أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض سعد - استمرارية كابوس الثعابين السبعة














المزيد.....

استمرارية كابوس الثعابين السبعة


رياض سعد

الحوار المتمدن-العدد: 8564 - 2025 / 12 / 22 - 09:09
المحور: الادب والفن
    


في مدينة الثورة حيث كانت البيوت تُبنى على شاكلةٍ واحدة، بفناءٍ خلفيٍّ تظلله عادةً نخلة وشجرة زيتون ، لم تكن البيوت وقتذاك – عقد الستينيات من القرن المنصرم - مجرد جدرانٍ تؤوي الأجساد، بل كائناتٍ صامتة تتنفس مع ساكنيها... ؛ كأنها خرجت من ذاكرةٍ جماعية: دارٌ يتقدّمها بناءٌ صغير، غرفتان ومطبخ وحمام ودرجٌ ضيق، وخلفها باحة مكشوفة تُترك عمداً للسماء... ؛ في تلك الباحة الخلفية تُزرع نخلةٌ كي لا ينسى البيت جذوره، وشجرة زيتونٍ لتتعلّم الجدران معنى الصبر، وأحياناً تُربّى دجاجة أو أرنب، كأن الحياة لا تكتمل إلا بما هو هشّ وقابل للفقد.
في ليالي الصيف، كانت الباحة تتحوّل إلى غرفة نومٍ كبرى. الأرض فراشٌ، والنجوم سقفٌ بلا تشققات، والهواء يمرّ بين الأجساد كوصيةٍ قديمة... ؛ هناك، في ليلةٍ لا تختلف ظاهرياً عن غيرها، كان قاسم في الخامسة من عمره، محاطاً بإخوته الخمسة، وبقرب أمه وأبيه، حين انفتحت في داخله نافذة لم تُغلق إلى اليوم.
رأى نفسه ينهض من فراشه، لا بجسده الصغير، بل بوعيٍ أثقل من عمره... ؛ اتجه نحو الدار، وحين مدّ يده ليدخل، اكتشف أن البيت لم يعد البيت... ؛ الطابوق الحديث انقلب طابوقاً قديماً أحمرَ متآكلاً، يتساقط منه الغبار كأنه يشيخ أمام عينيه... ؛ خيوط العنكبوت نسجت تاريخاً طويلاً على الزوايا، والهواء كان رطباً برائحة الهجران، كأن أحداً لم يسكن المكان منذ قرنٍ أو أكثر.
رفع قاسم رأسه نحو السماء، فوجدها ملبّدة بغيومٍ سوداء، لا تمطر، بل تتوعّد... ؛ وحين دخل الدار، لم يجد ظلاماً خالصاً ولا نوراً، بل لوناً رمادياً ضبابياً، يشبه الذاكرة حين تختلط فيها الحقيقة بالكوابيس.
هناك، في قلب البيت، ظهرت سبعة ثعابين سوداء ضخمة، عرابيدَ ممتلئة ... ؛ رأى العرابيد السبع. لم تكن ثعابين عادية، بل كانت كائناتٍ من مادة الظل نفسها، يبلغ طول الواحدة منها أمتاراً وتتحرك بانسيابيةٍ سائلةٍ مخيفة، تملأ الزوايا وتتسلل على الدرج. كان هسهستها أشبه بصوت الرمال المتساقطة في ساعةٍ زجاجية عملاقة... ؛ كانت تتحرّك في كل الاتجاهات، تملأ الزوايا، تزحف على الدرج المؤدي إلى السطح، كأنها حراسُ قدرٍ لا يُرى. حاولت الاقتراب منه، لكن حاجزاً خفياً كان يصدّها، جداراً لا يُلمس ولا يُكسر... ؛ قوةٌ تمنع اقترابهن... ؛ ولكن إحداهن تمددت كظلٍّ طويل، واقتربت حتى لم يعد بينها وبين وجهه غير شبر... ؛ ثم نفخت في وجهه نفخةً باردة مرعبة، فارتجّ العالم في عينيه... ؛ لم تكن النفخة هواءً، بل كانت زفيراً من صقيع الوجود... ؛ حملت برودة الموت والنسيان، وصرخةً مكبوتةً من أعماق لا يعرفها... ؛ ارتعش قاسم كله وفزع، ثم اندفع جرياً من فضاء الكابوس إلى حضن أمه الدافئ.
استيقظ قاسم صارخاً، يركض نحو حضن أمه، كأن الحضن وحده قادر على إعادة ترتيب الكون... ؛ لكن الرؤية لم تستيقظ معه؛ بقيت هناك، جاثمة في مخياله، تكبر كلما كبر، وتغيّر شكلها دون أن تفقد معناها.
منذ تلك الليلة، صار الحلم خريطة حياته السرية... ؛ كل سبع سنوات، كما لو أن عقارب الساعة الذائبة في لوحة "ثبات الذاكرة" لدالي قد أتمت دورة، كانت مصيبةٌ كبرى تحل به: موت عزيز، خيانة صديق، خسارة لا تعوض... , أو عداوةٌ تنبت فجأة كعشبٍ سام... ؛ وكلما حلّ في مكان، أحس بتلك العيون السوداء من وراء الأكمة تترصد، حسداً أو عداءً... ؛ نعم : أينما حلّ وارتحل ، وجد ظلال الحسد تراقبه، ووجوه الأعداء تتبدّل دون أن يختفي أثرها... ؛ و السواد لم يفارقه؛ كان يعود في هيئة جنازة، أو خبرٍ ثقيل، أو صمتٍ طويل... ؛ حتى صار السواد لوناً أساسياً في لوحة حياته، وصارت الرؤيا لغزاً ملحاً يبحث له عن تفسير... ؛ هل كانت الثعابين سبع مراحل من عمره؟ أم سبع خطايا لم يرتكبها لكنه دُفع ثمنها؟ أم أن البيت نفسه، بباحته المفتوحة ونخلته الصامتة، كان يحذّره من أن الزمن لا يسكن البيوت وحده، بل يسكن البشر أيضاً , ويحذره من أن الجدران التي تحمينا قادرة أيضاً على أن تتحوّل إلى مرايا لمصائرنا؟
إلى اليوم، كلما دخل قاسم بيتاً جديداً، تفحّص جدرانه، أنصت إلى صمته، ونظر طويلاً إلى باحته إن وُجدت... ؛ يعرف في قرارة نفسه أن بعض الرؤى لا تُفسَّر، لأنها لم تأتِ لتُفهَم، بل لترافقنا، شاهدةً على أن حياتنا، مهما بدت بسيطة، قد تخفي في داخلها بيتاً يتقدّم في العمر… قبل ساكنيه.



#رياض_سعد (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مرونة النظام العراقي الديمقراطي: آلية التصحيح الذاتي وقابلية ...
- ثروات بلا أصحاب: العمالة الأجنبية في جنوب العراق بين منطق ال ...
- تسلّل السوريين إلى بغداد عبر أربيل: مقاربة سياسية–أمنية لظاه ...
- جريمة في المنصور: انعكاس لجروح إقليمية عميقة وتحولات في طبيع ...
- العنصرية والاستغلال بحقّ السوريين في تركيا: قراءة سياسية-اجت ...
- مرثية الروح والظل
- الطفولة العراقية بين قسوة التاريخ و ميراث العنف وبنية الاستغ ...
- مرايا البعد والاغتراب وأطياف الاصدقاء القدامى
- دوامة التغيير… حين تبتلعك ذواتك المتعددة
- سيولة الشعور وهشاشة اللحظة: قراءة نفسية في زمن العاطفة المتح ...
- حين يشوي العمّ ( أبو محمد) لحمَ الذاكرة على جمر الزمن
- الكائن الذي فضحته إضاءته
- كيمياء الوجود بين صرامة القوانين ووهم الاستثناء
- الواقع المزيف: بحثًا عن الحقيقة في زمن الالتباس وطمر الوعي
- حين تدور الأسطوانة… ويستيقظ زمنٌ لم يمت
- وليمة الجوع الذي لا يُشبِع … وسراب الشِّبع الذي لا يرحم
- العابر بين ظلاله
- نارٌ تُضيء ظِلال الروح
- النقل والرواية بوصفها ساحة للصراع: نقد تمثّلات الخصم والاخر ...
- اشكاليات مفهوم الأمة العراقية / 10 / ازدواجية المعايير وإشكا ...


المزيد.....




- المدير التنفيذي لمعجم الدوحة: رحلة بناء ذاكرة الأمة الفكرية ...
- يعيد للعربية ذاكرتها اللغوية.. إطلاق معجم الدوحة التاريخي
- رحيل الممثل الأميركي جيمس رانسون منتحرا عن 46 عاما
- نجم مسلسل -ذا واير- الممثل جيمس رانسون ينتحر عن عمر يناهز 46 ...
- انتحار الممثل جيمس رانسون في ظروف غامضة
- فيلم -القصص- يحصد التانيت الذهبي في ختام أيام قرطاج السينمائ ...
- مدينة أهواز الإيرانية تحتضن مؤتمر اللغة العربية الـ5 + فيديو ...
- تكريمات عربية وحضور فلسطيني لافت في جوائز -أيام قرطاج السينم ...
- -الست- يوقظ الذاكرة ويشعل الجدل.. هل أنصف الفيلم أم كلثوم أم ...
- بعد 7 سنوات من اللجوء.. قبائل تتقاسم الأرض واللغة في شمال ال ...


المزيد.....

- مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض سعد - استمرارية كابوس الثعابين السبعة