هاني الروسان
استاذ جامعي مختص بالجيوبوليتيك والاعلم في جامعة منوبة ودبلوماسي
(Hani Alroussen)
الحوار المتمدن-العدد: 8552 - 2025 / 12 / 10 - 08:52
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
المناصفة
إن النظر إلى التحولات في سياسات وتحالفات بعض الدول الاقليمية المؤثرة كالتزامن الذي يجري حاليا في التحولات في المحور السعودي-الأمريكي وفي العلاقة الهندية-الروسية لا يمكن اختزاله في كونه مجرد تقاسم للنفوذ بين واشنطن وموسكو، بقدر ما يمكن ان يحون ارهصات لانعكاس حيوي لتشكل نظام عالمي يتجه بسرعة نحو التعددية القطبية، حيث لم تعد القوى العظمى قادرة على فرض هيمنتها المطلقة على مختلف تفاعلات وحدات النظام الدولي، الامر الذي يخلق هامشا واسعا امام القوى الإقليمية الكبرى لتفعيل ما يمكن تسميته بـ "الاستقلال الاستراتيجي" عبر استراتيجية "المناصفة الجيوسياسية المتقدمة" (Advanced Geopolitical Hedging). فما يحدث اليوم سواء في الشرق الاوسط او اوروبا واسيا لا يمكن النظر اليه باعتباره نوع من اتفاقات ما تحت الطاولة بين دول اقطاب قيادة النظام الدولي بقدر ما هو نتيجة حتمية لتآكل النفوذ الحصري للقوى العظمى، حيث تستغل القوى الإقليمية التنافس الحاد بين هذه القوى لتحقيق مصالحها القصوى في شبكة عالمية معقدة من العلاقات، أصبحت فيه كل دولة عقدة مركزية تسعى لتعظيم قيمتها.
فالتقارب المعلن بين واشنطن والرياض، والذي شمل وعودًا بأسلحة متقدمة مثل طائرات إف-35 ومساعدة في برنامج نووي مدني، لا يمثل عودةً سعوديةً كاملةً إلى حظيرة أمريكا بقدر ما هو مناورة بارعة ضمن تحالف مرن ومشروط. الرياض تدرك أن هذه الأهداف الاستراتيجية الحيوية لأمنها وتطلعاتها التنموية (رؤية 2030) التي تهدف إلى التحول الاقتصادي والتقني في عالم ما بعد النفط لا يمكن تحقيقها إلا عبر بوابة واشنطن حاليًا، وهي تستغل في ذلك حاجة الإدارة الأمريكية الماسة لاحتوائها بعيدًا عن بكين وضمان إتمام مشروع الهيكلية الإقليمية الجديدة المتمثل في التطبيع مع إسرائيل. ولذلك، تضع المملكة شروطها الصارمة، وعلى رأسها التقدم نحو إقامة دولة فلسطينية، لتجعل من نفسها شريكًا ذا ثمن، وليس تابعًا يمكن الإملاء عليه. هذا النموذج من البراغماتية المتشددة والمناصفة الذكية يشبه إلى حد كبير ما تفعله تركيا، كعضو في الناتو، عندما تشتري منظومة الدفاع الصاروخي إس-400 من روسيا، وتجري مناورات عسكرية مع أذربيجان وإيران، وهي بذلك تفرض على شركائها الغربيين الاعتراف بضرورة تحقيق أمنها القومي بمعزل عن أولوياتهم.
وفي موازاة ذلك، تمثل العلاقة الهندية-الروسية دليلًا آخر على هذا التحول البنيوي نحو عالم "الشبكة"؛ فالهند، التي تعزز شراكتها العسكرية والتكنولوجية مع واشنطن في إطار حلفاء المحيط الهادئ، تصر في الوقت ذاته على تعميق تعاونها مع موسكو في مجالات الدفاع والطاقة والنووي، متجاهلة الضغوط الغربية المتعلقة بحرب أوكرانيا. هذا الإصرار الهندي على تنويع مصادر أمنها وتقنيتها وتعظيم خياراتها في مواجهة كل الأقطاب لا يُعد حيادًا سلبيًا، بل هو "فن إدارة الدولة" بامتياز، يهدف إلى ضمان عدم ارتهان قرارها السياسي أو أمنها القومي لطرف واحد.
ويمكن رؤية هذا المنطق يتكرر في إندونيسيا والبرازيل، كقوتين إقليميتين صاعدتين ضمن مجموعة البريكس، حيث تحافظان على علاقات تجارية واستثمارية واسعة مع الصين بينما يتلقيان استثمارات أمنية وتكنولوجية من الغرب، وكلاهما يرفض الانضمام إلى العقوبات ضد روسيا. إن وجود الصين كقطب اقتصادي وعسكري منافس وفر لهذه الدول، ولغيرها، رهاناً بديلاً ومساحة مناورة أوسع، مما سرّع من زعزعة نمط الولاءات التقليدية. هذا التوازن الدقيق يمنح هذه الدول ورقة مساومة كبيرة تجعلها قادرة على انتزاع أفضل الشروط من جميع الأطراف المتنافسة، رغم ما يحمله ذلك من مخاطر عدم الاستقرار وارتفاع ثمن أي خطأ دبلوماسي.
إن الفكرة التي يجب الخروج بها هي أن القوى الإقليمية قد اكتسبت هامشًا كبيرًا من المناورة في بيئة عالمية متشققة. ففي حين تنشغل الولايات المتحدة بتحدياتها الداخلية ومعركة أوكرانيا والمنافسة مع الصين، وتعمل روسيا على إعادة بناء تحالفاتها خارج الفضاء الغربي، تتوافر مساحات شاسعة للقوى الإقليمية لملئها. هذه القوى لا تسعى للانضمام إلى معسكر واحد، بل تسعى لتصبح نقطة تقاطع لا يمكن تجاوزها في الشبكة الدولية الجديدة، وهذا ما يمنحها قوة استراتيجية هائلة. هذا المشهد هو بالتأكيد ليس "تقاسمًا"، بل هو تعقيد بنيوي في ميزان القوى، حيث باتت المصالح المباشرة والبراغماتية في إطار "تحالفات سياقية" مؤقتة تخدم كل منها مهمة محددة تتقدم على الالتزام الأيديولوجي أو الانحياز لأي قوة عظمى، مما يرسم ملامح عالم "متعدد الأقطاب" لم يعد فيه لأي أحد نفوذ حصري على حلفائه، ويتعين فيه على القوى العظمى "كسب" شركائها في كل ملف على حدة، في ديناميكية أكثر فوضوية ولكنها أكثر واقعية في التعبير عن موازين القوى الفعلية في القرن الحادي والعشرين.
هاني الروسان/ استاذ الاعلام في جامعة منوبة
إن النظر إلى التحولات في سياسات وتحالفات بعض الدول الاقليمية المؤثرة كالتزامن الذي يجري حاليا في التحولات في المحور السعودي-الأمريكي وفي العلاقة الهندية-الروسية لا يمكن اختزاله في كونه مجرد تقاسم للنفوذ بين واشنطن وموسكو، بقدر ما يمكن ان يحون ارهصات لانعكاس حيوي لتشكل نظام عالمي يتجه بسرعة نحو التعددية القطبية، حيث لم تعد القوى العظمى قادرة على فرض هيمنتها المطلقة على مختلف تفاعلات وحدات النظام الدولي، الامر الذي يخلق هامشا واسعا امام القوى الإقليمية الكبرى لتفعيل ما يمكن تسميته بـ "الاستقلال الاستراتيجي" عبر استراتيجية "المناصفة الجيوسياسية المتقدمة" (Advanced Geopolitical Hedging). فما يحدث اليوم سواء في الشرق الاوسط او اوروبا واسيا لا يمكن النظر اليه باعتباره نوع من اتفاقات ما تحت الطاولة بين دول اقطاب قيادة النظام الدولي بقدر ما هو نتيجة حتمية لتآكل النفوذ الحصري للقوى العظمى، حيث تستغل القوى الإقليمية التنافس الحاد بين هذه القوى لتحقيق مصالحها القصوى في شبكة عالمية معقدة من العلاقات، أصبحت فيه كل دولة عقدة مركزية تسعى لتعظيم قيمتها.
فالتقارب المعلن بين واشنطن والرياض، والذي شمل وعودًا بأسلحة متقدمة مثل طائرات إف-35 ومساعدة في برنامج نووي مدني، لا يمثل عودةً سعوديةً كاملةً إلى حظيرة أمريكا بقدر ما هو مناورة بارعة ضمن تحالف مرن ومشروط. الرياض تدرك أن هذه الأهداف الاستراتيجية الحيوية لأمنها وتطلعاتها التنموية (رؤية 2030) التي تهدف إلى التحول الاقتصادي والتقني في عالم ما بعد النفط لا يمكن تحقيقها إلا عبر بوابة واشنطن حاليًا، وهي تستغل في ذلك حاجة الإدارة الأمريكية الماسة لاحتوائها بعيدًا عن بكين وضمان إتمام مشروع الهيكلية الإقليمية الجديدة المتمثل في التطبيع مع إسرائيل. ولذلك، تضع المملكة شروطها الصارمة، وعلى رأسها التقدم نحو إقامة دولة فلسطينية، لتجعل من نفسها شريكًا ذا ثمن، وليس تابعًا يمكن الإملاء عليه. هذا النموذج من البراغماتية المتشددة والمناصفة الذكية يشبه إلى حد كبير ما تفعله تركيا، كعضو في الناتو، عندما تشتري منظومة الدفاع الصاروخي إس-400 من روسيا، وتجري مناورات عسكرية مع أذربيجان وإيران، وهي بذلك تفرض على شركائها الغربيين الاعتراف بضرورة تحقيق أمنها القومي بمعزل عن أولوياتهم.
وفي موازاة ذلك، تمثل العلاقة الهندية-الروسية دليلًا آخر على هذا التحول البنيوي نحو عالم "الشبكة"؛ فالهند، التي تعزز شراكتها العسكرية والتكنولوجية مع واشنطن في إطار حلفاء المحيط الهادئ، تصر في الوقت ذاته على تعميق تعاونها مع موسكو في مجالات الدفاع والطاقة والنووي، متجاهلة الضغوط الغربية المتعلقة بحرب أوكرانيا. هذا الإصرار الهندي على تنويع مصادر أمنها وتقنيتها وتعظيم خياراتها في مواجهة كل الأقطاب لا يُعد حيادًا سلبيًا، بل هو "فن إدارة الدولة" بامتياز، يهدف إلى ضمان عدم ارتهان قرارها السياسي أو أمنها القومي لطرف واحد.
ويمكن رؤية هذا المنطق يتكرر في إندونيسيا والبرازيل، كقوتين إقليميتين صاعدتين ضمن مجموعة البريكس، حيث تحافظان على علاقات تجارية واستثمارية واسعة مع الصين بينما يتلقيان استثمارات أمنية وتكنولوجية من الغرب، وكلاهما يرفض الانضمام إلى العقوبات ضد روسيا. إن وجود الصين كقطب اقتصادي وعسكري منافس وفر لهذه الدول، ولغيرها، رهاناً بديلاً ومساحة مناورة أوسع، مما سرّع من زعزعة نمط الولاءات التقليدية. هذا التوازن الدقيق يمنح هذه الدول ورقة مساومة كبيرة تجعلها قادرة على انتزاع أفضل الشروط من جميع الأطراف المتنافسة، رغم ما يحمله ذلك من مخاطر عدم الاستقرار وارتفاع ثمن أي خطأ دبلوماسي.
إن الفكرة التي يجب الخروج بها هي أن القوى الإقليمية قد اكتسبت هامشًا كبيرًا من المناورة في بيئة عالمية متشققة. ففي حين تنشغل الولايات المتحدة بتحدياتها الداخلية ومعركة أوكرانيا والمنافسة مع الصين، وتعمل روسيا على إعادة بناء تحالفاتها خارج الفضاء الغربي، تتوافر مساحات شاسعة للقوى الإقليمية لملئها. هذه القوى لا تسعى للانضمام إلى معسكر واحد، بل تسعى لتصبح نقطة تقاطع لا يمكن تجاوزها في الشبكة الدولية الجديدة، وهذا ما يمنحها قوة استراتيجية هائلة. هذا المشهد هو بالتأكيد ليس "تقاسمًا"، بل هو تعقيد بنيوي في ميزان القوى، حيث باتت المصالح المباشرة والبراغماتية في إطار "تحالفات سياقية" مؤقتة تخدم كل منها مهمة محددة تتقدم على الالتزام الأيديولوجي أو الانحياز لأي قوة عظمى، مما يرسم ملامح عالم "متعدد الأقطاب" لم يعد فيه لأي أحد نفوذ حصري على حلفائه، ويتعين فيه على القوى العظمى "كسب" شركائها في كل ملف على حدة، في ديناميكية أكثر فوضوية ولكنها أكثر واقعية في التعبير عن موازين القوى الفعلية في القرن الحادي والعشرين.
هاني الروسان/ استاذ الاعلام في جامعة منوبة
#هاني_الروسان (هاشتاغ)
Hani_Alroussen#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟