|
عبء الاثبات في الحوار الفلسفي: الفصل الرابع: أنطوني فلو: افتراض الإلحاد The Presumption of Atheism - قراءة خاصة -
عادل عبدالله
الحوار المتمدن-العدد: 7290 - 2022 / 6 / 25 - 11:47
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
عبء اثبات في الحوار الفلسفي: الفصل الرابع: أنطوني فلو: افتراض الإلحاد The Presumption of Atheism - قراءة خاصة -
أنطوني فلو: إفتراض الإلحاد في محاورة "القوانين" يصف افلاطون "افتراض الإلحاد" بأنّه بدعة، مستخدما كلمة "افتراض" كمرادف لـكلمة "وقاحة". في مواجهة هذا المعنى، يقول أنطوني فلو في دراسته " افتراض الالحاد The Presumption of Atheism : ولكن، على الرغم من أنّ الأسئلة التي أثارها أفلاطون هنا مثيرة للاهتمام، فإن الكلمة تحتوي على تفسير مختلف في عنواني، هو: إن افتراض الإلحاد الذي أريد مناقشته ليس شكلاً من أشكال الوقاحة، في الواقع يمكن اعتباره تعبيرا عن الذات، و قابلية تعليمٍ متواضعة. ثم يلخّص "فلو" معنى قوله " تعبيراً عن الذات " بالقول الشارح: إنّ افتراضاتي للإلحاد تشبه إلى حدّ بعيد افتراض البراءة في القانون الإنجليزي. و هي مقارنة سنجد فيما بعد، أنّه من المفيد تطويرها. ما أريد أن أفحصه في هذه الورقة هو الحجة القائلة بأنّ الجدل حول وجود الله يجب أنْ يبدأ بشكل صحيح من افتراض الإلحاد، وأنّ عبء الإثبات يجب أنْ يقع على المؤمن. و معنى ذلك – على الرغم من وضوحه، إنّ القانون الإنكليزي- و كذا هو الحال مع كثير من قوانين الأمم- يفترضُ سلفاً براءة المتهم، و إنه يعامل المتّهم بوصفه بريئاً حتّى يشرع المدّعي بتقديم أدلته و عناصر إثباته التي من شأنها أنْ تقوّض افتراض براءة المتهم و تثبت التهمة عليه. و مثل هذا الحال الذي يفترض براءة المتهم سلفاً، يمكن نقله و استعارته من وضعه القانوني الى وضعية الحوار بين المؤمن و الملحد في قضية "وجود الله أو عدم وجوده" حيث يرى و يقترح "أنطوني فلو" أنّ افتراض الإلحاد شبيهٌ بافتراض البراءة، و من هنا فإنّ وضع الملحد في الحوار يكون شبيها بوضع المتهم - من حيث الامتياز المعقود لهما معاً فخسب - تماما كما أنّ وضع المؤمن في الحوار نفسه شبيهٌ بوضع المدّعي مما يعني أنّ على المؤمن " وحده" أنّ يتحمل وزر تقديم عبء إثباته على قضية إيمانه بالله أسوةً بوضع المدّعي، أمّا الملحد فهو معفوٌ و مستثنى من تقديم عبء إثباته، أسوة بوضع المتهم، بسببٍ من أنّ " افتراض الإلحاد" هو القاعدة في حوارهما، تماماً كما أن "افتراض البراءة" هو القاعدة القانونية في المحاكم. هذا هو الفهم – على نحو عام – لمعنى افتراض الالحاد في دراسة " أنطوني فلو " و هو المعنى الذي تمّ للسواد الأعظم من الملحدين قبوله و التمسّك به بشدّة بوصفه مكسباً عظيماً لصالح قضيتهم في الحوار الفلسفي حول وجود الله، بسبب من اعتقادهم على نحو قاطع بأنّه يعني: إعفاءهم غير المشروط من تقديم أدلتهم على قضية اعتقادهم بعدم وجود الله، بل هو الفهم نفسه الذي أنكره عددٌ كبير من الفلاسفة و الباحثين المؤمنين فكتبوا ما كتبوا على سبيل دحضه. لكن، هل كان هذا الوضعُ الافتراضي المعقود لصالح الملحد في حواره مع المؤمن غير مشروط حقّا؟ أعني هل كان "فلو" يقصد هذا المعنى غير المشروط بالتحديد، أمْ انّه كان يقصد معتى آخر، معنى يمكن أن نفهم من سياق طرحه أنّ وضع حوار المؤمن و الملحد مشروط مقيّد بمجموعة من الضوابط، و أنّ الملحد بدوره يتحمّل هو الآخر وزر تقديم عبء إثباته لما يعتقد به؟ شخصيّاً، أعتقد أنّ "فلو" - وفقاً لسياق طرحه بالغ الوضوح - يحمّل كلا طرفي الحوار وزرَ إثباتهما لما يتقدمان به من أفكار في حوارهما، على الرغم من اعتقاده أنّ " افتراض الالحاد" هو الوضع الطبيعي للبدء بالحوار، أعني أنّ اعتقاد الملحد بصحة "افتراض الالحاد" و فهمه كإجراءٍ عملّي لصالحه لا يمكن أنْ يعفيه من تقديم أدلته على صحة مضمون أفكاره في حالٍ يستمرّ خلالها حواره مع المؤمن، من حيث أنّ هذا الافتراض متعلقٌ بآلية الشروع في الحوار فحسب، إنه مجرّد شرط أولي يشرّع و يأذن ببدء الحوار "فقط" تماما كما هو الحال مع "افتراض براءة المتهم" التي يمكن أنْ تسقط عنه بعد عجزه عن الدفاع عن نفسه، متمثّلاً ذلك بتقديمه عبء إثباته لبراءته المفترضة في مواجهة الأدلة التي قدّمها المدّعي ضدّه، مما يعني أن الخوض في المراحل المتقدمة من الحوار – بين المؤمن و الملحد - يؤدي و بالضرورة الى إسقاط امتياز تمتع الملحد بهذه الافتراض، مثلما قد يؤدي الى ضرورة تحمّله و تقديمه لعبء إثباته في صحة اعتقاده بعدم وجود الله، من حيث أنّ افتراض الإلحاد ليس في حقيقته و قيمته العملية سوى آليةٍ لتنظيم الحوار و ضمان الايذان ببدئه على نحو سليم، يقول فلو – كما مرّ بنا – لأنّ " الجدل حول وجود الله يجب أن يبدأ بشكل صحيح من افتراض الإلحاد " و هذا هو الأمر الذي سأتولى شرحه و بيانه بالتفصيل من خلال مضمون دراسة "فلو" نفسها. عبء الإثبات: بين نوعَي الملحِدَين، السلبي و الإيجابي يقول "فلو" في أوّل محاولة – مناورة حاذقة - منه لتسويغ صحة الاعتقاد بـ "افتراض الالحاد" قاعدةً للشروع في حوارٍ خاص بقضية وجود الله: " ومع ذلك ، فإن كلمة "إلحاد" في هذا الخلاف يمكن تفسيرها بشكل غير عادي. في حين أن المعنى المعتاد لكلمة "ملحد" في اللغة الإنجليزية في الوقت الحاضر هو "شخص يؤكد أنه لا يوجد كائن مثل الله" فأنا أريد أنْ يتم فهم الكلمة هنا بشكل أقل إيجابية less positively." بمعنى، أنّ فلو لا يريدُ لتعريف الإلحاد الذي هو وفقاً لقواميس اللغة الإنكليزية "شخص يؤكد أنه لا يوجد كائن مثل الله" أنْ يبدو بصيغة إيجابية تؤكّد و تثبت مضمونها، إنّما يريد لهذه الصيغة أنْ تبدو أقلّ إيجابية و تأكيدا لمضمونها، الأمر الذي يعني أنّ عليه اللجوء الى إجراءٍ ما، يحقق له هذا المطلب، و من هنا وجد فلو أنّ التعامل مع البادئة "A " في مفردة " Atheism " هو الوسيلة المثلى لتحقيق هذه الغاية، يقول فلو: " أريد قراءة البادئة اليونانية الأصلية "a" في كلمة "ملحد atheist" بنفس الطريقة التي تُقرأ بها بشكل شائع في كلمات يونانية - إنجليزية أخرى مثل "غير أخلاقي amoral " و "غير نموذجي atypical " و "غير متماثل asymmetrical . حيث تصبح كلمة "ملحد" في هذا التفسير: ليس شخصًا يؤكد عدم وجود الله بشكل إيجابي مُثبت؛ إنّما هو الشخص الذي هو ببساطة: غير مؤمن." بعبارة أخرى: إنّ "فلو" يريد التفريق بين نوعين من الأشخاص، كلاهما مُلحد، شخصٍ يُنكر وجود الله بطريقة "إيجابية مثبتة" و هو " الملحد الصريح، المُثبِت لاعتقاده" و شخصٍ لا ينكر وجود الله على نحو ايجابي مثبت، إنما هو ببساطة " ملحد غير مؤمن بوجود الله فحسب". و من هنا فإن البادئة – A – في كلمة Atheist لا تعني المعنى الأول المنكر، إنما تعني ببساطة فحسب من لا يؤمن بوجود الله. هكذا و كخطوة لاحقة بإجراء "فلو" هذا، يقسّم الفيلسوف الانكليزي الإلحاد الى مرتبتين هما: الإلحاد الايجابي positive Atheism بوصفه مصطلحاً يخص العقيدة السابقة، أي ما تعنيه كلمة الإلحاد بوصفها تعريفاً ينفي وجود الله بثبات. و" الإلحاد السلبي negative atheism بوصفه معنى يخص المفردة بعد إجراء التعديل على فهم البادئة، أيْ بوصفها تعني " غير مؤمن" فحسب، أيْ من دون تأكيد مضمون المعنى بوصفه نفياً لوجود الله. أمّا لماذا يفعل انطوني فلو ذلك؟ فإنّ السبب الكامن وراءه هو تحقيق مطلبين غاية في الأهمية، أوّلهما: المساواة بين موقف الملحد و اللا أدري، و ثانيهما – و هو نتيجة للأول – فهو : إعفاء الملحد – بعد منح التعريف الجديد له – مِن تحمّل عبء الاثبات و الدفاع عن موقفه، بسبب من أنّ اللا أدريين وحدهم هم المستثنون من تحمّل عبء الإثبات كما مرّ بنا. الأمر الذي يعني دونما لبسٍ بأن إجراء فلو و تعامله مع البادئة – A – المتمثّل بتحويل معناها في كلمة ملحد " Atheist " من شخصٍ مُنكرٍ مُثبتٍ لعدم وجود الله – أي ملحد إيجابي – الى مجرّد شخصٍ لا يؤمن بوجود الله – أي ملحد سلبي – يعني: أوّلاً: إنّ مبدأ افتراض الإلحاد الشبيه بافتراض البراءة، و هو المعقود سلفاً لصالح الملحد، مبدأ لا يخصّ وضع "الملحد الإيجابي" المُنكر المُثبت لاعتقاده بعدم وجود الله، إنّما يخصّ فقط، و على نحو حصري " الملحد السلبي" فحسب، إذْ لو كان مبدأ افتراض الالحاد يخصّهما معاً، لما أضطر أنطوني فلو الى العبث بمعنى البادئة – A – في كلمة Atheist من أجل تحويل معناها من معنى يؤكّد و ينفي وجود الله، الى معنى لا يؤمن بوجود الله فحسب، و هو الإجراء الذي استندَ اليه في التفريق بين نوعَي الملحدَين. ثانياً: بعد أنْ أصبحتْ كلمة ملحد Atheist على وفق المعنى الجديد الذي أضافه انطوني فلو للبادئة – A – كلمةً تعني مجرد شخصٍ لا يؤمن بوجود الله، وليس شخصاً ينكرُ وجود الله على نحو صريح قابل لإقامة الدليل على اعتقاده، يحقّ لنا التساؤل عن المصير الذي آل إليه معنى و وجود " الملحد الإيجابي" ؟ أعني أنّ كلمة ملحد Atheist تلك التي كانت تعني – قبل تعامل فلو مع بادئتها – شخصاً يُنكر وجود الله، كانت في حقيقتها تضمّ و تجمع نوعَي الملحدَين على حدّ سواء، أمّا هذه الكلمة ذاتها – و بعد التعامل الذي أضافه فلو لمعنى بادئتها – فقد أصبحتْ تضّم نوعَي الملحدَين معاً، لكن لا بوصفهما " مُنكرين لوجود الله " إنّما بوصفهما لا يؤمنان بوجود الله فحسب. بعبارة أخرى: إنّ كلمة مُلحد كانت تعني قبل التعامل الجديد مع بادئتها: أنّ جميع الملحدين هم ملحدون إيجابيون، منكرون لوجود الله، أمّا بعد التعامل مع البادئة، فقد أصبحتْ هذه الكلمة تعني: أنّ جميع الملحدين هم ملحدون سلبيون، أيْ أنهم لا يؤمنون بوجود الله فحسب. أو بصياغة جديدة للمعنى نفسه: إنّ الملحد السلبي لم يكن له من وجود في معنى كلمة Atheist قبل تعامل انطوني فلو مع بادئتها، أمّا بعد التعامل مع البادئة فقد أصبح الملحد الإيجابي هو الذي لا وجود له في معناها، و من هنا يحقّ لنا التساؤل عن مصيره في تعامل فلو مع البادئة . ربّما نجد الإجابة عن هذا السؤال – على نحو ضمني و غير مباشر – في عبارة فلو التي ترد في دراسته، و المتمثلة بقوله: إنّ الجميع يعرف أنّه من المستحيل إثبات وجود الله. و هي عبارة تعني ضمناً استحالة اثبات عدم وجوده أيضاً. ثالثاً: بعد أنْ تمّ لانطوني فلو إلغاء معنى الملحد الايجابي من كلمة ملحد Atheist من خلال التعامل الجديد مع البادئة، يمكن القول إنه قد ألغى بهذا الإجراء أيضا، أو أنه أعفى الشخص الملحد - بالمعنى الجديد له - من تحمّل عبء إثبات ما يعتقده، لأنه أصبح بهذا المعنى الجديد مجرّد شخصٍ لا يؤمن بوجود الله، أيْ مجرد ملحدٍ سلبي، و ليس ملحداً إيجابياً ينبغي عليه تحمّل عبْ إثباته لما يعتقد، كما كانت كلمة ملحد – قبل التعامل مع البادئة – تتضمن هذا المعنى. رابعاً: معنى ذلك كلّه: أنّ أنطوني فلو قد خلّص أو حرّر الملحد من مسؤولية تحمّل عبء اثباته لما يعتقد، و معناه أيضا، أنّ المؤمن وحده – في حالة كهذه – قد أصبح محمّلا بوزر عبء إثبات اعتقاده بوجود الله. ثم معناه أخيراً، و هذه مسألة غاية في الأهمية : إنّ قضية اثبات عدم وجود الله، و هي القضية المرتبطة على نحو أصيل بمعنى و شخصية الملحد الايجابي، هي نوع قضية مستحيلة و لا يمكن الدفاع عنها مطلقاً، لذا عَمد انطوني فلو الى حذف هذه الشخصية و معتقدها على حدّ سواء من حوار الملحد و المؤمن في قضية "وجود الله او عدم وجوده". بعبارة ختامية للفقرة: لقد أصبح موقف الملحد بعد التعامل مع البادئة قريباً جداً من موقف الشخص اللا أدري، و من هنا فهو غير ملزم بتقديم عبء إثباته. يقول فلو، مدركاً ما ينطوي عليه إجراؤه من علاقة بين الملحد السلبي و اللا أدري: يمكن أن يُسأل "لماذا"؟ ألا تجعل الامر هنا، ليس افتراض الإلحاد، بل افتراض اللاأدرية؟" فيجيب " هذه النقطة مهمة، على الرغم من السؤال، عمّا إذا كانت كلمة اللا ادرية يمكن أنْ تحمل المعنى الذي أريد أمنحه الآن لكلمة "إلحاد" ليس كذلك، او لا يسمح به. مع ذلك، إنّ ما اريد إظهاره هو: إنّ النقاش حول وجود الله يجب أنْ يتم بطريقة معينة؛ وإنّ القضية يجب أنْ يُنظر إليها من منظور معين. و هو من بعد: إنّ الامر في عبء الإثبات متروك للمؤمن: أولاً ، تقديم مفهومه المقترح عن الله والدفاع عنه ؛ وثانيًا ، تقديم سبب كافٍ للاعتقاد بأنّ مفهومه هذا له بالفعل تطبيق. السبب العام وراء أهمية افتراض الإلحاد هو، إنّ قبولها يجب أنْ يطرح مسألة وجود الله برمتها في منظور جديد تمامًا. و هكذا – و القول لفلو: المؤمن الذي يريد أنْ يبني دفاعا منهجيًا وشاملًا يجد أنّه مطلوب منه أنْ يبدأ تمامًا من البداية ؛ وهذه البداية المطلقة هي التأكد من إعطاء كلمة "الله" معنى كما لو أنّ من الممكن نظريًا أنْ يتم وصف كائن فعلي على هذا النحو. لكن، إذا كان "الملحد الإيجابي" أيْ الشحص الذي يُنكر وجود الله و الذي يقع عليه عبء الإثبات نتيحةً لامتلاكه هذا النوع المثبت من الزعم، شخصاً لا وجود له، و هو الحال الذي تداركه أنطوني فلو عن طريق تغييره لمعنى البادئة – A – في كلمة ملحد ليصبح معناه الجديد " ملحداً سلبياً " أيْ مجرد شخصٍ لا يؤمن بوجود الله، مما يعني إعفاءه من تحمّل عبء إثبات اعتقاده بهذه المسألة، أقول: إذا كان الحال الذي قادتنا إليه محاولة فلو كلّها هو كهذا الذي تمّ بيانه، لماذا إذن يحمّل فلو الشخص المؤمن وحده مسؤولية تقديم عبء إثباته بسببٍ من اعتقاده بوجود الله، و هو مجرّد شخص يؤمن بوجود الله، تماماً كما هو حال الشخص الملحد السلبي الذي لا يؤمن بوجود الله و لا يتحمل أيّ عبء لإثباتٍ نتيجة لنوع اعتقاده هذا؟ بعبارة أخرى: لماذا يتحمّل الشخص الذي هو " مجرّد مؤمن " بوجود الله عبء الإثبات، و لا يتحمّل الشخص الذي هو "مجرد شخص لا يؤمن بوجود الله" أيّ عبء إثبات؟ يبدو لي من خلال سياق دراسة انطوني فلو قيد المعاينة الآن، و من خلال المثال الوحيد الذي استحضره "فلو" في هذه الدراسة، أنّ الفيلسوف الانكليزي لا يحمّل مِنَ المؤمنين مسؤولية تقديم عبء إثباتهم إلّا الطائفة التي – أيّ طائفة – تعتقد أنّ بوسعها تقديم الدليل العقلي أو التجريبي على إثبات وجود الله، ومن هنا فلا بدّ من تحمّل هذه الطائفة وحدها مسؤولية تقديم عبء إثباتها لما تزعم اعتقاده. يقول "فلو" معيّناً و مسمّياً هذه الطائفة و نوع اعتقادها بقدرتها على إثبات وجود الله: " إن الجميع يعرف ذلك، أنّه من المستحيل إثبات وجود الله. أوّل اعتراض على هذه الحقيقة البديهية المفترضة، أشير به إلى الروم الكاثوليك الذين اقترحوا أنّ هذا ليس صحيحًا. لأنها عقيدة أساسية في الكاثوليكية الرومانية، كما حدّدها المجلس الأول للفاتيكان، إن "الإله الواحد الحق خالقنا وربّنا يمكن أنْ يكون معروفا على وجه اليقين من خلال الخلق بالضوء الطبيعي للعقل البشري. لذلك حتى لو كانت هذه العقيدة كما أعتقد، خطأ، فمن المؤكد أنّه ليس من المعروف أنْ يكون خاطئًا من قبل هذه الطائفة من الرومان الكاثوليك الذين بقوا رغم كل الاضطرابات اللاحقة على المجمع الفاتيكاني الثاني، ملتزمين على نحو كامل بالعقيدة التقليدية. ". افتراض البراءة و افتراض الإلحاد: مقاربة و إيضاح في هذه الفقرة – بالغة الأهمية - سنتعرّف عن كثب على ما يمكن أنْ يعنيه انطوني فلو بـ "افتراض الإلحاد" بالضبط، أيْ إننا سنتعرف على مسألتين رئيستين، أولاهما: لماذا اقترح فلو اعتماد هذا الافتراض مبدأ و قاعدة للحوار في قضية وجود الله؟ و السبب في ذلك – على نحو عام - هو: تنظيم الحوار في قضية وجود الله، لكن، تحت مظلّة معرفية مطلقة مفادها استحالة إثبات وجوده أو عدم وجوده، الأمر الذي يعني أنّ مضمون حوار الطرفين المتنازعين لا يعدو كونه تقديم أدلةٍ معرفية – عبء إثبات - من قبل الطرفين معاً لتعزيز صحة اعتقاده بمضمون أفكاره. أمّا الأخرى – و هي الأكثر أهمية – فهي تعرّفنا و على نحو يقيني بأن مضمون دراسة فلو لا يسمح و لا يؤدي الى الفهم بأن الملحدين معفوون من تقديم عبء إثباتهم على نوع اعتقادهم، سواء أ كان زعمهم: مجرّد عدم الايمان بوجود الله، أو كان زعمهم مؤكداً لعدم وجود الله، و معنى هذا، أنّ المؤمنين و الملحدين على حدّ سواء، ملزمون بتقديم عبء إثباتهم في حوارهم في القضية المذكورة، بسببٍ من أنّ المعنى الكامل لـمبدأ " افتراض الإلحاد " لا يعدو كونه قاعدة لتنظيم الحوار من أجل الشروع فيه و ضمان نموّه بطريقة سليمة، تماما كما هو الحال مع مبدأ "افتراض البراءة" في المحاكم، أي الوضع الافتراضي الذي سرعان ما ينهار و يتلاشى و يلزم المتهم الذي الذي يحظى بامتياز براءته المفترضة بالدفاع عن نفسه و تقديم عبء إثباته الخاص بردّ التهمة التي وجّهها المدّعي إليه، و على النحو التالي: يقول فلو: يجدر التأكيد على أنّه عندما يتمّ شرح افتراض الإلحاد على أنّه الإصرار على أنّ عبء الإثبات يجب أنْ يقع على عاتق المؤمن، فإنّما يتم استخدام كلمة " إثبات هنا بالمعنى الواسع العادي الذي يمكن أنْ يحتضن أيّ، وكل مجموعة متنوعة من الأسباب الكافية. وبالطبع، بهذا المعنى فقط، يتمّ تفسير الكلمة عندما يتم تفسير افتراض البراءة على أنّه وضع عبء الإثبات على المدّعي، على الرغم من أنني سأجادل لاحقًا بأنّ افتراض الإلحاد محايدٌ كما هو الحال بين جميع أطراف النزاع الرئيسي . السؤال هنا على نحو مباشر هو: ماذا يعني بالضبط هذا النص المقتبس؟ و كيف يمكن لنا فهمه في سياق افتراض الالحاد خلال حوار المؤمن و الملحد في قضية وجود الله أم عدم وجوده؟ أولاً: وفقاً لنصّ فلو، إنّ شرح مفهوم عبء الإثبات، يصرّ " على أن عبء الإثبات يجب أن يقع على عاتق المؤمن" غير أنّ هذه العبارة لا تعني مطلقاً أنّ على المؤمن أنْ يثبتَ وجود الله من خلال تحمّله لعبء الإثبات، لأنّ استخدام كلمة " إثبات هنا – كما يرد في نص فلو – يأتي بالمعنى الواسع العادي الذي يمكن أنْ يحتضن أيّ، وكل مجموعة متنوعة من الأسباب الكافية، لاعتقاد المؤمن بصحة إيمانه بوجود الله فحسب، و ليس لإقامة الدليل الفعلي على إثبات وجوده، بعبارة أخرى: كما تنصّ قاعدة "افتراض البراءة" على تحمّل المدعي عبء الإثبات كنقطة للشروع في إجراء المحاكمة، كذلك يتمّ الاجراء في الحوار عن وجود الله، بشروع المؤمن بتقديم أدلته على صحة اعتقاده بوجود الله ليثبت أنّ اعتقادّ الملحد بعدم وجوده أمرٌ غير صحيح. و هذا هو المعنى الذي قصده فلو حين قال: وبالطبع، بهذا المعنى فقط، يتم تفسير الكلمة عندما يتم تفسير افتراض البراءة على أنه وضع عبء الإثبات على المدعي. بل أنّ فلو يضيف في النصّ نفسه القول: "على الرغم من أنني سأجادل لاحقًا بأن افتراض الإلحاد محايد كما هو الحال بين جميع أطراف النزاع الرئيسي" مما يعني، أنّ قاعدة افتراض الالحاد لا تمنح الملحد أيّ مزّية تفضله على وضع المؤمن حين يتحمّل الاخير بموجب هذه القاعدة وزر تقديم عبء إثباته، لأنّ معنى "الاثبات" في الحوار برمته لا يعدو كونه نقطة للشروع ببدء الحوار، و ليس إقامة الدليل للملحد على وجود الله، أو إعفاء الملحد – بعد الشروع بالحوار – من تقديم عبء إثباته على صحة اعتقاده. في فقرة لاحقة من بحثه تحت عنوان افتراض الالحاد و افتراض البراءة، يقول فلو: العنصر الثاني من التشابه الإيجابي بين هذين الافتراضين - افتراض البراءة و افتراض الالحاد - هو أنّ كليهما غير قابل للتنفيذ - أيْ مفتوح من حيث المبدأ للمراجعة أو الاعتراض الصحيح أو المصادرة أو الإلغاء- و أنّهما بالتالي، لا يجب ربطها بالافتراضات. يبدو لي أنّ هذا النصّ هو الأكثر وضوحاً، لا في ضمان التوصّل لفهم سليم لمعنى " افتراض الإلحاد " فحسب، بل في سحب البساط من تحت أيةِ فكرة تريد أنْ تفهم منه أنّ عبء الاثبات يقع على عاتق المؤمن وحده و أنّ الملحد مستثنى منه مطلقاً استناداً الى هذه القاعدة، ذلك لأنّ معنى النصّ أوّلاً هو: أنّ وضع افتراض الإلحاد شبيه حدّ التطابق مع وضع افتراض البراءة، من حيث أنّ كلا الوضعين " غيرقابل للتنفيذ " حتّى النهاية، أي أنّ وضع افتراض الالحاد الذي يحمّل المؤمن عبء الإثبات هو مجرد وضع مؤقت لا يمكن أنْ يبقى نافذاً متعلّقاً بجهة المؤمن فقط، إنّما هو " مفتوح من حيث المبدأ للمراجعة أو الاعتراض الصحيح أو المصادرة أو الإلغاء " أيْ أن وضع عبء الإثبات في الحوار سرعان ما يتحول الى الملحد، و الى الحدّ الذي يمكن معه إلغاؤه، تماماً كما هو الحال مع وضع افتراض البراءة، من حيث كونه وضعاً قابلاً للمصادرة و الإلغاء بعد تقديم المدّعي لعبء إثباته الكفيل بتجريد المتهم من قاعدة البراءة المعقودة قانوناً لصالحه، لذا يقول "فلو" في النص نفسه " و انّهما بالتالي، لا يجب ربطها بالافتراضات" أيْ أنّ افتراض الالحاد و افتراض البراءة معاً، لا ينبغي لهما معاً الاحتفاظ الدائم بالامتياز الممنوح لهما من قبل معنى الافتراضات، أي لا ينبغي للمتهم أنْ يبقى بريئاً – استناداً الى قاعدة افتراض البراءة الممنوحة له بموجب الافتراض – حتّى بعد تقديم المدّعي لعبء إثباته الذي يخالف هذه القاعدة، تماماً كما لا ينبغي للملحد أنْ يبقى مستثنى من تقديم عبء إثباته لصحة اعتقاده الممنوح له بموجب قاعدة افتراض الإلحاد، بسببٍ من أنّ كلا القاعدتين " غير قابلتين للتنفيذ - اي مفتوحتين من حيث المبدأ للمراجعة أو الاعتراض الصحيح أو المصادرة أو الإلغاء- و انهما بالتالي، لا يجب ربطها بالافتراضات" على نحو دائم. يقول "فلو" موضّحاً ذلك: يشير افتراض البراءة إلى أين يجب أنْ تبدأ المحكمة وكيف يجب أنْ تتصرف. ومع ذلك، لا يزال الادعاء قادرًا، في كثير من الأحيان، على تقديم ما هو مقبول في النهاية على أنه سبب كافٍ لتبرير الحكم "مذنب". افتراض البراءة إذن، لا يعدو كونه إجراءً لسياق عُرفي مفترَض، لا بدّ للمحكمة من أنْ تبدأ فيه، و معنى هذا أنّ المتهم الذي كان بريئاً على وفق قاعدة الافتراض قد يتحوّل في كثيرٍ من الأحيان الى " مذنب" ليس بوسع قاعدة البراءة أنْ تشفع له أو تبقى ملازمة للوضع الذي سبق أنْ افترضته له على نحو دائم. يقول فلو متحدثاً عن المعنى نفسه: وبالتالي، فإن افتراض البراءة غير القابل للتنفيذ، إنّما هو حالة قد تمت هزيمتها في الواقع في الأغلبية من الحالات . مع ذلك كلّه، يبقى السؤال قائماً: لماذا تم للنظام القانوني العمل بقاعدة "افتراض البراءة" و هل يمكن للمتهم الاحتفاظ بها على الدوام؟ يجيبُ فلو عن هذا السؤال قائلاً: أمّا إذا كانت البراءة غير القابلة للإلغاء لجميع المتهمين، بوصفها افتراضا لأي نظام قانوني، فلا يمكن أنْ يكون هناك إذن أي حكم صادر داخل هذا النظام، سوى أنْ المتهم "غير مذنب". و ليس يخفى على أحد مقدار الظلم و الجور الذي سيلحق بكلّ مواطنٍ يمْثل في المحكمة بصفة " مدّعي" جرّاء العمل بقاعدة " المتهم بريء و سيبقى بريئاً حتى بعد إدانة المدّعي له" لكن، هل لهذا الوضع الذي تم لنا شرحه الآن لافتراض البراءة من علاقة " بافتراض الإلحاد" على الأخص أنّ أنطوني فلو يتحدث عن التشابه الكبير بين القاعدتين؟ يقول فلو، مجيباً عن السؤال: " وبالمثل، فإن افتراض الإلحاد غير مجدٍ defeasible. إنه يحدد فحسب، أنّ التحقيق الشامل والمنهجي يجب أنْ يبدأ من موقف الإلحاد السلبي، وأنّ عبء الإثبات يقع على الافتراض الإيماني. ومع ذلك، هذا ليس نفس الشيء على الإطلاق حين نطالب أنْ يستمر النقاش حول الافتراض لإلحادٍ الإيجابي من شأنه أنْ يمنع الاستنتاج الإيماني." معنى ذلك، أيْ معنى قول فلو " إنّ افتراض الإلحاد غير مجدٍ defeasible" هو: أنّ افتراض الإلحاد مفتوح من حيث المبدأ للمراجعة أو الاعتراض الصحيح أو المصادرة أو الإلغاء و هذا هو معنى الصفة defeasible. أيْ أنّ الامتياز الذي يحظى به الملحد من دون المؤمن و هو، إنّ على المؤمن تحمّل وزر تقديم عبء الإثبات لصحة اعتقاده بوجود الله، لا يعفي الملحد من تقديم عبء إثباته لاحقاً، بسببٍ من حاجته لتفنيد مضمون عبء الإثبات الذي قدّمه المؤمن على صحة اعتقاده بأفكاره، لأن هذا الوضع المعقود للملحد غير مجدٍ له، أي أنّ افتراض الالحاد يصبح مبدأً عاطلا عن العمل بعد تقديم المؤمن لعبء إثباته، مما يعني أنّ كرةَ الحوار قد أصبحتْ في ملعب الملحد و أنّ عليه بالضرورة رميها بدوره جهة المؤمن عبر تقديم عبء إثباته الخاص بصحة اعتقاده. معنى ذلك كلّه أوّلاً، إنّ مهمة "افتراض الإلحاد" تتلخص فحسب في كونه " يحدّد أنّ البحث الشامل والمنهجي يجب أنْ يبدأ من موقف الإلحاد السلبي، وأن عبء الإثبات يقع على الافتراض الإيماني" كما يقول فلو. ثم معناه من بعد و وفقاً للصياغة المشروطة لفلو نفسه، وهذه ملاحظة غاية في الأهمية: إنّ عبء الإثبات الذي يقع على عاتق المؤمن في الحوار، يشترط بالضرورة أنْ يكون طرف الحوار الآخر " ملحداً سلبياً" أي أنّ وضعه المعرفي في إطار الحوار شبيه بوضع الشخص اللا أدري، أمّا إذا كان وضع الملحد المعرفي شبيهاً بوضع " الملحد الإيجابي " أي المنكر لوجود الله بحجّة ما – كداوكنز و قادة الإلحاد الجديد مثلاً - فلا يتعين على المؤمن في وضعِ حوارٍ كهذا أنْ يقدّم عبء إثباته لمعتقده أولاً، أو بعبارة أخرى، إن مبدأ "افتراض الالحاد" يصبح لاغياً، بسببٍ من أنّ هذا المبدأ لا يخصّ سوى الملحد السلبي، بل ربّما يتعيّن على الملحد الإيجابي في حواره، تقديم عبء إثباته عن صحّة اعتقاده قبل أن يشرع المؤمن بذلك، و هذا هو المعنى الكامل لقول فلو: " ومع ذلك ، هذا ليس نفس الشيء على الإطلاق حين نطالب أنْ يستمر النقاش حول الافتراض لإلحادٍ إيجابي من شأنه أنْ يمنع preclude – أو يعوق - الاستنتاج الإيماني" أيْ أنّ الفرق بين نوعَي الإلحادين: السلبي و الإيجابي – في قضية الحوار في وجود الله – هو: أنّ النوع الأول يسمح بنموّ الحوار و استمراره عن طريق تبادل أدوار تقديم عبء الإثبات بين المتحاورَين، أمّا الثاني فلا يسمح بذلك، ربّما لأنّ النيّة المسبقة لهذا النوع من الإلحاد تختلف عن النية في نوعه الأول، من حيث أنّ الأول يسعى الى التوصلّ الى معرفة الحقيقة عن القضية قيد الحوار، أمّا الآخر فليس لديه مثل هذه النية أبداً، بسببٍ من اعتقاده بنوع فكرة ليس بوسع المؤمن إثبات عكسها، و لا بوسعه هو إثبات صحتها. يختم انطوني فلو هذه الفقرة بالقول الواضح " كما توضح المقارنة مع الافتراض القانوني للبراءة، هذه الافتراضات إجرائية وليست موضوعية؛ إنها لا تفترض أية نتيجة ، سواء كانت إيجابية أو سلبية." مضيفاً في نص – مثال – معناه: أن فرضية الالحاد المعقودة لصالح الملحد يمكن دحضها و هزيمتها، كما هو الحال مع فرضية البراءة المعقودة لصالح المتهم في المحاكم، من حيث كونها مجرد إجراء تنظيمي مقبول على نحو عام: " إنّ وقائع محاكمة جورج جوزيف سميث George Joseph Smith ، التي أثبتت انّه كان مذنبا بارتكاب العديد من جرائم القتل، هَزمتْ الافتراضَ الأصلي ببراءته. غير أنّ هذه الهزيمة الخاصة بالذات ليس لها ميلٌ على الإطلاق لإثبات أنّه حتى في هذه الحالة بالذات كان يجب على المحكمة أنْ لا تشرع في هذا الافتراض. مع ذلك، إنّ هذه الفرضية لا تميل إلى إثبات أنّ النظام القانوني ككل كان مخطئًا في دمج هذا الافتراض كمبدأ عام. نفس الشيء مع افتراض الإلحاد. إفترض أنّ شخصًا ما قادر على إثبات وجود الله. وبالمثل، يجب أنْ يقضي هذا الإنجاز على افتراضنا – أي افتراض الإلحاد - لكنه لا يُظهر بالتالي أنّ الخلاف الأصلي حول عبء الإثبات كان خاطئًا." أحسبُ أنّ الافتراضين معاً وفقاً لنص فلو– افتراض براءة المتهم و افتراض الالحاد – يمكن هزيمتهما معاً بعد تقديم الخصم لأدلته، و مثل هذا الوضع للافتراضين يستدعي بالضرورة دفاع المتهم في المحكمة، و الملحد في حواره، الدفاع عن قضيته بتقديم عبء إثباته لما يعتقد. مسوّغ القبول بقضية افتراض الإلحاد لتسويغ قبول هذه القضية كمبدأ للحوار في قضية وجود الله، يقول فلو، و هنا ينبغي عليّ اقتباس قوله بمجمله لأهمية الحفاظ على سياقه: " الخطوة الأولى الواضحة هي اللجوء إلى البديهية القانونية القديمة: "Ei incumbit probatio qui dicit, non qui negat". يترجم هذا حرفياً وبشكل غير متعاطف إلى أنّ: "عبء الإثبات يقع على عاتق الرجل الذي يؤكّد، وليس على الرجل الذي ينكر" "The onus of proof lies on the man who affirms, not on the man who denies". وبتفسير ذلك ، فإن بديهيتنا لا تقدم أيّ توجيه محدد... لنفترض، من ناحية اخرى، أننا أخذنا التلميح المقدم بالفعل في الفقرة السابقة. قد تكون الترجمة الأقل حرفية ولكن الأكثر تعاطفاً هي: "يقع عبء الإثبات على الافتراض، وليس على المعارضة" "The onus of proof lies on the proposition, not on the opposition.". الهدف من التغيير هو إظهار أنّ هذا المبدأ قد تمّ تقديمه في سياق قانوني، وأن محاكمنا هي مؤسسات للنقاش. إنّ البديهية التي لا تقدم توجيهًا محددًا خارج هذا الإطار قد تكون مع ذلك، أساسية لإجراء نقاش منظّم وحاسم بشكل فعال. هنا يفترض أنْ تُقرر النتيجة بناءً على مزايا او استحقاقات merits ما يقال في النقاش نفسه، ومن خلاله وحده. من خلال منح المحاكم أنْ تعمل كمؤسسات للمناقشة، و فهمنا أنّ هذا المبدأ أساسي للنقاش، علينا أنْ نلجأ إلى بعض المبادئ الأساسية الأخرى قبل أنْ نصبح مرخّصين لاستنتاج أنّ الادعاء prosecution يجب أنْ يقترح والدفاع defense يعارض. هذا المبدأ الإضافي هو ، مرة أخرى ، الافتراض المألوف للبراءة." ما يعنينا و ما يهمنا من هذا النص المقتبس عن دراسة فلو، مجموعة من العبارات التي توضّح القصد كله، هنّ أوّلاً: إنّ "افتراض البراءة" و " افتراض الإلحاد" هما بديهيتان لا تقدّمان أيّ "توجيه محدد" و معنى ذلك أنّ الافتراضين معاً لا يحددان أية خطوة لاحقة يمكن عدّها موجهة من قبل امتياز أيّ من الافتراضين، إذْ بمجرد الشروع في الحوار تنتهي صلاحية براءة المتهم المفترضة مثلما تنتهي صلاحية الامتياز المعقود للملحد بموجب قاعدة افتراض الإلحاد. أمّا العبارة الثانية فهي: إن حوار المؤمن و الملحد هو وضع نقاشي يفترض تبادل أدوار الكلام – تقديم عبء الإثبات – بين الطرفين، تماماً كما هو الحال في المحاكم التي هي " مؤسسات للنقاش" و أنّ الغاية من كلا نوعي الحوار – الحوار في قضية وجود الله و الحوار في المحاكم – هو " إجراء نقاش منظّم و حاسم بشكل فعّال" و لذا يجب " أنْ تُقرر النيةُ بناءً على مزايا و استحقاق ما يقال في النقاش نفسه، و من خلال ذلك وحده" بمعنى أن افتراض البراءة لا يمكن انْ يكون مبدأ شافعا لبراءة المتهم في المحكمة، إنّما يكون خَلاصُهُ في نوع و مضمون ما يقوله فحسب، أيْ أنّ أمرَ براءته أو أدانته إنما تتم بالاستناد الى ما يقول في المحكمة و ليس الى امتياز القاعدة التي حظيَ بها. الامر كلّه إذن، لا يعدو كونه " تبنّي سياسة"، كما يقول فلو في عبارة تالية " إن قبول مثل هذا الافتراض يعني تبني سياسة. ويجب تقييم السياسات بالرجوع إلى أهداف أولئك الذين يتم اقتراحها من أجلهم." و معنى هذا أنّ افتراض البراءة في المحاكم، مجرّد إجراءٍ يشبه الى حدّ كبير عملية تبنّي سياسة معينة لتنظيم قضية ما وصولاً لتحقيق أهدافٍ تمّ اقتراح هذه السياسة من أجل تحقيقها، الأمر الذي يستدعي تعرّفنا على هذه الأهداف التي تمّ اقتراح هذا الإجراء أو الوسيلة من أجل تحقيقها و هي، الحرص العام، أي اتفاق مواطني بلدٍ ما اتفاقاً عرفيّا يستند الى عامل الفطرة و النزعة الإنسانية على أنّ: إدانة رجلٍ بريء – لم يرتكب أي ذنبٍ – أكثر ضرراً من إطلاق سراح عشرة متهمين مدانين بالفعل. يقول فلو، موضّحاً علاقة السياسة – الوسيلة بتحقيق أهدافٍ معيّنة، لكن من خلال عرض الجانب الآخر المخالف لمثالنا الذي نصّ على أنّ: إدانة رجلٍ بريء – لم يرتكب أي ذنبٍ – أكثر ضرراً و ظلماً من إطلاق سراح عشرة متهمين مدانين بالفعل، أي من خلال تبنّي مضمون سياسة أخرى مفادها: إنّ إطلاق سراح رجل مذنب أكثر ضرراً و ظلماً من إدانة رجل بريء بذنبٍ لم يرتكبه، يقول فلو: " إذا كان الأمر بالنسبة لك، لا ينبغي أبدًا تبرئة أي شخص مذنب أكثر أهمية من عدم إدانة أي شخص بريء، إذن بالنسبة لك، يجب أنْ يكون افتراض الذنب هو السياسة العقلانية . من هنا سيصبح بالنسبة لك، مع هيكل تفضيلاتك، أنّ افتراض البراءة ببساطة غير منطقي." هذه هي إذن الغاية التي تمّ من أجلها فرض إجراء " افتراض البراءة " في النظام القانوني بوصفه " تبنّي سياسة " الأمر الذي يدعونا الى السؤال عن الأهداف التي تمّ من أجلها اقتراح "افتراض الإلحاد" بوصفه هو الآخر نوعاً من " تبنّي سياسة"؟ يقول فلو في عبارة صادمة بالغة العمق و الدقّة: " إذن ما هي الأهداف التي بالرجوع إليها يمكن تبرير افتراض الإلحاد؟ ثمة كلمة رئيسية واحدة في الإجابة، إن لم تكن هي الكلمة الأساسية، هذه الكلمة يجب أن تكون "المعرفة". One key word in the answer, if not the key word, must be knowledge." مضيفاً على سبيل إيضاح فكرته " والسياق الذي يتمّ من أجله اقتراح مثل هذه السياسة هو البحث/ السؤال inquiry عن وجود الله. والهدف من الممارسة هو، على الأرجح، اكتشاف ما إذا كان من الممكن إثبات أنّ كلمة "الله" لها بالفعل تطبيق. الآن للتأسيس يجب أنْ يكون هنا: إما لإظهار أنّك تعرف أو أنْك حاضر في الحوار لتعرف" المعرفة بوصفها مبدأ الفصل في الحوار، في قضية وجود الله ما تبقّى لنا من دراسة فلو، مما لم نتعرض إليه بعدُ، شرحاً و تفسيرا، فقرتان أو فكرتان لهما ما يجمعهما بالكلمة الرئيسة التي سبق لفلو أنْ تحدّث عنها و هي " المعرفة". و لئن كانت شروحنا السابقة كلّها تهدف الى إثبات خطأ الملحدين في فهم مغزى دراسة فلو، متمثلاً ذلك باعتقادهم أنّ "افتراض الإلحاد" قاعدة عامة مطلقة تعفي الملحدين من تقديم عبء إثباتهم و أنّ هذا العبء خصيصة أصيلة منوطة بموقف المؤمنين وحدهم في قضية وجود الله، أقول: إنّ هاتين الفقرتين المتبقيتين يمكن عدّهما و التعامل معهما بوصفهما موقفين معرفيين يسمحان بالإشارة الواضحة الى خطأ فلو نفسه في قضية تبنّيه للإلحاد موقفاً معرفيّاً يسم شخصيته، كما سنتعرّف على كلّ ذلك بالتفصيل الدقيق من خلال عرضنا لخلاصة معرفية تضمنتها الكثير من عباراته في كتابه " ثمة إله" أعني الكتاب الذي أعلن في مضمونه تحوّله الجذري من موقف الإلحاد الى الإيمان. أمّا الفقرتان المتبقيتان فهما أولاً: افتراض انطوني فلو أنّ ادّعاء المؤمنين بقضية وجود الله لا يعدو كونه موقفاً يعبّر عن إيمانهم بهذه القضية فحسب، بمعنى أنه موقفٌ لا يمتّ لعنصر المعرفة بصلة، و لذا ينبغي على المؤمنين بقضية وجود الله أن يدافعوا عن نوع إيمانهم بأساليب تنتمي الى المعرفة و ليس الى الإيمان وحده، أمّا الفقرة الثانية فمضمونها، تفنيد انطوني فلو لمضمون " رهان باسكال الشهير" و وقوفه ضدّا معرفيا ملحداً على هذا المضمون. بعد أنّ تعرّفنا على نحو عام على مضمون الفقرتين، أحسب أن السياق قد أصبح مناسباً لعرض أفكارنا الخاصة التي من شأنها أن تثبت خطأ انطوني فلو في تصوّره لمضمون الفكرتين معاً، من خلال علاقتهما بالكلمة الرئيسة التي وضعها فلو بنفسه، و هي المعرفة، و على النحو التالي: أنطوني فلو: الإيمان و المعرفة يقول فلو في مجموعة منوّعة من العبارات غايتها إثبات ما تمّ لنا بيانه في الفقرة الأولى، أيْ ضرورة أن يكون الإيمان بالله مرتبطا بالمعرفة: 1- " لكن المعرفة تختلف اختلافًا جوهريًا عن مجرد الإيمان الحقيقي. كل معرفة تنطوي على إيمان حقيقي ؛ ليس كل معتقد حقيقي يشكل معرفة" 2- لكن قد يؤمن شخص ما أنّ هذا أو ذاك صحيح، وقد يكون اعتقاده في الواقع صحيحًا لكن يجب على المؤمن أن يضمن ذلك بشكل صحيح. يجب أنْ يكون في وضع يسمح له بالمعرفة. 3- بالإشارة إلى هذا الطلب الذي لا مفر منه، فإن افتراض الإلحاد له ما يبرره. إذا تمّ إثبات وجود إله، فيجب أنْ تكون لدينا أسباب جيدة للاعتقاد بأنّ هذا الأمر كذلك بالفعل. الى أنْ، وما لم يتم إنتاج بعض هذه الأسباب ، فليس لدينا حرفيًا أي سبب للاعتقاد؛ وفي هذه الحالة، يجب أنْ يكون الموقف المعقول الوحيد هو إما الملحد السلبي أو اللاأدري. لذلك يجب أن يقع عبء الإثبات على الافتراض - الايمان -. يجب أنْ يكون الأمر متروكًا لهم: أولاً ، لإعطاء أيّ معنى يختارونه لكلمة "الله" اي تقديم أسباب كافية تبرر ادعاءهم بوجود إله بالمعنى الحالي لكلمة "الله". 4- في النهاية ، ربما يكون من المستحيل إثبات وجود الله ، أو حتى إثبات احتمال وجوده بشكل أو بآخر. ولكن، إذا كان الأمر كذلك ، فهذه ليست الأخلاق الصحيحة: وبذلك لا يصبح الإنسان العقلاني في هذا المجال حراً في الإيمان أو عدم الإيمان. من المؤكد أن الإيمان لا ينبغي أنْ يكون قفزة في الظلام بل قفزة نحو النور. السؤال هنا هو: لماذا لا يكون الملحد – هو الآخر - في وضع يسمح له بالمعرفة؟ لماذا يتعين على "ايمان" المؤمن أنْ يكون مصحوبا بالمعرفة و لا يكون "ايمان" الملحد بعدم وجود الله بدوره مصحوبا بالمعرفة؟ أعني بعبارة مباشرة، أ ليست قضية تحوّل فلو من الالحاد الى الايمان في جوهرها و عمقها الاصيل هي قضية معرفة لا غير؟ أو بعبارة مباشرة قاسية: أ لم يكن النقص المعرفي الفلسفي و العلمي الخاص بعقلية فلو هو العامل الرئيس الذي يمكن أنْ نعزو اليه تبني فلو لقضية الالحاد موقفا معرفيا قبل تحوّله الى الإيمان؟ ثم أ لم يكن تراجعه عن موقف الإلحاد الى الإيمان معزوّاً مُسبَباً باطلاعه عن كثب على مجموعة كبيرة من المعارف العلمية و الفلسفية مما لم يكن على دراية بها من قبل ؟ إذا كان الأمرُ كذلك، و هو كذلك حقاً بسببٍ من اعتراف فلو نفسه بهذه الحقائق، دعونا نتعرّف الآن على هذه المجموعة الكبيرة المنوّعة من الحقائق التي يمكن عدّها عوامل معرفية تفصل بين مرحلتين اعتقاديتين: مرحلة إلحاده، بسببٍ من جهله بها، و مرحلة إيمانه من بعد تعرّفه عليها، و من خلال اعتراف فلو نفسه بطبيعة هذه المفارقة. في كتابه " ثمة إله " يتحدث فلو عن الإسباب التي اضطرته الى التراجع عن موقف الإلحاد و التحول الى الإيمان، و على النحو التالي: افتراض الإلحاد: بين تصوّرَي فلو، ملحداً و مؤمنا في كتابه " ثمة إله " يُفرد أنطوني فلو فقرة مستقلة للحديث عن مبدأ "افتراض الإلحاد " لكن، من خلال كونه مفكّراً مؤمناً بوجود الله، و ليس ملحداً، كما كان هذه المرّة، يقول فلو: " بعد مرور عقدٍ من الزمن على نشر كتاب "اإلله والفلسفة"، قمت بكتابة مقالة "افتراض الإلحاد" التي نُشرتْ في الولايات المتحدة تحت عنوان "الله و الحرية و الخلود. في هذه المقالة جادلت بأنّ النقاش حول وجود إلله يجب أنْ يبدأ من فرضية الإلحاد، وأنْ عبء الإثبات يجب أنْ يكون على المؤمنين بالله . أشرتُ إلى أنّ هذا النهج الجديد يضع مسألة وجود الله بشكل كامل في إطار منظور جديد، كما أنّه يساعد في التخلص من المشاكل التصورية عن الايمان التي قد لا يتم الاهتمام بها، مما يجبر اللاهوتيين على البدء من البداية المطلقة. استخدام المؤمنين بالله لكلمة "الله" يجب أنْ يوفّر معنى يجعل من الممكن نظريا وصف هذا الكائن. توصّلتُ إلى نتيجة مفادها أنّه مع هذا المنظور الجديد يظهر مشروع الايمان بالله بأكمله متزعزعا أكثر مما كان عليه من قبل. يمكن تبرير فرضية الإلحاد لعدم توفّر المبررات الوجيهة للاعتقاد بوجود الله، ولكن إذا لم يكن لدينا مثل هذه المبررات فإنه لا يوجد هناك سبب كاف للايمان بوجود الله، والموقف الوحيد المعقول هو أنْ تكون ملحدا سلبيا أو لا أدريا agnostic )قصدت بالملحد السلبي النمطي وغير الاخلاقي )، ولا بدّ لي من الاشارة هنا إلى ما لا تتضمنه الفرضية. أي أنها ليستْ فرضيةً مسبقة الحكم على نتيجة يراد أنْ تُثبت، و إنّما هي مبدأ إجرائي لتحديد من سيقع عليه عبء الإثبات، مثل قاعدة "الاصل البراءة" - وهي القاعدة التي يستند إليها القانون العام الانكليزي." هذا هو التصور لمعنى قاعدة فلو " افتراض الإلحاد " كما قدّمه فلو بنفسه بعد تحوّله الى الإيمان بالله، و هو تصوّر لا يفرق بكثير أو قليل، لا عن الشروحات التي قدّمتها لتصوره، و لا عن المعاني الأساسية التي قدّمها بنفسه لتصوّر افتراض الالحاد عندما كان ملحداً. بعد ذلك يعرض فلو مجموعة من الردود المناهضة لمضمون قاعدته و على النحو التالي: حفّزت هذه الحجة العديد من الردود. باعتباره لا أدريا كتب الفيلسوف الانجليزي أنتوني كيني Anthony Kenny ، قائلا بأنّه قد تكون هناك فرضية، أو تبرير لللا أدريةagnostic ، ولكن هذا التبرير ليس تبريرا ً للالحاد السلبي او الايجابي . لقد أكد كيني على أنّ إظهار، أنّك تعرف، يتطلّب جهدا أكبر من إظهار أنك لا تعرف. و هذا يشمل حتى الادّعاء بأنّ تصور الله غير متماسك، لكنه قال: إنّ هذا لا يخلّص اللا ادرية agnostic من الورطة، فالمتقدم للاختبار يمكنه تبرير عدم معرفته بالاجابة على أحد الاسئلة ، ولكن هذا لا يمنحه القدرة على إجتيازالاختبار. أكبر تحدٍ للحجة جاء من أمريكا، حيــث قـــدم Alvin Plantinga أستاذ المنطق الجهاتي Modal logic فكرة مفادها أنّ الاعتقاد بالله إعتقاد أساسي، وأكد على أنّ الاعتقاد بالله مشابه للاعتقاد بالحقائق الرئيسية مثل وجود عقول أخرى، أو الاعتقاد الحسي "رؤية شجرة" أو الاعتقاد بوجود ذاكرة "الايمان بوجود ماض" في جميع هذه الحالات، أنت تثق بقدراتك الادراكية على الرغم من أنك لا تستطيع إثبات صدق الاعتقاد محل التساؤل. و بالمثل، فإن الناس يعتقدون ببعض القضايا " كوجود العالم مثلا" كأصل، في حين تشتق ما يترتب عليها من القضايا الاساسية هذه. هذه الفرضية تقول: إن المعتقدين بالله، قد يجادلون بأنهم يأخذون وجود الله كقضية أساسية. في ردّ آخر على مقالته، يقول فلو: يعتبر رالف ماكلينري الفيلسوف التوماوي " نسبة إلى الفيلسوف توما الاكويني" إن من الطبيعي للانسان أنْ يعتقد بالله بسبب النظام، والترتيب، وقوانين الطبيعة التي تحكم الاحداث التي تقع في الطبيعة، ولذلك كثيرا ما يقول إن فكرة وجود الله فطرية وهي تبدو كمسلّمة ضد الإلحاد. لذا فإنه في حين جادل بلانتينغا بأن المؤمنين لا يتحملون عبء الاثبات، ذهب ماكلينري أبعد من ذلك بالقول إن الملحدين هم من يتحمل عبء الاثبات. يضيف فلو في نصّ له بالغ الاهمية " ينبغي أنْ أشير هنا إلى أنّه على خلاف حججي المضادة للاهوت، فإن فرضية الالحاد يمكن قبولها من قبل المؤمنين عند وجود أسسٍ قوية للاعتقاد بوجود الله، فإذا افترضنا وجود مبررات مناسبة للاعتقاد بالله، فالمؤمنون لا يرتكبون أيّ خطأ فلسفي في مثل هذا الاعتقاد! لأنّ فرضية الإلحاد في أحسن الاحوال نقطة انطلاق منهجية، وليست نتيجة وجودية." السؤال هنا هو: ما هي الخلاصة الفكرية التي يمكن لنا الحصول عليها من خلال عرض فلو لقاعدة افتراض الالحاد من خلال كونه مؤمنا بالله، و ليس ملحداً كما كان؟ للإجابة عن هذا السؤال، أقول : إن موقف فلو من قاعدة " افتراض الإلحاد " بعد أنْ أصبح مؤمناً، لا يكاد يختلف بشيء جوهري عن موقفه من هذه القاعدة ذاتها عندما كان ملحداً، الأمر الذي يثبت صحة تصوراتنا و شرحنا لهذه القاعدة لها، أعني بذلك: صحة افتراضنا لسوء فهم الملحدين لها بتفسيرها ان عبء الاثبات يقع على مسؤولية المؤمن وحده و انّ الملحد معفوٌ منها، ثم يثبت من بعد انْ موقف فلو من هذه القاعدة لا يكاد يتغير إلّا من خلال الاعتراف بخطئها في نقد بلانتينغا لها. مع ذلك، وهذه ملاحظة غاية في الأهمية كما أشرتُ، يضيف فلو في نهاية هذه الفقرة قولا جديدا نصّه كما مرّ بنا: ينبغي أنْ أشير هنا إلى أنّه على خلاف حججي المضادة للاهوت، فإن فرضية الالحاد يمكن قبولها من قبل المؤمنين عند وجود أسس قوية للاعتقاد بوجود الله، فإذا افترضنا وجود مبررات مناسبة للاعتقاد بالله، فالمؤمنون لا يرتكبون أي خطأ فلسفي في مثل هذا الاعتقاد! لأن فرضية الإلحاد في أحسن الاحوال نقطة انطلاق منهجية، وليست نتيجة وجودية. أما المعنى المهم لهذه الإضافة التي تشير الى إمكان قبول المؤمنين للعمل على وفق منطق قاعدة افتراض الالحاد في حوارهم مع خصومهم و تحمّلهم لعبء الإثبات، فهو: إنّ اعتراض و نقد بلانتينغا لقاعدة فلو في افتراض الالحاد، يدخل من الباب الواسع في معنى هذه العبارة قيد البحث، أعني أنّه نوع اعتراض يمكن درجه تحت فضاء قبول بلانتينغا لقاعدة فلو بتحمّله المؤمنين لعبء الاثبات: من حيث أن طبيعة تفنيد بلانتينغا لقاعدة افتراض البراءة لا يتأسس على نحو كلّي على رفض منطق هذه القاعدة فحسب، إنّما يقدّم رفضاً معقولاً لأسباب رفضها، مفاده أنّ نوع وجود الله ينتمي الى فئة القضايا الأساسية التي لا يمكن إثباتها – كما مرّ بنا – بعبارة أخرى: إنّه نوعُ رفضٍ يتأسس على قاعدة إيمانه بوجود الله، رفضٌ يقبل تحدي انطوني فلو بتحمّل عبء الإثبات، عن طريق تقديم المبرر لرفضه. بل يمكن القول: إنّ تراجع فلو عن موقفه الالحادي و تحوله الى الإيمان، يمكن ان يدخل و يُفسر هو الآخر تحت الفضاء المعرفي لهذه العبارة، أعني: أنه من الممكن جدا أنْ ننظر الى مضمون كتاب فلو " ثمة إله" كلّه على أنه نوع من الـ " قبول بفرضية الالحاد من قبل المؤمنين عند وجود أسس قوية للاعتقاد بوجود الله، فإذا افترضنا وجود مبررات مناسبة للاعتقاد بالله، فالمؤمنون لا يرتكبون أي خطأ فلسفي في مثل هذا الاعتقاد، لأن فرضية الإلحاد في أحسن الاحوال نقطة انطلاق منهجية، وليست نتيجة وجودية" بعبارة أخيرة: إنّ قبول المؤمن بقاعدة افتراض الإلحاد، و بالتالي تحمّله لمسؤولية تقديم عبء إثباته لقضيته يعني هنا قضيتين، الأولى منهما، أنه قد يسمح لهذا المؤمن – على الأخص إذا كان مفكّرا خَبِر مضمون اعتقاده – أنْ يدحض و يفنّد رأي خصمه الملحد عن طريق تقديمه الأدلة على صحة اعتقاده، و من بينها بطبيعة الحال إثباته لخطأ مبنى هذه القاعدة – كما فعل بلانتينغا – أو دفاعه عن عقيدته المؤمنة بتقديم أدلته على صحة اعتقاده بالله كما فعل انطوني فلو نفسه في مجمل مضمون كتابه " ثمة إله "، و هو المضمون الذي سنتعرف عليه بالتفصيل الدقيق في القابل من هذه الفقرة، و على النحو السردي التالي: يقول فلو: - أما الآن فقد وصلتُ إلى قناعةٍ بأنْ أعرض ما يمكن تسميته وصيتي وشهادتي الأخيرة، وباختصار وكما يدل عليه عنوان الكتاب فأنا أعتقد الآن بأن هناك إلهً. خلال أكثر من خمسين سنة لم أنكر وجود إله فحسب، بل أنكرت أيضا حياة بعد الموت. ص 12. - حين عرفتُ أنّإن رايل يتّبع المقولة التي أوردها افلاطون في كتابه "الجمهورية" وهي المقولة التي تنسب إلى سقراط، وفيها يقول " يجب أنْ نتبع الحجة أينما قادتنا" وهذا المبدأ - ضمن أمور أخرى – يتطلب أنْ يتم نقاش أيّ إعتراض بصورة مباشرة وجها لوجه، حاولت أن أطبق هذا المبدأ طوال حياتي الجدلية. ص 35. - إنّ عملية إنضاج وترسيخ آرائي الفلسفية استغرقتْ سنوات، وفي ذلك الوقت توصّلتُ إلى مبادئ إرشادية لم تتحكم في طريقة كتابتي وتفكيري فحسب، بل في الحقيقة قادتني في النهاية إلى عملية التحول الجذري من الالحاد إلى الايمان. ص 46. - كما ذكرتُ سابقا فإن الأسس التي بنيتُ عليها اقتناعي بالالحاد عندما كنت في الخامسة عشرة كانت ناقصة بوضوح. لقد كانت مبنية على عناد صغار السن. ص59. - في الفيديو الذي عرض في الندوة، أدّعى عريف الندوة أنّ إلله هو أعظم إكتشافات العلم الحديث، وعندما سُئلت في هذه الندوة إنْ كان بحثي حول أصل الحياة يشير إلى ذكاء إبداعي، أجبتُ بالقول: " نعم، أنا الآن أعتقد بذلك بشكل شبه كامل بسبب اكتشافات الحمض النووي . DNA ما قدّمه إكتشاف الحمض النووي أوضح التعقيد الشديد غير القابل للتصديق للترتيبات اللازمة لخلق حياة، وهو الذي يوجب أنْ يكون هناك ذكاء خارق يجعل هذه العناصر المختلفة تعمل معا. إنه التعقيد الخارق لهذه العناصر والدقة الهائلة في الطرق التي تتفاعل ففيما بينها، واجتماع هذين الامرين في الوقت المناسب بالصدفة هو ببساطة أمرٌ مستحيل، فلا بدّ من أنّ الامر يتعلق بتعقيد هائل أنتج ما وصلنا إليه، وهو ما بدا لي أنه نتاج ذكاء. ص 92 - من المؤكد أنّه ببساطة، من المستحيل القول بأنّ عملا رائعا مثل أصل الحياة حدث بالصدفة. ص94 - لألقي أوراقي على الطاولة، وأعرض أفكاري والاسباب التي تدعم ذلك. أنا الان أؤمن بأنّ الكون قد جاء إلى الوجود بواسطة ذكاء لا محدود. أنا الآن أؤمن بأنّ قوانين الكون المعقدة تبيّن ما أسماه العلماء عقل إلله. انا أؤمن بأنّ الحياة وإعادة الخلق أساسها مصدر إلهي. لماذا أؤمن بذلك مع إنّي دافعت عن الالحاد لأكثر من نصف قرن؟ الجواب باختصار هو أنّ هذه هي صورة العالم التي نبعتْ من العِلم الحديث. العلمُ سلّط الضوء على ثلاثة أبعاد للطبيعة وهي تشير إلى إلله. الأوّل هو أنّ الطبيعة تخضع لقوانين. الثاني هو بُعد الحياة في الكائنات الذكية المنظمة التي نتجت عن المادة. الثالث هو الوجود الحقيقي للطبيعة. ولكن ليس العلم فقط هو من قادني لذلك. ولكنني أستفدت من الدراسة المستحدثة للحجج الفلسفية التقليدية. ص 106 - ثلاثة أبعاد من البحث العلمي كانت على وجه الخصوص مهمة بالنسبة لي، على ضوء الأدلة المتداولة اليوم. أوّل هذه الأبعاد هو السؤال الذي حيّر و لازال يحير الكثير من العلماء اللامعين، وهو من أين جاءت قوانين الطبيعة؟ والثاني هو السؤال الواضح للجميع: كيف جاءت الحياة من اللا حياة؟ والثالث وهو السؤال الذي يوجّهه الفلاسفة لعلماء الكون: كيف جاء الكون - بكل ما يحتويه من أشياء مادية- إلى الوجود؟ ص 109 - بناءً على موقفي الجديد من نقـــاش الفلسفة التقليــــديـة حــــول وجـــــود إلــه، فإن أكثر ما أقنعـــــني هو حجــــة الفيلسوف ديفيـــــد كونــــوي David Conway المؤيدة لوجــــــود إله في كتابه "عــــودة الحكمة" كتب كونوي قائلاً " و خلاصة القول إن أرسطو حدد الصفات التالية للكائن الذي يفسر وجود العالم بمعناه الواسع: الثبات، غير مادي، على كل شيء قدير، بكل شيء عليم، يتّصف بالوحدانية، غير قابل للتجزئة، يتّصف بالخير المطلق ووجوب الوجود. هناك تشابه عجيب بين هذا الصفات و بين تلك الصفات التي ذُكرت للإله في التقليد اليهودي- المسيحي. وهذا ما يبرر قولنا بأنّ أرسطو كانت لديه نفس فكرة الله كمسبب للوجود وهو نفسه الإله الذي يستحق العبادة في هاتين الديانتين. ص 110 وكما يرى كونوي، فإن الله الذي تؤمن به الأديان التوحيدية له نفس صفات الله الذي يؤمن به أرسطو. في كتابه، يحاول كونوي الدفاع عما أسماه التصور التقليدي للفلسفة. وهذا التصور يرى أنّ تفسير وجود العالم ينبثق من أن الإله كُلّي القدرة وكِلّي العلم، خلق هذا العالم لكي يوجد ويستمر وجودُ الكائنات العاقلة عليه. خلق الله الكون من أجل أنْ يخلق جنس الكائنات العاقلة. يعتقد كونوي وأنا أشاركه في ذلك أنّه من الممكن معرفة وجود وطبيعة هذا الإله الأرسطي عن طريق التجربة دون الحاجة إلى استدلال بشري . لا بدّ أنْ أؤكد على أنّ اكتشافي للإلوهية مرّ عبر مستوى طبيعي صرف، دون الرجوع إلى أية ظواهر غير طبيعية – خارقة . لقد كان إكتشافي للإلوهية عبارة عن ممارسة ما يسمى باللاهوت الطبيعي. و ليس له أية علاقة بأيّ نوع من أنواع الوحي الديني. وأنا لا أدعي أنه حصلتْ لي أيّة تجربة شخصية مع الإله أو أيّة تجربة يمكن اعتبارها إعجازية أو غير طبيعية. باختصار، أكتشافي للإلوهية كان عبارة عن رحلة عقل وليست رحلة إيمان. 111 - رواد فيزياء الكوانتم وهم من عظماء المكتشفين في الزمن الحديث من أمثال ماكس بلانك Max Planc ورنر هيزنبيرغ Werner Heisenberg ، شرودجنر --dir--ac Paul، كل هؤلاء صدرتْ عنهم عبارات بخصوص الربط بين قوانين الطبيعة وعقل الله 122 - وعندما يبرز السؤال الاصلي إلى الواجهة وهو، كيف يمكن للمعلومات ذات المعنى أو الدلالة أنْ تنبثق بصورة فورية من مجموعة من الجزيئات غير العاقلة الخاضعة لقوى عمياء وفاقدة الهدف، وهذا ما يمثل تحدّيا فكريا عميقا 153 - هذه هي الخلاصة: إنّ التفسير المُرضي الوحيد لأصل الحياة الهادفة القابلة للتكاثر كما رأينا هو العقل الذكي الالمتناهي. 156 - لقد بدا أنّ علماء الكونيات يقدمون الدليل العلمي على ما قاله القديس توما الإكويني من أنّه يصعب على الفلسفة إثباته، يعني أنّ للكون بداية. 161 - لعل أكثر الحجج الداعمة لوجود إله من الناحية الحدسية ما تسمّى بحجة التصميم Argument From Design وفقا ً لهذه الحجة فإنّ التصميم الواضح في الطبيعة يدلّ على وجود مصمم للكون. 115 - وعندما يبرز السؤال الاصلي إلى الواجهة وهو كيف يمكن للمعلومات ذات المعنى أو الدلالة أنْ تنبثق بصورة فورية من مجموعة من الجزيئات غير العاقلة الخاضعة لقوى عمياء وفاقدة الهدف، هذا ما يمثل تحدّيا فكريا عميقا 153 - أمّا بالنسبة لصلاحية هذه الحجج فأنا أتفقُ مع استنتاج كونوي الذي قال فيه: إذا كان منطق الفصل السابق صحيحا ً فإنه لا توجد حجة فلسفية جيدة تنفي وجود الإله لتكون تفسيرا للكون المنظم الذي يظهر لنا. وإنْ كان الأمر كذلك، فلا يوجد سبب يمنع الفلاسفة للعودة مرة أخرى للتصور الكالسيكي لموضوعهم، 181 - العلم كعلم لا يمكن أنْ يقدم حجةً تؤيّد وجود الله. ولكن البراهين الثلاثة التي ذكرناها في هذا الكتاب: قوانين الطبيعة، الحياة الغائية، ووجود الكون، يمكن فقط تفسيرها على ضوء ذكاء يفسر وجوده بذاته ويفسر كذلك وجود العالم. اكتشاف الله على هذا النحو لا يأتي من خلال معادلات وتجارب، ولكن من خلال فهم التركيب الذي من خلاله تستطيع إزاحة الغموض عن الخريطة. 185 - لا بدّ أنْ أعيد تكرار القول بأنّ رحلة إكتشافي للمقدس كانت إلى حد بعيد رحلة عقل. لقد اتبعت الحجة إلى حيث أخذتني، وهي قادتني إلى وجود إله ذاتي الوجود، غير متغير، غير مادي، على كل شيء قدير وبكل شيء عليم. بالتأكيد، لا بد من مواجهة مشكلة الشرور و المعاناة في العالم. ولكن فلسفيا هذا الموضوع مختلف عن موضوع وجود الله. - من وجود العالم نصل إلى الاساس لوجوده. قد يكون للطبيعة نواقصها، ولكن هذا لا علاقة له إذا ما كان لها مصدر نهائي او لا. ولذلك فوجود الله لا يعتمد على أنّ هناك تبريرا أو عدم تبرير لوجود الشر. فيما يخص مسألة الشرور، هناك تفسيران لمن يؤمن بوجود الله. التفسير الأول هو في إله أرسطو الذي لا يتدخل في العالم. أما التفسير الثاني فيستند إلى حجة الإرادة الحرة، و هي فكرة أنّ الشرّ ممكن دائما مادام الانسان حرّ الإرادة. هذه هي على نحو كامل، مجموعة العبارات التي تضمّنها كتاب انطوني فلو " ثمة إله" و التي يمكن عدّها اعترافه الأخير بخطأ تبنّيه لموقف الإلحاد في ماضي حياته الفكرية، مثلما يمكن عدّها أسبابا مقنعة - له – أدّت الى تراجعه عن موقف الالحاد و تحوّله الى الإيمان بالله، تماما كما يمكن عدّها – كما قلت – قبولَ المؤمن للعمل على وفق قاعدة افتراض الالحاد، عن طريق تحمّله لعبء اثبات صحّة اعتقاده بوجود الله، إذْ ليستْ مجموعة العبارات هذه في حقيقتها، سوى أدلة يسوقها انطوني فلو – بوصفه مؤمناً الآن – في مواجهة قناعات ذلك الملحد الذي كانَهُ ذات يوم. مع ذلك كلّه لا بدّ لي من طرح السؤال – و هو السؤال الأكثر أهمية في هذه الفقرة لكونه يربط بين مضمون عبارات فلو الأخيرة و بين عنصر المعرفة الذي عدّه عنصرا أساسيا ينبغي للمؤمن بالله أنْ يضيفه الى إيمانه – أمّا السؤال فهو: هل يمكن القول: إنّ نقص العامل المعرفي في تجربة فلو الفكرية، هو الأمر و السبب الذي قاده الى الإلحاد، و إنّ استكمال هذا الجانب المعرفي في تجربته الفكرية هو السبب الذي يمكن أنْ نعزو إليه تحوّله من الإلحاد الى الإيمان بوجود الله؟ في حقيقة الأمر، يمكن لنا الإجابة عن هذا السؤال بـ " نعم " على نحو عام، أمّا التفاصيل فهي، إذْ تتعلق حيناً بالكشوف العلمية الجديدة، تتعلق في أحيان أخرى بالبحوث و الحجج الفلسفية الجديدة التي قدّمها عددٌ من الفلاسفة اللامعين على سبيل إثبات وجود الله. يقول فلو، إنه قد عمل على: اجراء مراجعة لآراء عشرات من الفلاسفة و العلماء المعاصرين له، ولكن ليس العلم فقط هو من قادني لذلك. و إنّما أستفدت من الدراسة المستحدثة للحجج الفلسفية التقليدية. ص 106 بعبارات أُخر: لقد اصبح انطوني فلو يتساءل مع اينشتاين و ستيفن هوكنغ عمن كتب قوانين الطبيعة، بعد أنْ كان يَعدّ تلك القوانين نتاجاً عشوائيا لتطور المادة الكونية. بل اأصبح منقلبا على كل تعاليم هيوم الملحدة التي ضللتْ أجيالا من القراء ليعمل على تفنيدها في قراءة ايمانية جديدة يقودها الايمان بالله. 74 إنقلب فلو على تعاليم داروين أيضا. ص 95 ثمّ أصبح يعتقد مع بول ديفيز و جون فوستر أنّ الخيار الايماني هو الخيار الوحيد الجدير كمصدر للمعرفة الكون و الحياة، و من هنا يقول: إنّ جان بورو، فريمان دايسون، فرنسيس كولينز، روجر بنزو، سوينبيرن و جون ليسلي. هؤلاء العلماء – الفلاسفة الذين يشيرون إلى عقل الله لا يقدمون مجرّد سلسلة من الحجج أو عملية استدلالٍ منطقية. ولكنهم يقدمون رؤية للواقع تنبثق من جوهر تصورات العلم. حتّى المبدا الانثروبي الذي ينظّم عمل الكون و الحياة غبر الثوابت الستّ، والذي كان يتنكر فلو له بالقول أنّه حادث بالصدفة، اأصبح الآن يعتقد بأنه – و بكل تأكيد – " بأنّ عليك تفكر مجددا بأنّ كائنا ما كان يعرف بقدومك" ص 135 إنه الآن يتفق مع بول ديفيز على رفض فكرة الأكوان المتعددة الملحدة مقرّاً أنّ التفسير الوحيد المقنع هنا هو العقل الإلهي. 143 و كذا هو الحال متفق مع سويتبرن على أنّ وجود الكون المادي المعقد عبر زمن متناهي أو لا متناهي أكبر بكثير من قدرة العلم على التفسير. ص 166 باختصار، ثمة مصدران للمعرفة تضافرا معاً ليكونا العامل المعرفي الفاعل في حقيقة التحوّل الفكري لموقف فلو، و هما عامل فلسفي و عامل علمي: تمثّل الأول في " تعرّف" فلو على البحوث الفلسفية لكل من، سوينبرن ، بلانتينغا وليـــام لــــين كريــــــــغ، جيرالد شرويدر ً مؤلف أفضل الكتب مبيعا ً »علم الله« The Science of God ، حجج ديفيـــــد كونــــوي David Conway المؤيدة لوجــــــود إله في كتابه "عــــودة الحكمة" و غيرهم مما ذكر و ما لم يذكر، أمّا من الناحية العلمية – و كما مرّ بنا – فقد كان اكتشاف الـ DNA و كشوفات روّاد فيزياء الكم و البحوث الفيزيائية في نشأة الكون و الحياة، لكلِّ من: بول ديفيز و جون فوستر، جان بورو، فريمان دايسون، فرنسيس كولينز، روجر بنزو، و جون ليسلي، هي العامل المؤثر في قضية التحول في موقف فلو، و ليس يخفى أنّ العاملين معاً – الفلسفي و العلمي - لا يعدوا كونهما أنواعاً من المعارف تحدّد على نحو بالغ الوضوح موقف الإنسان المفكر على الأخص من قضية وجود الله و خلقه للكون و الحياة. بقي أنْ أضيف هنا مسألة - سبق لي التحدث عنها على نحو عام - و هي موقف فلو من رهان باسكال، من حيث أنّ مضمون هذا الرهان يتعلّق في جوهره و في سبب اقتراح باسكال للعمل على وفقه بقضية معرفية مفادها: جهل الإنسان و عجزه عن إثبات وجود الله أو عدم وجوده، يقول جيمس كولينز موضحاً سبب وضع باسكال لرهانه " إنّ الأدلة الميتافيزيقية على وجود الله بعيدة عن نطاق العقل الإنساني بحيث لا يستطيع إدراكها" أمّا باسكال فيقول موضّحا هذا السبب نفسه " الله إمّا أن يكون موجودا و إمّا لا يكون ... و لكن الى أية جهة نميل؟ العقل لا يستطيع أنْ يجزم بشيء، فدوننا و دون ذلك فضاء غير متناه" بعبارة موجزة: إنّ "جهل" الإنسان بقضية وجود الله أو عدم وجوده، هو السبب الوحيد الدائم الذي يدعو باسكال الى وضع رهانه موضع العمل الدائم، بسبب من استحالة " معرفة" الإنسان لأية حجة و من أي نوع معرفي يمكن أنْ تقوده الى يقين لمعرفة أن الله موجود أم لا. هذا هو المفهوم و المعنى الذي تنكّر له فلو و شحذ همّته الفكرية للعمل على دحضه حين قال أبّان كان ملحداً، إنّ " افتراضه غير المبرر بأنّ هناك خيارين فقط للمراهنة، ولا يمكن منح أيّ منهما، على افتراض الجهل التام ، أيّ مقياس للاحتمال الإيجابي. بعد كل هذا ، يبدو من المنطقي الإجباري أنْ يراهن المرء بحياته على بعد كل هذا، يبدو من المنطقي الإجباري أنْ يراهن المرء بحياته على البديل الذي يعد ويهدد كثيرًا جدًا. لا يبذل باسكال أيّ محاولة في هذه الحجة الأكثر شهرة لإظهار أنّ كاثوليكيته الرومانية صحيحة أو على الأرجح صحيحة. الأسباب التي يقترحها للقيام بالرهان الموصى به على إيمانه الخاص هي أسباب بمعنى الدوافع وليس أسبابًا في إحساسنا السابق بالأسباب. باسكال يحاول تبرير سياسة حكيمة للإقناع الذاتي المنهجي، بدلاً من توفير أسباب للاعتقاد بأن المعتقدات الموصى بها صحيحة في الواقع." أمّا موقف فلو من رهان باسكال – بعد تحوّله الى الإيمان - فهو ما يتمثّل بتساؤله أولاً " هل أنّ رهان باسكال هو وحده الرهان الآمن؟" – ثمة إله ص 11 – الى قناعته من بعد " أود أنْ أضع حدّاً لكل هذه الشائعات التي وضعتْ موقفي في إطار رهان باسكال. وعلي أنْ أشير إلى أنّ هذه ليست المرة الأولى التي أغير فيها وجهة نظري في قضية رئيسية. خلاصة لما تقدم كله في هذه الفقرة، و باختصار شديد، لقد كان نقص المعرفة بشقيها العلمي و الفلسفي هو السبب الذي يعزى اليه موقف فلو بوصفه ملحداً، أمّا تحوّله الى موقف الإيمان بالله فلا يمكن أنْ نجد له مسوّغاً أفضل من القول بأنّ تعرّفه على مجموعة الحقائق العلمية و الفلسفية التي تمّ له بيانها بنفسه قبل حين، هي العامل المعرفي الرئيس الذي يبرر و يحتوي سببَ هذا التحوّل. بعبارة أخرى: إذا وضعنا في البال قول فلو بانه يتّبع الدليلَ الى حيث يقوده، أيْ إنّه لن يؤمن حتى يحصل على أدلة كافية على اثبات وجود الله، فربما يمكن لنا النظر الى مضمون كتابه " ثمة إله " بوصفه مجموعة الأدلة التي تم ّ لفلو الحصول عليها و التي كان من شأنها أنْ تقوده الى الإيمان بوجود الله. أخيرا، كما أشرتُ في أكثر من موضع من دراستي، أودّ الإشارة الآن الى الفكرة نفسها و هي: إنّ إحدى الغايات الرئيسة من شرح و تفصيل دراسة فلو المعنونة " افتراض الإلحاد " هي بيان خطأ الملحدين في فهمهم لمغزى هذه الدراسة، متمثلاً ذلك باعتقادهم – خطأ - أنها تسمح لهم بإعفاء أنفسهم من تحمّل عبء إثباتهم في حوارهم مع المؤمنين في قضية وجود الله، و هو المعنى الذي لا يمكن أنْ تؤدي إليه دراسة فلو على الاطلاق. بقي أنْ نضيف هنا ملاحضة بالغة الأهمية، لا ينبغي أنْ تغيب عن بالنا خلال قراءة هذا الفصل كله، و هي: إنّ إشارتي الى نقص المعرفة لدى الملحدين، و اكتسابهم إيّاها من بعد، و من ثمّ تحولهم الى الإيمان – كما هو الحال مع فلو – لا يمكن أنْ يعني أبداً أيّا من المسألتين التاليتين: الأولى: إن الإشارة الى قبول المؤمن بإجراء إدخال عنصر المعرفة في بيئة الحوار في وجود الله، لا يعني قبولها " من حيث المبدأ" بوصفها عنصرا فاعلا وحيدا من شأنه حسم الحوار في قضية وجود الله مع الآخر، بسبب من وجود عناصر أخرى أكثر أهمية منها ، إنما يعني فقط، أنه نوع قبول خاص من قِبل بعض المؤمنين ممن يعتقدون وجود القدرة في أنفسهم على تحمّل عبء الإثبات المعرفي، إمّا لدحض قاعدة افتراض الإلحاد برمتها، و إمّا لتفنيد أدلة خصومهم في التنصّل من تحمّل مسؤولية عبء الإثبات، و إمّا لدحض حجج خصومهم المضادّة التي تسوّغ لهم افتراض عدم وجود الله، أو باختصار يجمع الخيارات الثلاثة: إنّ قبولهم يعني حرصهم على ديمومة الحوار في قضية وجود الله و عدم انقطاعها بسبب هذه الحجة الواهية أو تلك مما يتذرّع الملحدون به لإنهاء قضية الحوار على وفق التصوّر الذي توكّلوا عليه و اعتقدوا قدرته على إنهاء الحوار. أمّا المسألة الثانية و هي: إنّ هذه المعرفة التي قِبل المؤمن بإدخالها عنصرا في قضية وجود الله – للأسباب التي تم لي ذكرها – لا يمكن لها على الإطلاق أنْ تؤدي بالمؤمن الى تقديم أدلّة عقلية حاسمة من شأنها أنْ تثبت و تقيم الدليل القطعي الى الملحد بأنّ الله موجود، لأنّ مثل هذا النوع من الإثبات – كما سنرى ذلك – ممتنع محال على قدرة العقل البشري المعرفية، مما يعني عملية قبول عنصر المعرفة في الحوار، لا يعدو كونه إجراءً معرفياً يقبل به المؤمن من أجل تعزيز فرضية ترجيحه لوجود الله لا غير. الوضع الافتراضي، بين عبء الإثبات و قضايا السلب، خلاصة و نتائج ما الذي يجعل الوضع الافتراضي معقودا لصالح الملحد؟ هل كان ذلك، بسببٍ من أنّ الاعتقاد بعدم وجود الله هو القضية السائدة، أمّ كان معقودا له، بسبب من أنّ قضايا السلب لا يمكن اقامة الدليل عليها؟ أم لأنّ قاعدة "افتراض الإلحاد" هي التي شرّعتْ له ذلك الامتياز فحسب. هذا هو الموضوع الذي ستؤلّف الإجابة عن أسئلتة، محوراً لهذا الفقرة، انطلاقا من اعتقادي الخاص بأنّ ثمة فروقاً مهمة بين تلك الحالات التي تثيرها الأسئلة، وهو الأمر الذي سيتم بيانه على النحو كالتالي: في نصّ قانوني مُلزِم، وضعه خبراءُ القضاء بوصفه تفسيرا للعلاقة، بين عبء الإثبات و الوضع الافتراضي، يرد ما يلي: " لمّا كان الأصلُ هو البراءة، فإنّ مَن يدّعي شيئاً خلاف ذلك الأصل، عليه أنْ يُثبتَ ادّعائه بما يؤيّده، و يكون متفقاً مع اجراءات قوانين الإثبات الموضوعة من قِبل المشرّع لتنظيم اجراءات الإثبات، و عليه: يقع ما يطلق عليه "عبء الإثبات" على الطرف الذي يدّعي خلاف الأصل. و عبء الإثبات بهذا المفهوم، ينتقل بين الأطراف، بمعنى أنه، إذا ادّعى أحدُ الاطراف وجودَ دَينٍ له في ذمّة الآخر، فهو يدّعي خلاف الأصل، و يقع عليه عبء إثبات ذلك أمام القضاء، و بذلك ينتقل عبء الإثبات منه الى خصمه الذي يتعيّن عليه بدوره أنْ يُثبتَ أيضاً براءة ذمّته، فيعود عبء الإثبات الى الطرف الأوّل، وهكذا ينتقل عبء الإثبات خلال نظر النزاع من طرف الى آخر، الى تقتنع هيئة المحكمة و تصدر قرارها بما يتّفق مع تلك القناعة" تُسفرُ القراءةُ المتأنية لمضمون هذا النصّ القضائي، المشبع بروح القانون و العدالة، عن مجموعة من الحقائق، يمكن بيانها على النحو التالي: أولاً: إنّ عبء الإثبات ينبغي أنْ يقع على المدّعي بالضرورة. لكن، بوصفه إجراءً برتوكوليا أوّليّا لتنظيم إجراءات المحكمة اللاحقة. ثانياً: إنّ السبب الذي يلزم المدّعي بتقديم عبء إثباته قبلَ خصمه المدّعى عليه، هو، الحكمة التي تتضمنها قاعدة " الأصل"، و التي مفادها، أنّ هذه القاعدة تفترض على نحوعُرفي: أنّ الناس غير مدينين لأحد، و أنّ عملية اقتراض أحدٍ من أحد، تفترضُ ردّ الدَين و سداد ما بالذمّة، أمّا الامتناع عن ذلك، فهو مخالفة لذلك الأصل، و من هنا يتعيّن على الدائن – أو المدّعي – أنْ يقدّم دليلاً ما يثبتُ إقراضه مبلغاً للمدين – أو المدّعى عليه – و هذا الدليل هو ما يسمّى "عبء الإثبات" ثالثاً: إنّ تقديم المدّعي لعبء إثباته أولاً، لا يعني أنّ المدّعى عليه، معفوٌ من تقديم عبء إثباته على نحو دائم، إنّما يعني فقط أنّ إجراءَ المحكمة يسري على هذا النحو فحسب، مما يعني، أنّ عبء الإثبات، سينتقل على الفور الى الخصم في القضية ليثبت بدوره ومن خلال حديثه، بإنّ ما يقوله خصمه غير صحيح مثلا، و معنى هذا، أنّ كلا طرفي الحوار يتحمّلان بالضرورة "عبء الإثبات" و أنّ قاعدة " الأصل " لا تعفي أحداً منهما، إنّما هي تشرّع فقط لخطّة بداية الحوار في المحكمة. هنا لا بدّ لي من القول، إنّ قاعدة "افتراض الإلحاد" تلك التي شرّعها و وضع بنود خطّتها أنطوني فلو، من أجل تنظيم الحوار في قضيّة وجود الله أو عدم وجوده، لا تختلف كثيراً عن هذه الخطة القانونية التي تمّ لنا بيان مفرداتها الأساسية، من حيث بدايتها أولاً بالمؤمن – و هو ما يقابل وضع المدّعي - و معنى هذا، أنّ أيّ ادّعاء من قبل الطرف الملحد – و هو ما يقابل المتّهم الذي يحظى بامتياز البراءة - بإعفاء نفسه من تقديم عبء إثباته، أدّعاء لا صحة له و لا أصل، في بنود الخطّة التي وضعها أنطوني فلو. كما أثبتنا ذلك بالتفصيل الدقيق. لما تقدّم، فإنّ موضوع هذه الفقرة سيكون خاصاً ببحث و مناقشة قاعدة " الأصل" لا في سياقها القانوني بطبيعة الحال، إنّما في سياق الحوار الفلسفي، أعني، و على نحو مباشر: أيّ الوضعين يمكنُ عدّه " الأصل" أو الوضع الافتراضي في حوار المؤمن و الملحد، في قضيّة عنوانها: وجود الله أو عدم وجوده؟ و هو موضوعٌ لا يعدم الخوض فيه، بحث صلة الوضع الافتراضي بعبء الاثبات أو بقضيّ السلب، أو ببعض القضايا المهمة الأخرى. بعباراتٍ أُخر، تحمل معنى السؤال نفسه و تمتدّ به الى سؤال آخر: هل أنّ وجود الله هو الوضع الافتراضي أو "الأصل" في قضية الحوار الفلسفي بين الطرفين، أمْ أنّ عدم وجود الله، هو الوضع الافتراضي أو الاصل في قضية الحوار نفسه؟ هل لهذا الوضع الافتراضي - سواء أ كان حاضرا بوصفه وضعاً يشير الى ان وجود الله هو "الأصل" أو كان يشير الى أنّ، عدم وجود الله، هو الأصل- من علاقة تذكر بنوع المجتمع الذي ينتمي اليه كلٌّ من المتحاورَين، بحيث يمكن لحضور هذا النوع الثقافي وسيادته في مجتمع ما أنْ يكون مؤثراً في إقرار هذا الوضع الافتراضي أو ذاك، قدر تعلّق الأمر بوجود الله أو عدم وجوده؟ أمّا السؤال الآخر فهو: هل يحتاج الحوار في قضيّة وجود الله بالفعل – و من حيث المبدأ – الى مرجعية لتنظيمه، عنوانها: الأصل أو الوضع الافتراضي؟ هذه هي الأسئلة التي سأجيب عنها على النحو التالي: أولاً: من الواضح القول – كما أثبتنا ذلك في فقرات سابقة – إنّ قضيّة وجود الله أو عدم وجوده، هي قضيّة ميتافيزيقة لا يمكن للعقل البشري تقديم أيّ حجّة مقنعة و حاسمة بشأنهافي ايّ جوارٍ فلسفي، سواءٌ لجهة إثبات وجود الله أو لجهة نفيه. و معنى هذا أولاً: أنّ المؤمنَ و الملحدَ متساويان بعدالة مطلقة، قدر تعلّق الأمر بحدود المعرفة المتاحة لهما بموضوع حوارهما، من حيث عجزهما – الأصيل – معاً عن تقديم أيّ دليلٍ تجريبي من شأنه أنْ يحسم موضوع الخلاف بينهما. ثمّ معناه من بعد، أنّ حوارهما لا يعدو كونه ترجيحاً لأدلة هذا الطرف أو ذاك لنوع ما يدّعيه. فإذا كان الأمر كذلك، لماذا اقترح انطوني فلو "افتراض الإلحاد " قاعدةً توجبُ أنْ يكون الوضع الافتراضي أو الأصل لصالح الملحد وحده، من دون المؤمن، ما دامت قضيّة الحوار بينهما لا تفترض سلفاً مرجعية أو أصلاً أو وضعاً عُرفيّاً افتراضياً عادلاً يسمح بذلك، مثلما لا تفترض سلفاً نهايةً محسومة على نحو تجريبي للحوار نفسه، بسببٍ من معرفتهما المسبقة بحدود معرفتها المتاحة عن موضوع الحوار؟ ثانياً: بالرجوع الى موضوع سؤالنا السابق، و في محاولة منّا لربط الوضع الافتراضي للقضاء بمثيله في الحوار الفلسفي، دعونا نسأل: إذا كانت "براءة" الناس هي الأصل، و هي الوضع الافتراضي في المحاكم، الوضع الذي يحظى به جميع الناس على حدّ سواء من جهة، و كان معنى " التهمة" يمثّل خرقاً لهذا الأصل أو للوضع الافتراضي، فما هو الوضع الشبيه بهذه الحالة، قدر تعلّق الأمر بالحوار في قضيّة وجود الله أو عدم وجوده؟ أعني: هل أنّ اعتقاد الناس بوجود الله، هو الأصل و الوضع الافتراضي، فيكون الملحدُ، في حالةٍ كهذه، منتهكاً للأصل و الوضع الافتراضي، أمْ أنّ العكس هو الصحيح، ايْ: أنّ الأصل و الوضع الافتراضي هو اعتقاد الناس "عدم وجود الله" مما يؤدّي الى القول، بأنّ إيمان إنسان ما بوجود الله، يُعدّ انتهاكاً و خرقاً للأصل و للوضع الافتراضي؟ أقول ذلك، مع الاشارة و التذكير، بأنه: في كلتا الحالتين – آنفتي الذكر، المتعلّقتين بالحوار الفلسفي فحسب – ليس هناك من مدّعٍ و لا مدّعى عليه، بل ليس هناك أيضا، أيّ ضررٍ يلحق أيّاً من الطرفين في فعل انتهاك الأصل و الوضع الافتراضي، في الحالتين معا. ثالثاً: عندما يُستثنى المتّهم في المحكمة من تقديم عبء إثباته، لأنه بريء افتراضا، فإنّ مثل هذا الافتراض الذي يمنحه البراءة، ليس سوى وضع مؤقت، سرعان ما يخسر امتيازه، بعد تقديم المدّعي لأدلّته، مما يعني أنّ افتراض البراءة سيضع المتّهم أمام احتمالين، إمّا إثبات التهمة عليه بسبب قوّة أدلّة المدّعي، و إمّا براءته، و هو احتمال لا يمكن للمتهم الحصول عليه إلّا بعد تقديمه لعبء إثباته الخاص الذي من شأنه أن يفنّد ادّعاء أدلّة خصمه - المدّعي، و يثبت بطلانها. و كذا هو الوضع نفسه بالنسبة للملحد، من حيث أنّ مزيّة الوضع الافتراضي المعقود لصالحه وفق خطّة فلو في "افتراض الالحاد" هو وضع مؤقت و هي مزيّة مؤقتة لا تعفيه مطلقا من تقديم عبء إثبات اعتقاده. إنّ مراجعة لما تقدّم تخبرنا على نحو صريح بإنّ الامتياز المعقود لصالح الملحد، من حيث علاقته بعبء الإثبات، ينقسم الى نوعين ينتجان عن سببين مختلفين و هما – أي النوعين و السببين – - نوعٌ ممنوحٌ له بموجب قاعدة انطوني فلو "افتراض الإلحاد" و هو نوع مؤقت سرعان ما يخسره، و يضطرّه الى تقديم عبء إثباته، بعد فراغ المؤمن من تقديم بيّنته أو عبء إثباته الخاص به. و معنى هذا أنّه مُلزمٌ بدوره بتقديم عب إثباته بعد فراغ المؤمن من حديثه، و بذا تسقط الذريعةُ الأولى لإعفائه – على نحو دائم - من تقديم عبء إثباته في الحوار. - نوع ممنوح له، بموجب زعمه الخاص، أو زعم مَنْ أقنعه بذلك، أنّ قضايا السلب لا يمكن إثباتها منطقياً، و هو نوع دائم، لا يسقط عنه بعد تقديم المؤمن لعبء إثباته، ربّما لأنه زعمٌ يشرّعُ إعفائه من المشاركة في الحوار أصلاً، و ربّما لأن قضيته و هي "عدم وجود الله" قضيّة سلبية لا يمكن إثباتها، وستبقى كذلك حتّى بعد تقديم المؤمن لعب إثباته، كما يعتقد الملحد ذلك. غير أنّ تصنيفنا لقضية وجود الله أو عدم وجوده – حصراً - ، بوصفها قضيّةً لا يمكن إثباتها على نحو حاسم، سواءٌ لجهة الإثبات أو النفي من جهةٍ، فضلاً عن إثباتنا – من جهة أخرى – أنّ قضايا السلب يمكن إثباتها أسوةً بأية قضيّة منطقية أخرى، أمران يعنيان أولاً: إنّ ذريعة الملحد بإعفائه من عبء الإثبات، استنادا الى قاعد فلو، مجرّد زعمٍ لا صحّة له، تماماً، كما أنّ زعمه بأنّه معفوٌ من تقديم عبء إثباته بسبب من أن قضيته سلبيةً، زعم هو الآخر لا صحّة له، لأنّ قضايا السلب كما أوضحنا ذلك يمكن إثباتها بسهولة. و بذا تسقط ذريعتا الملحد معاً، ذريعة إعفائه من عبء الإثبات استنادا الى قاعدة فلو، و ذريعة إعفائه من العبء نفسه، استنادا الى زعمه بأنّ قضايا السلب لا يمكن إثباتها. ثم معناه – من بعد -: أنّ مثل هذا الوضع الافتراضي سيكون معقودٌ للمؤمن ايضا، من حيث استحالة قدرته – هو الآخر - على اثبات وجود الله بطريقة حاسمة. و من هنا، فإنّ الوضع الافتراضي يشمل الطرفين معاً، لكن لا ليثبت كلّ منهما ان الله موجود او غير موجود على نحو حاسم، بل لعرض ادلّة الطرفين التي ترجّح لدى كل من الطرفين سبب اعتقاده بان الله موجود او غير موجود، فحسب. رابعاً: يحظى المتهم في المحاكم بمزيّة الوضع الافتراضي، مع عدم وجود قضية سلبية يؤمن بها، اللهم إلّا نفيه أو إنكاره للقضية التي يثيرها المدّعي ضدّه، و هي القضيّة التي يمكن عدّها سلبيّة في هذا الوضع القضائي. غير ان نفيه للقضية التي يثيرها المدّعي ضدّه او إنكاره لارتكاب فعلٍ سلبي، لا يمثّل سوى وضع مؤقت له، وضعٍ لا بدّ من أنْ يقوده في نهاية الجلسة، إمّا الى خسارة قضيته – نتيجةً لضعف الدفاع عنها- او الدفاع عنها بقوّة و كسبها، و في كلتا الحالتين هو مضطر الى الدفاع عن نفسه عبر تقديم عبء اثباته كوسيلة وحيدة لذلك. معنى ذلك، بعبارات أُخر: أنّ المتهم – في دفاعه عن نفسه - يتحمّل عبءَ اثباتٍ، مضمونه، الدفاع عن عدم انتهاكه للوضع الافتراضي، أو الدفاع عن المزيّة التي منحها له ذلك الوضع الافتراضي نفسه، و هي براءته، أو بعبارة مباشرة، إنّه يدافع عن الوضع الافتراضي و لا يُقرّ بانتهاكه له، ذلك المتمثل بارتكاب فعل سلبي ضدّه. لكن، لمّا كان وجودُ وضعٍ مفترضٍ ما، يشيرُ الى كونه وضعاً سائدا إيجابيّاً بكلّ تأكيد، فإن انتهاك ذلك الوضع أيّا كان مضمونه، يشيرُ أيضاً و بالتأكيد كلّه، الى أنّ فعل الانتهاك هو الفعل السلبي الذي يخالف ذلك الوضع الافتراضي الايجابي السائد. و من هنا فإنّ المتهم لا يريد الاعتراف بأيّ وضع سلبي تمّ له ارتكابه، لأنّ هذا الوضع السلبي يقف ضدّاً مباشرا على إمكان نجاته. لكن أ ليس غريباً أنْ يكون هذا "الوضع السلبي" عاملَ خذلانٍ و خسارة في قاعة المحكمة بالنسبة للمتهم، في حين يكون هذا الوضع السلبي بالنسبة للملحد، عاملَ نصرةٍ و أداة تفوّقٍ في حواره الفلسفي مع المؤمن، مع الأخذ بالاعتبار أنّ قاعدة " افتراض الإلحاد" المعقودة لصالح الملحد، قد تمّ وضعها من قِبل فلو، بوصفها محاكاة لـقاعدة " افتراض البراءة" بمعنى أنّها تأخذ بالاعتبار الوضع المعقود لصالح المتهم في المحكمة من حيث افتراض براءته سلفا، و تستعيره الى وضع الملحد في الحوار الفلسفي ؟ بعباراتٍ أُخر توضّح القصد: إذا كانت قاعدة "افتراض الإلحاد" في الحوار الفلسفي، تشبه الى حدّ كبير " قاعدة " افتراض البراءة" في النظام القضائي، بحيث يمكن عَدّ الأولى محاكاة للثانية، حتّى أنّ انطوني فلو يقول موضحا صِلة الوصل بينهما أنّه " إذا كنا منفتحين على إجراء معين واحد، إذن يجب أن نكون منفتحين على إجراء مماثل " أقول إذا كان هذا التناظر قائما بالفعل بين القاعدتين، و هو تناظر يشمل بالضرورة أهم عنصرين في القاعدتين و هما المتهم و الملحد، من حيث ان مبدا الحوار في القاعدتين معا، ينبغي أنْ يبدا من خلال خصميهما و هما المدّعي و المؤمن، لماذا ينقلب مفهوم السلب من عامل ضدّ المتهم في المحكمة الى عامل لصالح نظيره الملحد في الحوار الفلسفي؟ أعني أليس من المفترض أن يبقى عنصر السلب في القاعدتين محتفظا بحالة واحدة فحسب؟ يبدو لي أ،ّ قاعدة افتراض الالحاد لانطوني فلو، تنتقي من عتاصر المحاكاة و التشابه بين القاعدين ما يخدم قضيتها فقط. هذا هو الوضع الذي يسمح لنا بطرح سؤال جديد مفاده هذه المرّة: إلى أيّ مدى يمكن أنْ يكون الإنسان محقّاً أو غير محقٍّ، إذا افترض، أنّ قاعدة "افتراض الإلحاد" تلك التي اقترحها الفيلسوف الإنكليزي الملحد أنطوني فلو، إنّما كانت نتاجاً متأثراً – بهذا القدر أو ذاك – بالنزعة الإلحادية و الانتماء الفكري للفيلسوف الإنكليزي نفسه، أو معبّرة – على نحو ما – عن وجهة النظر الثقافية السائدة في المجتمع الإنكليزي بالفعل، أو التي يرغب – على الأقل - بسيادتها و شيوعها .؟ يبدو لي أنّ مثل هذا الافتراض، صحيح و معقول الى حدّ كبير، لا بسببٍ من أنّ واقع الحال يُخبرنا على نحو بالغ الوضوح بأنّ "أنطوني فلو" فيلسوف ملحد محترم، محاجج في قضيّته و مدافع عنها بطريقة أدّت الى سيادة نزعة الإلحاد في عصره استنادا الى نوع حججه المؤثرة فحسب، بل لأنّ الزعم بخلاف هذه الفرضية يعني تبنّي انطوني فلو لموقفٍ حيادي، و هذه فرضية لا تخبر عن مضمونها مؤلفاته الطامحة بكلّ تأكيد الى بلوغ غايتها في مجتمع إلحادي لا وجود لمفهوم الله فيه. لما تقدم يمكن القول: إنّ القضية السلبية هنا، هي أحدُ المحاور المهمة التي تعيّن جهة "عبء الاثبات" أعني: إذا كان أمنُ الناس في بيوتهم، هو الوضع الافتراضي، و كان السطو هو الحالة السلبية التي تنتهك ذلك الوضع الافتراضي، فإنّ على المتضرر ان يقدم عبء اثباته لارتكاب المتهم قضية سلبية تخرق الوضع الافتراضي العرفي، اما المتهم فعليه ان يقدم عبء اثباته بانه لم ينتهك الوضع الافتراضي، عن طريق دفاعه المتمثّل بكونه: لم يرتكب أية قضيّة سلبية من النوع العرفي هذا. قدر تعلّق الأمر نفسه بالحوار الفلسفي، مع الأخذ بالاعتبار تناظر قاعدتي افتراض البراءة و الإلحاد: إذا كان مثل هذ التصوّر صحيحا، و كان وجود الله هو الوضع الافتراضي، كما يدّعي المؤمنون على الأقل، من جهة، ثمّ كان الملحدُ يخترق هذا الوضع الافتراضي بادعائه عدم وجود الله، من جهة أخرى، لماذا إذن، لا يدافع الملحد او يقدم عبء اثباته و ادلته على عدم خرقه الوضع الافتراضي؟ هل يعني ميلُ الملحد الى إعفاء نفسه من تقديم عبء إثباته، إنّ الوضع الافتراضي يجب أنْ يكون، الالحاد و ليس الايمان كما يعتقد المؤمنون ذلك،؟ حسناً، إذا كان الأمر كذلك، فسيتعين على الملحد – في حالة كهذه - تقديم عبء اثباته، على خرق المؤمن لهذا الوضع الافتراضي، ليثبت أنّ الايمان بالله هو موضع انتهاك القاعدة الافتراضي. بعبارة أخرى جامعةّ للقصد، شارحة و مفصّلة: إمّا أنْ يكون الايمان بالله هو الاصل و الوضع الافتراضي، و أنّ الملحد هو الذي انتهك هذا الوضع، و حينها سيقدّم المؤمن عبء اثباته على صحة الاعتقاد بتبني هذا الوضع الافتراضي، و أنّ الملحد هو الذي ينتهك هذا الوضع بزعمه أنّ الله لا وجود له، و حينها سيدافع الملحد عن عدم خرقه لهذا الوضع. أو يكون الوضع الافتراضي هو، عدم وجود الله، و أنّ المؤمن بموقفه الزاعم بوجود الله، ينتهك الوضع الافتراضي، و هنا سيتعيّن على الملحد تحمّل عبء اثباته و تقديمه أولاً، لإثبات التهمة على المؤمن الذي انتهك الوضع الافتراضي بزعمه أنّ الله موجود، في وضع افتراضي سائد يقول بعدم وجود الله! اذن فعلى حوار المؤمن والملحد أنْ يكون متموضعا أوّلاً: في الموضوع الذي لم يُحسم بعد، و هو: اثبات أيٌّ من الوضعين المتناقضين هو الافتراضي؟ و أحسب أنّ هذا النوع من الحوار بين الطرفين سيشمل استحضار جميع الحجج العقلية و الدينية و العلمية و الاخلاقية و التاريخية و الحضارية و الاجتماعية و السياسية.... الخ و كل ما من شأنه أنْ يحدد او يصل الى هذه الغاية، و هي غاية لا تستبعد على الإطلاق التوصّل الى نتيجة مفادها، أنْ لا حاجة لطرفي الحوار الفلسفي الى أيّ وضع افتراضي، و لا الى قاعدة تشرّع أيّ امتيازٍ لأحد الطرفين على الآخر، كما فعل فلو. هذا هو الوضع الصحيح لقضية الحوار كلها، الوضع الذي يعني و يُقرّ واقعُ حاله السائد الآن: أنْ لا أحدَ من الطرفين مستثنى أبدا من تقديم عبء إثباته في نوع حوار فلسفي كهذا، سواءٌ أ كان موضوع عبء الاثبات متعلّقا بوجود الله أو عدم وجوده، أو كان متعلّقاً بتحديد ماهية الوضع الافتراضي، أو إلغائها حتّى. قضايا السلب: أصلُ الخلاف في فهمها لنفترض أنّ رجلاً عاد من العمل الى بيته – المؤلّف من غرفتين و صالة – ثم سأل زوجته عن ابنه "أحمد" فقالت له، إنّه ليس في البيت. قال لها تأكدي من ذلك، فقد أحضرتُ له هدية. هنا، نادتِ الزوجةُ على ابنها، فلم يجبها، ثم ذهبا معا الى الغرفتين و الحمام و المطبخ و سطح الدار، و هكذا تأكد لهما، أنّ ابنهما ليس في البيت. السؤال هنا: كيف تأكد للزوج و الزوجة، أنّ ابنهما ليس في البيت؟ الإجابة: لقد تأكّد ذلك بعد تفقدهما لجميع الأماكن التي في البيت، و التي أشارات بما لا يقبل الشكّ، أنّ ابنهما ليس في البيت. نعم هذا صحيح، لكن ما أعنيه هو: هل استدلّ الزوجان على غياب ابنهما من خلال "رؤيةٍ" حسّيةٍ لذلك الغياب، أم من خلال مشاهدة الأماكن التي أشارت لهما أنّ ابنهما ليس في البيت؟ أحسبُ أن الإجابة الدقيقة عن السؤال هي: أنّ رؤية الأماكن التي من المتحمل أن يكون ابنهما موجود فيها، هي التي سوّغت لهما الحكم بأنّ ابنهما، غير موجود في البيت. و ليس رؤية غياب ابنهما بحدّ ذاته، بوصفه موضوعا او مقدمة للاستدلال على عدم وجوده. الآن، دعونا نضع هذه النتيجة التي توصلنا اليها في الذهن، ثم ننتقل الى حالة أخرى مفادها هذه المرّة، السؤال عن كيفية استدلال المؤمن و الملحد، و مسوّغات اطلاقهما للحكم: إنّ الله موجود، أو إنّ الله غير موجود. لكن مع التأكيد أنّ طريقة الاستدلال ستكون هنا حسّية بصرية – تشمل الناس كلهم، الملحدين و المؤمنين منهم – و ليس طريقة عقلية فلسفية يتفاوت الناس في بلوغ غايتها. أحسب أنّ الإجابة قدر تعلّق الأمر بالمؤمن، هي: لقد تمّ له النظر الحسّي، في الكون و الحياة، ثم استدلّ من خلال تنظيمهما و تعقيدهما منقطع النظير، على وجوب أنْ يكون هناك خالق لهما، و هكذا توصّل الى حكمه بأنّ الله موجود. و هنا لا بدّ من السؤال عن الفرق بين نوع هذا الاستدلال على الخالق، و نوع استدلال الزوج و الزوجة على عدم وجود ابنهما في البيت، من حيث أنّ طريقة الاستدلال الثانية هنا تجري على عكس الطريقة الأولى، أعني: أنّ خلو أماكن البيت من "وجود" ابنهما، هي التي سوّغت للزوجين اطلاق الحكم الصحيح بأنه ليس موجودا في البيت، و معنى هذا، أنهما استدلا من خلال المثبت الموجود" على الغياب المنفي، ، أي على "عدم الموجود" و هو ابنهما. أمّا المثال الثاني، و قدر تعلّقه بالمؤمن فحسب: فقد تمّ فيه الاستدلال من خلال النظر الى الموجود، و هو نوع موجود لا يحتمل وجود الله بينه، لكن مع ذلك، تم الحكم بأنّ الله موجود. الأمر الذي يعني انّ طريقة الاستدلال الأولى – المتعلقة بالابن - كانت، من النظر في الموجود الى اثبات الغياب، أمّا الثانية المتعلقة بالله، فكانت من النظر في الموجود الى اثبات الوجود او الحضور لله. و ربّما نجد تفسير ذلك متمثلاً بالقول أولاً، إن المؤمنَ مدركٌ على نحو مطلق أنّ مفهوم الخالق من حيث التعريف، لا يمكن أنْ يكون من بين الأشياء الموجودة التي خلقها، و معناه من بعد، أنّ هذا الكلّ الموجود من الكون و الحياة و الحياة، لا بدّ من أنْ يكون له من خالق كليّ، غير مدرك بالحواس، و من هنا تم له اطلاق حكمه. أمّا قدر تعلّق الأمر باستدلال الملحد، و أصدار حكمه بأنّ الله غير موجود فقد تمّ على النحو التالي: المشاهدة الحسّية للكون و الحياة أولاً، ثم ملاحظة أنّ الله غير موجود فيهما، أو مشاهدة أنّ أثر الله المادي غير ملحوظ لا في الكون و لا في الحياة، ثم إطلاق حكمه بأنّ الله غير موجود، و ربّما كان كلّ ذلك منه، بسببٍ من اعتقاده المسبق، بإنّ الكون و الحياة، هما ما يمثّل الوجود كلّه و ليس هناك أيُّ نوع من الوجود الميتافيزيقي ما وراءهما، استناداً الى تعاليم النزعة العلمية المتشددة المسماة الطبيعانيّة أو العلموية. و معنى هذا: إنّ حكم الملحد قد تمّ التوصّل إليه من ناحيته، بذات الطريقة التي استدلّ بها الزوجان على غياب ابنهما، من حيث أنّ كلا طريقتي الاستدلال تحصلّت من خلال المشاهدة الحسية للأماكن و الموجودات، ثم الاستدلال من خلال خلوّهما على عدم وجود، لا إبنهما، و لا و الله. مما يعني: انّ فرضية وجود الله و نوع وجوده بالنسبة لكل من المؤمن و الملحد مختلفة على نحو جوهري، من حيث أنّ الملحد يعتقد بأنّ الله لا وجود له، أو أنّ وجوده شبيه بنوع وجود أحد الأشياء و الكائنات الموجودة في الطبيعة، كوجود أحمد مثلاً، أمّا المؤمن فلا يَنسب هذا النوع من الوجود الى الله مطلقا، و هذا هو الحال الذي يسبق و يفسر معنى اطلاق كلّ من المؤمن و الملحد لنوع حكميهما. افتراض الإلحاد: موضوعاً للنقد في أطروحة ثومبسون في عرضٍ موجز لأصل هذه الفكرة و تحولاتها بين الرفض و القبول، يقول الباحث ثومبسون في أطروحته: أنتوني فلو، غير مؤمن، و هو مؤيد لقضية أن المؤمنين يجب أن يتحملوا عبء الإثبات وأنّ غير المؤمنين ليس عليهم فعل ذلك. من ناحية أخرى، يؤكد Keith Panons بشدة، وهو أيضًا غير مؤمن، أنّ غير المؤمنين يجب ألا يخجلوا من الموافقة على تحمّل عبء الإثبات في النقاش الإيماني. على الجانب الآخر من هذا الانقسام، المؤمنون مثل أستاذي السابق لديهم حدس يختلف عن المؤمنين، مثل دونالد إيفانز، الذي يقترح أن المؤمنين وغير المؤمنين على حد سواء يجب أنْ يكونوا على استعداد لتحمل عبء الإثبات. " في مقال أنطوني فلو "افتراض الإلحاد" The Presumption of Atheism، يقترح أن غير المؤمنين يجب أنْ يتمتعوا بميزة افتراضية أو ما يسميه "الفائدة الافتراضية"default advantage وأن المؤمنين يجب أن يتحملوا عبء الإثبات إذا كانوا يريدون إقناع الآخرين بأن مذهبهم هو موقف معقول. إنها محاولة شاذة intriguing او مثيرة للفضول من جانب Flew لتقديم جدول أعمال إجرائي معين للنقاش الإيماني من خلال مقارنة اقتراحه الإجرائي للحجج العادية، بالإجراء الذي يمكن أن يكون موجودا في الجدل القانوني. باختصار، يعتقد Flew أنّ بوسعه أنْ يقدم حجة ذات مصداقية لتخصيص عبء الإثبات بشكل حاسم في النقاش الإيماني. من حيث انه يعتقد أنه يمكن أن يجعل القضية، أن المؤمنين وحدهم هم من ينبغي عليهم و على نحو دائم، تحمل عبء الإثبات في المناقشات الإيمانية . سواء أ كان اقتراح Flew صادقًا أم لا، فإنه يمثل منظورًا فلسفيًا حول مسألة عبء الإثبات، و هو اقتراح بلا أدنى شكّ نادر، أو غير عادي بأي حال من الأحوال ، ولذا فهو يستحق بعض الاهتمام. في مقال أنطوني فلو "افتراض الإلحاد، يقدم اقتراحًا بأن المناظرات الإيمانية حول وجود الله يجب أنْ تتم بطريقة معينة وأن يستمتع الملحد بما يسمي "افتراض الإلحاد" presumption of Atheism(افتراض فلو 29-3C). أي أن المؤمن يجب أن يتحمل دائمًا عبء الإثبات في النقاشات حول وجود الله. بالإشارة إلى هذا الطلب الذي لا مفر منه على أسس أنّ افتراض الإلحاد له ما يبرره. إذا تم إثبات وجود إله، فيجب أن تكون لدينا أسباب جيدة للاعتقاد بأن هذا الأمر كذلك بالفعل. الى أن، وما لم تنتج بعض هذه الأسباب، فليس لدينا و على نحو حرفي بالضبط أي سبب للايمان بالله ؛ وفي هذه الحالة، يجب أن يكون الموقف المعقول الوحيد هو اما موقف االملحد السلبي Atheist negative أو اللا أدري agnostic. وهكذا يجب أنْ يقع عبء الإثبات في القضية. الأمر متروك لهم ؛ أولاً ، لإعطاء أي معنى يختارونه لكلمة "الله" وثانيًا ، لتقديم أسباب كافية لتبرير ادعائهم بأنه ، بالمعنى الحالي لكلمة "الله" ، يوجد إله. هناك العديد من الاقتراحات الواردة في هاتين الفقرتين فقط. من أجل الحصول على الأشياء بشكل واضح، دعونا – و القول لثومبسون - نفصل بين بعض النقاط الرئيسية المذكورة أعلاه ونتعامل معها بشكل منفصل. 1. ما لم تكن لدينا أسباب جيدة للإيمان بالله ، فلسنا ملزمين بالاعتقاد بان الله موجود. 2- لأن المؤمنين "يحافظون " أو يؤكدون على قضية ان الله موجود، فإن عبء الإثبات في الجدل الإيماني يجب أن يتحمله المؤمنون هم حصريًا كإجراء معقول. 3. إلى أن، و ما لم يتم إنتاج أسس جيدة لدعم الإيمان بالله، فإن المواقف المعقولة الوحيدة هي الإلحاد السلبي أو اللاأدرية. نظرًا لأن اقتراح فلو – كما يقول ثومبسون - يدّعي أنه يعكس الإجراء المستخدم في المرافعة القانونية الجنائية في القضايا الجنائية، يُقال لنا ألا نقلق. إذا لم تكن لدينا مشاكل في إجراء واحد، فما هو الاعتراض على اتباع نهج مماثل في أي مكان آخر؟ المشكلة هي أن اقتراح Flew ليس إجرائيًا بحتًا كما يدعي انه كذلك، كما أن مقارنته بين الحجج القانونية و الايمانية تعاني من عدم التوافق الذي يقوّض ادعائه بأن اقتراحه هو مجرد اقتراح إجرائي. ولكن من أجل توضيح سبب ذلك ، هناك عدة نقاط مختلفة في مقال Flew تحتاج إلى معالجة أوّلاً. لكي نتعامل مع الأمر ، يقدم Flew أربعة مواقف مختلفة حول الإيمان بالله في نقاشه والتي تحتاج إلى الفصل بعناية من أجل فهم سبب اعتقاده أنّ المؤمن وحده هو الذي يجب أن يتحمل عبء الإثبات. اسمحوا لي أن أقدم هذه في شكل نقطة لتوضيحها: أ- الإيمان بالله Theism – أو الإيمان بوجود الله. ب- الإلحاد الإيجابي Positive Atheism- الإيمان / الاعتقاد / التصديق بعدم وجود الله. ج – اللا أدرية : موقف محايد يحجب withholds الإيمان بكل من A و B. د. الالحاد السلبي Negative Arheîsm- موقف يرفض وضوح intelligibility الموقفين A و B وبالتالي فهو "غير ملزم تمامًا تجاه A و B وحتى C يدعي فلو أنّ موقفه، على الأقل لأغراض هذا المقال، هو موقف الالحاد السلبي. لوضعها بمصطلحات تحليلية، يتمتع كل من الإلحاد السلبي واللاأدرية بميزة عدم الالتزام بالقضية. انهم غير ملزمين - قدر تعلق الامر بالقضيتين "الله موجود" و "الله غير موجود -" يؤكد فلو على أسس معرفية، أنّ الإيمان بـالقضية p يجب أنْ يكون مُبرَّرا من أجل أنْ يمنحنا صاحب الادعاء الحق بأنها p. وإلا ، كما يشير Flew ، يجب أنْ يكون "الموقف المعقول" الوحيد إمّا أنْ تكون "إلحادًا سلبيًا أو لا أدرية" (Flew 38). نظرًا لأن الكثير في هذا النقاش يدور حول ما يعنيهFlew بمصطلح "أسباب جيدة " Good reasons (Flew 38) ، يجب أن نناقش هذا الأمر قليلاً. يقول ثومبسون في محاولة منه لدحض فكرة التفريق بين نوعي الالحاد السلبي و الايجابي، من خلال اللجوء الى ما أسماه فلو الاسباب الجيدة، مع التذكير و التأكيد بأن نوع الأسباب التي اعتمدها فلو لمبدأ التفريق هي نوع أسباب " معرفية" فحسب، مما يعني أنّ ثومبسون يعتقد أنّ هناك أسباباً جيدة أخرى غير معرفية في جوهرها ينبغي أخذها بالحسبان لحظة الاختيار، يقول ثومبسون معرّفاً بتلك الاسباب في نهاية مثاله: تقليديا يمثل هذا وجهة نظر المتشكك. لكن الفلاسفة، وعلى نحو خاص المعنيين بنظرية المعرفة epistemologists، منقسمون حول ما إذا كان موقف المتشكك هو الموقف المعقول الوحيد الذي يمكن لأي شخص أن يتبناه تجاه الافتراضات التي تقع احتمالاتها في الوسط. إذا قصرنا عملية الاعتقاد على مجرد فعل الموافقة العقلية، يبدو أنه لا يوجد سبب يمنع السماح لأي شخص بالاعتقاد بأن p في الحالات التي يكون فيها مستوى الاحتمال لصالح p ليس أكثر أو أقل من o,5 على سبيل المثال. يركز حسابي على التقييم الشخصي للمتحدث لاحتمالية الاعتقاد من وجهة نظر معرفية، ومن الطبيعي أن أي تقييم عادل وكامل لمعقولية موافقة أي شخص على اقتراح معين يجب أن يأخذ في الاعتبار جميع الأسباب التي قد يقدمها المتحدث لمثل هذا التقييم.
الأسباب غير المعرفية لترجيح الاختيار يقول ثومبسون: يجب أنْ نضيف أنّ الأشخاص العقلاء يأخذون في الحسبان أيضًا العديد من الاعتبارات غير الاحتمالية وغير المعرفية عندما يجعلون الاجراء مناسبا مع درجة موافقتهم على الاقتراح. حيث تختلف الإجابة عن السؤال اعتمادًا على الموقف الذي تتخذه بشأن مسألة كيفية التعامل مع القضايا التي تنقسم فيها الاحتمالية لصالحها وضدها بالتساوي اي انها "متوازنة counterbalanced" على الرغم من أنّ Flew لا يذكر عتبة معينة لـ "الاسس الجيدة" أعتقد أنّه من الآمن أنْ نقول إنّ ميله نحو الحفاظ المعرفي. هناك العديد من الأسباب للاعتقاد جنبًا إلى جنب مع الأسباب المعرفية ، يمكن أنْ يكون للشخص أسبابا خلاقيًة و احترازية prudential للتصديق أنّ - p – أيْ انها صحيحة . إذا أكد لي أحدهم أنّ كلْبَهُ الـ - pit bull - و هو نوع من الكلاب الاميركية القوية و الشرسة - لم يعض أيّ شخص من قبلُ، وكان هدفي الشخصي الرئيس هو تجنّب التعرض للهجوم من قبل سلالة قوية من الكلاب ، فمن المحتمل أنّ أختار الاعتقاد بأنّ الحيوان يمثّل تهديدًا محتملاً لي. أعتقد أنّ هذا سيكون موقفي حتى لو كان هناك من الناحية المعرفية حالةٌ ما أوّلية معرفية للاعتقاد بأنّ الكلب لن يؤذيني. في هذه الحالة، تقودني الأسباب الاحترازية للاعتقاد بأولويتها على حساب الاعتبارات المعرفية البحتة. في مقالته "إرادة الاعتقاد" يقدّم ويليام جيمس الحالة الحاسمة لشرعية التفكير غير المعرفي . لنأخذ مثالًا آخر ، حتى لو كانت لديّ أسباب معرفية للاعتقاد بأنّ منزل عائلتي لن يشتعل أبدًا أو يحترق على الأرض، فإنّ حجة جيدة يمكن تقديمها مفادها أنني سأكون على خطأ من الناحية الاخلاقية لاعتناق هذا الاعتقاد ، خاصة إذا دفعني هذا الاعتقاد إلى إهمال واجب أخلاقي آخر. على سبيل المثال، إذا كنت أؤمن بهذا بشدة بما يكفي للتخلي عن شراء التأمين على المنزل. ليس العامل المعرفي وحده إذن هو الذي ينبغي الاحتكام إليه في تفضيل الانسان لبعض القضايا على سواها، من حيث أنّ هناك عوامل أخرى – احترازية أو أخلاقية – بنبغي أخذها في الحسبان أيضا، و هذا هو الأمر الذي لم يتنبّه له انطوني فلو خلال وضعه لقاعدة "افتراض الإلحاد" حيث تمّ له وضع هذه القاعدة بالاستناد الى العامل المعرفي وحده، على الأخص – و هذه ملاحظة مهمة لم يتنبّه لها ثومبسون في أطروحته – أنّ أنطوني فلو ينظر الى " المعرفة" بوصفها الكلمة الرئيسة و عامل الفصل في نجاح و إكمال مهمة الحوار في قضية وجود الله، كما مرّ بنا خلال مناقشتي و شرحي المفصّل لدراسة فلو " افتراض الإلحاد ". مع ذلك، يتساءل ثومبسون عن النتيجة المحتملة لوضع مفترض مفاده فشل المؤمن في تقديم عبء إثبات جيّد لقضية اعتقاده بوجود الله. وفقاً لحالٍ كهذا يقول ثومبسون: لقد فشل المؤمن في تقديم قضية معقولة، و الملحد السلبي لم يقدّم حجةً لصالح موقفه أيضًا. السؤال المحوري هنا هو ما الذي يجب أنْ نستخلصه من فشل المؤمن في التخلي عن عبء الإثبات؟ بناءً على تعليقاته المتعلقة بالممارسة المعقولة للاعتقاد، يبدو أنّ Flew يقترح أنّ المؤمن الذي يفشل في تحمل عبء الإثبات يجب أنْ يُعيد النظر بجدية في موقفه لأنه يؤكد أنه يجب علينا ألّا نصدق القضايا التي لا يوجد دليلٌ كافٍ عليها. فضلاً عن ذلك ، تنبع مشكلة معرفية أخرى من تفضيل Flew لـ "الإلحاد السلبي" على الإلحاد أو اللاأدرية. للوهلة الأولى ، يبدو أنّ الموقف اللا أدري هو كل ما يحتاجه Flew للحفاظ على موقفه غير الملتزم الذي هو ضروري جدًا لتحقيق خطته. لكن يبدو أنّ فلو يريد وضع المؤمن في وضع غير مواتٍ إضافي منذ البداية من خلال رفضه حتى الاعتراف: أنّ الافتراض القائل بأن "الله موجود" هو "ذو مغزى معرفي" بمجرد أنْ نضع حالة Flew في سياق معرفي ، يمكننا أنْ نرى أين تكمن المشاكل. إنّ ادعاءه بأنّه يدافع عن موقف إجرائي بحت يفقد مصداقيته بمجرد الكشف عن تحيزه الجوهري/ الثابت لصالح المحافظة المعرفية. إذا حافظ المؤمن بصرامة على موقف تحرري معرفي، فلا شيء يُجبره اإذن على قبول اقتراح Flew ، القائل بأنّ إخفاق مؤمن في تحمّل عبء الإثبات في مناظرة إيمانية هو دليل ضدّ الإيمان بالله. خلاصة القول في هذه الفقرة، إنّ الأسباب المعرفية وحدها هي التي سوّغت لانطوني فلو وضع قاعدته في افتراض الإلحاد، في حين أنّ هناك أسباباً أخرى لا تقلّ أهمية – بل تفوق في أهميتها – ذلك السبب المعرفي و هي الاسباب الأخلاقية و الاحترازية، كما وضّح ثومبسون ذلك في مثاليه مشيرا الى ما يسمّه انحياز فلو الى " القيمة المعرفية" ، و كما سيتوضّح الأمر أكثر في فقرة لاحقة. يضيف ثومبسون: تكمن مشكلة تحيّز Flew في هذه الحالة في أنّ شيئًا ما يتم افتراضه مسبقا presumed، بدلاً من الجدال عنه. فضلا عن ذلك، لأنّ هذا التحيز بالذات يلعب دورًا محوريًا في اقتراحه ، لا يمكننا ببساطة السماح له بالتوسل في السؤال beg the question حول هذه النقطة. لكن هذا هو بالضبط ما يفعله Flew. أعني انّه المكان الذي تصبح فيه مقارنته مع الحجج القانونية حاسمة. يجادل فلو بأنّ الإجراء الذي اقترحه للنقاش الإيماني يشبه إجراء المناقشة القانونية.
هل تصحّ المقارنة بين افتراض البراءة و افتراض الالحاد؟ في هذه الفكرة، و هي من أكثر الأفكار خصوبة في أطروحة ثومبسون، على الرغم من أنّه لم يولّها من العناية ما يكفي لإشباعها و تطويرها، وهي نوع فكرة قد يلتقي مضمونها مع فكرتي الخاصة – التي سبقت إشارتي لها في مقدمة الفصل و مفادها: خطأ فلو إجراء نقل قاعدة "افتراض البراءة" من مجال عملها القانوني الى مجال الحوار الفلسفي في قضية " وجود الله " . أقول في هذه الفكرة يشير ثومبسون الى طبيعة الفرق المهم بين القاعدتين – قاعدة افتراض البراءة و قاعدة افتراض الإلحاد، و على النحو التالي: معلّقاً عل تصوّر فلو للمقاربة بين القاعدتين، يقول ثومبسون: إنّ الفكرة تصبح هنا، أنّه إذا كنا منفتحين على إجراء معين واحد، إذن يجب أنْ نكون منفتحين على إجراء مماثل. غير أنّ هذه الحجة التناظرية تخفي نقطة حاسمة من عدم التماثل. في الجدل القانوني، يتم الحفاظ على افتراض البراءة على أساس التزامات قيمة أخلاقية وسياسية معينة. في إطار تقاليد القانون العام الإنجليزي، يتم التعبير عن هذا الالتزام عادة بالقول المأثور "إنّ إطلاق سراح 10 رجال مذنبين أفضل من معاقبة رجل بريء" "It is better that 10 guilty men be set free than to punish an innocent man" مورتان وهوتشيسون 4). وهذا يعبّر عن التزام أخلاقي - سياسي من جانب الدولة ومواطنيها بتجنب معاقبة الأبرياء كمواطنين في دولة تتبنى القانون العام الإنجليزي، من المفترض أنْ يشارك الأفراد هذه القيمة الأخلاقية والسياسية الخاصة. هذا النوع من الالتزام الدستوري الضمني من جانب مواطني الدولة هو ما يجعل "افتراض البراءة" مكوّنا إجرائيا مقبولا للحجة القانونية. ما لم يتمكن فلو من تقديم حالة ذات مصداقية بأنّ نزعته المعرفية المحافظة epistemic conservatism تتمتع أو يجب أن تتمتع بنفس النوع من القبول الكلي universal بوصفها أمرا أخلاقيا - سياسيا ضد العقوبة غير العادلة في القانون العام الإنجليزي ، فإنّ قياسه او مماثلته analogy بين الحالتين في خطر الانهيار. معنى ما يقوله ثومبسون: إنّ قاعدة افتراض البراءة التي تعمل بهديٍ منها محاكمُ الدولة في القانون اإنكليزي، قد تمّ تشريعها لأغراض أخلاقية و سياسية بوصفهاً أمراً أخلاقياً – إحترازياً حظي بالقبول العرفي الكلّي من قبل مواطني الدولة لضمان تحقيق العدالة بعدم إطلاق سراح مُدان و عدم تنفيذ العقوبة في بريء. فإذا كان الأمر كذلك – و هو كذلك حقّاً – يحقّ لنا التساؤل: عن السبب الذي سوّغ لأنطوني فلو اقتراح قاعدة "افتراض الإلحاد" من دون أنْ تحظى هذه القاعدة بأي نوعٍ من القبول الكلّي بين المواطنين أو بين المتحاورين في قضية وجود الله. بعبارة أخرى: لمّا كان العاملان الأخلاقي و الاحترازي هما اللذان فرضا على القانون الإنكليزي العمل على وفق منطق قاعدة " افتراض البراءة" فإن هذين العاملين لا وجود لهما و لا يتمّ اعتمادهما في أسلوب عمل قاعدة " افتراض الإلحاد " من حيث أن أسلوب عمل هذه القاعدة يعتمد فحسب على العامل المعرفي وحده، ناهيك عن عدم حظوتها بالقبول الكلّي كسياسة أخلاقية – كما هو الحال في قاعدة البراءة – لذا فإن قول فلو " إذا كنا منفتحين على إجراء معين واحد، إذن يجب أن نكون منفتحين على إجراء مماثل" قولٌ لا مبرر حقيقي له و لا مسوّغ منطقي يسمح له بالمماثلة بين قاعدتي افتراض البراءة و افتراض الإلحاد، و بالتالي نقلها من حيز عملها القانوني في المحاكم الى حيّز الحوار في قضية وجود الله. يقول ثومبسون: إن عدم وجود حجة واضحة لصالح القبول الكلي universal acceptance لهذا التوجه القيمي المعين (المحافظة المعرفية) واستخدام تشبيه خاطئ يعطي الانطباع بأن فلو يحاول فرض توجهه القيمي المعرفي على المؤمنين المطمئنين unsuspecting theists او الذين لا يداخلهم شك في ايمانهم .
عبء الإثبات: من المبدأ الفاعل الى المبدأ العاطل كما أشرتُ في الفقرة السابقة الى أنّ فكرة ثومبسون عن عدم جواز المماثلة بين قاعدتي افتراض البراءة و افتراض الإلحاد - للاسباب التي تمّ له ذكرها و تمّ لي إيضاحها و التعليق عليها بإيجاز - هي نوع فكرة خصبة يمكن أنْ تطيحَ بمشروع قاعدة افتراض الإلحاد و انهيارها بالكامل إذا ما تمّ لثومبسون إشباعها و تطويرها و رفدها بمزيد من الحجج و الأفكار التي تجري في السياق نفسه، و هو الأمر الذي لم يفعله ثومبسون و لم يسعَ الى إنجازه. لذا أجدُ أنّ الفرصة قد أصبحت الآن ناهزة للقيام بهذه المهمة على عاتقي، من خلال وضع فكرة التنافر العميق بين قاعدتي البراءة و الإلحاد في إطار تفصيلي دقيق، يثبتُ: أنّ الغاية الأساسية القصوى من إجراء أنطوني فلو و هو، نقل قاعدة البراءة من حيّز المحاكم الى حيّز الحوار في قضية وجود الله تحت مسمّى جديد هو افتراض الإلحاد، إنّما تتمثل حصراً في وجوب أنْ يُعفى الملحدون من تحمّل " عبء الإثبات " في حوارهم مع خصومهم من جهة، و وجوب أن يتحمّل المؤمنين وحدهم هذا العبء من جهة أخرى، أقول: إنّ هذه الغاية ستمنى بفشل ذريع بسبب من أنّ مبدأ "عبء الإثبات" في حوار المؤمن و الملحد، لا قيمة و لا أهمية له في حسم الحوار بينهما على الإطلاق، بسبب من كونه مبدأ لا ينتمي الى بيئة الحوار وسيلةً و غايةً أيضا، لذا فهو مبدأ عاطل عن العمل أو فلنقل لا حاجة له البتة. و لئن بدا لوهلة أولى، أنّ إثبات عطل مبدأ " عبء الإثبات " عن العمل في حوار المؤمن و الملحد، يتناقض مع ما سبق لي طرحه في الفقرة الخاصة بالحوار مع دراسة أنطوني فلو، من حيث أمكانية قبول بعض المؤمنين – ممن خبروا المسألة - بهذا المبدأ لجهة تفنيده تارة، أو للرد على خصومهم بحجج بالغة تفنّد مزاعهم كما فعل بلانتينغا و سواه ممن ذكرنا، أقول لئن بدا مضمون هذه الفقرة غير متوافق مع ما سبق لي ذكره، فإن مثل هذا التصوّر سيبدو لا مبرر له بعد أنْ نوضّح المسألة على النحو التالي: ما أعنيه – تحديداً – بأنّ مبدأ " عبء الإثبات" عاطلٌ عن العمل في بيئة حوار المؤمن و الملحد هو: رفض كونه مبدأ غير مشروط قد تمّ وضعه من قبل أنطوني فلو كقاعدة نظرية عامة – ينبغي على الطرفين الالتزام به - لتنظيم الحوار بينهما و حسمه لصالح جهة ما، بسبب من كونه عاطلاً عن العمل في بيئة الحوار، مما يعني أنّ إثباتي لعدم صلاحية هذا المبدأ على العمل في فضاء الحوار في قضية وجود الله، هو نوع إثبات غايته فحسب: - رفض قبوله من - حيث المبدا – أيْ بوصفه قاعدة عامة ملزمة للطرفين و غير مشروطة. - رفض فهم الملحدين له على أنّه امتياز دائم معقود لهم يشرّع إعفاءهم من تقديم عبء إثباتهم. - و رفض إجراء نقله من حيّز المحاكم الى فضاء الحوار في وجود الله، لعدم وجود أية جدوى يمكن أنْ تعود بها عملية النقل تلك. مما يعني أخيرا، أنّ إمكانية قبوله من قِبل بعض المؤمنين في حوارهم – و هو نوع قبولٍ طوعي غير ملزم - إنّما يحدث على الرغم من عدم اعتقادهم بصحة العمل على وفقه بوصفه قاعدة عامة شاملة ينبغي على المؤمنين جميعا القبول بها كما افترض انطوني فلو ذلك و قدّم مضمون اقتراحه كلّه سعياً لبلوغ هذه الغاية – و هي القبول المذعن لقاعدة افتراض الإلحاد كمبدا مماثل للقبول العام الذي تحظى به قاعدة افتراض البراءة. و أحسب أنّ الفرق واضح بين السياقين، سياق القبول بعبء الإثبات كقاعدة عامة ملزمة ينبغي على المؤمن وحده تحمّلها في حواره – كما أراد فلو – و سياق القبول الطوعي الخاص لبعض المؤمنين العمل على وفقه لقدرتهم المعرفية و الاخلاقية على إثبات صحة اعتقادهم بوجود الله و من ثمّ تقديم أدلتهم على صحة اعتقادهم و خطأ اعتقاد خصومهم. و على النحو التالي: أولاً: يعتقد أنطوني فلو، أن التماثل بين قاعدتي افتراض البراءة و افتراض الإلحاد، أمرٌ مفروغ من صحته، لذا فهو يقول واثقاً " " إذا كنا منفتحين على إجراء معين واحد، إذن يجب أنْ نكون منفتحين على إجراء مماثل" ثانياً: من جانب آخر - و كما مرّ بنا قوله – يعتقد فلو، أنّ الكلمة الرئيسة التي تحكم الحوار في وجود الله بين المؤمن و الملحد هي " المعرفة". ثالثاً: عملاً بمبدأ التماثل الذي اعتقده فلو بين قاعدتي افتراض البراءة و افتراض الإلحاد من جهة، و قبولاً – لغرض الحوار – بأنْ تكون المعرفة هي الكلمة الرئيسة في حوار المؤمن و الملحد، يحقّ لنا التساؤل بدورنا عن الكلمة الرئيسة التي تحكم و تتحكم في وقائع سير الحوار في قاعة المحكمة، أو بعبارة أخرى: إذا كانت " المعرفة" هي التي تحكم بيئة الحوار في وجود الله – وفقاً لتصوّر فلو – فما هي الكلمة التي تحكم و تتحكم في صيرورة الحوار في بيئة قانونية إسمها قاعة المحكمة؟ للإحابة عن هذا السؤال، أقول: إنّ هذه الكلمة الرئيسة يمكن أنْ تكون: القانون، العُرف الاجتماعي، الأخلاق، الوقائع، أو أية كلمة أخرى تنتمي للمشهد العدلي، لكنها لا يمكن أنْ تكون بأيّ حالٍ من الأحوال، كلمة " المعرفة". من حيث أنّ الاحتكام لكلمة "المعرفة" و النظر اليها بوصفها الكلمة الرئيسة التي تحقق العدالة بين طرفي نزاع قانوني ما في محكمة، يعني فيما يعنيه أنّ براءة المتهم أو إدانته مسألة تتوقف على نوع و سعة معرفة كلّ من المدّعي و المدّعى عليه، و ليس يخفى على أحدٍ مقدار الظلم الكبير الذي يمكن أنْ يصيب أحد طرفي النزاع في مثل هذا الاحتكام غير المنطقي و غير الحكيم. رابعاً: من المهم أنْ نقول هنا مذكّرين، إنّ عبء الإثبات في المحاكم، يرتبط على نحو وثيق بطائفة من المفاهيم الأخرى المصاحبة و العاملة التي تمهّد له و تتظافر معه حدّ إمكان القول بعجزه عن القيام بأيّ دور فاعل من دون حضورها معه. و بعض هذه المفاهيم على نحو عام: القانون، العرف، الأخلاق، الوقائع، العدالة، الحسم لصالح أحد الطرفين. خامساً: يخبرنا واقع الحال، إنّ إجراء أنطوني فلو بنقل مفهوم "عبء الإثبات" من بيئة المحكمة الى بيئة الحوار في وجود الله، قد تمثّل فحسب، بنقل هذا المفهوم وحده فقط، أي من دون نقلٍ لأيّ من تلك المفاهيم التي كانت تؤسس له و تجعله فاعلاً حاسماً في بيئة المحكمة. السؤال هنا: هل يستطيع عبء الإثبات أنْ يحتفظ بفاعليته و قدرته على حسم الحوار في قضية وجود الله بنفس تلك الكفاءة التي كانت له في بيئة المحكمة، بعد أنْ تمّ تجريده من جميع تلك المفاهيم العاملة التي كانت تشرّع و تقدّم و تهيّأ لعمله؟ بعبارة أخرى: بعد أنْ كان مفهوم عبء الإثبات في المحاكم مفهوما عاملا فاعلاً بمعونة المفاهيم الأخرى المصاحبة له، هل يستطيع هذا المفهوم نفسه أنْ يبقى عاملاً فاعلاً بعد تجريده من تلك المفاهيم كلّها و استبدالها جميعاً بمفهوم واحد جديد هو " المعرفة" مع الاخذ بالاعتبار أنّ تلك المفاهيم – القانون، العرف، الوقائع، العدالة – لا يمكن أنْ يعوّل على ايّ منها في بيئة الحوار في وجود الله؟ بعبارة أخيرة: هل يستطيع هذا الاقتران الجديد بين المعرفة و عبء الإثبات أنْ يكون فاعلاً عاملاً يتمكّن بالفعل من التوصل الى نتيجة حاسمة تمنح كلّ ذي حقّ من طرفي الحوار حقّه، كما هو الحال في بيئة المحكمة؟ هذا هو السؤال الذي يسمح لنا بالانتقال الى فقرة جديدة تضيء السياق نفسه و على النحو التمثيلي التالي: غالباً ما يتألّفُ المشهدُ العام لقاعة المحكمة من الرموز الشخصية التالية: قاضٍ واحد أو مجموعة من القضاة، هيئة محلّفين – في حال كان هناك قاض واحد – محامي الدفاع، المدّعي العام، عدد من الشهود و الحاضرين، فضلاً عن وجود المدّعي و المدّعى عليه، أي المتهم. في مثل هذه البيئة المكانية القانونية – الاجتماعية، غالباً ما يجري استحضار مفهوم " عبء الإثبات" لغاية محددة على نحو بالغ الدقّة مفادها: إمّا براءة المتّهم و إمّا إدانته. مهمةُ القاضي في مكانٍ مبجّل كهذا هي إدارةُ الجلسة و تعيين أدوار الكلام فيها بالتناوب حيناً، و بالتدخّل أحياناً، مقاطعاً، معترضاً، أو آمرا بردّ الاعتراض، سبيلاً لإصدار حكمه الملزم للطرفين في نهاية المطاف. لنضع هذا المشهد القضائي كلّه معلّقاً حاضراً في الذهن، من أجل أنْ نستحضر مشهداً آخر، مفاده هذه المرّة، حوارٌ يجري بين مؤمن بالله و ملحد في قضيةٍ محددة عنوانها: هل الله موجودٌ أم غير موجود؟ في مقارنةٍ ذهنيةٍ أو واقعيةٍ بين المشهدين، لن يكون من الصعب على أحدٍ ملاحظة الفوارق الجوهرية بينهما، متمثلاً ذلك: بغياب ذلك المكان بكلّ طقوسه و دلالاته، و اختفاء أنظمة الكلام بكلّ أدوارها و امتيازاتها، فضلاً عن غياب الرموز البشرية بأجمعها باستثناء اثنين منهم حاضرين بوصفهما خصمين في قضية، هما المدّعي و المدّعى عليه، في إشارة – لا بدّ منها – لتمثيلهما دورَي الملحد و المؤمن، بغض النظر عن نسبة أيّ من الصفتين المتعارضتين، المدّعي أو المدّعى عليه لإحدهما. دعونا نتخيّل الآن، أنّ مشهدنا الثاني الخاص بحوار المؤمن و الملحد، قد مسّتْ الحاجة فيه الى استعارة بعضٍ من العناصر الشخصية المكونة للمشهد الأوّل، من أجل حسم الحوار لصالح أحد الطرفين على الآخر، بعد أنّ اشتدّ الخلاف بينهما. في حالةٍ كهذه، سيكون من المؤكّد الاستعانة بشخصية القاضي من دون أحدٍ سواه من الشخصيات الموجودة في مشهد قاعة المحكمة. لكن، ماذا يستطيع القاضي أنْ يفعل بعد استحضاره و إضافته للمشهد الثاني سوى أنْ ينتصر لأحد الطرفين على الآخر وفقاً لفهمه الخاص و قدراته الذهنية و النفسية عن القضية نفسها - أعني قضيّة وجود الله أو عدم وجوده - من خلال تقديم حججه الخاصة عن الموضوع نفسه بوصفه مشاركاً للحوار لا قاضياً رسميّا فيه؟ و هي بكل تأكيد نوع حججٍ غير ملزمةٍ لأيّ من الطرفين، فضلاً عن كونها، نوع حججٍ يمكن لكلٍ من المؤمن و الملحد دحضها، في حال كان أحدهما أكثر وعياً و دراية بموضوع الحوار من القاضي المستعار نفسه. الأمر الذي يؤدي الى نتيجة واضحة مفادها: أنّ المشهد الثاني، مشهد الحوار بين المؤمن و الملحد، لم يعد بحاجة على الاطلاق لأيّ من رموز و شخصيات المشهد الأول من أجل بلوغ نتيجة مُرضية للطرفين. في السياق نفسه، لمّا كان موضوع حوارنا الرئيس هنا هو " عبء الإثبات" و هو كما مرّ بنا نوع موضوع خاص بالجانب القضائي في المحاكم في أصله و تأثيره و معناه الحقيقي، فهل ترى يمكن أنْ يكون لهذا المفهوم أيُّ تأثير أو أهمية أو ضرورة في حسم الحوار لصالح أحد المتحاورين: المؤمن و الملحد، على الأخص بعد فشل عملية استدعائنا لأهم الرموز الشخصية للمشهد الأول، و إثبات عدم قدرته على حسم الخلاف الفكري لصالح أحد الطرفين ؟ فضلاً عن القول المؤكّد بأنّ نوع الحوار نفسه مصنّفٌ من الناحية الفلسفية بوصفه نوع حوار لا حسمَ فيه. أحسبُ أنّ على كلمة الفصل العاقلة في هذه المسألة، هي الاقرار بعدم وجود أيّ حاجة لاستحضار مفهوم "عبء الإثبات" للتدخل في قضية عنوانها الوحيد و الأكبر هو: هل الله موجودٌ أم غير موجود؟ أمّا السبب القاطع في هذه المسألة – فضلاً عمّا تقدم – فهو: إنّ استحضار مفهوم " عبء الإثبات" إجراءٌ لا علاقة له بمضمون حوار المؤمن و الملحد، لا بسببٍ من عدم وجود قاضٍ يحدد بدقة الطرف الذي تقع مسؤولية عبء الاثبات على عاتقه فحسب، و لا بسببٍ من عدم وجود أيّة ضرورة لظهور القاضي في مشهد الحوار المستغني بطبيعته عنه، لأنّ قراره غير ملزم أيضاً، و لا بسبب من عدم مصاحبة المفاهيم الأخرى العاملة له في بيئته الجديدة، إنّما بسببٍ من قضية أخرى يمكن إجمالها على النحو التالي: يرتبطُ مفهوم "عبء الإثبات" على نحو أصيل بشخصية القاضي و مهامه الإساسية، التي تعيّن و ترعى الحوار بين الطرفين سبيلاً لحسم النزاع بينهما، و هو الأمر الذي يسوّغ القول: إنّ غياب القاضي من مشهد الحوار بسببٍ من عدم ضرورته، سيؤدي بالضرورة الى عدم ضرورة استحضار مفهوم عبء الإثبات هو الآخر في مشهد الحوار في قضية الله بين الملحد و المؤمن بسبب عجز مفهوم عبء الإثبات و القاضي معاً، عن إنجاز مهمة حسم الحوار بينهما في قضية من النوع الخاص هذا. أمّا الدليل القاطع على صحّة هذه الفكرة فهو: إنّ "الغاية القصوى" من وجود القاضي و من استخدامه في النظام القضائي للمحاكم هو، الوصول الى حكمٍ نهائي يقضي إمّا ببراءة المتهم و إمّا بإدانته. فإذا كان الأمر كذلك – و هو كذلك حقّاً – دعونا نتساءل الآن عن طبيعة الحُكم النهائي في قضية وجود الله بين المتحاورَين، أعني هل يمكن التوصّل بالفعل الى حكم نهائي يقضي بوجود الله أو عدم وجوده، سواءٌ أ تم استحضار القاضي في هذا المشهد أم بقي المتحاورَين وحدهما بلا قاضٍ يدير أدوار الكلام بينهما أو يحسم الحقّ لصالح أحدهما على الآخر؟ بعبارات أُخر تؤدي المعنى نفسه: إذا كانت الغاية القصوى من وجود القاضي و عبء الإثبات في المحاكم، هي التوصّل الى حُكم نهائي في القضية المتنازَع عليها، فإنّ قضية الحوار في وجود الله أو عدم وجوده، قضيّة لا يمكن حسمها على الإطلاق – سواءٌ لجهة نفي وجوده أو إثباته – و من هنا فهي نوع قضيّة ليست بحاجة أبداً، لا لقاضٍ يصدر حُكمه و لا لعبء إثبات تقع مسؤوليته على أحد الطرفين، بسببٍ من أنّ الغاية القصوى لاستخدام عبء الإثبات هي حسم النزاع لصالح أحد الطرفين، أمّا قضية الحوار الفكري بين الخصمين حول وجود الله، و لكونها قضية ميتافيزيقية لا يمكن حسمها أبداً، فلا ضرورة لاستدعاء مفهوم عبء الاثبات فيها، بسببٍ من عدم قدرة هذا المفهوم، لا على حسم القضية و لا على التوصّل لغاية قصوى ينتهي الحوار بالقناعة المطلقة حولها. في مثالٍ يوضّح الفكرة السابقة الخاصة بالاستغناء عن مفهوم "عبء الإثبات" في حوار الملحد و المؤمن، دعونا نتخيّل الحوار التالي: إذا سألتَ رجلَ قانونٍ متخصص: لماذا تعتمدُ الاجراءاتُ القضائية في المحاكم على مبدأ "عبء الإثبات" و لا تعتمد مبادئ أخرى مثل "قاعدة أرخميدس" أو "التفاضل و التكامل" لحلّ النزاعات بين المتخاصمين؟ حينها، سيجيب رجلُ القانون عن سؤالك بكلّ ثقة و تأكيد: إنّ مفهوم "عبء الإثبات" تمّ تعيينه و اختباره كوسيلة ناجعة جداً لبلوغ غايةٍ محددة قصوى هي: إثباتُ الحقّ لصالح أحد الطرفين المتنازعين - في قضيّة ما - على الآخر، أمّا المفاهيمُ الأخرى التي ذكرتها، فلا يمكنُ النظر إليها كوسائل تكفلُ للقضاة التوصّل الى هذه الغاية نفسها، و من هنا تمّ للنظام القضائي استبعادها بسببٍ من عدم الحاجة لها. معنى ذلك كلّه بعبارات موجزة أُخر: إنّ سببَ احتفاظ النظام القضائي بمبدأ "عبء الإثبات" في المحاكم، هو قدرةُ هذا المبدأ على التوصّل الى الغاية المبيّتة التي تسعى المحكمةُ لبلوغها، أوّلاً، و أنّ السبب في استبعاد النظام القضائي لمبادئ أخرى من مثل "قاعدة أرخميدس" أو " حساب التفاضل و التكامل" من بعدُ، هو عدم صلاحية هذه المبادئ لاستخدامها كوسائل لتحقيق الغاية نفسها، و هي حسم النزاع لصالح أحد الطرفين. عملاً بهذا الإجراء نفسه، أعني: إجراء الاحتفاظ بمبدأ ما بسبب من صلاحية استخدامه كوسيلة تحقق الغاية من جهة، ثم استبعاد مبادئ أخرى لعدم صلاحية استخدامها كوسائل لتحقيق الغاية نفسها من جهة أخرى، يمكن القول بثقةٍ: إنّ مفهوم "عبء الإثبات" يمكن استبعاده هو الآخر من أيّ إجراء عملي أو نظري، لا يصلحُ فيه استخدامه كوسيلة لتحقيق غاية معيّنة، تماماً كما تمّ استبعاد " قاعد أرخميدس" و "حساب التفاضل و التكامل" من النظام القضائي للمحاكم لعدم مناسبتهما كوسائل لتحقيق غاية انعقاد جلسة المحكمة. و لمّا كان حوار المؤمن و الملحد في قضية وجود الله، نوع حوارٍ مستغنٍ بطبيعته عن أيّ مفهوم عبْ الإثبات من شأنه حسم النزاع لصالح أحدهما، أصبح القول باستبعاده من بيئة الحوار إجراءً منطقياً و حكيماً. نتيجة لما تقدّم، يمكن إيجاز المسألة على النحو التالي: 1- بما أنّ الغاية من اعتماد مبدأ "عب الإثبات" في المحاكم هي التوصّل الى حُكمٍ نهائي يُعقد لصالح أحد الطرفين المتخاصمين. 2- و بما أنّ قضية الحوار بين المؤمن و الملحد، هي نوعُ قضيّةٍ لا يمكنُ لـ "عبء الإثبات" التوصّل فيها على الإطلاق الى أيّ حُكم نهائي يثبتُ على نحو قاطع الحٌقّ لأحد الطرفين على الآخر، أيْ يثبت أنّ الله موجودٌ أو غير موجود، 3- إذن: فلا حاجةَ لكلا طرفَي الحوار – المؤمن و الملحد – الى استدعاء هذا المفهوم أو استخدامه كوسيلة لفضّ الخلاف بينهما، أعني استخدامه وسيلةً تثبتُ لهما إنْ كان الله موجوداً أو غير موجود، بسببٍ من أنّ قضية وجود الله أو عدم وجوده، هي نوع قضيّة ميتافيزيقية مفارقة لقدرة العقل البشري على حسمها سواءٌ لجهة إثبات وجود الله أو نفيه.
إيضاحٌ و كلمةُ فصلٍ من كانط يُعدّ عمل " كانط" النقدي العظيم بجزئيه " نقد العقل المحض" و " نقد العقل العملي" نوع عمل منطقي عظيم، كان مخصصاً على نحو كلّي لإثبات أنّ القضايا الميتافيزيقية، و في مقدمتها قضية وجود الله أو عدم وجوده، هي نوع قضايا لا يمكن لقدرات العقل البشري بلوغها على الإطلاق، لا نفياً و لا إثباتاً، بسببٍ من أن المعرفة البشرية بأسرها مشروطة بالتجربة و بمقولتي الزمان و المكان، و لما كانت قضية وجود الله تتخطى التجربة و لا تندرج تحت هاتين المقولتين، بل تتعالى عليهما، فإنّ معرفتها و حسمها – نفياً أو إثباتاً – هو ضربٌ من الوهم أو من المستحيل. لذا فإن مسألة وجود الله أو عدم وجوده، منوطة بالعقل العملي، أي بالمبادئ الاخلاقية القبْلية أو بالقانون الاخلاقي، و ليس بالجانب المعرفي النظري، يقول كانط في مجموعة من نصوصه – اخترتها لبيان هذا المضمون – " و المقصد النهائي الذي، يؤدّي إليه في النهاية، اعتبار العقل في استعماله الترسندالي، يخص موضوعات ثلاثة: حرية الإرادة، و خلود النفس، و وجود الله. و بالنظر الى هذه الثلاثة مجتمعة، ليس غرضُ العقل محض الاعتباري سوى غرض ضعيف جدا. و سعياً اليه كان العقل يحاول بصعوبة القيام بعمل مرهق، و يواجه من العوائق بقدر ما يواجه البحث الترسندالي، لأنه لم يكن بإمكانه أنْ يستمد من كل الاكتشافات التي يمكن أنْ تحصل بهذا الصدد أيّ استعمال يدلّل على فائدته عياناً، أعني في دراسة الطبيعة. و يقول في نص آخر: " بما أنّ الكلام يدور هنا على سلوكنا بالنسبة الى الغاية الأسمى، فإن المقصد الأخير للطبيعة الحكيمة و المدبّرة في تنظيم عقلنا لا يسعى إلّا إلى ما هو خُلقي" سعيُ عقولنا الى معرفة موضوعات الميتافيزيقا إذن – و في مقدمتها معرفة وجود الله - سعي لا طائل وراءه، لذا فإن هذا النوع من المعرفة ينبغي أنْ يكون عمليّاً أخلاقياً خاصاً بالعقل العملي، و لذا يطلق كانط عبارته الشهيرة " ينبغي أنْ أضع حدّاً للمعرفة، من أجل أنْ أفسح المجال للإيمان " أو على وفق الصياغة الإنكليزية للنص: "I must, therefore, abolish knowledge, to make room for belief" معنى ذلك بإيجاز شديد، و هذه هي الغاية من استحضار نصوص كانط: أإنّ الكلمة الرئيس التي وضعها أنطوني فلو بدقة و ثقة كبيرتين، الكلمة التي يجري الاحتكام لها في حوار المؤمن و الملحد عن قضية وجود الله، و هي " المعرفة" كما مرّبنا، هي نوع كلمة لا يعوّل عليها و لا يمكن الاحتكام لها في فضّ نزاع الحوار بين الطرفين. أو بعبارة أخرى تخصّ موضوع حوارنا، إنّ عبء الإثبات في هذا النوع من الحوار لا يمكن أنْ يكون متعلّقاً بالمعرفة، رهيناً متوقفاً على ما تقدّمه هذه المعرفة، إنّما هو قضية رهينة متعلّقة بالإيمان وحده، و لمّا كان هذا النوع من الاعتقاد – غير معرفي – في جوهره، إنّما هو نفسي شعوري عملي أخلاقي فحسب، أصبحتْ مسألة إقامة الدليل عليه و تحمّل عبء إثباته من قِبل المؤمن وحده - كما يريد فلو ذلك – أكثر صعوبة من مهمة الملحد الذي لا إيمان له بهذه القضية، و لذا، و نتيجة لذلك، فإنّ الذريعة التي يتمسك بها الملحدون و مفادها: أنّ إثبات القضايا السلبية أكثر صعوبة من إثبات القضايا الايجابية، قد أصبحت لاغية الآن، لأن اثبات قضايا الإيمان هي الأكثر صعوبة، مما يعني: إنّ انطوني فلو قد ارتكب خطأ جسيما مفاده، الربط بين عبء الإثبات والمعرفة في قضية وجود الله، و مثل هذا الأمر لا يكون صحيحاً إلّا في حالة مفترضة واحدة هي، قدرة "المعرفة" على حسم الموضوع في وجود الله أو عدم وجوده، غير أنّ مثل هذا الفرض لا وجود الله البتة – وفقاً لتعاليم كانط النقدية – لأنّ الأمر كلّه منوط متعلق و رهين بالايمان و بالعامل الأخلاقي العملي، مما يعني بالتالي: أنّ عبء الإثبات في حوار المؤمن و الملحد لا حاجة لنا به أبداً، بسبب من كونه متعلقاً مرتبطا على نحو وثيق – فحسب - بنوع قضية تتحكم "المعرفة" في صيرورتها وسيلةً و غاية، و لمّا كانت قضية الحوار في وجود الله لا تنتمي الى هذا النوع من القضايا التي تتحكم المعرفة في صيروراتها، أي لأنها نوع قضية ينظّم "الإيمان" أو العامل الإخلاقي – العملي مسارها و نتائجها، فلا حاجة بنا إذن الى مفهوم عبء اُلإثبات من الأساس و من حيث المبدأ. افتراض الإلحاد" أم "افتراض الإيمان"؟ ربطاً بالعبارات الأخيرة التي ختمتْ الفقرة السابقة، تجدر الإشارة الى أنّه: بعد أنْ فرغ كانط من مهمة اثبات عجز العقل البشري عن إدراك موضوعات الميتافيزيقا – و في مقدمتها وجود الله – يكتب في نصّ مثير يردُ في آخر فصول كتابه ما يلي: " لكن، قد يقال: أهذا كل ما يقوم به العقل المحض عندما يفتح لنفسه نوافذَ خارج حدود التجربة؟ لا أكثر من بَنْدَي إيمان؟ و قد كان يمكن للفاهمة العامية أنْ تفعل مثل ذلك من دون الحاجة الى استشارة الفلاسفة! " يُجيب كانط عن سؤاله المفترض " لا أريد أنْ أمدح الخدمات التي قدّمتها الفلسفة للعقل البشري... لكن هل تطلبون أنْ تفوق معرفةٌ تخصّ كلّ الناس الفاهمةَ العامة، و أنْ لا يمكن أنْ تُكشف لكم إلّا من قبل الفلاسفة؟ إنّ ماخذكم هو بالضبط أفضل دليل على صحة المزاعم السابقة لأنه يكشف ما لم يكن بالامكان رؤيته حتى الآن، أعني انّه لا يمكن أنْ نتّهم الطبيعة، في ما يعزّ على قلب كلّ البشر دون تمييز، بالتحيّز في توزيع المواهب، و أنّه لا يمكن لأرقى فلسفة أنّ تبلغ بنا، بالنظر الى الغايات الأساسية للطبيعة البشرية، أبعدَ مما يبلغ الخيطُ الموجّه الذي أسلمته الطبيعة للفاهمة العامة". يعني هذا النص، فيما يعنيه، إنّ قضية وجود الله أو عدم وجوده، تمثُل بوصفها سؤالاً خالداً لا بدّ لكل إنسان عاقل من طرحه على نفسه سبيلاً لحسمه بطريقة ما أولاً، غير أنّ النص " يلمّحُ " أو يشير على نحو خفي الى أنّ مسألة الحسم أقرب لأن تكون باتجاه وجود الله، لا باتجاه نفي وجوده، و هي الفكرة التي نستمد صحّتها من خلال مجموعة من العبارات التي تحضر بوصفها مقدمات لها، منها: قول كانط – الذي مرّ بنا – سأضع حدّا للمعرفة، كي أفسح مجالاً للإيمان، العبارة التي تعني فيما تعنيه: أن كانط أراد أنْ يقول: إنّ ثمة سرّاً وراء عجز المعرفة عن معرفة الله، هو كونها وسيلة خاصة بالفلاسفة و المتعلمين، مما يعني حرمان الناس البسطاء من أصحاب الفطرة السليمة من معرفة هذه القضية التي تخص الناس جميعاً بطبيعتها، لذا فلا بدّ من العثور على وسيلة أخرى تكفل للناس جميعا بلا استثناء إمكان التعرّف على وجود الله، و مثل هذه الوسيلة الجديدة لا يمكن لمفهوم شامل تحقيقها سوى الإيمان، لذا يقول كانط في النص نفسه: لا يمكن أنْ نتّهم الطبيعة، في ما يعز على قلب كل البشر دون تمييز، بالتحيز في توزيع المواهب، و انه لا يمكن لارقى فلسفة ان تبلغ بنا، بالنظر الى الغايات الاساسية للطبيعة البشرية، أبعد مما يبلغ الخيط الموجّه الذي اسلمته الطبيعة للفاهمة البشرية. لكن، ما هو: هذا الخيط الموجّه الذي أاسلمته الطبيعة للفاهمة البشرية؟ الخيط الذي يعزّ على قلب كلّ البشر دون تمييز – فرصة معرفته – و الذي تحرص الطبيعة على أنْ لا تُتّهم بالتحيّز في توزيعها مواهبه على الناس، أعني هل يمكن للطبيعة أنْ تهب للغايات الأساسية للطبيعة البشرية خيطاً يوجهها ناحية إنكار وجود الله، أم أنّ هذا الخيط يوجه الفاهمة البشرية بإتجاه وجود الله؟ أحسب أنّ الخيار الثاني هو الأقرب لاحتمال التصديق، بعد المعاينة العميقة لجميع معاني و مفردات النص. فإذا كان الأمرُ كذلك – كما أعتقدُ – فإن ما يترتّب عليه، قدر تعلّق المسألة بعبء الإثبات هو: إنّ حوار المؤمن و الملحد في قضية وجود الله أو عدم وجوده، يستدعي بالضرورة العمل على وفق قاعدة عنوانها الأكبر هو " افتراض الإيمان " و ليس " افتراض الإلحاد " كما يطالب أنطوني فلو بذلك. و معنى هذا أولاً: إنّ الإيمان بوجود الله هو القاعدة السائدة استنادا الى توزيع الطبيعة لهذه الموهبة على الناس جميعاً بلا تحيّز – كما يقول كانط – و معناه أيضاً: إنّ عبء الإثبات في حالة كهذه، إنّما يقع على الملحد – المنكر الجاحد لنعمة الطبيعة عليه في إشارتها لوجود الله– لأنه يخالف مسار ذلك الخيط الموجّه الذي منحته الطبيعة لفهمه، يخالفُ القاعدة السائدة التي وضعتها الطبيعة لنوع علاقة الله بالبشر، من خلال اعتقاده أنّ الله لا وجود له. أو على وفق صياغة قرآنية للمسألة: قل هاتوا برهانكم إنّ كنتم صادقين. كانط – باسكال، وايتلي: الاسباب غير المعرفية للاعتقاد في فقرة سابقة، مرّ بنا قول ثومبسون: إنّ هناك العديد من الأسباب للاعتقاد جنبًا إلى جنب مع الأسباب المعرفية، حيث يمكن أنْ تكون للشخص أسبابٌ أخلاقيًة أو احترازية prudential للتصديق أنّ قضية ما صحيحة . ثم قدّم ثومبسون مثالين، أحدهما يخص الجانب الاحترازي، و هو مثاله الذي يقول فيه " إذا أكد لي أحدهم أنّ كلبه الـ pit bull - و هو نوع من الكلاب الاميركية القوية و الشرسة - لم يعض أي شخص من قبل، وكان هدفي الشخصي الرئيسي هو تجنب التعرّض للهجوم من قبل سلالة قوية من الكلاب، فمن المحتمل أن أختار الاعتقاد بأن الحيوان يمثل تهديدًا محتملاً لي. أعتقد أن هذا سيكون موقفي حتى لو كان هناك من الناحية المعرفية حالة ما اولية معرفية للاعتقاد بأنّ الكلب لن يؤذيني. في هذه الحالة ، تقودني الأسباب الاحترازية للاعتقاد بأولويتها على حساب الاعتبارات المعرفية البحتة." أمّا مثاله الآخر الذي يشير فيه الى الأسباب الأخلاقية فهو ما يرد في قوله " حتى لو كانت لدي أسباب معرفية للاعتقاد بأن منزل عائلتي لن يشتعل أبدًا أو يحترق على الأرض ، فان حجة جيدة يمكن تقديمها مفادها أنني سأكون على خطأ من الناحية الاخلاقية لاعتناق هذا الاعتقاد ، خاصة إذا دفعني هذا الاعتقاد إلى إهمال واجب أخلاقي آخر. على سبيل المثال ، إذا كنت أؤمن بهذا بشدة بما يكفي للتخلي عن شراء التأمين على المنزل" في حقيقة الأمر، و من خلال النظر الى طبيعة المثالين اللذين استحضرهما ثومبسون، يمكن القول: إنّ المثالين معاً كانا قد استُمدا من وقائع الحياة اليومية المعاشة فحسب، مما يعني أنّه لم يستحضر أيّ مثال " فلسفي " يعزز فرضيته القائلة بوجود أسباب أخلاقية أو احترازية من شأنها أنْ تقرر أو تحسم موقفاً أو حواراً ما، الى جانب الأسباب المعرفية التي عدّها أنطوني فلو أسباباً وحيدة لتقرير و تفضيل الاختيار في حالة معينة. و لأنني أرى المسألة تستحق العناء و الذكر، أجد من المهم جداً عرض الأسباب الأخلاقية و الاحترازية من خلال مثالين فلسفين كبيرين يوضّحان أهمية تلك الأسباب و يعززان فرضية ثومبسون بوجود أسباب غير معرفية قد يركن الإنسان لها في مسألة الاختيار و التفضيل لحالة ما على الأخرى، على الأخص أنّ كلا المثالين يتعلّقان على نحو أصيل بقضية وجود الله، و كالتالي: في حقيقة الأمر يمكن لنا القول بثقة بالغة، إنّ أفضل بيان للتدليل على الأسباب الأخلاقية و عملها الفاعل – دون المعرفية - هو ما تمّ لي عرضه في الفرة السابقة التي كان عنوانها " إيضاح و كلمة فصل من كانط " و يمكن لأية مراجعة لمضمون هذه الفقرة أنْ تبيّن قصدنا على نحو بالغ الوضوح، أعني أنْ تثبت أنّ معرفة العقل البشري لله و نوع علاقته به أمرٌ لا يتوقّف على المعرفة حدوثُه، إنّما هناك عامل أخر يمكن أنْ تناط به على نحو أصيل مهمة الارتباط بين الله و البشر، هو العامل الأخلاقي. أمّا المثال الفلسفي الآخر للتدليل على صحّة المسألة نفسها، قدر تعلق الأمر بالأسباب الاحترازية، فيمكن اتخاذ " رهان باسكال " الشهير معادلاً معرفياً و مصداقاً له، يقول باسكال موضّحا سبب وضعه لرهانه " الله إمّا أنْ يكون موجودا و إمّا لا يكون ... و لكن الى أية جهة نميل؟ العقل لا يستطيع أنْ يجزم بشيء، فدوننا و دون ذلك فضاء غير متناه" بعبارة توضّح قول باسكال: إنّ "جهل" الإنسان بقضية وجود الله أو عدم وجوده، هو السبب الوحيد الدائم الذي دعا باسكال الى وضع رهانه موضع العمل الدائم، بسبب من استحالة " معرفة" الإنسان لأيّة حجة و من أيّ نوع معرفي يمكن أنْ تقوده الى يقين ما لمعرفة أنْ كان الله موجوداً أم لا. يقول باسكال في نصّ آخر له يعزز فكرتنا: " و في أقصى هذه المسافة اللا متناهية تُلعبُ لعبةٌ لا ندري ما نتائجها، على مَ تراهنُ؟ إنّك بحسب العقل لا تستطيع أنْ تراهن، لا على هذا، و لا على ذاك. و بما أنّ الاختيار محتوم فلنرَ الأمر الذي يعنيك أقلّ من الآخر، و عليه فمتى كنتَ مجبراً على اللعب، وجب أنْ تجحد العقل لتحتفظ بالحياة عوضَ أنْ تخاطر بها. لما تقدم، يمكن عدّ الرهانُ إجراءً احترازياً، من شأن اختيار المرء له بلوغ أفضل الاحتمالات المتعلقة بنجاة الإنسان بعد فشلت المعرفة في الكشف عن هذه الطريق المؤدية الى حالة النجاة الممكنة المفترضة. وايتلي: العلاقة بين الجانب النفسي و عبء الإثبات قي دراسة للبرفسور J. Michael Sproule و هو أستاذ فخري لدراسات الاتصال بجامعة ولاية سان خوسيه، تمّ خلالها قراءة الطبعات السبع لكتاب ريتشارد وايتلي " عناصر الخطابة" ثم بحث علاقة هذه الطبعات أو الإصدارات السبعة و نوع تمثلاتها و استحضارها في ستة و عشرين نصّا معاصرا، مبرراً هذا الإجراء بسببين، الأوّل منهما: إنّ طبعات كتاب وايتلي المتعاقبة زمنيّاً كانت تختلف في مضامينها على نحو بالغ الأهمية، لأنّ ريتشارد وايتلي كان يضيف و يصحح و يحذف بعض المفاهيم في كلّ طبعةٍ لاحقة بسابفتها، أمّا السبب الآخر فهو، إنّ النصوص الـ 26 لم تأخذ في اعتبارها مثل هذه المسألة المهمة، إنّما تعاملت مع هذا الاصدار أو ذاك من الطبعة و فقاً لنوع اختيارها. مع التأكيد على إهمال النصوص المعاصرة للجانب النفسي و الاجتماعي الذي ركّزت عليه الطبعات المتأخرة لكتاب وايتلي، لصالح الجانب القانوني فحسب. يقول البرفسور J. Michael Sproule و سأدعُ البيان له حتّى نهاية الفقرة: ارتبطت المفاهيم الجدلية للافتراض وعبء الإثبات ارتباطًا وثيقًا بالخطيب و اللاهوتي البريطاني ريتشارد واتلي، واستمر تأثيره على دراسة الافتراض حتى يومنا هذا، ويرى الرأي التقليدي أنّ وصف واستخدام الافتراض وعبء الإثبات في نصوص الجدل والنقاش في القرن العشرين هي في الأساس تلك التي طورها Whately. سأجادل في هذا المقال، أن مفهوم الافتراض وعبء الإثبات كما تم تطويره في نصوص القرن العشرين يختلف تمامًا عن النظرية التي طوّرها Whately في عناصر البلاغة. يخلص الباحث في نهاية القسم الأوّل من دراسته الى وضع نتيجتين، يمكن عدّها خلاصة لتطورات الإصدارات السبعة من كتاب "عناصر الخطابة" "هما: إنّ عرضنا لتطور الافتراض يسمح لنا أنْ نصدر حكمين شاملين حول طبيعة نظرية ,وايتلي في الافتراض: 1. على الرغم من أنّ الطبعة الرابعة المبكرة تعاملت مع الافتراض على أنه صفة مرنة قابلة للإصلاح بشكل أساسي، تم إبلاغها إلى جمهور غير فاعل، إلا أنّ الإصدارات اللاحقة – للكتاب نفسه - وصفتْ الافتراض على أنه تصور من قبل أعضاء الجمهور يتم تحديده من خلال اعتبارات اجنماعية (عضوية المجموعة) و نفسيّة – منطقية psycho- logica 2. تم وصف العملية الأساسية للافتراض على أنها نفسية، لأن الافتراض "المنطقي" أو المخصص / المعياري كان يعتمد على الإدراك الذي تحكمه الخصائص الاجتماعية والنفسية للجمهور.
جادل فادلي و ميلز، إن أوصاف العصر الحديث هي في الأساس إعادة صياغة أو تطبيقات لم يتم تعديلها. غير أنّ مراجعتي لستة وعشرين نصًا تقنعني بخلاف ذلك. على وجه التحديد، أجد أنّ التوجه المتمحور حول الجمهور لنظرية Whately يتلقى معالجة لا تذكر في المناقشات المعاصرة. هذه بشكل موحد تقريبا. الاعتماد على النهج القانوني الثابت للافتراض فحسب، وهو الذي ميّز نظرية Whately s المبكرة جدًا فقط. على وجه التحديد، أجد أنّ التوجه المتمحور حول الجمهور لنظرية Whately يتلقى معالجة لا تذكر في المناقشات المعاصرة. هذه التصوّرات تعتمد بشكل موحد تقريبًا على النهج القانوني الثابت للافتراض الذي ميّز فقط نظرية Whately المبكرة جدًا. على الرغم من أنّ معاملة الافتراض وعبء الإثبات، تختلف من حيث الطول والنوعية، يظل التعريف الأساسي للافتراض وعبء الإثبات متسقًا بشكل ملحوظ في جميع المراجع الستة والعشرون التي تم فحصها. أخيرا، يقول الباحث: نصوص الجدل والنقاش في القرن العشرين تدفعني إلى استنتاج، أنّ العلاقة المفترضة بين الاثنين غير صحيحة بشكل عام. تطورت نظرية Whately من نظرية قانونية أو ثابتة إلى مناقشة تستند إلى التوجهات الاجتماعية والنفسية للجمهور. على النقيض من ذلك، فإن المعالجة في الكتب المدرسية متجذرة في تفضيل (يبدو أنه يتزايد) من أجل التنازل القانوني أو القائم على القواعد للافتراض وعبء الإثبات للمدافعين في النزاع. فضلاً عن ذلك، تعمل المقارنات القانونية كأصل معلن للافتراض في العديد من الحالات أكثر مما فعلته "عناصر الخطابة" لوايتلي لقد تم أخذ الإشارات إلى Whately بشكل موحد من مناقشته المبكرة وحذف جميع التحسينات النفسية اللاحقة له. من " عبء الإثبات" إلى فرضية " ترجيح الأدلة" على الرغم من عدِّ كتابه مصدراً موثوقاً، لا يمكنُ لباحثٍ في تاريخ الإلحاد تجاوزه أو الاستغناء عنه أو دحض افكاره و وقائعه، يكتبُ العالِم – الفيلسوف Alister Mcgrath في آخر سطرين من مقدمة كتابه " The Rise And Fall Of Disbeleif In The Modern World هاتين العبارتين المشبعتين باليأس و العزاء لنفسه و للمؤمنين المعتقدين بصحّة ما قاله: " هذا الكتاب لن يكون كلمة الفصل او يحلّ أيّ شيء من الخلاف بين المؤمنين و الملحدين، ولكن يمكنه على الأقل أنْ يزيد من مناقشة واحدة من أكبر القضايا في عصرنا" لكن، و هذا هو السؤال والوضع المحيّر في مضمون كتاب ألستر مكغراث كلّه: لماذا يقول الرجلُ ذلك؟ أعني لماذا يعتقد ألستر مكغراث - بعد كلّ ذلك الجهد العقلي الجبّار الذي عرضه من وقائع تاريخية بالغة الاقناع و الدقة عن تاريخ الإلحاد، و التي تفصل القول – عبر حججها البالغة المقنعة - بأنّ اسباب نشوء الالحاد وارتقارءه، إنّما كانت في أصلها سياسية و اجتماعية و أخلاقية و ردةّ فعل على ممارسات لاهوتية خاطئة لبعض رجال الكنيسة، أيّ أنّها لم تكن كما يقتضي المقام أسباباً عقائدية أو فلسفية تعرض الدليل المقنع على عدم وجود الله، أقول: لماذا يكتب ألستر مكغراث في نهاية مقدمة كتابه " هذا الكتاب لن يكون كلمة الفصل او يحلّ أي شيء من الخلاف بين المؤمنين و الملحدين" كأنّه يرددُ بطريقة ما تلك االعبارة الشهيرة التي اختتم بها " نيكوس كانتزايكس" رواية " المسيح يُصلبُ من جديد" حين قال " لا جدوى يا يسوع"؟ يبدو لي أنّ المفكر ألستر مكغراث على دراية تامّة بأنّ قضية الحوار بين المؤمنين و الملحدين في قضية عنوانها الأكبر " وجود الله أم عدم وجوده " لا علاقة لها البتة، لا من قريب و لا من بعيد، بإيّ نوع من الحجاج العقلي الرصين الملتزم بمبادئ الحوار العقلي – الفلسفي، الذي يعرضه المؤمنون على خصومهم سبيلاً لترجيح فرضية الله، إنّما يتعلّق الأمر كلّه بالمزاج النفسي او الأخلاقي أو الاجتماعي او السياسي او السخط على الممارسات اللاهوتية الخاطئة لرجال الدين في العالم الغربي، كما بيّن كلّ ذلك بالتفاصيل الدقيقة المقنعة في مضمون كتابه آنف الذكر. هذه هي الحقيقة المرّة التي أكرهت المفكر مكغراث على قول ما قال، و هي نوع حقيقة شائعة يمكن تأكيدها من خلال أمثلة واقعية حيّة كثيرة، و لعلّنا نجد في إدخال مفهوم عبء الإثبات في صُلب حوار المؤمنين و الملحدين " في قضية وجود الله" مثالاً بالغ الدلالة على صدق ما نذهب إليه. و هو المفهوم الذي عدّه الملحدون – على مختلف رتبهم العقلية – شعاراً لا ينبغي على أحدٍ مراجعته أو المساس بقدسيّة مضمونه التي اعتقدوا أنها تشير الى إعفائهم من تقديم عبء إثباتهم الخاص بمضمون اعتقادهم القائل بعدم وجود الله. و لعلّنا نجد أفضل مثال واقعي على صدق ما نذهب إليه في إشاراتنا الى موقع Quora الالكتروني، أعني طرح هذا الموقع النشط على قرّائه سؤالاً محدداً بالغ الدقة و الخصوصية نصّه: When it comes to God, why is the burden of proof on believers? أي: " عندما يتعلّق الأمر بالله، لماذا ينبغي أنْ يكون عبء الإثبات على المؤمن ؟" حيث وردت الى الموقع مئاتُ – إن لم أقل آلاف – الإجابات التي تلتقي على قاسم معرفي مشترك أعظم مفاده: إنّ عبء الإثبات في القضية المذكورة، ينبغي أنّ يتحمّله المؤمن وحده، بسبب من أنّ القول بعدم وجود الله، هو قضية سلبية، و أن قضايا السلب لا يمكن إقامة الدليل عليها، أو بسبب الزعم أنّ قاعدة "افتراض الإلحاد" هي التي تشرّع لهم مبدأ العفو هذا. و معنى هذا أنّ اجابات الملحدين تستمدّ مصدرها و شرعيتها من مضمون الأفكار الأساسية لدراسة أنطوني فلو "افتراض الإلحاد" لكن من خلال فهم مبتور عاجل و غير دقيق، فهمٍ ربّما كان مصدره موقع إلحادي آخر سوّق و سوّغ ذلك الفهم الناقص لهم، بسبب من أنّ القراءة الدقيقة الشاملة لمضمون دراسة أنطوني فلو، لا يمكن أنّ تؤدي الى الفهم غير المشروط بإعفائهم من عبْ الإثبات، كما بيّنتُ ذلك بالتفصيل المسهب خلال مناقشتي لمضمون الدراسة. و من المهم أن أشير هنا الى أنني سأفرد فصلا خاصا لبحث ملاحظتين تتعلقان بموقع Quora الذي تم لي ذكره، إذْ تشير إحداهما الى إثباتي لصدق ما زعمتُ من: أن هناك المئات من الإجابات تلتقي على الفهم الخاطئ لمضمون دراسة فلو "افتراض الإلحاد" تشير الملاحظة الأخرى الى وجود بعض الإجابات المذهلة في قدرتها الفكرية و نوع حجاجها العقلي في دحض الفكرة التي تزعم أنْ يتحمّل المؤمن وحده عبء الإثبات في قضية وجود الله. خلاصة القول - كما يُخبر واقع الحال - إنّ الحوار الفكري – العقلي – الفلسفي – العلمي، بين المؤمنين و الملحدين في قضية وجود الله، لن يشهد لا في القريب العاجل و لا في البعيد الآجل أيّ فرصة سانحة لحلّه و تصفيته بالاتفاق على صيغةٍ ما تقنع الطرفين، أو تجعل إحدهما متنازلاً عن نوع اعتقاده طوعاً الى الآخر. و لأنني أعتقدُ أنّ فرضية وجود الله كخالقٍ للكون و الحياة، بوصفها حواراً يقبل الطرفان بأن يكون عنصر المعرفة فيه هو الفيصل بينهما لغاية محددة مفادها ترجيح الأدلة و ليس اليقين من إثبات أو عدم إثبات وجود الخالق، هي الفرضيّة الأرجح و الأقرب للتصديق العقلي – كما يعتقد ذلك جمعٌ غفيرٌ من الفلاسفة و العلماء و كثير من الناس – وهذا هو الدور الوحيد بالغ الاهمية لعنصر المعرفة من جهة و هو دور لا يقدح بطبيعة الحال، بأهمية الجانبين الأخلاقي و الاحترازي، أو باتخاذ الإيمان وحده مصدراً غنياً و متماسكاً لقضية الإيمان بوجود الله، و لأن الملحدين، من جهة أخرى، على اختلاف مراتبهم العلمية و الفلسفية، لم يقدروا الى الآن، لا على تقديم حججٍ مقنعةٍ تثبتُ أنّ الله لا وجود له، و لا على دحض أو تفنيد حجج خصومهم الدامغة من المؤمنين، كان من الطبيعي أنْ يلجأ بعضٌ منهم الى تزوير الحقائق والحجج و افتعال الأسئلة و المواقف و المفاهيم التي يعتقدون أنّ لها العون و القدرة على تعزيز موقفهم السلبي من قضية الله من أجل إحراز المزيد من النقاط لصالحهم في الخلاف قيد المناقشة، و ما بدعة إدخال مفهوم " عبء الإثبات" في صلب حوار المؤمنين و الملحدين إلّا إحدى تلك الحيَل البارعة التي لجأتْ إليها مخيلة الفيلسوف الإنكليزي الملحد أنطوني فلو، أكثر الفلاسقة - بلا منازع – تأثيراً في نشر الإلحاد، لرفد موقفهم بمزيد من الحجج العقلية لصالحه، و هو أمرٌ قد حدث يطبيعة الحال، قبل أنْ يتحوّل هذا الفيلسوف عن موقفه الملحد الى الإيمان بالله كما أعلن ذلك في كتابه الشهير " There is God ". من عبء الإثبات الى عبء ترجيح الأدلة على نحو مباشر، تضطرّنا الوقائع المعرفية الى ذكره، يمكن القول: بما أنّ قضية وجود الله او عدم وجود ليست قضية تجريبية علميّة يمكن التاكد من اثبات صحة أحد احتماليها عن طريق التجربة، مثلما ليستْ هذه القضية نفسها، تمثُل بوصفها قضية معرفية محض، يمكن للعقل البشري إقامة الدليل القاطع على صحتها، أي إثبات وجود الله أو عدم وجوده – كما أثبتت أعمال كانط النقدية امتناع ذلك - فمعنى هذا بالضرورة أنّ على طرفي الحوار معا - الملحد و المؤمن – تحمّل عبء إثباتهما لما يقولان، أيْ تقديم كلّ منهما لدليله و حجّته المقنعة على صحة ما يدّعيه، ليجري بعدها فحص الادلة وبيان ترجيح احدهما على الاخر، بلا عناد و لا مكابرة تفرضها عزّة النفس أو غاياتها غير المتعلّقة بهذه المسألة أصلاً. ذلك، لأنّ ادعاء المؤمن: ان الله موجود لا يعني أنّه يمكن لهذا المؤمن أنْ يقيم دليله العقلي القاطع على وجود الله بنفس الطريقة القاطعة التي يقام فيها اثبات القضايا التجريبة، إنّما هي قضية ترجيح فقط، و هو الحال نفسه مع الملحد الذي ينبغي أنْ يتمثل موقفه هنا لا باقامة الدليل القاطع على نفي وجود الله إنّما بتقديم أدلته على سبب قناعته بهذا الزعم، أيْ بترجيحه لفرضيته لا غير. و معنى هذا و خلاصة له: أنّ كلا طرفي الحوار ملزَميَن بتقديم عبء إثباتهما لما يعتقدانه بالضرورة، و لا أحد منهما مستثنى تحت أيّة ذريعة كانت، و معناه أيضاً، أنّ مفردة "إثبات " في نوع حوار الطرفين، مفردة غير دقيقة، بل لا ضرورة لها البتة، لأن نوع الحوار هذا لا يمكن بأيّ حالٍ من الأحوال – كما هو الحال في قاعة المحكمة - أن يصل بأحد المتحاورين إلى " إثبات" قضيته، سواءٌ لصالح وجود الله أو عدم وجوده، من حيث أنّ كلّ ما هو متاح له – استناداً الى قدرات العقل البشري، وفقاً لتعاليم كانط – لا يعدو كونه من الناحية المعرفية سوى ترجيح فرضية وجود الله على عدم وجود، أو العكس.
في انتظار الأدلة في كتابه " ثمة إله " يقول "فلو" مبرراً تحوّله من الإلحاد الى الإيمان: " حين عرفت إن رايل يتبع المقولة التي أوردها افلاطون في كتابه "الجمهورية" وهي المقولة التي تنسب إلى سقراط، وفيها يقول " يجب أن نتبع الحجة أينما قادتنا" وهذا المبدأ - ضمن أمور أخرى – يتطلب أنْ يتمّ نقاش أيّ اعتراض بصورة مباشرة وجها لوجه، حاولت أنْ أطبق هذا المبدأ طوال حياتي الجدلية. و هو قول سبق له ذكره – قبل تحوّله - بطريقة أخرى مفادها: أنّ سبب إلحاده معزوّ، الى : عدم توّفر أدلة جيدة على وجود الله الى الآن، مع التأكيد أن مضمون هذه العبارة سيتردد معناها بالنصّ في الكثير جداً من إجابات الملحدين على نوع السؤال الذي طرحه موقع Quora كما سنبين ذلك. السؤال هنا هو: ما نوع هذه الأدلة التي يترقّب الملحدون وصولها اليهم من أجل أنْ يصبحوا مؤمنين استناداً لوصولها لهم؟ أ هي نوع أدلّةٍ من العلم؟ و هذا أمرٌ من المحال حدوثه، و من السخف ترقّبه، بسبب من أنّ العلم لا علاقة له بهذه النوع من الأدلة على الإطلاق، يقول بيتر مورفي بهذا الصدد، مع التذكير بالغ الأهمية: إن قوله لا يعني، إخلاء مسؤولية العلم من توفير هذا النوع من الأدلة فحسب، بل إنه ليثبت أيضاً، سخف تبني الإلحاد موقفاً من الله بالاستناد الى أدلة العلم، يقول مورفي معرض بيانه لتلك الأدلة التي يتذرّع الملحدون بها أسباباً لعدم إيمانهم: " دعونا الآن نلقي نظرة على العبارات الدوغمائية القياسية للإلحاد التي تم تقديمها سابقًا في هذا المقال ونرى كيف أن كل منها معيب وغير علمي. يقول الملحدون: أ) لا يوجد دليل علمي على وجود خالق. ب) يثبت العلم أنه لا يوجد خالق. ج) كل الأشياء لها تفسيرات طبيعية. في شرح النقطة "أ" :لا يوجد دليل علمي على الخالق THERE IS NO SCIENTIFIC EVIDENCE FOR A CREATOR من الناحية العلمية يُعدّ محتوى هذه العبارة أحمقا. حيث يفترض العلم أن كل الأشياء لها تفسيرات طبيعية تتفق مع مقص أوكام. Occam’s Razor. تشير الادعاءات القائلة بأن العلم لم يعثر على دليل على وجود خالق إلى أنّ العلماء يشاركون في بحث لإثبات أو دحض وجود خالق. الملحدون العقائديون الذين يروجون لهذا الشعار يفتحون أنفسهم لسؤال بسيط يفضح جهلهم وافتراضاتهم: ما هو البحث العلمي الجاري الآن الذي يبحث تحديدًا عن دليل على وجود خالق؟ (الجواب لا شيء). في شرح النقطة "ب" : يَثبتُ العلم أنّه لا يوجد خالق SCIENCE PROVES THERE IS NO CREATOR ليست العبارة هذه غير كفء من الناحية العلمية فحسب، إنّما هي عبارة غبية stupid. نظرًا لأنّ مهمة العلم لا تتمثل بمحاولة إثبات أو دحض وجود خالق، ولا يوجد بحث علمي يتم إجراؤه بناءً على مثل هذه الفرضية ،لذا فإن العلم لا يثبت شيئًا يبرر مثل هذا التصريح الدخيل outlandish. ليس من المستغرب أنْ يصبح مؤيدو هذا الشعار بالذات في وضع دفاعي مفرط الى ابعد الحدود عندما يُطلب منهم مشاركة هذا "الدليل" على عدم وجود خالق. يلجأ الملحدون العقائديون مرارًا وتكرارًا إلى الادعاء ، مثل المشككين، أنّه ليس لديهم عبء الإثبات على الرغم من ادعائهم أن لديهم دليلًا. إنّ المفارقة التي تدعو الى السخرية هنا هي: أنّه إذا كان لديهم مثل هذا الدليل، فسيكون من السهل إثبات ذلك ، فلماذا الغضب العاطفي الدفاعي؟ الجواب هنا بديهي أو واضح بذاته، فقد تمّ استدعاء الملحد العقائدي في خدعته called on his bluff, ، ومثل لاعب ورق فقير لا يمكنه الحفاظ على هدوئه. النفاق الفكري intellectual hypocrisy هو الادّعاء من ناحية أنّ العلم يثبت شيئًا ما، وأنْ يصبح المرء دفاعيًا وليس شارحا لكيفية اثبات العلم لذلك الشيء، أمرٌ من نتاج عقل غير ناضج وعاطفي ، ومثل هؤلاء الأشخاص هم الذين يمنحون العلم سمعة سيئة في كثير من الدوائر. قدر نعلّق الأمر بمضمون النقطة "ج" و هو : كل الأشياء لها تفسيرات طبيعية، يقول مورفي: هناك العديد من الأسئلة التي لم تتم الإجابة عنها، وربما لا يمكن الإجابة عليها ، قدرتعلق الامر بالانفجار العظيم . ، وإليك بعضًا منها: أ) ما هي الشروط التي كانت موجودة قبل الانفجار العظيم؟ ب) من أين أتتْ الطاقة والمادة التي كانت موجودة قبل الانفجار العظيم؟ ج) ما الذي تسبّب في الانفجار العظيم؟ د) كيف ولماذا توسع الكون؟ كان الانفجار العظيم حالة تفردية singularity، حيث لا توجد قوانين الطبيعة ؛ وعلى هذا النحو ، لا يوجد تفسير طبيعي، وهذا الحال يترك مجالًا للخالق. خلاصة نصوص مورفي، معناها إذن: إنّ أن الأدلة التي يترقّب الملحدون وصولها اليهم، لا يمكن أنْ يكون العلم مصدرها أبداً، بل أنّ نسبة السبب في إلحادهم استنادا الى القضايا العلمية لا يمكن تبيره أيضا. لذا يحقّ لنا التساؤل الآن، عمّا إذا كانت الأدلة التي يترقّب الملحدون وصولها اليهم هي نوع أدلّة عقلية فلسفية يمكن أنْ تثبت لهم على نحو يقيني بأنّ الله موجود، و هذه نوع معرفة مستحيلة ممتنعة على العقل البشري، كما أقبتتْ تعاليم كانط النقدية ذلك؟ من هنا فلا وجود لأية أدلة، لا علمية و لا فلسفية، من شأنها حسم النزاع على نحو يقيني في هذه المسألة، مما يعني أنها ليست في حقيقتها و قوّة إقناعها لا تعدو كونها أسباباً قد ترجح فرضية الإيمان على الإلحاد أو العكس. دعونا نتصوّر الآن هذا الحوار بين الطرفين: يقول الملحد: بإنّ الدليل الجيد على وجود الله لم يصل اليه بعد. و معنى هذا افتراضا، أنّ المؤمن الذي يحاوره قد وصل اليه هذا الدليل الجيد على صحّة اعتقاده بوجود الله، و لذا فهو مؤمن. لنفترض الآن، أنّ مؤمناً منوّرا خبيرا، ارتضى بأنْ يكون عبء الإثبات من نصيبه وحده، وفقاً لقاعدة افتراض الالحاد التي اقترحها فلو، فتمكّن بمجموعة من أدلّة عرضها على الملحد، من إقناع الأخير بتغيير رأيه في القضية موضع الحوار، الأمر الذي يعني كنتيجة لما حدث، بأنّ الملحد قد أصبح الآن مؤمناً، و أنه قد أصبح ابتداء من الآن مشمولاً بتحمّل عبء الاٌثبات وحده في حوار قادم له مع أيّ ملحد يطالبه بتقديم أدلته على صحّة اعتقاده. لكن، ما الذي يستطيع هذا المؤمن الجديد – الذي كان ملحدا – أنْ يقدّمه لخصمه الملحد سوى مجموعة من الأدلة التي تعلّمها و التي " ترجّح " لا غير فرضية إيمانه على إلحاده؟ إذا كان الأمر برمّته كذلك، أيّ أنّه متعلّق بفرضيات ترجيح أدلّة لا غير، فلماذا لا يدخل الملحدون مع المؤمنين في حوار مباشر، لا فرضيات مسبقة فيه، كافتراض الإلحاد، ما دامت القضية كلّها لا تتعلق في عمقها الجوهري – بداية و نهاية – سوى بترجيح نوع أدلّة على غيرها؟ من حيث أنْ لا وجود لأيّ نوع من الأدلة الجيدة يمكن الحصول عليه إلّا عبر هذه الطريقة و هذا الرتبة من التصديق فحسب، سواء من حيث نوع و مرتبة صدقها الذي لا يمكن إلّا أنْ يكون مجرّد ترجيح، أو من حيث مصدرها الذي لا يمكن أن يكون إلّا أنواعاً من المعارف – مؤلفات و حقائق و كشوفات علمّية – لا يمكن لها هي الأخرى سوى أنْ تكون بدورها فرضيات ترجيح لأحد الرأيين على الآخر. لذا فان عبء الاثبات قدر تعلّقه بقضية وجود الله – كما أرى - ينبغي أنْ يتحول اسمه و مفهومه الى مصطلح آخر قد يكون اقتراحا: عبْ ترجيح الأدلة و ليس عب الاثبات. و هنا سيتم سحب البساط من تحت أرجل الملحدين العقائديين مرةً واحدة و سيجري التخلص من ادعائهم بأنّ القضايا السلبية لا يمكن إثباتها و التخلص من اعتقادهم بأنّ المؤمن وحده من يتحمل عبء الاثبات.
#عادل_عبدالله (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عبء الإثبات في الحوار الفلسفي - الفصل الثالث: الله و إبريق ش
...
-
عِبءُ الإثباتِ في الحوار الفلسفي على أيٍّ من الطرفين يقعُ عب
...
-
عِبءُ الإثباتِ في الحوار الفلسفي على أيٍّ من الطرفين يقعُ عب
...
-
عبء الإثبات في الحوار الفلسفي - على أيّ من الطرفين يقع عبءُ
...
-
التصوّف، فيزياء الكم، و شيزوفرينيا العالَم
-
الخاطفُ و الضحيّة ... قصّة فلسفية
-
محاولة في التفسير العلمي لعبارة - كن فيكون-
-
الوضعيةُ المنطقية : البداية و النهاية
-
القرود تفشل في امتحان شكسبير
-
أدونيس - و - أنا - بين - تناص - المنصف الوهايبي و - انتحال -
...
-
- يومَ ضَبطتُ أدونيس مُتَلبّساً -
-
هناك.... حيثُ كنّا ندافعُ عن الوطن
-
الله و الإمام: بحوث فكرية في الأسلوب الإلهي لإقامة الدين في
...
-
أربع قصائد
-
أحداث التفّاح الكبرى
-
لماذا تضحكون علينا أيّها الفلاسفة؟
-
William Lane Graig : ( وهم الإله ) كتابٌ بصفحتين فقط !
-
العدوانيةُ المُضمرة لتحريض معلن
-
داوكنز يخسرُ في - رهان باسكال -
-
مُقدّمةٌ في عِلم الدين، هيجل - محمد باقر الصدر
المزيد.....
-
السعودية.. الإعلان عن المرشحين للمرحلة النهائية من Joy Award
...
-
أول زيارة رفيعة المستوى منذ سقوط الأسد.. وفد تركي-قطري يصل إ
...
-
عُثر عليه في سوريا هائمًا في الطريق.. فيديو يُظهر أمريكيًا ي
...
-
وفد تركي قطري كبير في دمشق لبحث تفاصيل المرحلة المقبلة في سو
...
-
الرئيس الصربي يستجيب لمطالب المحتجين بعد أسابيع من الاحتجاجا
...
-
ما مستقبل القواعد العسكرية الروسية في سوريا؟
-
كيف يشكل التنوع الطائفي والعرقي فسيفساء سوريا؟
-
أوراق ومهدئات وخريطة للجولان المحتل.. ما الذي تركه الأسد في
...
-
بين شرب القهوة وتدخين السجائر.. جنود الجيش الإسرائيلي يستمتع
...
-
-عودة سياسية مذهلة-.. مجلة تايم تختار ترامب كشخصية العام
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|