أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عادل عبدالله - هل كان فويرباخ ملحداً؟















المزيد.....



هل كان فويرباخ ملحداً؟


عادل عبدالله

الحوار المتمدن-العدد: 8560 - 2025 / 12 / 18 - 09:58
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


" من لا يقول عنّي، أكثر من أنني ملحد، يقول، ولا يعرف عنّي شيئًا"
- فويرباخ –


لوهلة أولى، قد يبدو الدفاع عن موقف فويرباخ من الله و الدين، لجهة نفي الموقف الإلحادي عنه، أمراً مبرراً، ممكناً و مقبولا، استنادا الى أنّ فويرباخ لم يعلن في كتابه " جوهر المسيحية" أيّ موقف سلبي من قضية وجود الله، بحيث يمكن تفسيره لجهة إلحاده. من هنا، نجد ان عدداً قليلا من الدراسات الرصينة، تحاول بهذه الطريقة او تلك، نفي موقف الإلحاد عنه.
مثل هذا الأمر سنتعرّف عليه بالتفصيل من خلال عرضنا لدراستين فحسب - يعتقد الكثير من الباحثين في فكر فويرباخ، أنهما من أهم مصادر دراسة فكر فويرباخ - و هما دراسة " Van Harvey " المعنونة: Feuerbach: Love & Atheism. و دراسة William B.Chamberlain المعنونة " Heaven Was not His Destination The Philosophy Of Ludwig Feuerbach "
فضلا عن عرضنا لتصوّر عن الموضوع نفسه، ورد في: موسوعة اللاهوت الغربي. غير أنّ هذه الدراسات الثلاث، لم تكن مُقنعة في مسعاها، كما أرى ذلك، و لذا سأثبت في فقرة خاصة، و على نحو قاطع: أنّ فويرباخ كان ملحداً، لأسباب منطقية مقنعة سأعمل على ذكرها بالتفصيل و بالحجج المقنعة، لكن بعد تعريف القارئ الكريم بمضمون تلك الدراسات الثلاث، أوّلاً، تاركا له في نهاية المطاف، حرّية الاعتقاد بصحّة أحد الموقفين.
الخصائص الفريدة لنوع إلحاد فويرباخ
يعتقد الكثير من الملحدين - ممن يرون في عبارة فويرباخ عن خلق الإنسان لله، سبباً كافياً لإلحادهم - أنّ هذه العبارة ذاتها موجودة على نحو واضح و صريح، و أنّ هناك شرحاً تفصيلياً – واضحاً هو الأخر، لإمكان تعزيزها في مضمون كتابه جوهر المسيحية.
غير أن واقع الأمر يخبرنا: أنّ مثل هذا الاعتقاد لا وجود له البتة. أمّا الدليل على ذلك فلا يتمثّل بالرجوع الى الكتاب المذكور لإثبات زيف هذا الاعتقاد فحسب، بل يتمثّل بالقول أيضا: إذا كان الأمر يجري على هذا النحو فهمُهُ، أعني إذا كان فويرباخ قد أعلن عن إلحاده في هذا الكتاب على نحوٍ واضحٍ لا يمكن الشك فيه، لماذا كلّف عددٌ من الباحثين الكبار أنفسهم كلّ ذلك الجهد و العناء لنفي موقف الإلحاد عنه؟
ذلك لأنّ مضمون كتابه " جوهر المسيحية " و هو المصدر الأساس الذي يمكن الرجوع إليه لتحديد معنى و مفهوم و سبب إلحاد فويرباخ نفسه، لا يوفّر على نحو واضح، صريح، معلن و مباشر، أسباباً مقنعة و قاطعة، تقول بإلحاد فويرباخ، أو باتخاذ قارئ ما لذلك المضمون – على نحو مباشر - سبباُ و مرجعاً للإلحاد. و ربّما يكون ذلك بسبب نفي فويرباخ لتهمة الإلحاد عن نفسه حيناً، و تأكيدها على نحو غير مباشر، أحيانا، يقول فويرباخ – على سبيل تأكيد الرأيين المتقابلين ضدّا - في مقدمة الطبعة الثانية من كتابه "جوهر المسيحية: " لم تفاجئني الضجة التي أثارها كتابي الحالي، و من ثم فهي لم تزحزحني عن موقفي قيد أنملة، على العكس من ذلك، كان لي مرة أخرى، بكل هدوء، أن أخضع عملي للتدقيق الأشد من المنظور التاريخي و الفلسفي"
مضيفاً:
" لذا فاذا كان عملي سلبيا، لا دينيا، إلحاديا، دعونا نتذكر أنّ الإلحاد – على الاقل بمعنى هذا العمل – هو سر الدين نفسه، انّ الدين نفسه ليس في الواقع على الصعيد السطحي، بل في الأساس، ليس في النيّة، أو وفقا لافتراض خاص به، بل في قلبه، في جوهره، لا يعتقد بشيء غير حقيقة و الوهية الطبيعة البشرية"
ولئن كان مثل هذا القول، يشي أو يلمّح أو يدلّ على موقف ما لجهة إلحاد فويرباخ، فإنّ قولاً آخر له، لينفي مثل هذا الموقف الإلحادي عنه، يقول فويرباخ في عبارة آخري من الكتاب نفسه " السؤال المتعلق بوجود الله أو عدم وجوده ليس بالنسبة لي سوى السؤال المتعلق بوجود أو عدم وجود الإنسان"
أو يقول في موضع آخر: " من لا يقول عني، أكثر من أنني ملحد، يقول ولا يعرف عنّي شيئًا"
معنى ذلك كلّه، أن مضمون كتاب فويرباخ، على وفق منطق الفهم السائد، لم يكن هو بحدّ ذاته، المصدرَ الحقيقي لإلحاد من يعتقد أنّ فويرباخ كان ملحداً، و معناه أيضاً: ان نوع إسهامه في نشر الالحاد لا يرجع في المقام الأول الى مضمون كتابه جوهر المسيحية، إنّما يعود على نحو حصري، الى اعتقاد كارل ماركس بأنّ مضمون أطروحته عن نقد الدين كان مضموناً إلحادياً، تماماً كما كان هذا الاعتقاد بإلحاد فويرباخ، منطلقاً و أساساً لبناء فرويد إحدى فرضياته النفسية في نقد الدين على مضمون كتاب فويرباخ على نحو عام، و على مقولته الشهيرة عن خلق الانسان لله، على نحو خاص. الأمر الذي أسهم على نحو بالغ التأثير في تسويق فكر فويرباخ لجهة الإلحاد.
بعبارة عامة جامعة: إنّ تأثير فلسفة فويرباخ في تعزيز مقولة الإلحاد – كما فهمها الرأي السائد - لا يمكن النظر الى أهميتها من وجهة نظر فلسفية محض، إنما تأتي أهميتها كلّها من وجهتي نظر، سياسية – اجتماعية، كما هو الحال مع ماركس، و نفسية – انثروبولوجية، كما هو الحال مع فرويد.
المزيّة الثانية التي يحظى بها نوع إلحاد فويرباخ – إذا افترضنا أنّ مضمون كتابه مفسّرا لجهة الإلحاد - هي: إنّ فويرباخ يضع الأسباب اللاهوتية الكافية المبررة لاختياره الإلحاد موقفا فكريا و نفسيا، بل إنه يذهب أبعد من ذلك، لنشر تلك الاسباب نفسها بين المسيحين، من أجل أن يصبحوا ملحدين، لكن على وفق طريقته نفسها، متعجباً من عدم قناعتهم بها في حال رفضهم لها.
مع ذلك يخبرنا واقع الحال – قدر تبني كثير من الناس لموقف الإلحاد – أنّ عبارة فويرباخ نفسها، هي المبرر الوحيد لكونهم ملحدين، لكن من دون أن يطّلعوا على التفاصيل المؤدية لقول فويرباخ تلك العبارة، الأمر الذي يعني أنّ قراءة هذا الكثير من الناس، لفلسفة كارل ماركس، أو علم النفس الفرويدي، هو المصدر لمعرفتهم بمضمون تلك العبارة و لإيمانهم بصحتها من بعد، كما قلت.
معنى هذا: أنّ رسالة فويرباخ في الإلحاد، تقول لنا فيما تقوله:
لن يكون الإنسان ملحدا حقيقيا، من دون أنْ يعرف الأسباب الحقيقية التي تدعوه لتبني الخيار الإلحادي موقفا، بل و من دون أنْ يقدر على الدفاع الفكري و النفسي عن تلك الاسباب نفسها، كما فعل ذلك هو نفسه.
لكن إذا كان فويرباخ يعلّمنا من خلال تجربته الإلحادية، ضرورة ان يدافع الانسان عن موقف إلحاده، فلماذا نرى الكثير ممن وجدوا في عبارته سبباً لإلحادهم، يكتفون باستحضار عبارته فقط، مقطوعة عن مقدماتها و اسباب قولها حينا، و من دون سماعهم باسم فويرباخ حتّى، في أحيان أخرى؟ حتّى غدا الأمر مسوّغا للقول: إذا أردت أن تصبح ملحدا، من دون أية معرفة بأسباب إلحادك، فما عليك سوى ذكر عبارة فويرباخ " إنّ الإنسان هو الذي خلق الله " بوصفها سبباً جامعاً كافيا لذلك.
المزيّة الثالثة لإلحاد فويرباخ، و هي ما يمكن عرضها على النحو التالي:
يبدو لي ان أهمية فويرباخ لدى خصومه أكبر و أخطر مما هي لدى مناصري قضيته، ذلك لأن السواد الأعظم من الفئة الأولى لا يكاد يعرفون عن فلسفة فويرباخ شيئا سوى عبارته التي يتخذونها ذريعة جاهزة لتبرير إلحادهم، كما قلت، و بذا فهي أهمية لم تستطع الى الآن ان تضيف شيئاً جديداً يُذكر الى بنية فكر فويرباخ.
أمّا الحال عند خصومه فهو مختلفة تماما. و ربما يكون مصدر و سبب أهمية فويرباخ لدى خصومه، هي الحالة التي تحدثنا عنها للتو، أعني نمو عدد خصومهم و زيادتهم المستمرة، لكن من دون أيّ اطلاع على الأفكار النقدية المهمة التي تصدّت لفلسفة فويرباخ لجهة بيان أخطائها و نقصها و مغالطاتها، و من هنا جاءت جهودهم النقدية لوضع الأمور في نصابها الصحيح.
معنى هذا عمليّاً، أنّ بعض خصوم فلسفة فويرباخ – اللاهوتيين على وجه التحديد، كارل بارت مثلا – خصّوا فلسفة فويرباخ بعناية فائقة، و ربّما كانوا قد أضافوا إليها من الأهمية – خلال نقدهم لها – ما لم يستطع أحدٌ من أنصاره أضافتها، بمن فيهم كارل ماركس و فرويد، من حيث أنّهما لم يرفدا حجج فويرباخ ضدّ الدين، إلّا بمزيد من النقص، و مزيد من اسباب نقضها و نقدها، حين عملا على نقل تلك الحجج الفويرباخية الى فضاءين معرفيين هما، السياسة – الاقتصاد بالنسبة للأول، و علم النفس بالنسبة للثاني، كما هو الأمر شائع و معروف.
الأهم من هذا كلّه، هو واقع الحال المعرفي، الذي يخبرنا على نحو بالغ الوضوح – و هو واقع متاح لمن يبحث عن حقيقة وجوده – هو أن مبادئ فلسفة فويرباخ برمتها، بجميع أفكارها الأساسية قد تمّ بالفعل دحضها و تفنيدها و تصفيتها بالكامل، من خلال عمليات نقدية منهجية لا تدع لأحد أيّ مجالٍ للشك في هزيمة فكر فويرباخ أمام ضرباتها الموجعة، كما تبيّن بعض ذلك في الدراسة السابقة، و كما سيتبين سواه في حينه.
مع ذلك كلّه، دعونا نتساءل الآن مرّة أخرى: هل كان فويرباخ ملحدا حقّا، كما اعتقد الناس ذلك؟
يبدو لي، أنّ هذا السؤال – استناداً الى تفاصيل المقدّمة التي ذكرتها – يستدعي بالضرورة إجابة تضمّ ثلاثة آراء مختلفة، هن على التوالي:
أولاً: نعم، لقد كان فويرباخ ملحداً، لكن لا على وفق الطريقة التي فهم بها الناس نوع إلحاده، إذْ ظنّوا أنّ مضمون كتاب فويرباخ جوهر المسيحية – سواء أ تمّ لهم قراءته بالفعل أم لم تتم – هو مضمون يتحدث عن هذا الإلحاد بكل وضوح و شفافية، الأمر الذي يعني:
ثانياً: أنّ فويرباخ كان ملحداً بالفعل استنادا الى المنهج و الطريقة التي فهم بها كثيرٌ من الباحثين و المفكّرين و الأكاديميين، مضمون كتابه المذكور، و هذا هو السبب الذي يفسّر لنا ردّهم عليه من وجهة نظر إيمانية، تثبت بطلان جميع تصوراته المسوّغة لإلحاده، تحديدا نظريته المسماة بـ "الإسقاط" أي النظرية التي تحمل معنى عبارته عن خلق الإنسان لله. و هي النظرية ذاتها التي سأتخذ من مضمونها سبباً كافياً و أساساً منطقيا لتأكيد موقف فويرباخ الإلحادي، لكن من وجهة نظر مغايرة لم يتطرّق إليها أحدٌ من الباحثين على حدّ علمي.
ثالثاً: لا، لا يمكن القطع بأن فويرباخ كان ملحداً، على نحو واضح و صريح، يؤدي إليه مضمون كتابه جوهر المسيحية، و لذا نجد أنّ عددا من الباحثين يدافع عن وجهة النظر هذه مقدّما لنا أسبابها و مسوّغاته في الذهاب إليها.
مسوّغات نفي الباحثين لإمكان أن يكون فويرباخ ملحدا
تحت هذا العنوان الفرعي، دعونا نتعرّف الآن على جملة من آراء باحثَين مفكّرين متخصصين في دراسة فلسفة فويرباخ، غالبا ما يستعينون بنصوص منتخبة من فكر فويرباخ مما اعتقدوا أنها كافية لنفي موقف الالحاد عنه.
يقول Van Harvey و هو مرجع أساسي في دراسة في فكر فويرباخ:
" كان هناك العديد من الملحدين ممن نقدوا المسيحية مجادلين، بأن مذاهبها لا يمكن الدفاع عنها فكريا أو مبنية على الوهم ، لكن قلّة منهم جادلوا بأن المفهوم المسيحي للحب يكرس أسمى فضيلة إنسانية، وهذا يتطلب من أولئك الذين يعتنقونها أن يتخلوا عن المسيحية.
قلّة من النقاد الملحدين يمكن أنْ يكتبوا هذه الجملة أو حتى يجدونها معقولة: "بما أن الله قد نبذ نفسه بدافع الحب، لذلك يجب علينا، بدافع الحب، أن نتخلى عن الله. لأننا إذا لم نضحي بالله من أجل المحبة ، فإننا نضحي بالحب لله، ".
يضيف فان هارفي:
ما سأحاول القيام به فيما يلي هو جعل هذه الحتمية على الأقل مفهومة.
وردت الجملة في كتاب لودفيج فويرباخ الأكثر شهرة ، جوهر المسيحية (1841) ، والذي خلق ضجة كبيرة عند نشره في أوروبا، والذي تمت ترجمته بسرعة إلى الإنجليزية من قبل الروائي جورج إليوت. و على الرغم من أن الإثارة كانت في جزء كبير منها بسبب انعكاس فويرباخ الذكي للفلسفة الحاكمة في عصره، المثالية الهيغلية، فإن أطروحة فويرباخ الأساسية القائلة بأن الآلهة هي إسقاطات نفسية للطبيعة البشرية لا تزال تجد معجبيها الفكريين المعاصرين. على سبيل المثال ، جادل سيدني هوك بأن هذه النظرية "لا تزال أكثر الفرضيات شمولية وإقناعًا المتاحة لدراسة الدين المقارن" (From Hegel to Marx، 1936، p.221).
ما لا يمكن أن يفشل في تسبب صدمة قارئ فويرباخ لأول مرة هو مدى تعاطف هذا الملحد مع المعتقدات المسيحية. كتب ذات مرة أنه كان متعاطفًا، لأن الدين بالنسبة له كان موضوعًا للممارسة قبل أن يصبح موضوعًا للنظرية. على عكس معظم النقاد الملحدين، لم يتجاهل الدين ببساطة، أو ، كمثل الفلسفة التأملية في عصره، حاول جعل الدين يقول ما تعبّر عنه الفلسفة بشكل أفضل. من خلال وصف طريقته بأنها "نقدية" وليست سلبية، كان يعني أنه حاول فهم الدين من "الداخل" ؛ أي أن نفهمه كما يفهمه المؤمن.
أراد أن يترك الدين نفسه يتكلم. أن تكون مستمعاً عندما يصلي المؤمن العادي ويغني ويتلو المذاهب. وما زعم أنه اكتشفه بهذه الطريقة النقدية هو أن أهم اقتناع للمؤمن المسيحي هو أن الله محبة. و هكذا استرشد فويرباخ بهذا الفهم للمعتقد المسيحي ، و أجهد نفسه بتحليل فكرة الحب وآثارها."
عملاً باعتقاده أنّ فويرباخ لم يكن ملحدا، يذهب Van Harvey الى عرض أهمّ فكرة من أفكار فويرباخ – فكرة الاسقاط – لكن على وفق اعتقاده هذا، الاعتقاد الذي لا يبرر لأحد القطع بأنّه كان ملحداً، بسبب غموض هذه الفكرة على الأقل، يقول Harvey:
" الاستنتاج الأساسي الذي توصل إليه فويرباخ، أن الله هو إسقاط نفسي، سهل الفهم إلى حد ما: إن الإله المسيحي هو موضوع للسمات الإنسانية الأساسية للعقل والإرادة والشعور . لكن استنتاجه مبني على سلسلة من الحجج المبهمة جدا والمتخلفة very abstruse, underdeveloped، والبعض قد يقول حجج غامضة. ومع ذلك ، يجب أن يكون لدى المرء بعض الفهم لها من أجل فهم سبب أهمية مفهوم الحب في تحليل فويرباخ."
في سياق نفي الموقف الإلحادي عن فكر فويرباخ، يرد في موسوعة بوستن للاهوت الغربي، النص التالي:
" وظيفة الدين، وفقاً لفويرباخ، هو أنه تحقيق للأمنيات، وطريقة للتعامل مع الإحباطات التي يواجهها المرء في حياته أو حياتها. يعكس الدين الطبيعة (الضعيفة) للمشاعر الإنسانية يقول فويرباخ، مستفزّا بقوله أولئك المتقاعسين عن إنقاذ أنفسهم من سطوة الفكر الديني:
من الممتع أنْ تكون سلبيًا بدلاً من أنْ تتصرف، أنْ يخلّصك الآخر بدلا من انْ يحرر المرء نفسه؛ إنه لمن دواعي سرور المرء أنْ يجعل خلاص المرء يعتمد على شخص ما، أكثر من اعتماده على قوة عفويته؛ من دواعي السرور أنْ يصبح المرء موضوعًا للحب أكثر من كونه موضوعًا للجهد ؛ يسعد المرء أنْ يعرف نفسه محبوبًا من الله أكثر من مجرد أنْ يكون لديه هذا الحب الذاتي الطبيعي البسيط المتأصل في جميع الكائنات ؛ إنه لمن دواعي سروري أنْ يرى المرء نفسه مُصورًا في عيونِ محبةٍ كائنٍ شخصي آخر، بدلاً من النظر إلى المرآة المقعرة للذات أو في الأعماق الباردة لمحيط الطبيعة؛ باختصار، من الممتع أن يسمح المرء لنفسه أن يتصرف وفقًا لشعور المرء، كما يفعل من قبل شخص آخر، ولكن مع وجود كائن متطابق جوهريًا، بدلاً من أن ينظم نفسه عن طريق العقل. (فويرباخ 1957 ، 140)
تعلّق الموسوعة على مضمون نصّ فويرباخ:
يمكن للمرء أن يرى بسهولة أنه بدلاً من انتقاد الدين بحدة، فإن فويرباخ لديه موقف متعاطف تجاهه. يتجلى هذا التعاطف أيضًا في الهيكل المصمم بعناية لجوهر المسيحية. الجزء الأول يسمى "الجوهر الحقيقي أو الأنثروبولوجي للدين" ، والذي يحاول إظهار أن نظرية الإسقاط تفسر العقائد المسيحية بشكل أفضل.
إنه بناء إيجابي لأن فويرباخ يبني في الحقيقة الأنثروبولوجيا في علم اللاهوت.
تضيف الموسوعة:
الجزء الثاني بعنوان "الجوهر الخاطئ أو اللاهوتي للدين" ، حيث يسعى فويرباخ لفضح الجانب السلبي للدين، أي كل تلك التصريحات المتناقضة التي أدلى بها اللاهوتيون الذين قدموا مزيدًا من الموضوعية لما تم تجسيده بالفعل في المقام الأول. كلا الجزأين، كما يقول فويرباخ، يدعمان بشكل مباشر أو غير مباشر الادعاء الوحيد القائل بأن اللاهوت هو علم الإنسان.
لا يريد فويرباخ أن يقرأ الناس أو يلاحظوا الجزء الثاني فقط، لأنه لا يقصد على الإطلاق أن يقول "الدين لا شيء ، إنه عبث". (فويرباخ 1957 ، الثامن والثلاثون)
تكمن النية الحقيقية أو الدافع الحقيقي لفلسفة فويرباخ في نظرته المتوازنة للدين، في رؤيته لجسد الإنسان تحت ملابس الإمبراطور الفاخرة، وكذلك في قبوله للثوب باعتباره تطورًا طبيعيًا، منتج. موقفه من قضية الدين، هو إصدار حكم شخصي، ليس فقط خارج زمانه، ولكن أيضًا (للأسف ) يتجاوز عصرنا.
في عام 1846 ، في مقدمة المجلد الأول من أعماله المجمعة، أوضح فويرباخ فلسفته في الدين. لا تزال رسالته البليغة حديثة وذات مغزى كما كانت مكتوبة منذ أكثر من 150 عامًا؛ إنها رسالة مهمة يجب على المرء أن يقتبسها بحماس وبوقاحة بغض النظر عن مدى ملاءمتها، يقول فويرباخ:
" إنه سؤال اليوم، كما يقال، سؤال لم يعد يتعلق بوجود الله أو عدم وجوده، بل هو سؤال يتعلق بوجود أو عدم وجود الإنسان ؛ ليس ما إذا كان الله مخلوقًا من طبيعة هي نفسها طبيعتنا، ولكن ما إذا كان علينا كبشر أنْ نكون متساوين فيما بيننا؛ ليس فيما اذا وكيف يمكننا أنْ نشارك جسد الرب من خلال أكل الخبز، ولكن هل لدينا ما يكفي من الخبز لأجسادنا؛ ليس ما إذا كنا نعطي لله ما هو لله وما لقيصر لقيصر، ولكن هل نعطي الإنسان في النهاية ما هو للإنسان؛ ليس فيما اذا كنا مسيحيين أو وثنيين، مؤمنين أو ملحدين، ولكن ما إذا كنا أو يمكن أنْ نصبح بشرًا، أصحاء نفسًا وجسدًا، أحرارًا، نشطين ومليئين بالحيوية.
كونسيدو Concedo – أي اعترفوا - أقرّوا، و لو على مضض، أيها السادة! هذا ما أريده أيضًا. من لا يقول عني، أكثر من أنني ملحد، يقول ولا يعرف عني شيئًا. السؤال عن وجود أو عدم وجود الله، التناقض بين التوحيد والإلحاد ينتمي إلى القرنين السادس عشر والسابع عشر ولكن ليس إلى القرن التاسع عشر. أنا أنكر الله. لكن هذا يعني بالنسبة لي أنني أنكر نفي الإنسان. فبدلاً من المكانة السماوية الوهمية والرائعة للإنسان والتي تؤدي بالضرورة في الحياة الواقعية إلى تدهور الإنسان، فإنني أعوض عن الوضع المادي والفعلي، وبالتالي أيضًا الموقف السياسي والاجتماعي للبشرية. السؤال المتعلق بوجود الله أو عدم وجوده ليس بالنسبة لي سوى السؤال المتعلق بوجود أو عدم وجود الإنسان. (هوك 1950 ، 222-223)
قدر تعلّق الأمر بـ " نظرية الإسقاط" تقول الموسوعة موضّحة معنى هذه النظرية من دون ضرورة لتفسيرها إلحاديّا:
كانت أطروحة فويرباخ المركزية هي أنّ فكرة "الإلهي" أو "الله" كانت في الواقع مجرد إسقاط بشري ؛ اقتبس من فويرباخ:
موضوع الحواس في حد ذاته غير مبالٍ ومستقل عن التصرف أو الحكم؛ لكن موضوع الدين هو موضوع محدد، الأفضل، الأول، الكائن الأسمى؛ إنه يفترض أساسًا حكمًا نقديًا، وتمييزًا بين ما هو إلهي وغير إلهي، وبين ما يستحق العبادة وما لا يستحق. وهنا يمكن تطبيق الافتراض، بدون قيود: إن موضوع أي ذات ليس شيئًا آخر غير طبيعة الذات التي تؤخذ بموضوعية. مثل أفكار الإنسان وشخصياته، مثل إلهه.
ما يقوله فويرباخ هو أن فكرة الله تنبع من انفصال البشر وإسقاطهم عن طبيعتهم، ومن تحويل البشر طبيعتهم الذاتية إلى شيء يعتقدون أنه مستقل وخارج عن أنفسهم. إن أصل تجسيد الطبيعة البشرية إلى الله، حسب فويرباخ، هو الرغبة في الراحة والأمان والمعنى: "ينبع الله من الشعور بالحاجة. لذلك فإن هناك حاجة واعية أو غير واعية - وهذا هو الله.
وهكذا فإن الشعور بعدم العزاء بالفراغ، بالوحدة، كان بحاجة إلى إله يوجد فيه مجتمع، اتحاد بين الكائنات التي تحب بعضها بعضاً "(فويرباخ 1957 ، 73). استمرارًا لسلسلة الاختزال هذه، فإن سبب امتلاك البشر لهذه الرغبات هو أنهم `` مُزاحون/ مشرّدون displaced إنهم يتعاملون مع حقائق العالم المادي من حولهم، والدوافع العاطفية بداخلهم، ويبحثون عن مكانهم في العالم. يمكن أن يكون العالم المادي معاديًا، لذلك يبحث البشر عن مأوى؛ يمكن أن تكونه الحياة العاطفية ، لذلك يسعى البشر إلى الاستقرار والرضا؛ يمكن أن يصبح البحث عن المعنى محبطًا، لذلك يبحث البشر عن الأمل؛ كل هذه، وفقًا لفويرباخ، هي الأسباب التي تجعل البشر يخططون لتحقيق رغباتهم، وبالتالي خلق الله الذي يستجيب لها. تعليقًا على فويرباخ ، يلخص شيلينغ موقفه:
إن وجود الإنسان على الأرض مليء بالألم، والإحباط، والفشل، والقلق، والظلم الذي يفطر القلب، والوعي بمحدوديته وقرب الموت. لكنه يتوق إلى كمال غير محدود، وسعادة كاملة، وحياة أبدية. لذلك فهو يفترض وجود إله يحقق له في عالم آخر، الرغبات التي أحبطت على الأرض والشرور المدمرة للغاية هنا. لكن هذا الإله ليس إلا التخارج الوهمي للآمال البشرية. (شيلينغ 1969 ، 24).
في سياق الدفاع ببسالة عن موقف فويرباخ ضد الاعتقاد بكونه ملحدا، يكتب William B.Chamberlain في كتابه " السماء ليست وجهته" و هو أحد المراجع المهمة لفلسفة فويرباخ"
نأتي إلى تعريف فويرباخ لله. "ليس لديك إذن تعريف آخر لله غير هذا: الله هو شعور حر غير محدود." – جوهر المسيحية ص 10-
إذا كان على المرء أن يفترض شيئًا، فإن هذا الموضوع هو فقط جوهر الشعور النقي غير الذاتي، والله هو شعور الشعور God IS the feeling of feeling.
من المناسب أن نستجوب هنا او نستحضر من اجل المساءلة، أن فويرباخ قد شتم بطريقة مريعة ومفردات تجعل الـ Billingsgate - أي السوقيين - اصحاب اللغة السيئة يشعرون بالعار من الذين يتهمونه بخلع الإله عن العرش.
الى الان ، لم يستطع هؤلاء اللاعنين مهاجمته في نقطة حاسمة مثل تعريفه لله.
" أحد هؤلاء النقاد، المشار إليه سابقًا، يكشف باهتمام إفلاس نقده في هذه النقطة بالذات. لأنه بعد مهاجمة المفسدين الفكريين للإله، كما يقول. . ينبغي بالأحرى إظهار أن هناك عاطفة دينية ، وبالتالي يجب أن يكون هناك إله. "
لكن، ما الفرق بين "المشاعر الدينية" وتعريف فويرباخ على النحو المبين في الفقرة السابقة."
هل كان فويرباخ ملحداً، يجيب قائلاً: "الشعور هو إلحادي، على وفق معنى الإيمان الأرثوذكسي الذي يربط الدين بشيء خارجي. انه ينكر الله الموضوعي الذي هو نفسه الله.
من وجهة النظر هذه، انكار الشعور وحده، هو انكار الله .
يقول فويرباخ في نص يستحضره Chamberlain:
“مقيدًا باعتبارات خارجية، وما زلت مستعبدًا للتجربة المبتذلة، وغير قادر على فهم العظمة الروحية للشعور، أنت مذعور من الإلحاد الديني لقلبك. بمثل هذا الخوف انت تدمر وحدة شعورك مع نفسها، أنْ تتخيل لنفسك موضوعا متميزًا عن شعورك، ومن ثم العودة بالضرورة إلى الأسئلة والشكوك القديمة - هل يوجد إله أم لا؟ أسئلة وشكوك تتلاشى، بل تصبح مستحيلة، حيث يتم تعريف الشعور على أنه جوهر الدين. الشعور هو قوتك الداخلية، ولكنها في نفس الوقت قوة متميزة عنك ومستقلة عنك؛ إنها فيك، فوقك، إنّها كينونتك الخاصة بالذات. مع ذلك فإنّها تستولي عليك ككينونة أخرى. باختصار، إنّها إلهك. ” - جوهر المسحية ص 11- و في النسخة العربية ص 66
معلقا على نصّ فويرباخ، يقول شامبرلين:
" على أساس ما سبق، يسعى فويرباخ لإثبات أن " النقيضة بين الإلهي والإنسان خادعة تمامًا، و أنه ليس اكثر من تناقض بين الطبيعة البشرية بشكل عام والفرد البشري؛ وبالتالي، فإن موضوع ومحتويات الدين المسيحي هو الانسان تمامًا. مصدر جوهر 13- 14- . حقيقة أن الكائن الإلهي هو مجرد موضوع أو تجريد أو تنقية للإنسان يعني أن صفات الطبيعة الإلهية هي بالتالي من سمات الطبيعة البشرية. يعتبر نفي الذات إلحادًا، لكن نفي المحمولات يعتبر أمرًا واقعيًا، خاصة في الوقت الحاضر. لكن فويرباخ يشدد على أن ما ليس له محمولات أو صفات أو خصائص ليس له تأثير على الفرد؛ وكل ما ليس له تأثير معقول على الفرد فهو غير موجود لذلك الفرد.
باختصار، إنكار كل صفات الكائن هو بمثابة إنكار للكائن نفسه. اجابة عالم اللاهوت على هذا، كما هو معروف، هو أن الله لا يمكن تحديده، انه غامض، وغير معروف. ولكن بالنسبة للرجل المتدين حقًا، الذي يعتبر الله بالنسبة له كائنًا إيجابيًا حقيقيًا ، فإن هذه الإجابة ليست مرضية تمامًا."
هذه الإجابة اللاهوتية، في الواقع، تعطي وجود الله تناقضا ذاتيا.
نتيجة لذلك، يصل فويرباخ الى القول:
لذلك الله موجود من أجلنا لأنه متخيل لنا تحت ظروف هي الحقيقة بالنسبة لنا. إنه يستمد وجوده من نفس الذخيرة/ الخزان الذي اودعنا فيه صفاته.
في ختام هذا الفقرة الطويلة من كتاب شامبرلين و خلاصة لمضمونها المدافع عن فويرباخ لجهة عدم إلحاده، يقول المؤلف:
" هذه هي فرضية فويرباخ. سننظر الآن في بعض براهينها:
" لم تكن نية فويرباخ تدمير الدين بأي حال من الأحوال، بل سعى إلى إعادة بنائه. في الواقع، ان فويرباخ أشار مرة إلى نفسه باعتباره لوثر ثانيًا... المقارنة مناسبة بمعنى أن فويرباخ لم يعلن نهاية كل دين، لكنه هاجم القديم فقط لصالح دين جديد.
كان هدفه بالأحرى هو: تدمير علم اللاهوت، في تفسيره طبيعة ووظيفة التجربة الدينية عن طريق ما يُدعى جيدًا "منهجه PSYCHOGENETIC - أي : دراسة أصل الشخصية وتطورها والسلوك البشري والعمليات العقلية ". كما يشير سدني هوك لذلك.
كان فويرباخ أول من تناول الدين من وجهة النظر هذه، موضحًا كيف أن جذوره متأصلة في رغبات و حاجات البشر، بوصفه إشباعًا ضروريًا وغير واعٍ نسبيًا للحياة العاطفية للإنسان، معبرًا عنه في الصور المستمدة مباشرة من موضوع الإنسان لنفسه. قلنا الإشباع اللاواعي. إذن هناك نقطة معلقة، هي:
من الواضح أن التأكيد على أن فويرباخ كان عالمًا نفسيًا عظيمًا سيكون سخيفًا بقدر ما هو غير صحيح. ولكن من المهم الإشارة إلى أنه، بإشارته إلى سيكولوجية الدين، فقد رأى ما هو أبعد من عصره. لقد رأى، على سبيل المثال، الاستمرارية الموجودة بين اللاوعي والحياة الواعية؛ فقط بسبب هذه الاستمرارية يمكن تفسير الأصل البشري للمعتقدات والممارسات الدينية."
في فقرة ختامية، يقول شامبرلين:
" من المهم أن نضيف أن فويرباخ لم يفكر في نفسه كعالم نفس، بل كفيلسوف ورجل متدين بعمق. وعلى الرغم من أن النهج الأساسي لعمله هو نفسي- وراثي psycho-genetic ، فان محتوى عمله كاثوليكي.
يتخلل تحليل فويرباخ للجوانب المحددة للديانة المسيحية نقاشات حول علم الاجتماع ، وترانيم تُنشد للمديح للإنسان، تفنيد ساخط للإلحاد indignant refutations of atheism ، - وصفه ، اي الالحاد، بأنه لاهوت سلبي - ومواعظ مملة لا نهاية لها عن الحب.
ينقسم هذا التحليل إلى قسمين، الأول يعالج الجوهر الحقيقي أو الأنثروبولوجي للدين ، والثاني يعالج الجوهر الخاطئ أو اللاهوتي للدين. نحن سوف،
ومع ذلك، تعامل مع كلا الجزأين معًا لكي ترى في الوقت نفسه الجوانب السلبية والإيجابية لفلسفة الدين هذه."
أخيراً، ينقل Vogel عن كارل بارث " يجب أن نفقد شيئًا حاسمًا بالنسبة لنا لاهوتيًا، إذا رفضنا السماح له بالتحدث إلينا. . . من يدري ما إذا كان يجب ألا يقال إنه ينتمي داخليًا وصدقًا إلى نقابة اللاهوت البروتستانتي الجديد بشكل شرعي مثل أي شخص آخر؟ "
الى هنا تنتهي مجموعة الآراء النقدية التي دافعت عن موقف فويرباخ من الله و الدين لجهة نفي تهمة الإلحاد عنه، مما يعني أنّ السياق قد أصبح مناسبة جداً، لطرح وجهة نظري الشخصية المتعلّقة بالإجابة عن السؤال المطروح في هذه الفقرة و هو:
هل كان فويرباخ ملحداً حقّاً.
على الرغم من أنّ أعلاماً من المفكرين ممن تعاملوا مع فكر فويرباخ بوصفه ملحداً، و بطريقة مفروغ من صحّتها، إلّا أنّ أحداً منهم لم يذكر لنا السبب الذي يدعوه الى هذا النوع من التعامل الواثق من رأيه، و هذا هو السبب الذي دعاني الى كتابة مضمون هذا المبحث كله، و هو السبب الذي يدعوني الآن الى بيان هذه المسألة ذاتها، و على النحو التالي:
حين يقول فويرباخ، بأنّ رغبة المؤمنين في وجود الله – و هذا المعنى هو أحد المبادئ الاساسية لفلسفته – هي السبب الحقيقي الرئيس لاعتقاد الناس بوجود الله، فإن هذا المسألة تعني بالضبط: إنّ الله لا وجود له سلفاً و من حيث المبدأ، و ان الاعتقاد بوجوده، رهين بهذا النوع من الرغبات حصرا.
من هنا فإنّ كل ما سيفعله فويرباخ بعد تسليمه بصحة هذه المقدمة – القضية، هو العثور على وقائع حياتية معاشة، ممارسات و عقائد مسيحية تدعم و تعزز فرضيته عن عدم وجود الله، و هكذا كان القسم الثاني من كتابه "جوهر المسيحية" موكلا لبيان هذه القضية، اي تعزيز فرضية عدم وجود الله، من خلال اتخاذ العقائد و الطقوس المسيحية موضوعا لهذه الغاية.
لكن، أ يمكن لإنسان يؤمن بوجود الله، أن يطرح نظرية ما، تشكك في وجوده كنظرية الإسقاط مثلا؟ أعني: أ يمكن لهذا الإنسان المؤمن بوجود الله سلفاً، أنْ يعلن في نظرية أو خطاب له، أنّ الله ليس في حقيقته سوى إسقاط لرغبات الإنسان المحدودة على كائن كامل المحمولات و الصفات، و أنّ هذا الكائن الذي يتمّ إسقاط الصفات عليه، ليس في حقيقته سوى كائن متوَّهم، جرى إسقاط صفات الإنسان عليه، لا أكثر و لا أقلّ؟ هذا هو واقع الحال الذي يحملني على القول:
الله إذن غير موجود سلفاً في فلسفة فويرباخ، لأن التصور المقابل لهذا، أي التصور بأن الله موجود، لا يمكن ان يؤدي لا الى نظرية الاسقاط، و لا الى التعامل مع اللاهوت بوصفه انثربولوجيا، ومعنى هذا: أن عدم وجود الله في فلسفة فويرباخ، لا يمثُل بوصفه نتيجة منطقية أدّت إليها بالضرورة مجموعة من المقدمات و الاسباب المحكمة التي تستدعي الاقتناع بها، اللهم إلّا إذا أكرهنا فويرباخ على قبول منطق فرضيته الخاصة: بأنّ رغبة المؤمنين بوجود الله، هي السبب الحقيقي الفاعل و الوحيد في وجود الله على نحو موضوعي، مما يعني:
أنّ فرضية فويرباخ عن عدم وجود الله، كما يخبرنا واقع الحال، هي نتيجة عاطلة عن مقدمات صحيحة مبرهنة تؤدي اليها بالضرورة، كما يستدعي علم المنطق ذلك، من حيث أنها فقط، نتيجة مسبقة، يجري البحث عن مقدمات لها لاحقاً.
مع ذلك: إنّ السؤال المهم هنا هو: ما هي نوع علاقة الانسان بالمفهوم الالهي، سواء أ كان الله موجودا أو غير موجود؟
أعني بالتحديد: هل يمكن لهذه العلاقة ان تتحدد بوصفها رغباتٍ و أمانٍ بشرية، يمكن ان يكون الله موجودا، او غير موجودا، استنادا لها، اي موجودٌ استنادا الى رغبة طائفة من الناس في وجوده مرّة، و غير موجود استنادا الى الطائفة الأخرى التي لا ترغب في وجوده؟
أحسب أن الاجابة الصحيحة عن هذا السؤال، تقول على نحو بالغ الوضوح، ان علاقة الانسان بالله لا يمكن النظر لها عند هذا النوع من الفهم المضلل على الاطلاق. مع التأكيد ان موقف الانسان من الله، في كلتا الحالتين هو: ان الله غير موجود، فضلا عن القول: إنّ مثل هذه العلاقة تصادر سلفا و تتنكر على نحو واضح لجميع الاديان و الانبياء، و كل ما يتعلق بمفردات الدين الاخرى، إنها تنكر على نحو صريح جميع الأسباب الأخرى لإيمان الناس بالله، كفرضية خلق الله للسموات و الارض، و وجود الحياة بكل تعقيداته العلمية و التجريبية المعجزة.
أحسب، ان علاقة الانسان بالله، علاقة تستمد وجودها من الدين و من العقل، و من مشاهدة الطبيعة و من فطرة النفس، و من تعاليم البشر على مرّ التاريخ، أكثر من مفارقة إيمانهم بوجوده من خلال رغباتهم بوجودهم او عدم وجوده. أو بعبارة جامعة: إن وجود الله في أنفس الناس و أذهانهم يتأتى من مصادر خارجية بالنسبة للإنسان، اكثر منها، و ربما مع او قبل ان تكون مصادر داخلية خاصة به كشعوره و رغباته و أمانيه. من هنا فإن الاسباب الخارجية لوجود الله بالنسبة للإنسان، أكبر و أهم و أكثر صحة من الركون الى الاسباب الداخلية للانسان التي تتمثل وفقا لفويرباخ برغباته و أمانيه.
بقي أنْ أضيف هنا نقطة مهمة تتصل بسياق القضية قيد البحث على نحو حميم، مفادها:
إنّ السؤال المتعلّق بوجود الله أو عدم وجوده، هو سؤال ذو طبيعة انطولوجية – وجودية، و من هنا، إذا استبعدنا الموقف اللا أدري لفويرباخ من قضية وجود الله أو عدم وجوده، و هو ليس موقفاً لا أدريّا بكل تأكيد، فإنّ ما يتبقّى لنا من الإجابة عن السؤال نفسه، هو إمّا نعم، الله موجود، أو لا ، الله غير موجود، و لأنّ إجابة فويرباخ المفترضة عن هذا السؤال لا يمكن أن تكون: نعم الله موجود، و أنّ فويرباخ إنسان مؤمن. بسبب من أن طرحه لنظرية الإسقاط من جهة، و اعتقاده أن اللاهوت مجرد انثربولوجيا، قضيتان لا يمكن أنْ تصدرا عن ذات مؤمنة بوجود الله كما أشرنا. لم يبق لنا من مفرّ سوى الإقرار مطمئنين، الى أنّ فويرباخ كان ملحدا بكل تأكيد.
لتوضيح معنى أن يكون السؤال عن وجود الله سؤالاً وجوديا يقتضي الإجابة بـ "نعم" أو "لا" :
يقول Angelo J. Corlett في كتابه Dawkin’s Godless Delusion’, International Journal for Philosophy of Religion 65(3) (2009), 125–138..
ما إذا كان الله موجودًا وما إذا كان بإمكاننا معرفة وجود الله سؤالان مختلفان. من حيث أنّ " ما إذا كان الله موجودًا" هو مسألة أنطولوجيا، أمّا معرفة وجود الله فهي مسألة تخص نظرية المعرفة epistemology . و معنى هذا: إذا كان المرء يعتقد أنّ الافتراض "الله موجود" صحيح فهو (مؤمن). إذن يجب على المرء نفسه، أنْ يؤمن في نفس الوقت بأنّ افتراض "الله غير موجود" افتراض خاطئ و أنّ من يتبناه هو (ملحد ). وبالمثل، إذا كان المرء يعتقد أنّ الافتراض "الله غير موجود" صحيح ، فيجب على هذا المرء أنْ يؤمن في نفس الوقت بأنّ افتراض "الله موجود" خاطئ.
أمّا الاعتقاد بأنّ كليهما صحيح أو خاطئ في نفس الوقت فهو أمر متناقض.، بسبب من خرقه لقانون الوسط المرفوع. – اي القانون الذي ينصّ على: إذا صدقتْ قضيةٌ أو صدقتْ نقيضتُها فلا مكان لقضية أخرى بينهما. كقولنا مثلاً : "سقراط حي" أو "سقراط ميت" هما قضيتان متناقضتان، إذا صحت الأولى كذبت الثانية والعكس بالعكس، ولا ثالث بينهما.
ثم يخلص الباحث الى القول: لذلك ، فإن التقسيم المفاهيمي بين الإيمان بالله والإلحاد يجب أنْ يكون واضحًا: الإيمان هو نفي للإلحاد، والإلحاد نفي الإيمان بالله، وهما أضداد وجودية لبعضهما البعض. متى يتمّ قبول عدم اليقين من أيّ من الافتراضين فهذا هو ما يمثل اللاأدرية.

- لودفيغ فويرباخ: جوهر المسيحية، ترجمة جورج برشين، تقديم و تعليق و تدقيق د. نبيل فياض، ط 2 ، بيروت، 2017، ص 41.
- المصدر نفسه، ص 44.
https://people.bu.edu/wwildman/bce/feuerbach.htm. Boston Collaborative Encyclopedia of Western Theology -
- ibid.
- Philosophy & Love: https://philosophynow.org/issues/85/Feuerbach: _Love_and_Atheism: Feuerbach: Love & Atheism. Van Harvey

- ibid.
- Philosophy & Love: https://philosophynow.org/issues/85/Feuerbach: _Love_and_Atheism: Feuerbach: Love & Atheism. Van Harvey

- https://people.bu.edu/wwildman/bce/feuerbach.htm. Boston Collaborative Encyclopedia of Western Theology

- مما لا شك فيه، أنه خطاب رائع و ملهم، غير ان بلاغته و جماله الادبي لا يغني عن حاجة هذا النص الشعري الى ادلّة و براهين تثبت صحته من الناحيتين الفلسفية و المنطقية، و هو امر لم يفعله فويرباخ على الاطلاق، و مثل هذا النقص الى الحجة الفلسفية تمت الاشارة اليه كأحد العيوب الكبيرة لفلسفة فويرباخ، كما سيرد ذلك في حينه.
- https://people.bu.edu/wwildman/bce/feuerbach.htm. Boston Collaborative Encyclopedia of Western Theology

- "Heaven Wasnot His Destination The Philosophy Of Ludwig Feuerbach " William B.Chamberlain DELHI UNIVERSITY LIBRARY. 1941: FIRST PUBLIS^D XN I941 AU. BXOBTS BBSBRVED -print-ED IN GREAT BRITAIN

- القول بان الله هو الشعور ، عبارة لا بد من وضعها كمقابل نقيض لعبارة هيجل في كتابه محاضرات في فلسفة الدين " الله هو فكر الفكر" كما سنيّن ذلك في حينه.
- "Heaven Wasnot His Destination The Philosophy Of Ludwig Feuerbach . p46
- ibid .p 47
- ibid. p 50.
- ibid. p 52.
- ibid. p 59-60
- ibid. p 62.
- https://cupdf.com/document/the-barth-feuerbach-confrontation.html?page=2 THE BARTH-FEUERBACH CONFRONTATION . MANFRED H. VOGEL . NORTHWESTERN UNIVERSITY EVANSTON, ILL.pp 36-52



#عادل_عبدالله (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- النقد الفلسفي لفكرة فويرباخ عن “ الإنسان هو الذي خلقَ الله، ...
- هل يمكن الامتناع عن الكتابة !؟
- أوهام نيوتن
- ما يُلقى من العِلم إلى النار
- أسطورة الشاعر رامبو بين مقالتي - ما لم يقله أحدٌ عن رامبو- و ...
- هل يمكن للإنسان معرفة ما -هو- الله؟
- لماذا لا نفهم ما قاله كارل ماركس؟
- هيجل و ماركس في مقال عنوانه : هل تعلم...؟
- - من أفيون السماء، إلى أفيون الأرض: القصّة الكاملة لصراع مار ...
- كارل ماركس، شاعرا
- كيف نفهم ماركس؟ كيف نفكر معه؟ او ضدّه؟
- الله و الإنسان: من -الجَدل- في فلسفة هيجل، إلى -الدَجَل- في ...
- هيجل و ماركس في أربع مقالات قصيرة
- عبء الاثبات في الحوار الفلسفي: الفصل الرابع: أنطوني فلو: افت ...
- عبء الإثبات في الحوار الفلسفي - الفصل الثالث: الله و إبريق ش ...
- عِبءُ الإثباتِ في الحوار الفلسفي على أيٍّ من الطرفين يقعُ عب ...
- عِبءُ الإثباتِ في الحوار الفلسفي على أيٍّ من الطرفين يقعُ عب ...
- عبء الإثبات في الحوار الفلسفي - على أيّ من الطرفين يقع عبءُ ...
- التصوّف، فيزياء الكم، و شيزوفرينيا العالَم
- الخاطفُ و الضحيّة ... قصّة فلسفية


المزيد.....




- عملية البحث عن مطلق النار بجامعة براون تدخل يومها السادس.. و ...
- اجتماع للوسطاء الجمعة بشأن المرحلة الثانية لإنهاء حرب غزة، و ...
- تصعيد إسرائيلي في لبنان عشية اجتماع -الميكانيزم-.. باريس تدي ...
- فون دير لاين: لن نغادر قمة الاتحاد الأوروبي دون اتفاق بشأن ت ...
- القصور الفرنسية.. اكتشاف سحر أجواء عيد الميلاد في العصر الفي ...
- أستراليا: الشرطة توقف سبعة أشخاص بعد بلاغ عن إمكانية وقوع -ع ...
- المؤثرون.. بين الحقيقة والأخبار المضللة
- فرنسا تعترض على توقيع الاتفاق مع’’ ميركوسور’’
- ماكرون للمزارعين الفرنسيين: باريس ليست مستعدة لتوقيع الاتفاق ...
- روسيا تحذر من تنامي قدرات الناتو على حدودها


المزيد.....

- العقل العربي بين النهضة والردة قراءة ابستمولوجية في مأزق الو ... / حسام الدين فياض
- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- تقديم وتلخيص كتاب " نقد العقل الجدلي" تأليف المفكر الماركسي ... / غازي الصوراني
- من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية / غازي الصوراني
- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عادل عبدالله - هل كان فويرباخ ملحداً؟