|
التصوّف، فيزياء الكم، و شيزوفرينيا العالَم
عادل عبدالله
الحوار المتمدن-العدد: 7084 - 2021 / 11 / 22 - 16:40
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
التصوف، فيزياء الكم، و شيزوفرينيا العالم
عادل عبد الله
أيمكن للاشياء الموجودة في العالم الخارجي من حولنا انْ تكون وهما؟ قد يبدو مثل هذا الكلام مألوفا لمطّلع عن كثبٍ على تعاليم الصوفية و اسلوبهم في النظر الى العالم الواقعي . فإذا كان الأمر كذلك، دعونا نتأمل الآن - على سبيل المثال - هذه العبارات المكتوبة من قبل صوفي غربي غير مشهور اسمه جويل موروود: "إن ظهور اشياء العالم القابلة للتمييز عن ذواتنا ليست سوى شكلٍ مُتخيّل يتمكن الوعي من خلاله ادراك نفسه على نحو افضل." لكن، اذا كانت تلك العبارة قد قيلت من قبل صوفي، الأمر الذي قد يدعو الى الاستخفاف بمضمونها، فكيف يمكن لنا التعامل مع هذا المضمون نفسه، عندما يكون مُعلناً من قبل أحد أعلام الفيزياء المعاصرة ؟ لنصغي الآن الى كلمات قالها العالم ( نيلز بور) رائد فيزياء القرن العشرين يقول بور: ( إن الواقع المستقل عنا بالمعنى المعتاد للفيزياء، لا يمكننا نسبته، لا الى الظواهر ولا الى الذات التي تراه ) الآن دعونا نصغي الى ما يقوله الفيلسوف الهندي الشهير شنكارا: )إن الاشياء كلها، ابتداء من المُبدع براهما، نزولا الى طرف العشبة، هي بكل بساطة مجرد ظاهر لا حقيقة له ) لكن، أ ليس هذا هو المضمون نفسه الذي قاله هيزنبرغ، أعظم فيزيائيي القرن العشرين ومكتشف نظرية آلية الكم؟ يقول هيزنبرغ : (إذا ما اراد أحدنا إعطاء وصفٍ دقيق للجسيم الأولي، فإن الشيئ الوحيد الذي يمكن تسجيله عنه كوصف له هو، الوظيفة الاحتمالية، ولكن على الانسان ان يفهم من ذلك، انه ليست هناك اية كيفيات وجودٍ يمكن ان ننسبها الى ما تم لنا وصفه) الان، إذا ما اخذنا بالاعتبار النوع الثقافي للمواطن الغربي فان من السهولة بمكان افتراضنا رفضه وانكاره لأقوال الصوفية المعتزلين التي مرت بنا. ولكن هل يمكن له انْ يرفض اقوال الفيزيائيين العظيمين نيلز بور وهيزنبرغ بنفس السهولة، مع علمه انهما اسطورتا فيزياء القرن العشرين وانهما معا كانا قد حصلا على جائزة نوبل للفيزياء ؟ كيف يمكن للمواطن الغربي رفض اقوالهما، وهما مبدعا آلية فيزياء الكم ، وهي النظرية الاكثر دقة في الفيزياء حتى الان، النظرية الاعظم من بين كل ما تم اكتشافه على الأطلاق؟ كيف يمكن رفض نظرية الكم، وهي النظرية التي "توضّح لنا كيف تضيئ الشمس وكيف تتجمع الجزيئات مع بعضها، كيف يمكن للحديد ان يتمغتط ولماذا تكون الاشياء صلبة؟ إنها النوع الفيزيائي الذي مكّننا من صناعة رقائق الكومبيوتر والليزر والقنابل الذرية ايضا." معنى هذا انك اذا اردت رفض فيزياء الكم فإنّك بهذا الفعل ترفض حجر الزاوية والاساس النظري للفيزياء الحديثة، بل وتطيح بالاساس النظري لكل هذه العجائب الحديثة. إذا أردنا ان نكون صريحين مع انفسنا، فإن علينا ان نفكر مرة اخرى بالموضوع قبل ان نرفض ما يقوله بور وهيزنبرغ بل انّ علينا انْ نلقي نظرة قريبة على ماتم لهما قوله. إن القسم الاكبر من خبراتنا وتجاربنا تتفق مع فكرة ان هناك بالفعل عالما موضوعيا موجودا على نحو خارجي بالنسبة لنا، وإن الكثير منا يتعامل على نحو يومي مع الاشياء الواقعية دون أن يجد هناك أي تناقض مع خبراته على الاطلاق . ولكن على الرغم من ذلك كله فان المتصوفة والفيزيائيين العظام يصرون على ان العالم الخارجي بكل اشيائه المحيطة بنا هو مجرد وهم.. ان اكتشاف العالم تحت الذري أسفر عن بُعدٍ جديد ساحر للكون الفيزيائي غير ان معظم الذي تم اكتشافه يتنازع مع الافتراضات الاساسية للفيزياء التقليدية، حتى ان "نك هيربرت" كتب: انّ واحدا من افضل الاسرار التي كانت محفوظة هو، ان الفيزيائيين فقدوا ارتباطهم بالواقع. في البداية كان يعتقد ان الوحدات الاساسية لبناء الكون كانت ذرات تتالف من البروتون والنيترون والالكترون. وكانت الذرة توصف بكونها نظاما شمسيا صغيرا يتبع القوانين الطبيعية للنسخة الكبرى له المتمثلة بالنظام الشمسي. غير ان التجارب اللاحقة عرضت لنا ان الامر ليس على هذا النحو. بعد اكثر من مئتي عام على اكتشاف الجزيئات لم تكن هناك من مفاجاة كبيرة تساوي دهشة اكتشاف السلوك الغريب للجسيمات. فبينما توجد هناك العديد من المظاهر لسلوك الجزيئات مما يتنازع و ينعارض مع معتقدات الفيزياء القديمة، فان ثلاثة خصائص رئيسية هي المهيمنة: التناقض، اللايقين الفيزيائي، والتاثير الأسرع من الضوء. ومثل هذه الحقيقة لا تشمل الفوتونات ( جسيم الضوء) فحسب، انما تشمل جسيمات اخرى ايضا . فاذا سمحتْ لنا الفيزياء القديمة بتحليل الاحداث والتنبؤ بها بصورة بالغة الدقة، فاننا في عالم فيزياء الكم مقيدين باللاقين والاحتمالية. ومثل هذا الواقع الكمي لا يعني و لا يتضمن القول ان السببية لا تعمل عند المستوى تحت الذري، انها تعني ببساطة انه ما من سبب محدد يمكن البرهنة عليه للحصول على نتيجة معينة. ان اكثر الاكتشافات صدمةً في عالم الكم تعاملت مع اسئلة انيشتاين عن السرعة القصوى للضوء بطريقة مختلفة، مفادها، انّ المعلومات تنتقل في العالم تحت الذري بطريقة ما أسرع من الضوء، و مثل هذه الحقيقة تعدّ مستحيلة في الفيزياء او الطبيعة . ان مثل هذا الواقع استدعى مرة اخرى الفهم القديم لمساءلته عن معنى العلة – المعلول او السبب والنتيجة الذي يعد المبدا الاساسي لليقين في المعرفة . وان جميع المقولات التقليدية الخاصة بوصف عالمنا المنظم تم رميها الى الفوضى. بهذا الصدد صرح العالم الراحل ريتشارد فيمن الحائز على جائزة نوبل : اعتقد انه من المنصف القول انه لا احد يفهم آلية الكم. من هنا فقد وجدت الفيزياء الحديثة نفسها في مازق كبير: من حيث ان الكون الصغير- لا يقيني ، ولا يمكن التنبؤ باحداثه ومن هنا فان مسالة القدرة على وصفه مستحيلة. في حين ان العالم الظاهر – وهو المكون من ذلك العالم الصغير المضطرب- هو عالم منظّم جدا، مُحكم الصنع، ومرتّب على نحو رائع فضلا عن كونه قابلا للتنبؤ به. النتيجة اذن هي : ان طبيعة الواقع هي شيزوفرينا علميّة . ان الطبيعة في الفيزياء القديمة جميلة ومحكمة، وان الكون المنظم فيها يبرهن على وجود خالق منظم له . حتى ان العلماء والفلاسفة من غير المؤمنين اعتبروا ان تصميم الكون يعد اعظم حجة على وجود خالق له . غير ان فيزياء الكم لم تعد تسمح لنا بالافتراض ان العلم ينحني لقوانين طبيعية مبرمة. و هو الأمر الذي أثار حفيظة آينشتاين فأدلى بعبارته الشهيرة " إنّ الله لا يلعبُ النرد" بمعنى أنّ العالم تحت الذري محكوم هو الآخر بقوانين صارمة، سمّاها " المتغير الخفي" و هو عامل يخضع للإرادة الإلهية حصرا. في بداية العام 1700 اكد الفيلسوف التجريبي جورج بيركلي وجهة نظر مشابهة عن الواقع، يقول بيركلي: انْ توجد، معناه انْ تكون مدركا. وقد تجذّرت هذه الفكرة في افتراضاته اللاهوتية والفلسفية. ان الفيزياء الحديثة وصلت الى نفس الاستنتاج على قاعدة البيانات التجريبية. ان الراي الذي تم تطويره من قبل الفيزيائي نيلز بور وتمت معرفته بتفسير كوبنهاكن هو على نحو جوهري الموقف اللا- واقعي. ان مثل هذا الفهم الوضعي يرفض وجود عالم موضوعي مستقل عن مشاهدة الانسان له. بمعنى اننا نخلق واقعنا الخاص بوسطة ادراكاتنا الحسية.
#عادل_عبدالله (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الخاطفُ و الضحيّة ... قصّة فلسفية
-
محاولة في التفسير العلمي لعبارة - كن فيكون-
-
الوضعيةُ المنطقية : البداية و النهاية
-
القرود تفشل في امتحان شكسبير
-
أدونيس - و - أنا - بين - تناص - المنصف الوهايبي و - انتحال -
...
-
- يومَ ضَبطتُ أدونيس مُتَلبّساً -
-
هناك.... حيثُ كنّا ندافعُ عن الوطن
-
الله و الإمام: بحوث فكرية في الأسلوب الإلهي لإقامة الدين في
...
-
أربع قصائد
-
أحداث التفّاح الكبرى
-
لماذا تضحكون علينا أيّها الفلاسفة؟
-
William Lane Graig : ( وهم الإله ) كتابٌ بصفحتين فقط !
-
العدوانيةُ المُضمرة لتحريض معلن
-
داوكنز يخسرُ في - رهان باسكال -
-
مُقدّمةٌ في عِلم الدين، هيجل - محمد باقر الصدر
-
قصيدةُ المَحْفَل، لذّة الحضور و استمناء الكتابة
-
ثلاث مقالات فلسفية قصيرة
-
بائع الموت المتجوّل - قصائد في تحايث الموت و الحياة
-
هدنةٌ في حروب العِلم على الدين، الاختصاصات غير المتداخلة
-
أدورنو و صناعة الثقافة - بحثٌ في الأساليب الرأسمالية للتسلّط
...
المزيد.....
-
تحذير سوري من انهيار سد تشرين في ريف منبج بعد استهدافه خلال
...
-
أولمرت: لم ألتزم قط قبل المفاوضات بالانسحاب من الجولان وعلين
...
-
الإعلام العبري يطرح سيناريوهين -مثيرين- لمستقبل سوريا لما بع
...
-
فلكي يلتقط مشاهد فريدة تُظهر -كرات نارية- تسقط على سطح القمر
...
-
بلينكن يعلن عن حزمة مساعدات عسكرية أمريكية جديدة بقيمة 500 م
...
-
السفارة الروسية لدى اليونان: الغرب يشهد مرة أخرى ولادة الفاش
...
-
إعلامي مصري: إذا سقطت دمشق فعلى القاهرة أن تستعد لمعركة المص
...
-
خبيرة روسية: سيكون هناك حوالي 41 مليون متقاعد عام 2025
-
سوريا : صرافة العملات الأجنبية من السر إلى العلن وتخبط التجا
...
-
ترامب يفوز بلقب شخصية العام 2024 من مجلة -تايم-
المزيد.....
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
المزيد.....
|