستوى الرغبة. فهو لا يدخل مجالات صناعة القرار فجأة، بل انه يُغري السلطة أولًا بصفته الفكرية، وبقدرته على منحها شرعية رمزية عبر خطاب يبدو في ظاهره نقديًا، لكنه في العمق يقدّم نفسه وسيطًا بين الفكرة والقوة، بين الأخلاق والقرار. فهكذا تُغازَل السلطة لا باعتبارها موضوع مساءلة، بل باعتبارها أفقًا “ضروريًا” لتجسيد الفكرة. وفي هذه اللحظة، تتحول المعرفة من أداة كشف إلى أداة تبرير.
والأخطر في هذا المسار أن الأكاديمي لا يشعر غالبًا بأنه خان دوره وانه لا يتخلى عن المفاهيم، ولا يتنازل عن اللغة النقدية، بل يعيد توجيهها، بحيث تبقى الفكرة حاضرة، ولكنها تُفرغ من بعدها الإزعاجي، وتُروَّض كي تصبح قابلة للتداول داخل جهاز السلطة.
وفي هذه المساحة الرمادية بالضبط يتصارع الضمير مع الهوى: ضمير المعرفة الذي يفترض المسافة، وهوى التملك الذي يغريه القرب والنفوذ وممارسة القدرة على التأثير المباشر. وغالبًا ما يُحسم الصراع لصالح الهوى، باسم الواقعية السياسية أو “الإصلاح من الداخل”.
في هذا السياق، تكتسب إحالة عبد الله العروي دلالة خاصة، حين شبّه دور الفقيه بدور الحارس على الفكرة، وأحال الدولة إلى موقع الراعي لا المالك للمعنى، حيث كان كان يؤسس لفصلٍ دقيق بين المعرفة والسلطة وبين المبادئ والقيم من ناحية وبين اعادة انتاجها لملائمة الواقع من جهة اخرى. فالفقيه لا يحكم، ولا يقرّر، بل ينبه، يحدّ، ويضع الإطار المفهومي الذي يمنع انزلاق السلطة إلى العمى. واتساقا مع هذا التصور - القابل للنقاش- فان الأكاديمي، ليس أميرًا للفكرة، بل خادمًا لها، ومسؤوليته لا تكمن في فرضها، بل في صون شروط إمكانيات تحققها.
غير أن هذا الدور يتآكل حين يختلط الموقعان. فالأكاديمي الذي يطمح إلى ممارسة السلطة لا يعود قادرًا على لعب دور الفقيه، لأنه يفقد المسافة التي تتيح له النقد الحقيقي الذي يخدم شروط تحقق الفكرة ويستبدله بخطاب تلفيقي انتهازي، لانه كلما اقترب من مركز صناعة القرار، ضاق هامش الحقيقة التي يستطيع قولها دون كلفة.
ومن هنا يتكشف وهم “التأثير من الداخل”؛ إذ غالبًا ما يكون الثمن المدفوع لهذا التأثير هو الصمت الانتقائي، أو النقد المؤجَّل، أو تحويل القضايا البنيوية إلى تفاصيل تقنية، خاصة في السياق العربي، حيث لا تعمل السلطة بوصفها جهازًا مؤسساتيًا محايدًا، بل كحقل ولاءات، ورأسمال رمزي، وآليات احتواء. ولذا فان الاكاديمي في مثل هذا السياق، لا يُستدعى غالبًا لمساءلة القرار، بل لتزكيته، أو لإضفاء مسحة عقلانية على اختيارات محسومة سلفًا، ويتحول الخبير إلى شاهد زور معرفي، لا لأنه يكذب صراحة، بل لأنه يُعيد ترتيب الأسئلة بما لا يحرج البنية القائمة. وهنا تتخلق المطارحات التبريرية وتتخذ انتهازية الهوى شكل “الواقعية”، ويُقدَّم التنازل عن النقد الجذري بوصفه فهمًا لتعقيدات المرحلة.
والمؤسف ان الامر هنا لا يقتصر على استدعاء الأكاديمي بصفته الفردية، بل يتخذ شكل هندسة حقل معرفي كامل، يُعاد فيه إنتاج الجامعة ومراكز البحث بوصفها مخازن بشرية للخبراء القابلين للتوظيف، حيث لن يُطلب من هؤلاء إنتاج معرفة مُقلقة، بل معرفة قابلة للإدماج، سريعة الاستهلاك، ومصاغة بلغة تقنية تُخفي الأسئلة السياسية خلف معادلات إجرائية. هكذا يتكوّن ما يشبه جيشًا من الأكاديميين النفعيين، لا يجمعهم مشروع فكري، بل قابلية دائمة للانتقال من موقع “التحليل” إلى موقع “الخدمة”، ومن النقد المشروط إلى التبرير الوظيفي.
في هذا السياق، يُعاد تعريف القيمة الأكاديمية لا على أساس القدرة على زعزعة المسلمات، بل على أساس المرونة، والقدرة على التكيّف مع خطاب السلطة، وتدوير المفاهيم بما يناسب حاجاتها الظرفية. وتتحول الانتهازية من سلوك معيب إلى مهارة مهنية، ويغدو الصمت الانتقائي شكلًا من أشكال الذكاء السياسي. أما الأكاديمي الذي يصرّ على موقعه النقدي، فيُنظر إليه بوصفه غير “قابل للتوظيف”، أي غير صالح للدخول في منظومة النفوذ، مهما بلغت صرامة تحليله أو عمق اشتغاله النظري.
بهذه الطريقة، لا تُحتوى المعرفة بالطرق الخشنة، بل عبر دفع الاكاديمي الانتهازي لاستبطان حاجات واساليب السلطة نفسها. فمن طول الاحتكاك بها ومحاولات التقرب منها، يتعلّم لغتها وحدودها، وما يمكن قوله دون كلفة، وما يجب تدويره أو تأجيله. بل ويتحول النقد إلى مهارة تكتيكية، لا إلى موقف، وتغدو المعرفة وسيلة تموضع داخل خرائط النفوذ بدل أن تكون أداة مساءلة، وهنا لا يعود الأكاديمي ضحية احتواء، بل فاعلًا في إعادة إنتاج منطق السلطة. فهو يكيّف فكرته مسبقًا، ويعيد صياغة أسئلتها على مقاس القبول لا على مقاس الحقيقة، فتتشكل انتهازية أكاديمية لا تقوم على الخضوع الصريح، بل على ذكاء انتقائي يجعل من الخطاب النقدي جواز مرور نحو مواقع القرار مع امكانية حفظ خطوط للرجعة عبر آلية نقد تجعله احيانا فوق الجميع.

هاني الروسان / استاذ الجيوبوليتيك والاعلام في جامعة منوبة



#هاني_الروسان (هاشتاغ)       Hani_Alroussen#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرهان الاوروبي على الصبر الاوكراني قد لا يجني الا السراب
- المناصفة الاستراتيجية: كيف تصوغ القوى الإقليمية النظام الدول ...
- معادلة التصعيد الإسرائيلي في الضفة الغربية: الاحتواء النشط و ...
- استمرار الانكشاف الأمني ل -حزب الله ودلالاته على جاهزيته الق ...
- قمة بن سلمان ترامب الاحتمالات الاكثر ترجيحا
- عندما تتغيّر سوريا... هل يتغيّر الشرق الأوسط
- الدور التركي في الترتيبات الامريكية لما بعد الحرب على غزة
- السلام الامريكي للشرق الاوسط في معادلة الصراع على الهيمنة
- بعد مرور عامين على حرب الابادة في غزة: ماذا بقي من النظام ال ...
- اذا رغبت السعودية استطاعت
- الفيتو الامريكي السادس: واقعية القوة واعادة انتاج الهيمنة
- بيان قمة الدوحة: الادانة الشديدة وانعدام الاليات
- قطر بين صدمة الواقع والرهان على الوهم
- صدقية الاعتراف بالدولة الفلسطينية رهين بحماية السلطة ووقف حر ...
- نفس الاهداف ونفس النتائج: منع تأشيرة الرئيس ابو مازن يعيد لل ...
- اسرائيل ابنة الكذبة لا تستمر في البقاء الا بقتل الحقيقة
- هل يكفي التسويق الكلامي التركي للعب دور اقليمي؟؟
- ضرورات ما بعد الاعتراف بالدولة الفلسطينية
- اسرائيل لن توقف الحرب على غزة التي تدحرجت من انتقامية الى تأ ...
- هل تكون السويداء مخبر القادم؟؟


المزيد.....




- من استهداف إيران إلى توبيخ زيلينسكي.. هذه مقاطع فيديو CNN ال ...
- هبوط تلقائي لطائرة في حالة طوارئ.. سابقة هي الأولى من نوعها ...
- هل 2025 هو عام الفساتين العارية والمكشوفة؟
- مشاهد من حول العالم.. رسالة مؤثرة لأول عيد ميلاد للبابا لاون ...
- القلق مستمر على حياة الفهد.. أزمات صحية صعبة واجهها فنّانون ...
- مقتل محمد الحداد والوفد المرافق، ما تفاصيل حادثة تحطم الطائر ...
- مقتل -الطرماح- يعيد فتح ملف -القادة الهاربين-.. هل يؤوي لبنا ...
- الهندي للجزيرة مباشر: المقاومة حسمت موقفها بشأن تسليم السلاح ...
- ?آلام الأسنان الشديدة قد تنذر بأزمة قلبية
- ?ارتفاع الكوليسترول الضار.. المخاطر والعلاج الدوائي


المزيد.....

- الوثيقة التصحيحية المنهجية التأسيسية في النهج التشكيكي النقد ... / علي طبله
- الطبقة، الطائفة، والتبعية قراءة تحليلية منهجية في بلاغ المجل ... / علي طبله
- قراءة في تاريخ الاسلام المبكر / محمد جعفر ال عيسى
- اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات، ... / رياض الشرايطي
- رواية / رانية مرجية
- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - هاني الروسان - الأكاديمي والبحث عن السلطة: صراع الضمير مع انتهازية الهوى