|
|
النقد الفلسفي لفكرة فويرباخ عن “ الإنسان هو الذي خلقَ الله، و ليس العكس”
عادل عبدالله
الحوار المتمدن-العدد: 8558 - 2025 / 12 / 16 - 09:07
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
تقديم: أحياناً، قد يكون المرء على صوابٍ في تبنّيه لفكرة ما، و اعتقاده بصحتها، استناداً الى مناسبتها لميوله الشخصية - النفسية و الأخلاقية - فحسب. غير أنّ مثل هذا التوافق النفسي و الأخلاقي لقبول الفكرة المناسبة، قد يصبح موضع شكّ و سؤال، في حال كانت الفكرة المقبولة تلك، تتجاوز في نوعها و خصوصيتها، حيز الميل النفسي و الأخلاقي الفردي، بوصفه معياراً وحيدا للقبول، على الأخص إن كانت هذه الفكرة، جديدة، مبتكرة، تخالف الاعتقاد السائد و الفطرة السليمة، كفكرة فويرباخ التي تقول: إنّ الدين كلّه، ليس سوى إسقاط لرغبات البشر و أمانيهم، إذْ لا بدّ من مراجعة و تمحيص لهذا النوع من الأفكار الكبرى قبل قرار قبولها عقيدة و إيماناً شخصيّا. ما أريد التوصل إليه عقب هذه المقدمة الموجزة، هو القول: إنّ فكرة فويرباخ عن " خلق الإنسان لله " هي إحدى الأفكار الكبرى المتعلقة برفض الدين جملة و تفصيلا، مما يعني أنّ مسألة قبولها نفسيّا و أخلاقيا، كمعتقد شخصي، لا يمكن له أن يصبح خياراً سليماً، إلّا بعد فحصها نقديّا عن كثب، أعني: إلّا بعد قراءة الأفكار الأخرى التي لا تعتقد بصحتها، الأفكار التي قد يجد المرء في ادلّتها و حججها على بطلان تلك الفكرة، ما يؤدي الى التراجع الفعلي عنها. في هذا الدراسة، سنتعرّف على أهمّ الأفكار التي رأتْ أنّ فكرة فويرباخ – آنفة الذكر – إنّما كانت فكرة هشة، لا يمكن لها الصمود و الدفاع عن مضمونها في معرض النقد العقلي و اللاهوتي و النفسي الموجّه لها. أنّها دعوة للقراءة فحسب، من أجل أنْ نستطيع الدفاع عن الأفكار التي نؤمن بها و نتخذها عقائد شخصية محددة لهويتنا الإنسانية. دعونا نتعرّف الآن على التفاصيل. إذا كان "نقد الدين" هو الموضوع الرئيس لفلسفة فويرباخ، فإن الدراسات النقديّة التي تعاملتْ مع هذه الفلسفة، سواء لجهة تفنيدها أو تعضيدها، على نحو كلّي أو جزئي، مباشر أو غير مباشر، يمكن تصنيقها – كما اعتقد - الى خمس فئات ظاهرة، هنّ: أولاً: الدراسات التي تنظر الى جهده الفلسفي بوصفه إسهامة تاريخية عظيمة في تاريخ الفلسفة، ثورةً فكريّة تضع حدّا لهيمنة الايدويلوجيا المثالية الألمانية، لتأذن ببداية عصر مادّي جديد لها، عصرٍ أهم سماته، فكّ الارتباط بين النزعة المثالية و الفلسفة من جهة، و بينها و الدين و الميتافيزيقا من جهة أخرى. غير أنّ الملاحظة المهمة بصدد هذه الفئة المحددة من الدراسات هي: أنّ أغلبها يلتقي عند قاسمٍ مشترك لها مفاده، أنّ فلسفة فويرباخ لم تكن بحدّ ذاتها هي المادة الرئيس أو الغاية القصوى من دراستها، أعني، أنّ موضع فلسفة فويرباخ لم يكن في حقيقته سوى مقدمة تاريخية أو أساس واقعي يتم البناء عليه لتفسير و تعزيز موقف فلسفي آخر، غالباً ما يكون الموقف الإلحادي من الدين، أو تأصيل المادية الماركسية، أو النيل من فلسفة هيجل، سواء لجهة الانتصار لمجموعة الهيجليين اليساريين الشباب، أو لجهة تعزيز الموقف الفكري لكيركجارد من فلسفة هيجل، أعني اتهامه بالتعالي على الانسان الواقعي الحي، و اهماله لصالح الانسان المنطقي – التجريدي، كما اعتقدَ كيركغارد ذلك. و هي بطبيعة الحال تهمة باطلة لا أساس لها من الصحة، بل يكفي لردّها الى غير رجعة، مطالعة مضمون كتاب " ماركس و هيجل" للمفكر الفرنسي " جان هيبوليت" الذي يدافع بضراوة مقنعة عن واقعية الانسان في فكر هيجل، و عن اهتمامه منقطع النظير بالحياة اليومية المعاشة للإنسان في ابعادها السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و النفسية ايضا. و هنا تجدر الإشارة الى تخصيص مبحث كامل من هذا الكتاب لدرء هذا النوع من التُهم عن فلسفة هيجل. بعبارة أخرى جامعة: إنّ فلسفة فويرباخ في هذه الفئة من الدراسات لا يتمّ التعامل معها إلّا بوصفها وسيلة لغاية أخرى، قد تكون تعزيز الموقف الإلحادي أو التأصيل المادي لفلسفة كلّ من ماركس أو نيتشة أو رورتي، أو تعزيز الموقف المادي لعلم النفس الفرويدي أيضا، أو النَيل من فلسفة هيجل، أو إعلاء شأن الحياة الإنسانية الواقعية كمقابل للوعد الديني. ثانيا: الدراسات التي لا ترى في فكر فويرباخ و اطروحته عن "خلق الانسان لله" أيّ معنى جدّي يمكن ضمّه الى تاريخ الفلسفة، و من هنا فهي إمّا أن تكتفي في عرضها لهذا التاريخ بذكرٍ موجز لبعض محطات حياته و افكاره او تعمد الى تجاهله على نحو كلّي، و من دون ذكر أسمه في هذا التاريخ حتّى، مثال هذه الدراسات نجده في كتاب " موجز تاريخ الفلسفة " لروجر و كتاب " خمسون مفكرا اساسيا" لجون ليتشه، حيث لم يرد ذكر اسم فويرباخ على الاطلاق. اما الدراسات التي تكتفي باشارة عابرة له فيمكن التدليل عليها – مثلا – في كتاب " موسوعة فلسفة الدين " للمحرريَن " Charles Taliaferro and Elsa J. Marty " و كتاب " الله و الانسان في 4000 سنة" لـ " كارين ارمسترونغ" ثالثا: الدراسات النقدية التي تتعامل على نحو موضوعي مع مضمون فكر فويرباخ، مقدّمةً افكاره الرئيسة على نحو منصف تماما، تحديدا في كتابه " جوهر المسيحية" لتعمل على الحوار معها، تفنيدها و إثبات بطلانها و بيان مغالطاتها من بعد، على وفق طرق عقلانية و منطقية يقتضيها أسلوب الحوار الفلسفي المثمر، و هذا النوع من الدراسات هو الذي يهمنا في هذا البحث على وجه التحديد، و هو النوع الذي سنعرّف القارئ الكريم به، لكونه الأكثر نفعا و بيانا لمعنى اطروحة فويرباخ المركزية من جهة، و لمدى صحتها و صمودها في مواجهة النقد الفلسفي و اللاهوتي لها من جهة أخرى، بوصف ذلك كلّه، أحد الموضوعات الرئيسة لبحثنا. بقي أنْ أضيف الى تلك الفئات الثلاث، فئتين أخريين، فئة رابعة، قليلة و نادرة، يمكن وصفها بأنها نوعُ دراساتٍ تدافع على نحو موضوعي " خاص" عن فلسفة فويرباخ، متمثلاً ذلك بنفي صفة الإلحاد عنه و عن مضمون فلسفته أولاً، سبيلاً للنظر الى هذا المضمون من بعد بوصفه: " محاولة لإعادة بناء الدين و ليس تدميره بأيّ حالٍ من الأحوال، ذلك لأنّ فويرباخ لم يعلن عن نهاية الاديان كلّها، إنّما جاء عمله ليهاجم الدين القديم فحسب، أو بعبارة أخرى، إنّما كان " هدفه هو تدمير علم اللاهوت، في تفسير طبيعة ووظيفة التجربة الدينية عبر دراسة أصل الشخصية وتطورها والسلوك البشري والعمليات العقلية " كما سيمرّ بنا بيان هذه المسألة في مبحث " إلحاد فويرباخ" هذه الفئة الرابعة من الدراسات، لم أجد لها أمثلة كثيرة، إنّما وجدت لها مثالين فحسب – سنعرض لمضمونهما لاحقاً – هما أولا: كتاب البرفسور William B.Chamberlain المعنون " لم تكن السماء وجهته " "Heaven Was not His Destintion - The Philosophy Of Ludwig Feuerbach " و كتاب البرفسور Van A. Harvey: Feuerbach and the Interpretation of Religion. أمّا الفئة الخامسة و الأخيرة، فهي التي تعمل و تنجز مضمونها تحت طائلة الانتماء الإيديولوجي المسبق لفكر فويرباخ، لفلسفته الإلحادية التي تجد في عرضها و الثناء عليها مبررا كافيا لاعتناق مبدأ الإلحاد و دعوة الناس لقبوله، و من هنا فهي تتجاهل أو تغض الطرف عن جميع مضامين تلك الفئات الأربع التي تحدثت عنها، و مثال هذه الفئة الخامسة من الدراسات و المقالات كثيرٌ و شائع في مواقع التواصل، لكن من خلال معالجة موضوعها بطرق غير منهجية، و لا متخصصة بالنقد الفلسفي أيضا. جدير بالذكر، ثمة دراستان باللغة العربية، للباحثين "حنّا ديب" و الدكتور " أحمد عبد الحليم عطية" تعاملتا مع فلسفة فويرباخ على نحو مباشر من خلال كتابين مخصصين للغاية نفسها، لكن على وفق معطيات خاصة، لم أجد فيهما معاً ما يمكن أن يغني موضوع بحث هذا الكتاب. لما تقدّم، في هذا المبحث من كتابنا، سنتعرّف على أهمّ الدراسات النقديّة لفكر فويرباخ على نحو عام، و على مضمون فرضيته عن "خلق الإنسان لله" و سواها من المبادئ الكبرى، على نحو خاص، كما ورد ذلك في كتابه " جوهر المسيحية " لجهة نقد تلك المبادئ و تفنيدها، فضلا عن عرضنا في نهاية المبحث للدراسة المهمة التي أشرت لها، أعني فقرات مفصّلة من كتاب " لم تكن السماء وجهته " .
1- الأسس الفكرية للإيمان المسيحي. في سلسلة محاضرات تلتقي عند عنوان جامع لها هو " الأسس الفكرية للإيمان المسيحي" يذكر الباحثان David Beutel & Timothy Dalrymple من جامعة ستانفورد في المحاضرة الثامنة الخاصة بعرض و نقد أفكار كلٍ من فويرباخ و ماركس و نيتشه و فرويد، مجموعة من الأفكار التي تم لهما استحضارها من مصادر نقدية شتّى. قدر تعلّق الأمر بفويرباخ يكتب الباحثان ما يلي،:[ - http://beutel.narod.ru/write/ifcftext.htm. Intellectual Foundations. of the Christian Faith. Stanford University.David Beutel & Timothy Dalrymple ] المحاضرة الثامنة: يصف Thielicke مضمون كتاب جوهر المسيحية بأنه " أهم هجوم فكري على المسيحية في التاريخ". ثم يعرض الباحثان مسردا لأهم أفكار فويرباخ ضد الدين من خلال مؤلفاته نفسها، و لمّا كنّا قد تعرّفنا على ذلك في الفقرة السابقة، فإنّ ما سنتعرّف الآن عليه هو، نقد المبادئ الكبرى لفلسفة فويرباخ، لكن بعد استحضارها – مرة أخرى - في عرض موجز لجهة التذكير بها فحسب: جوهر المسيحية (1841 (يمكن ايجاز مضمون هذا الكتاب كما يلي: اللاهوت بوصفه أنثروبولوجيا: يُسقط الإنسان صفات جنسه - العقل والإرادة والمودة - في كائن أنثروبولوجي نسميّه الله. تحقيق الأمنيات: "[الدينُ] يجعل الإنسان سعيدًا لأنه يُرضي أمنياته الشخصية" تحقيق الرغبات: المخلّص - المُعجز ليس سوى الرغبة المحققة للشعور بالتحرر من قانون الأخلاق و من الشرور الأخلاقية على الفور... بطريقة ذاتية تمامًا ومقبولة " تاريخ الدين: هو العملية التاريخية لإدراك الإنسان لذاته من خلال إبراز جوهر جنسه كإله. يحدث حلّ هذا الاغتراب عندما يدرك البشر أنّ الإسقاط والتشكيل الخارجي للإله في الدين هو في الواقع الاحتفال باللانهائية والكمال البشريين الجوهريين. - محاضرات في جوهر الدين (1851) يتكون علم اللاهوت من علم الإنسان وعلم وظائف الأعضاء. - الأنثروبولوجيا: "إن الله ليس سوى تأليه جوهر الإنسان " يتخلى فويرباخ عن مسار الإسقاط الهيغلي هذا ويسعى إلى إعطاء معنى وجودي جديد للقول بأن اللاهوت هو أنثروبولوجيا، وينظر إليه في الشعور بالتبعية والأنانية. لم يصنع الله الإنسانَ على صورته، إنّما الإنسان هو الذي صنع الله على صورته - علم وظائف الأعضاء: قام الدين بتأليه تلك الأشياء الطبيعية التي تلهم البشر بالخوف والفرح (يأتي قول فويرباخ هذا، بعد فشل نموذج الإسقاط لجوهر المسيحية في تفسير الظواهر الدينية بالكامل، حيث تم انتقاد فويرباخ لفشله في تفسير سبب امتلاك الناس لغرائز طبيعية. و في الشعور بالتبعية ولماذا يشعر المتدينون بأنهم على اتصال بشيء خارج أنفسهم). نشعر (ونعتمد) على طبيعة الشيء الحقيقي وليس الله. - الشعور بالتبعية. تأتي المشاعر الدينية من الشعور البشري بالاعتماد على العالم، وهو تبعية تعبر عن نفسها في صورة خوف وفرح وحب وامتنان بعد التحرر من التجارب الملهمة للخوف - الأنانية والاهتمام بالذات والحفاظ على الذات، هي أصل الشعور بالتبعية والجذر النهائي للدين. "[الأنانية] ... هي الأرضية الذاتية المطلقة للدين" وفقا لما يقول فويرباخ: ما يجعل شيئًا ما إلهيًا ويستحق العبادة هو فائدته وإحسانه وضرورته لبدء الحياة البشرية واستمرارها - وليس شيئًا مهمًا في حد ذاته. يعبد المسيحيون الله لصفاته النافعة؛ الأنانية هي أساس الشعور بالتبعية لأنه لا توجد قوة خارجية لا تفترض مسبقًا قوة نفسية داخلية ؛ نحن نعتمد على الله / الطبيعة فقط لأننا ندرك أولاً أن حياتنا إلهية وتستحق الحفاظ عليها. - الخيال، تحت ضغط القلق من الموت، تُجرد صفات البشر والطبيعة في كائن يضفي الشرعية على أملهم في الخلود. من الناحية النظرية، يأتي الله أولاً ويتبع الخلودُ وجودَ الله؛ في الممارسة العملية، على الرغم من ذلك، فإن الرغبة في الخلود تأتي أولاً وهي الدافع للتخيل والإيمان بالله . هذا هو المضمون الكامل – بإيجاز – لفلسفة فويرباخ، و قد حرصتْ الموسوعة على نقله و عرضه بأمانة علمية دقيقة، الأمر الذي يمهّد الآن الطريقَ لنقده و الرد علّيه، على النحو التالي: الردود الإيمانية على فلسفة فويرباخ، كما وردتْ في دراسة الباحثين نفسها: أولاً: انتقادات فويرباخ للحجج الكونية والغائية، ضعيفة وغير مدمرة لها. إن وجود إله شخصي غير محدود هو أكثر عقلانية بكثير من الإلحاد في ضوء تلك الحجج التي قدّمها فويرباخ. ان النقد الفويرباخي هو النتيجة العادلة التي لا تقاوم لكل من التصوف واللاهوت المتمركز حول الإنسان كليبرالية شلايرماخر، لكنه لا يمسّ الإيمان الالهي الصحيح، كما يقول (كارل بارث). ثانياً: إن حكمة فويرباخ القائلة بأن البشر خلقوا الله على صورتهم، يمكن قلبها بسهولة عن طريق القول: لقد خلق الله البشرَ على صورته، وبالتالي فهُم - بحكم طبيعتهم الإلهية theomorphic nature[ - - أي لها شكل و سمة و جنبة إلهية،على صورة الإله.] يسقطون إلهًا شخصيًا مثلهم. يكمن وراء "مجسِّمات الألوهية anthropomorphisms " أي نزعة الإنسان الى التجسيم، تشكيل ألوهي للواقع والإنسانية. قياسا على ذلك، و ردّاً على فويرباخ، يُسقط البشر من أذهانهم نظرياتهم العلمية على العالم ويبدو أنّ نظرياتهم تتطابق بموضوعية مع الواقع. من ناحية أخرى، قد يُسقط البشر من أذهانهم معرفة موضوعية عن الله أصبحت ممكنة - كما هي المعرفة العلمية - من خلال الخلق الإلهي للعقل البشري. يقول بيتر بيرجر: " أنْ يكون الدين إسقاطاً بشرياً لا يستبعد منطقيًا إمكانية أن يكون للمعاني المسقَطَة وضعًا نهائيًا مستقلًا عن الإنسان.. وهذا يعني أنّ الإنسان يُسقط المعاني النهائية في صميم الواقع، لأن هذا الواقع – في الحقيقة – له معنى في نهاية المطاف، ولأنّ كيانه الخاص (الأساس التجريبي لهذه الإسقاطات) يحتوي ويقصد نفس المعاني النهائية. أكثر الحقائق المدهشة حول العلم الحديث هي أنّ هذه الهياكل – الأبنية المسقَطة، قد تحوّلت لتتوافق مع شيء موجود بالفعل هناك. لا يزال علماء الرياضيات وعلماء الفيزياء وفلاسفة العلوم يحاولون جاهدين فهم كيف يكون ذلك ممكنًا " كما يرد في كتاب (The Sacred Canopy). ثالثاً: إنّ أنانية فويرباخ لا تأخذ في الاعتبار الصعوبات الشديدة والتخلي عن الذات التي يجلبها المؤمن لنفسه عن طريق التوبة والارتداد.على سبيل المثال يقول يسوع: "من أراد أن يكون لي تلميذا فليكره أمه وأبيه، بل يكره حياته " عليه أنْ "يصلب نفسه يوميا ويتبعني". في السياق، يقول بونهوفر: "عندما يدعو المسيح رجلاً، يأمره أن يأتي ويموت". و يقول كارل بارث "الإيمان هو الانحلال التام للإنسان وكل الاحتمالات التي يفتخر بها." أمّا يورغن مولتمان، فيقول: "إن معاناة الله في المسيح، هي التي تصف الإيمان المسيحي بأنه إيمان، وكشيء مختلف عن إسقاط رغبة الإنسان. يمكن للنقد الحديث للدين أن يهاجم عالم المسيحية الدينية بأسره، لكن ليس هذا الصليب غير الديني. لا يوجد نمط للإسقاطات الدينية في الصليب. إن الصلب التاريخي للمسيح، الذي يؤمن به كإعلان ودعوة للإيمان الحقيقي، هو جوهر انتقادات الدين لدى فويرباخ وفرويد. إن الصليب، يظل خارج الصراع بين الدين ونقد الدين، وبين الايمان و الإلحاد. يتساءل الباحثان بعد ذلك: 1-هل يمكن أن يكون فويرباخ ضحية للمسيحية الفاترة في عصره، والتي لم تأخذ على محمل الجد واقعة الإيمان المسيحي الحقيقي وتكلفته، حيث استخدمته فقط لمنافعه الأنانية؟ 2- إنّ نفي فويرباخ لحجج المسيحية، أي أن المسيحية بطبيعتها مناهضة للمادة ومعادية للعالم، هي حجج باطلة من الناحية العقائدية. النزعة المعادية للمادية في المسيحية تأتي من الغنوصية الشرق أوسطية، الأفلاطونية، وخاصة الأفلاطونية الحديثة لأوغسطين. في هذه البيئة، جاءت المسيحية باعتبارها التأثير المادي الذي فاز في النهاية بالحضارة الغربية. 3-دوروثي سايرز: "يحدث هذا بشكل شائع في فترات خيبة الأمل مثل فترتنا، عندما تفلس الفلسفات وتظهر الحياة بلا أمل. قد يتحول الرجال والنساء في حالة من الملل والاستياء المطلقين، فيحاولوا أن يجدوا في بعض التحفيز الذي لا يوفره الانزعاج الباهت لمحيطهم العقلي والجسدي. . . . يشير الجانب الحزين والطبي في المواد الإباحية والاختلاط في القرن العشرين بقوة إلى أننا وصلنا إلى إحدى فترات الاكتئاب الروحي، حيث يذهب الناس إلى الفراش لأنه ليس لديهم ما يفعلونه أفضل "(سايرز ، العقيدة أو الفوضى 87). رابعاً: إنّ فكر فويرباخ غير أصيل وضحل. إنه "غير عارف بالموت، مخطئ في معرفة الشر" (كارل بارث). عندما يقول فويرباخ أن الأمنيات والرغبات التي يحققها الله للمسيحي، وخاصة رغبات الخلود والكمال الأخلاقي، مصطنعة وخيالية (277) ، فيبدو أن إنسانيته الساذجة تمنعه من أنْ يرى بديلا عن ذلك، اي تمنعه من إدراك أنّ هذه الرغبات هي احتياجات أساسية لا مفر منها للبشر. الوجوديون العلمانيون أيضًا أخذوا الموت والشر بجدية أكبر من فويرباخ، لكنهم لم يجدوا إشباعًا لهذه الاحتياجات كملحدين. خامساً: يعتقد فويرباخ أن لديه تفسيرًا مناسبًا لوجود الإنسان، متمثّلا ذلك في الطبيعة. هل يمكن للطبيعة وحدها أنْ تفسر وعي الإنسان بالذات، والحب، والإبداع، والفن، والأخلاق ، والعقل؟ سادساً: إذا كانت الادعاءات المسيحية صحيحة، فإن اللجوء إلى الجنس البشري للحصول على القوة والإرشاد سيكون تعبيراً عن غباء عميق: إنّه أشبه بالاستخلاص من مورد سطحي عندما يتوفر مورد لا ينضب. سابعاً: "التناقضات" في قلب المسيحية قابلة للحل في كل حالة: يقدم فويرباخ نظرة مبتورة وغير متوازنة للفضائل المسيحية لبناء تناقضها. 2- ألستر مكغراث ناقدا لفويرباخ " وفقا لأساس تحليل فويرباخ، ليست المسيحية وحدها، هي التي يمكن اعتبارها إسقاطًا لآمال الإنسان، بل الإلحاد نفسه، يمكن عدّه هو الآخر، إسقاطاً لآمال الإنسان." - مكغراث - في سياق نقد فلسفة فويرباخ، يكتب المفكر الإنكليزي و مؤرخ اللاهوت الشهير " ألستر مكغراث" في فصلً من دراسته " Bridge-Building: Effective Christian Apologetics. هذا التصور النقدي لفلسفة فويرباخ:[ - Bridge-Building: Effective Christian Apologetics. WRITTEN BY ALISTER MCGRATHREVIEWED BY LAWRENCE OSBORN. RELIGIOUS STUDIES. https://www.bethinking.org/does-god-exist/god-as-wish-fulfilment. ] يبدأ مكغراث فصله بعرض مفصّل لأهم أفكار فويرباخ، و على النحو التالي: أولاً: الله، تحقيق الأمنيات؟ هل الله موجود حقّاَ؟ أم أنّ إحساسنا بوجوده ليس أكثر من أمل خفي في أن تتحقق أشواقنا الأعظم؟ هل الله حقيقي - أم أنه مجرد وهم، مثل حلم في الليل؟ لطالما نوقشت هذه الأسئلة داخل الحضارة الغربية. ومع ذلك، في السنوات الأخيرة، اكتسبت فكرة أن الله هو مجرد نوع من تحقيق الرغبات البشرية مصداقية، غالباً ما تستخدم بشكل متزايد في الدعاية المعادية للمسيحية. الكاتبان المرتبطان بشكل خاص بهذا التطور هما لودفيج فويرباخ (1804-1872) وسيغموند فرويد[ - ما سيعرض هنا من فصل كتاب "الستر مكغراث: هو الفقرة التي تخصّ فويرباخ، أمّا الفقرة الأخرى التي تخص فرويد فسيتم التعامل معها في مناسبة أخرى، و ربما في كتاب جديد.] (1856-1939). سننظر في مساهماتهم قبل تقييم استنتاجاتهم. عملُ فويرباخ الرئيسي هو جوهر المسيحية (1841) ، حيث يجادل في هذا الكتاب: بأنّ فكرة الله تنشأ بشكل قابل للفهم، ولكن بشكل خاطئ، في التجربة البشرية. الدين بشكل عام هو ببساطة إسقاط الطبيعة البشرية على مستوى متعالٍ خادع يتعامل البشر فيه خطأً مع مشاعرهم. يفسرون تجربتهم على أنها وعي بالله، في حين أنها في الحقيقة ليست سوى تجربة لهم. الله هو شوق الروح البشرية المتجسد. نحن نتوق إلى كائن يرضي جميع رغباتنا وأحلامنا - ومن خلال القيام بذلك، نخترع مثل هذا الكائن. بالنسبة لفورباخ، فإن عقيدة قيامة المسيح ليست أكثر من صدى لتوق الإنسان العميق لليقين الفوري للخلود الشخصي. يخبرنا الكتاب المقدس أن الله خلق البشر على صورته. فيعلن فويرباخ – عكس ذلك، حين يقول - أننا صنعنا الله على صورتنا. "الإنسان بداية الدين ومركزه ونهايته" كما يقول فويرباخ. " و الله هو رغبة بشرية تتحقق ويدعمها الوهم. المسيحية هي عالم خيالي يسكنه أناس فشلوا في إدراك أنهم عندما يعتقدون أنهم يتحدثون عن الله ، فإنهم ببساطة يكشفون عن آمالهم ومخاوفهم العميقة." بعد هذا العرض المكثّف الأمين لأفكار فويرباخ، يتساءل مكغراث: " ما الذي يجب أن نستخلصه من هذا النهج، الذي تم تطويره في اتجاه مهم للغاية في كتابات كارل ماركس ؟ هناك عدد من النقاط التي يتعين القيام بها: أولاً : يجب فحص السياق الذي يطوّر فيه فويرباخ أفكاره. كان فويرباخ يكتب في ذروة سطوة عالِم اللاهوت الليبرالي الألماني الكبير فريدريش شلايرماخر (1736-1834). يعتمد نظام شلاير ماخر اللاهوتي على تحليل التجربة الإنسانية، وبشكل أساسي على تجربة الاعتماد على الذات. مهما كانت المزايا التي لا شك فيها لهذا النهج، فإن له تأثيرا في جعل حقيقة الله معتمدة على التجارب الدينية للمؤمن الورع. هنا يصبح اللاهوت أنثروبولوجيا، حيث يُختزل فهم الله إلى فهم الطبيعة البشرية. يمثّل تحليل فويرباخ نقدًا لامعًا لهذا النهج، والذي لا يزال مؤثرًا في المسيحية الليبرالية الغربية. إن وجودَ الله متأصلٌ في التجربة البشرية، ولكن، كما يؤكد فويرباخ، قد تكون التجربة الإنسانية ليست سوى تجربة لأنفسنا، وليست تجربة الله. ربما نقوم ببساطة بإسقاط تجاربنا الخاصة، وندعو النتيجة "الله" ، حيث يجب أن ندرك أنها مجرد تجارب لطبائعنا البشرية. يمثل نهج فويرباخ نقدًا مدمّرًا لأفكار المسيحية التي تركز على الإنسانية. ولكن ماذا عن تلك النسخ الأكثر موثوقية من الإنجيل والتي تصر على أن الإيمان هو استجابة، ليس للتجربة البشرية، و إنّما هو سعيٌ للالتقاء بكلمة الله؟ وأن الله يواجهنا في خلاص الدينونة من خلال كلمته؟ كان استعادة التركيز على كلمة الله خارجنا، بدلاً من التركيز على تجربتنا الدينية الداخلية، أحد أكثر التطورات المرحب بها في القرن العشرين. على سبيل المثال، تأمل كتابات كارل بارث، الذي ربما يكون أشد منتقدي شلايرماخر في التقليد اللاهوتي الغربي. بالنسبة لبارت، فإن حقيقة الله سابقة ومستقلة عن التجربة الإنسانية لتلك الحقيقة. لا الإيمان المسيحي ولا اللاهوت هو استجابة فقط لبعض التجارب البشرية الذاتية. إنها تنشأ من لقاء مع الله من خلال المسيح، بوساطة الكتاب المقدس. من المثير للاهتمام أن فويرباخ ليس لديه أدنى اهتمام بهوية أو تاريخ يسوع المسيح. بالنسبة له، فإن الشخصية المصورة في العهد الجديد هي ببساطة شخصية خيالية تدعم آمال وتطلعات الإنسان. لكن اللاهوت المسيحي التقليدي يصور المسيح على أنه يتحدى آمالنا وتطلعاتنا، ويعيد حقيقة الخطيئة (وهي فكرة يتجاهلها فويرباخ بشكل ملائم) قبل أن يتم تقدير فرح الفداء بالكامل. ثانيًا: يعمم فويرباخ بشكل ميؤوس منه فرضيته حول الأديان كلّها. مفترضا (بدون أي حجة مقنعة أو دراسة متأنية) أن جميع أديان العالم لها نفس المكونات الرئيسة الأساسية، والتي يمكن تفسيرها جميعًا على أساس نظرية الإسقاط الإلحادي الخاصة به. كل الآلهة، وبالتالي كل الأديان، هي مجرد إسقاطات لرغبات الإنسان. ولكن ماذا عن الأديان غير التوحيدية - تلك الديانات العالمية ، مثل بوذية ثيرافادا ، التي تنكر صراحة وجود إله؟ ثالثًا: إنّ فرضية فويرباخ ليست أكثر من فرضية. بمعنى أنها لا تقوم على أساس تجريبي صارم، إنّما تمثل فحسب، سلسلة من التأكيدات العقائدية حول كيفية إيماننا بالله. و من هنا لم يتم له إثبات نظريته، ولا يمكن ذكرها بشكل يمكن التحقق منه أو تزويره. على سبيل المثال، إنّه يجادل بأن الرغبة هي أب الفكر. في رغبة البشر في الله، يتم إشباع شوقهم باختراعهم لذلك الإله من خلال عملية الإسقاط، لكن هل يتوق كل البشر إلى وجود الله؟ خذ على سبيل المثال قائدَ معسكرِ إبادةٍ أثناء الحرب العالمية الثانية. ألن تكون هناك أسباب وجيهة للافتراض أنه قد يأمل ألا يكون الله موجودًا، بالنظر إلى ما قد ينتظره يوم القيامة؟ ألا يكون إلحاده تحقيق أمنية؟ على أساس تحليل فويرباخ، ليست المسيحية فقط، بل الإلحاد نفسه، هو الذي يمكن اعتباره إسقاطًا لآمال الإنسان. لكن ربما يتعلق الاعتراض الأكثر على نحو جدّي بمنطق تحليل فويرباخ في الفكرة المهمة التالية: في قلب إلحاد فويرباخ يكمن إيمانه بأن الله ما هو إلا شوق مُسقط At the heart of Feuerbach s atheism is his belief that God is only a projected longing الآن، من المؤكد، أن من الصواب انْ نعتقد بأنّ الأشياء لا توجد لأننا نرغب في وجودها. لكن لا يترتب على ذلك، لأننا نرغب في شيء ما، فهو غير موجود. But it does not follow from this that, because we desire something, it does not exist. غير أنّ هذا، هو الهيكل المنطقي لتحليل فويرباخ. أشار إدوارد فون هارتمان إلى هذا منذ ما يقرب من قرن من الزمان، عندما كتب: "من الصحيح تمامًا أنه لا يوجد شيء لمجرد أننا نتمناه او " بسبب" كوننا نتمنى ذلك، ولكن ليس صحيحًا أن شيئًا ما لا يمكن أن يوجد إذا أردنا ذلك . ‘it is perfectly true that nothing exists merely because we wish it, but it is not true that something cannot exist if we wish it } بعبارة اخرى تشرح المعنى نفسه: كما لا توجد الاشياء بسبب اننا نتمنى وجودها، كذلك لا تكون الاشياء غير موجودة بسبب اننا نتمنى عدم وجودها { ومع ذلك، يقول مكغراث، فإن نقد فويرباخ الكامل للدين وإثبات إلحاده يعتمد على هذه الحجة الوحيدة – اي على هذه المغالطة المنطقية. فضلا عن ذلك، فإن عقيدة الخلق المسيحية، التي تجاهلها فويرباخ بإمعان، لها مساهمة مهمة هنا. إذا كنا بالفعل مخلوقين على صورة الله ومثاله (تكوين 1: 26-27) ، فهل سيكون من المدهش تمامًا، أن نرغب في الارتباط به؟ ألا يمكن أن تتأسس رغبة الإنسان في الله على حقيقة أنه أوجدنا مع قدرة داخلية على الارتباط به؟ جدير بالذكر أنّ ألستر مكغراث قد سبق له التعامل مع أفكار فويرباخ، عرضا و نقدا، في كتاب آخر له، هو " The Twilight of Atheism : the rise and fall of disbelief in the modern world" " في هذه الفقرة سنتعرف على أهم ما جاء في هذا الكتاب مما يخصّ موضوع بحثنا: يقول مكغراث:[ - The twilight of atheism : the rise and fall of disbelief in the modern world / Alister McGrath. Doubleday. New York London Toronto Sydney Auckland . -print-E D IN TH E UNITE D STATES O F AMERICA. July 200 4 First Edition. P 56.] " الركائز الثلاث الكبرى للعصر الذهبي للإلحاد هي لودفيج فويرباخ (1804-1872) وكارل ماركس (1818-1883) وسيغموند فرويد (1856-1939) ، الذين تظافروا فيما بينهم ليحولوا فرضية ثورية جريئة إلى يقين راسخ الأمد، و ليضعوا المسيحية في موقف دفاعي مستمر. فكرة أن "الآلهة كانت اختراعًا بشريًا" لم تكن دائمًا موضع ترحيب في العصور القديمة الكلاسيكية المتأخرة. ومع ذلك، فإن فكرة أنّ الإنسانية اخترعت آلهتها لا تزال تعتبر أكثر بقليل من اقتراح مثير للاهتمام، من دون دليل صارم. بالنسبة لفويرباخ، فتحت فلسفة هيجل إمكانية جديدة مفادها: إثبات - وليس مجرد تأكيد! - أن البشرية اخترعت فكرة الله كتعزية وإلهاء عن حزن العالم. كان الله خليقة بشرية، كان للبشرية سلطة وسيطرة عليه. عندما كان الدين التقليدي يرى أن النظام الديني بأكمله يدور حول الله، اعتقد فويرباخ أن مداره يتمحور حول البشرية - وأنه يمكنه إثبات ذلك. في جوهر المسيحية، شرع فويرباخ في إثبات أن البشرية تعرضتْ للاضطهاد من خلال اختراعها - وهو الشيء الذي ابتكرته ، ويمكنها الآن تدميره. لقد أوجدت البشرية التي كانت موجودة بمفردها فكرة وجود الله كوسيلة مضللة لتعزية نفسها خلال رحلة الحياة المظلمة و المضللة. لم يكن الله شخصًا اكتشفته البشرية أو واجهته، ولكنه "حلم الروح البشرية" الاختراع المحض، نتاج عقل يمكن أن يرفض الله بنفس السهولة. الفكرة الأساسية التي طورها فويرباخ بمثل هذه المهارة المتميزة هي فكرة "إسقاط" أو "تجسيد" العواطف والمشاعر والأشواق البشرية. ان العقل البشري، من دون أن يكون مدركًا لما يفعله، اسقط توقه إلى الخلود والمعنى على ستار او شاشة خيالية متسامية، ثم يعطي اسم "الله" إلى خليقته. "[ - ibid. p 56-57.] يقول فويرباخ "ان الوعي بالله هو وعي الإنسان لذاته. معرفة الله هي معرفة الإنسان الذاتية. بالله تعرف الإنسان، وبالعكس تعرف الإنسان بالله. الاثنان واحد. ما هو الله للإنسان، هذا أيضًا هو الروح، وما هي الروح والنفس للإنسان هذا، هو الله. الله هو الذات الداخلية المُعلنة والصريحة للإنسان. إن الدين هو الكشف الاحتفالي عن كنوز الإنسانية المخفية، والاعتراف بأفكارها العميقة، والاعتراف الصريح بأسرار حبها." ومع ذلك، يقول مكغراث، فإن المتدينين غير مدركين لهذه الحقيقة بسعادة. إنهم يعتقدون خطأً أن ما خلقوه بطريقة أو بأخرى موجود بشكل مستقل عنهم. كما يقول فويرباخ: "هذا لا يعني أن المتدينين يدركون على الفور حقيقة أن وعيهم بالله هو ببساطة وعيهم الذاتي. في الواقع، فإن غياب مثل هذا الوعي هو السمة المميزة للدين. . . في البداية، حدد الناس عن طريق الخطأ طبيعتهم الأساسية كما لو كانت خارج أنفسهم ، قبل أن يدركوا أخيرًا أنها في الواقع بداخلهم. . . ما اعتبره الدين في وقت سابق موضوعيًا، تم الاعتراف به لاحقًا على أنه غير موضوعي؛ ما كان يُفهم سابقًا على أنه الله، ويعبد على هذا النحو، أصبح معترفًا به الآن على أنه شيء بشري. ما كان سابقًا دينيًا اعتُبر لاحقًا عبادة وثنية: يُنظر إلى البشر على أنهم عشقوا طبيعتهم الخاصة. عارض البشر أنفسهم لكنهم فشلوا في التعرف على أنفسهم على أنهم هذا الكائن" [ - ibid. p 57.] وهكذا يضع فويرباخ الأسس لنقد الدين محاججاً إنه من الممكن الآن الاعتراف بالدين على حقيقته: إنّه " ليس مجموعة أفكار معطاة من الله، بل هو بناء بشري. لا يخبرنا الدين بأي شيء عن الله، كل شيء من أنفسنا - آمالنا ومخاوفنا وأعمق شوقنا. الله هو الذات الداخلية المُعلنة والصريحة للإنسان. الدين هو الكشف الاحتفالي عن كنوز الإنسانية المخفية، والاعتراف بأفكارها العميقة، الاعتراف الصريح بأسرار حبها. الله، بعيدًا عن أن يكون سيدنا، يجب أن يكون خادمًا لنا. لكن هل نحن حقا بحاجة إلى مثل هذا الخادم في المقام الأول؟ ألا يمكننا الاستغناء عن مثل هذا الاعتقاد الذي عفا عليه الزمن تمامًا ، وإدراك أننا أنفسنا الآلهة الوحيدة؟" [ - ibid. p 57-58.] كنوافذ مفتوحة على الروح البشرية، تضيء أحلك الأسرار والألغاز المحبوسة في الداخل. وما خلقته البشرية يمكن إعادة تشكيله لاحقًا. وهكذا يصبح "الله" مفهومًا، يمكن إعادة تعريفه، ويمكن تشكيله وإعادة تشكيله ليلائم السياق المتغير للوجود البشري. بعد هذا البيان لأهم أفكار فويرباخ، يقدم مكغراث هذا التصور النقدي لها: كانت هناك مشاكل في نهج فويرباخ، حيث لم يكن منتقدوه بطيئين في الإشارة الى ذلك. كانت دائرية الحجة مصدر قلقٍ خاص: يفترض فويرباخ أنه لا يوجد إله، ثم يتحول إلى السؤال عن سبب رغبة أي شخص في الإيمان بالله. بعد أن تم الافتراض المسبق للإلحاد على النحو الواجب ( و كما ينبغي ) فإنه لا يتطلب بلا داع جعله استنتاجًا للحجة. تمت الاشارة أيضًا إلى أنه إذا كان الإيمان بالله استجابة لتوق الإنسان إلى الأمان، ألا يمكن القول أيضًا: بأن الإلحاد هو الآخر، كان استجابة لرغبة الإنسان في الاستقلالية و الحكم الذاتي؟ قد لا يشتاق كل الأفراد لنفس الأشياء، بعد كل شيء.[ - ibid. p 59.]
- يتبع -
#عادل_عبدالله (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هل يمكن الامتناع عن الكتابة !؟
-
أوهام نيوتن
-
ما يُلقى من العِلم إلى النار
-
أسطورة الشاعر رامبو بين مقالتي - ما لم يقله أحدٌ عن رامبو- و
...
-
هل يمكن للإنسان معرفة ما -هو- الله؟
-
لماذا لا نفهم ما قاله كارل ماركس؟
-
هيجل و ماركس في مقال عنوانه : هل تعلم...؟
-
- من أفيون السماء، إلى أفيون الأرض: القصّة الكاملة لصراع مار
...
-
كارل ماركس، شاعرا
-
كيف نفهم ماركس؟ كيف نفكر معه؟ او ضدّه؟
-
الله و الإنسان: من -الجَدل- في فلسفة هيجل، إلى -الدَجَل- في
...
-
هيجل و ماركس في أربع مقالات قصيرة
-
عبء الاثبات في الحوار الفلسفي: الفصل الرابع: أنطوني فلو: افت
...
-
عبء الإثبات في الحوار الفلسفي - الفصل الثالث: الله و إبريق ش
...
-
عِبءُ الإثباتِ في الحوار الفلسفي على أيٍّ من الطرفين يقعُ عب
...
-
عِبءُ الإثباتِ في الحوار الفلسفي على أيٍّ من الطرفين يقعُ عب
...
-
عبء الإثبات في الحوار الفلسفي - على أيّ من الطرفين يقع عبءُ
...
-
التصوّف، فيزياء الكم، و شيزوفرينيا العالَم
-
الخاطفُ و الضحيّة ... قصّة فلسفية
-
محاولة في التفسير العلمي لعبارة - كن فيكون-
المزيد.....
-
-مختل عقليًا-.. ترامب يُصعّد انتقاداته للمخرج الراحل روب راي
...
-
نجوم الكرة العالمية يتنافسون على جوائز -الأفضل- من الفيفا
-
بنعبد الله يعزي الرفيق عدي الشجري عضو المكتب السياسي للحزب ف
...
-
غزة: هل ينقذ ترامب اتفاق وقف إطلاق النار؟
-
أوروبا تدعو شعوبها للتأهب للحرب .. ماذا يعني ذلك؟
-
صالح لـ مشعل في تسريب مثير: صورايخكم تبرر لإسرائيل قتل شعبكم
...
-
غفوته أدت لمصرعها.. أب يواجه تهمة القتل غير العمد بعد وفاة ط
...
-
الولايات المتحدة تشن 3 غارات إضافية على قوارب يُزعم أنها تُس
...
-
هل نحتاج إلى كتابة -صنع بواسطة البشر- لمواجهة الذكاء الاصطنا
...
-
تقرير حقوقي يحذّر: عمّال مهاجرون بلا رواتب في قطر
المزيد.....
-
العقل العربي بين النهضة والردة قراءة ابستمولوجية في مأزق الو
...
/ حسام الدين فياض
-
قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف
...
/ محمد اسماعيل السراي
-
تقديم وتلخيص كتاب " نقد العقل الجدلي" تأليف المفكر الماركسي
...
/ غازي الصوراني
-
من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية
/ غازي الصوراني
-
الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي
...
/ فارس كمال نظمي
-
الآثار العامة للبطالة
/ حيدر جواد السهلاني
-
سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي
/ محمود محمد رياض عبدالعال
-
-تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو
...
/ ياسين احمادون وفاطمة البكاري
-
المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة
/ حسنين آل دايخ
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
المزيد.....
|