أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عادل عبدالله - أدورنو و صناعة الثقافة - بحثٌ في الأساليب الرأسمالية للتسلّط على البشر















المزيد.....



أدورنو و صناعة الثقافة - بحثٌ في الأساليب الرأسمالية للتسلّط على البشر


عادل عبدالله

الحوار المتمدن-العدد: 6511 - 2020 / 3 / 11 - 17:47
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


أدورنو و صناعة الثقافة
بحثٌ في الأساليب الرأسمالية للتسلّط على البشر
عادل عبد الله

"إن العقلانية التقنية حالياً، هي عقلانية السيطرة ذاتها، فالميدان الذي تتمتع فيه هذهِ التقنية بسلطة كبيرة على المجتمع، هو ميدان أولئك الذين يسيطرون عليها اقتصادياً " ـ أدورنو ـ
"إن الصناعة الثقافية هي علامة واضحة على إفلاس الثقافة، أي سقوطها في السلعنة، ذلك أن تحويل الفعل الثقافي إلى قيمة تبادلية يقضي على قوته النقدية ويحرمه من أن يكون أثراً لتجربة أصلية، فالصناعة الثقافية هي العلامة الفاصلة على تراجع الدور الفلسفي – الوجودي للثقافة ". ـ أدورنو ـ
* "إن الوعي العلمي الحديث يُعدَ المصدر الرئيس للانحطاط الثقافي، وكنتيجة له تغرق البشرية في نوع جديد من البربرية بدلاً من أن تدخل إلى حالة إنسانية حقيقية". - بوتومور-
* "إن الرأسمالية ترى أن الجماهير هي بالدرجة الأولى "سوق" ينبغي استثماره وقولبته وتوجيهه وإعادة تشكيل خياراته وتفضيلاته". - هربرت شللر-

1- خصائص فكر أدورنو وموقع الثقافة منها
قدر تعلق الأمر بكونه مفكراً نقدياً- وضع أدورنو خلال حياته عدداً من مؤلفات فلسفية نقدية مهمة، استحق بالاستناد إلى ندرة موضوعاتها وعمقها، اكتساب صفة مفكّرٍ معاصر أصيل- له ما يميزه بالفعل عن مفكري عصره على نحو عام، أو عن مفكّري المدرسة التي ينتمي لطروحاتها، مدرسة فرانكفورت، على نحو خاص.
فإذا أردنا إحصاء هذه الموضوعات التي تعامل معها أدورنو في مؤلفاته كلها، أمكن القول، بإنها ما تتمثل بالعلاقة التي تضمّ على نحو مترابط عميق، مجموعةً من المفاهيم المتداخلة العاملة، هي (المجتمع، الثقافة، العلم، الفن، السياسة، نقد الماركسية والرأسمالية...).
ولئن كانت هذه المفاهيم مشتركة في تناولها بين أغلب مفكري عصر ما بعد الحداثة، فإن لها ما يميز استخدامها والنظر إلى علاقاتها الخاصة في فكر أدورنو.

2- الموقف من العِلم
أول أشكال هذه الخصوصية في فكر أدورنو هو، موقفه من العلم.
حيث نظر أدورنو إلى العلم- وهي نظرة التقى عليها معظم مفكري مدرسة فرانكفورت،
(على أنه وضعي بشكل متأصل)، ومن هنا تعامل أدورنو معه بأقصى درجات الشك- إن لم يكن الاحتقار) .
أما الأساس الذي يقوم عليه مثل هذا الموقف – فهو السعي إلى (إنتاج فكر جدلي، لا يعتمد على النزعة الوضعية بأي حال من الأحوال).
ولمّا كنا نعرف، أن الوضعية على نحو عام و (حلقة فيينا) على نحو خاص، كانت على علاقة سيئة مع فكر أدورنو ـ تمثّلتْ برفضه لهذه النزعة العلمية، في عصر كان يشكل هذا النزوع العلمي أهم خصائص مفكّريه ـ عمل هذا المفكر الجسور، على بناء عقيدة فكرية، حرص على ان تكون دعاماتها مشيّدة على أسس غير علمية، تحديدا، ثقافية أو فنية .
ولتوضيح طبيعة علاقة هذهِ الافكار ببعضهما من جهة، و بيان أسلوب النقد الفكري – الثقافي الذي وجّهه أدرونو للعلم الوضعي، من خلال كتابه المشترك مع هوركهايمر (جدل التنوير) من جهة أخرى، نقول:
إن الفكرة الاساسية لهذا الكتاب – هي التدمير الذاتي للتنوير، أي التدمير الذاتي للعقل، مُدركاً باعتباره معالجة نقدية للحقائق، من خلال فضح الوضوح الزائف المتعين في الفكر العلمي والفلسفة الوضعية للعلم، حيث ظلّ هذا الوعي العلمي الحديث بمثابة المصدر الرئيسي للانحطاط الثقافي، وكنتيجة له، تغرقُ البشرية في نوع جديد من البربرية بدل من أن تدخل إلى حالة إنسانية حقيقية)"2"
الكتاب هذا إذن- بحث في الآثار السلبية التي تعاضدَ على انتاجها في الميدان الاجتماعي كل من العلم، والفلسفة الوضعية التي تأسست على معطياته، من حيث ( أن "مبدأ التحقق" من خلال الادراك الحسي، الذي يمثّل البدايةَ والنهائية بالنسبة للوضعية المنطقية، مبدأ غير ملائم، يشير إلى الضمان المتزايد للفكر البرجوازي)"2"
ذلك لأن ( الوضعية المنطقية، لا تقيم أي تميز بين المظهر السطحي للأشياء، وبين لبهّا أو جوهرها)"3"
ولئن كانت هذه الأفكار مشتركة بين أدورنو و زميله الفكري هوركهايمر في كتابهما (جدل التنوير) فإن ثمة أفكارا أخرى، تتعلق بالموضوع ذاته، قدّمها أدورنو بمفرده في كتابه (الجدل السلبي) الصادر عام 1966، حيث يرد فيه (إنّ السيطرة على الطبيعة من خلال العلم التكنولوجي، تنشيء بالضرورة شكلاً جديداً من التسلط على البشر)"4"

3 - ديالكتيك التنوير – الجدل السلبي
نشر أدورنو كتابه المشترك مع هوركهايمر ( جدل التنوير) في العام 1947، ثم نشر بعده، كتابه الخاص(الجدل السلبي)، ليتبعهما بكتاب ثالث هو (الاشكال المنشورية)
وفي جميع مؤلفاته هذه، يعرض أدورنو لنقد (التفكير المتعلق بالهوية الذاتية) عبر أسلوب نقدي يتخذ من النزعة العلمية موضوعاً له، فإذ تجري ادانتها انسانياً من جهة، فإنها تنتصر إلى النزعة الفلسفية وتدافع عنها من جهة اخرى. ذلك لأن الفلسفة، كما يرى ادورنو ( قد سمحت بانْ يرهبها العلمُ، لكن الحقيقة الفلسفية، لا تساوي الحقيقة العلمية، وعلى الفلسفة ان لا تخجل من ذلك فتنزوي بعيداً...اذ ليست الفلسفة علماً ولا شعراً تأملياً حتى يقوم الوضعيون بتحضيرها بطريقة غبية)"1"
وبإزاء هذا الموقف الرافض للعلم، وتأسيساً عليه، يعود أدورنو الى القول بأطروحة التمييز بين الجوهر والمظهر، يونانيّ الأصل، خصوصاً في اعماله ذات الطابع الثقافي.
غير انه تمييز لا يحدث عند حدود مستواه الكوزمولوجي او الانطولوجي، حيث التفريق قائم بين عالم الحقيقة، الثابت الدائم، وعالم المظهر المتغير الزائل، كما كان الحال لدى بعض فلاسفة الاغريق، إنّما هو نوعُ تمييزٍ يحدث في هذا العالم الواقعي حسب، حيث يتمّ النظرُ إلى المجتمع الرأسمالي الحديث، بوصفه عالمَ المظهر المزيف، عالمَ الظواهر والسلع والاستهلاك والثقافة المصنّعة، بمقابل العالم الحقيقي للانسان، عالم الابداع والتفرد والفن والثقافة والحرية، يقول: ليتشه: بالنسبة لأدورنو، فإنّ عالم الظواهر هو عالم الصور والاشباه فقط، انه عالم البنى الفلسفية، والاكثر من ذلك إنه عالم التشيؤ)"2"
بل (إن التشيؤ وعالم السلع في العالم الرأسمالي، هما أمران متماثلان تقريباً، فالسلع تتخذ حياة خاصة بها وبشكل مستقل عن شروط انتاجها. ان السلع تخفي حقيقة طبيعتها الخادعة. ووظيفتها هي أنْ تدغدع الوعي المتشيّء)"1"
امعانا منه في بيان طبيعة التفريق بين الجوهر والمظهر داخل بنية المجتمعات الرأسمالية- يقول أدورنو في كتابه (الأشكال المنشورية (prisms )
(إن الاختلاف بين الجوهر والمظهر يستتبعه الأثر الايديولوجي لتجسيد المجردات كأشياء مادية، ذلك لأنه وراء الظواهر المتجسدة تقع حقيقة "تسلسل الاوهام" المتعلقة بإنتاج السلع)"2"
ومفاد هذه الحقيقة هو( أن البشر رغم ما قد يعتقدون به، هم ليسوا أحراراً، اذ لديهم أشكال مقيِّدة من الفكر والفعل مفروضة عليهم من قبل الاوضاع الاجتماعية القائمة للإنتاج الرأسمالي)"3"
فهم حسب أدورنو ( يعيشون في عالم قد تحول إلى سجن في الهواء الطلق)"4"
أما الموضع الاكثر خطورة في علاقة المجتمع بالسلعة، فهو ان الناس ( يتكيّفون مع هذهِ الاوضاع بدلاً من ان يعارضوها)" لذا فلا أحد بالطبع لديه وعي متحرر)"6".كما يرد كل ذلك في كتابه (الجدل السلبي) الكتاب الذي يعرض لنا أدورنو في متنه أطروحتين مركزيتين،هما:
1- إن الفلسفة تستمر بالحياة بعد فشل المحاولة الماركسية للتشكيك فيها، اي اتهامها بكونها مثالية للغاية.
2- ان الفلسفة تحتاج إلى احساس بعجزها الخاص، امام مادية العالم، كي تبقى مبدعة ومنفتحة لما هو جديد. ومادية العالم هي الجانب من الفلسفة الذي لا يمكن التعبير عنه. ومن هنا فإنّ الميزة الاساسية للفلسفة- بحسب ادورنو- تكمن في كونها تدرك تماما محدودية المفاهيم التي تعمل بها، وعدم الافتتان بالمفاهيم، هو ترياق الفلسفة)"7"
ما عن كينونة الفلسفة فهي ما يحددها ادورنو بوصفها بحث (عن تلك الاشياء التي تشكّل تحدّياً للفكر نفسه) و مثل هذه الاشياء محددة على نحو عام، بمصطلح يخص أدورنو هو ( التغاير في الخواص) أو هو بصورة اكثر شمولاً ودقة مصطلح (اللّا هوية)"1".
ويعد هذا المصطلح (اللاهوية) أحد المفاهيم الاساسية في تشكيل فكر أدورنو، ففضلاً عن إحالته إلى رتبة اخرى من المصطلحات من ذوات المعنى القريب من معناه ووظيفته مثل - التناقض، التنافر، التباعد، مالا يمكن التعبير عنه - يمكن النظر اليه، على أنّه المصطلح الاكثر مركزية في نقد أدورنو لفلسفة هيجل، فلسفة الهوية والمطابقة والتماثل وامتصاص المختلف عبر احتواء النقيضين في المركب، أو بعبارة اكثر دقة، تصفية السلبي لصالح الايجابي، طالما كان هذا الايجابي ممثلاً لمبدأ الهوية، وهذا هو بالضبط الموضع الذي ينزع أدورنو لمواجهته في ( جدلهِ السلبي) الجدل الذي (يرفض أي نوع من انواع التأكيد والايجابية) "2". و بسببٍ من كونه (مبدأ للسلبية التامة) فإنّه الجدل الذي يصبح بهذا المعنى فقط، جدل (اللاهوية) كمقابل لجدل (الهوية) الهيغلي.
وفي تساؤل لأدورنو عن الاساس المادي للجدل السلبي، أو بعبارة اخرى، عن المضمون الذي يمكن ان يتخذه الجدل السلبي مادةً له، يرفض أدورنو أن يكون الشعر أو الفن ممثلاً لهذا المضمون"3"
أما عن صلة ما تقدم بموضوعنا الاساسي (صناعة الثقافة) فهو الاخر الذي نتعرف على امكانه من خلال قول ليتشه ( إن تصريحات أدورنو في كتابة الجدل السلبي تحتاج إلى تقرأ بضمها إلى عمله في فلسفة الجمال والنقد الادبي)"5".
إذ لاتقاس أفكار (الجدل السلبي) وموضوعاته الكبرى بمعزلٍ، لا عن (صناعة الثقافة) التي هي سمةٌ ونتاج للأنظمة الرأسمالية، ولا عن نقد النزعة العلمية، ولا عن نظرية أدورنو الجمالية. من حيث أن أدورنو (كان مدفوعاً برغبته في أن يرى الأعمال الطليعية الرائدة تتحدى الآثار التجانسية لعملية تسليع الفن أو المتاجرة به، وتختزل الذاتية إلى حالة "مجرد شيء" أو" مجرد موضوع" بالقيمة التبادليين)"1".
إذن فهي( رغبة أدورنو في الحفاظ على قدسية الذاتية المتجسدة في الموضوع الفني في وجه هجمة السوق حيث تتساوى القيمة بالسعر)"2".

صناعة الثقافة – المقاربة الأولى: في تلقائية معنى (الثقافة) وفي تصنيعه
يمكنُ القولُ، إنّ أيُّ مصطلحٍ من المصطلحات والمفاهيم العاملة في عصر ما بعد الحداثة، لم يشهد ما شهده مفهوم (الثقافة) من ازدهار وسعة انتشار وتداول وتوظيف لأغراض معرفيه شتى، اجتماعيه وسياسية وعلمية وأيديولوجية...الخ، حتى بلغ عددُ التعريفات الخاصة بهذا المفهوم"1"، أكثر من 160 تعريفاً، أحصاها عالما الانثروبولوجيا الاميريكيان، كروبير، و كلوكهون.
وعلى الرغم من هذا التنوع والغنى في معنى الثقافة، يمكن لتلك التعريفات كلّها، أنْ تُختزل في اتجاهين واضحين يعبّران عن المعاني كلّها:
حيث ينظر الاول منهما إلى الثقافة بوصفها مركباًّ (من المعتقدات والقيم والمعايير والرموز والايديولوجيات وغيرها من المنتجات العقلية)"2".
وهو اتجاه يمكن نعته بالِقدم، قياساً إلى نوع الاتجاه الآخر الذي يربط الثقافة ( بنمط الحياة الكلي لمجتمع ما، والعلاقات التي تربط بين أفراده وتوجّهات هؤلاء الافراد في حياتهم)"3".
وربما يكون هذا المعنى الاخير للثقافة، هو الاقرب والاكثر صلة بطبيعة الموضوع الذي نخصص هذا البحث لبيان علاقاته.
ولمّا كان هذا المفهوم (صناعة الثقافة) حدثاً مرتبطاً على نحو وثيق بمجتمعات ما بعد الحداثة، من جهة، وكان هذا المفهوم ذاته يشير، من جهة اخرى، الى تحوّل عميق في بنيه ومفهوم الثقافة نفسه، تحولٍ لا يحدث بالاستناد إلى تلقائية نمو المجتمعات وظروفها التاريخية العاملة كما ينبغي ذلك، إنما هو نوع تحوّل مفروض، مبتكر تقوده وتشرف على انجازه، مجموعة من الآليات المرتبطة بالسلطة، او بالنوع الثقافي الايديولوجي للسلطة، وبالظروف التاريخية المختلفة لبعضها ايضاً، يتبين لنا من خلال هذه المقدمة اهمية العمل الفكري- الثقافي- السياسي، الذي شرعت مدرسة فرانكفورت – على نحو عام، وادورنو بصفة خاصة- في مهمة نقده، وفي عرض موقفها منه وبيان أبعاده وحدوده ومخاطره على حياة المجتمع، ومن ثم محاولتها وضع ستراتيجية فكرية- ثقافية خاصة بها إلى احتوائه والتصدي له نقدياً، بعد أن أصبحت ظاهرة (التصنيع الثقافي) هي السمة الاكثر وضوحاً والتصاقاً بنمط عيش المجتمعات الغربية" بسبب الازدهار التقني الذي أدى بشكل مباشر إلى تغيير نمط الاستهلاك والى تعميم وسائل اعلام الجماهير وعنايتها الفائقة بتسويق المنتج الثقافي الخاص لاغراض تجارية – وهو الامر الذي طرح اشكالية "الصناعة الثقافية" أو صناعة الثقافة Cultureindustry أو صناعة القافة كما عبر عنها لويس دوللو، في كتابة الشهير(المتلاعبون بالعقول) بما يوضح لنا على نحو عام طبيعة هذا المفهوم، إذ يقول:
" إن الرأسمالية ترى أن الجماهير هي بالدرجة الاولى "سوق" ينبغي استثماره وقولبته وتوجيهه واعادة تشكيل خياراته وتفضيلاته)"2"
انها إذن ستراتيجية تعديل خيارات الافراد والجماعات في عملية متصلة ذات شقين، الاول منهما، يعرض خياراته المفضّلة الغاوية، سلع ومنتجات اعلامية وأفلام ومطبوعات ترفيهية وإعلانات مثيرة لا يمكن للجماهير مقاومة اغرائها. و يعرض الثاني، وهو مقام على الاول، تشكيل وعي الجماهير، باتجاه تبنّيها لخيارات أيديولوجيا السلع، ودفاعها عنها ضد كل العناصر الثقافية المبدعة الأصلية، العناصر التي يُفترَض ان ينتجها أفراد المجتمع تلقائياً بالاستناد إلى حرية اختيارهم وحدها.
وليس يخفى هنا، ما للثورة التكنولوجية الكبرى في عالم الاتصالات من أثر بالغ الاهمية في تشكيل مفهوم (صناعة الثقافة) إذ أن العلاقة بين الاعلام والثقافة – علاقة بنيوية، إلى حد انهما يتداخلان في احيان كثيرة.
فالإعلام- يمكن النظر اليه كجانب تطبيقي مباشر منفذ للفكر الثقافي السائد أو المعتمد، وهو الأمر الذي تنبهت اليه على نحو مبكر مدرسة فرانكفورت حين رأى (ادورنو وماكس هوركهايمر، مؤسسا مدرسة فرانكفورت،
أن مؤسسة الاعلام الحديث، ماهي إلاّ أداة للسيطرة الاجتماعية واعادة انتاج المجتمع بانماطه السائدة)"1"
وهو الامر ذاته الذي دفع هابرماز فيما بعد إلى ( إتهام التلفزيون بإفساد ساحة الرأي العام – الامر الذي يستوجب خلق ساحة جديدة يمارس فيها الراي العام فعاليته بشكل اكثر شفافية وتواصلاً، وذلك من خلال تكنولوجيا المعلومات)"2".
ومن هنا كان انْ تبلورتْ في هذه السياق نظرية (الامبريالية الاعلامية) التي قال بمفهومها هربرت شللر، قاصداً بها ( استخدام قوة الميديا من اجل فرض القيم والعادات والنزعات الاستهلاكية- كثقافة وافدة على حساب الثقافة المحلية، والتي يلعب فيها تضليل عقول البشر- دورَ أداةِ القهر التي تسعى النخبة من خلالها إلى تطويع الجماهير لأهدافها الخاصة)"3".

صناعة الثقافة – المقاربة الثانية
هيمنة السلعة في عصر العقلانية التقنية
في منتصف الأربعينيات صدر كتاب مشترك لأدورنو وهوركهايمر، يحمل عنوان "ديالكتيك التنوير" وقد ضم الكتاب فصلين مهمين يعالجان على نحو مباشر مفهوم"صناعة الثقافة" حمل الأول منهما عنوان "الانتاج الصناعي للسلع الثقافية" وجاء الثاني تحت عنوان (صناعة الثقافة - التنوير كخداع للجماهير).
ومن أجل الاحاطة بالمضامين المهمة والافكار المبتكرة لهذين الفصلين نستحضر على نحو موجز القراءة الآتية لهما:
الفصلان آنفا الذكر، دراسة نقدية للإنتاج الصناعي للمواد الثقافية، باعتبارها، "ظاهرة شاملة تهدف إلى تحويل الإنتاج الثقافي إلى سلعة، فالمنتجات الثقافية والأفلام والبرامج الاذاعية والمجلات - تحيل على نفس العقلانية - التقنية ونفس الصيغ التنظيمية والتخطيط الاداري المتبع في الانتاج الصناعي للسيارات أو المشاريع الحضرية"(1).
إنّ التعرف على البعد العميق الذي تفترضه هذه النزعة الشمولية التقنية يمكن إدراك خطورته من خلال القول الشارح الآتي:
اذا كان العالم السلعي يلتقي بكل تنوعه وثرائه على حقيقة كونه (مادياً) فإن العالم الثقافي للمجتمعات - وهو المتكون من طبقة مغايرة، ينأى بنفسه بعيداً عن ذلك العالم، من حيث اختلافه جوهرياً عنه، أي من حيث كونه عالماً إنسانياً يعتمد العقل والعواطف والرغبات.
لذا فإنه عالم لا يقع في متناول يد أصحاب رؤوس الاموال ومنتجي السلع أولاً، ومن أجل السيطرة عليه لضمان عدم اعاقته لتدفق السلع الاستهلاكية ينبغي خلق عالمٍ ثقافي آخر يُعدّ أمتداداً للسلعة نفسها، عالمٍ مصنّع يذلل الفوارق الجوهرية والانفصال النوعي الحاد بين المادة - السلعة من جهة، وبين العقل والرغبات من جهة أخرى.
بعبارة أخرى، تصف التصور الرأسمالي للثقافة، ينبغي خلق عالمٍ ثقافي آخر، يستّمد قيمه من السلعة ذاتها، من جمالها وغوايتها ومن التصور الاعلامي- الاعلاني عن أهميتها وضرورتها، عالم ترفيهي مصنّع تتشكل قيمهُ من خلال الحضور الطاغي للسلعة نفسها، و بذا يقترب العالَمان - عالم السلعة وعالم الثقافة- من التوحّد، ضمن أيديولوجية شاملة، لا تجد السلعة المصنّعة في فضائها مشقة كبيرة في اقتحام المجتمع ونمط تشكيلاته الثقافية، من اجل تكوينه على مثالها.
وهكذا ( تم الإعداد لكل شيء مسبقاً. ليجد كلُّ فرد ما يناسبه، بحيث لا يستطيع أحدُ الفكاك)(1)، إذ في هذا العالم الموحِّد للسلعة والثقافة تغدو القطاعات الانتاجية مماثلة ومطابقة بعضها لبعض، ذلك (لأن الحضارة المعاصرة تضفي على كل شي سمة تماثليه تطابقية، فالصناعة الثقافية توصل بضائعها المتماثلة إلى كل مكان، ملبية حاجاتٍ كثيرة متنوعة، ومعتمدة على معايير انتاجية موحدة في اشباع هذه الطلبات ومن خلال نمط صناعي في الانتاج - نحصل على ثقافة جماهيرية مكونة من سلسلة من الاشياء التي تحمل، بكل تأكيد، بصمة الصناعة الثقافية، إنتاج غزير، تماثل معياري، تقسيم عمل)(2).
إنها إذن وظيفة التكنولوجيا في الاقتصاد الحالي، يقول أرماند، مستحضراً نصاً لأدورنو- هوركهايمر من فصلهما (الانتاج الصناعي للسلع الثقافية):
(إن العقلانية التقنية حالياً، هي عقلانية السيطرة ذاتها، فالميدان الذي تتمتع فيه هذه التقنية بسلطة كبيرة على المجتمع، هو ميدان أولئك الذين يسيطرون عليها اقتصادياً).
من هنا فإن (الصناعة الثقافية هي علامة واضحة على افلاس الثقافة، اي سقوطها في السلعنة، ذلك ان تحويل الفعل الثقافي إلى قيمة تبادلية يقضي على قوته النقدية - ويحرمه من أن يكون أثراً لتجربة أصيلة، فالصناعة الثقافية هي العلامة الفاصلة على تراجع الدور الفلسفي- الوجودي للثقافة(3).
هذه هي إحدى الأهداف الكبرى لكتاب (جدل التنوير) منظورا إليها بوصفها كشفا ومعاينة لصلة الثقافة بالانتاج الرأسمالي في محاولة: (للبرهنة على أن ثقافة الجماهير تصبح متطابقة في ظل الاحتكار وتضحى في نفس الوقت متفسخة كنتيجة لاندماج الثقافة والتسلية)(1).
ومما تجدر الاشارة اليه هنا، أن لهذا الاندماج آلياته العاملة التي يقع في مقدمتها، اتخاذ الاعلام والاعلان، وسيلة وأداة بالغة التأثير لبلوغ غاياتها، من حيث أن الصلة بالغة الوثوق بين (الاعلام وصناعة الثقافة بما يجعل كلا الصناعتين نهجاً تقليدياً للتأثير في الناس والتلاعب بهم)(2).
ولم تكن فكرة الصراع السلعي - الثقافي لتقف عند حدود كشف أبعادها في الفصل آنف الذكر، إذ تعّرض الفصلُ أيضاً إلى اساليب مقاومة المجتمع لأيديولوجيا صناعة الثقافة، حيث نجد أن أدورنو لم ير إمكانية تحرر الفرد من التسلط والهيمنة، لا في ظهور جماعات معارضة جديدة، ولا في التحرر الجنسي، إنما رأى هذه الامكانية بالاحرى، في عمل الفنان الأصيل الذي يواجه الواقع المعطى بالتلميح إلى ما يمكن أن يكون. وعلى هذا فإن الفن الأصيل يمتلك قوة غلابة لدرجة يضعه في مواجهة العلم الذي يعكس الواقع الموجود حسب، فيما يمثل الفن الأصيل شكلاً أعلى من أشكال المعرفة، وسعياً متجهاً إلى المستقبل)(3)
وفي نظرة اخيرة تعكس الفوارق الكبيرة بين هيمنة السلعة الثقافية المصنعة، وبين العناصر الثقافية الحرة لمقاومتها (يشعر أدورنو بانحطاط شريحة معينة من المجتمع، هي الشريحة المثقفة من الطبقة الوسطى، أو بشكل اكثر تحديداً الصفوة المثقفة، والحنين إلى استعادة الوضع الذي يتعذر استرداده للمثقف الالماني التقليدي)(4).

صناعة الثقافة- المقاربة الثالثة
مصادرة وعي الجماهير
على نحو عام، تبنّت مدرسة فرانكفورت على عاتقها، طرح ثلاثة موضوعات(1) فكرية اساسية مترابطة، يمكن حصرها بما يأتي.
1- نقد معرفي ومنهجي للوضعية، او للنزعة العلمية المغالية في العلوم الاجتماعية.
2- موقف نقدي بأزاء التأثير الايديولوجي للعلم والتكنولوجيا، باعتبارهما عاملين هامين في خلق شكل تكنوقراطي - بيروقراطي جديد للتسلط.
3- اهتمام خاص بصناعة الثقافة، أو عموماً بالأوجه الثقافية للتسلط.
إن ذهاب النص اعلاه للقول (بترابط) هذهِ الطروحات الاساسية الثلاث في فكر مدرسة فرانكفورت على نحو عام، وفي فكر ادورنو، بوجه خاص – لا يُعدّ فرضيةً ليس لها ما يدعم صدقها أو يبررها، ذلك لأن هذا الترابط هو حقيقة يمكن فهمها على نحو واضح، لا من خلال التعرّف عن قرب على طروحات هذه المدرسة حسب، بل من خلال إمعان النظر في تلك النقاط الثلاث ذاتها، من حيث أن النقطة الأولى التي تعرض لنقد الوضعية: إنما تفعل ذلك، لأن الوضعية المنطقية تعمل على وضع آلية أيديولوجية علمية - برجوازية، تتجه إلى معاملة الجماهير بصيغ عملية جافة وتجريبية تحجمّ فرادتها وحريتها وطاقات أفرادها المبدعين ـ الأمر الذي يؤدي على نحو مباشر إلى الموقف النقدي الذي تعرضه النقطة الثانية:
وهو المتعلق بالتأثير الايديولوجي للعلم والتكنولوجيات، باعتبارهما عاملين هامين في خلق شكل تكنوقراطي- بيروقراطي للتسلط، وهو الأمر الذي يحيل مباشرة إلى النقطة الثالثة:
من حيث ان هذا التسلط العلمي- الايديولوجي،يسعى إلى صناعة نوع ثقافي يكفل ديمومة النظام وبقائه، نوع يتأسس ويربو على حساب ثقافة الجماهير وحريتها ونوعها التلقائي المبدع. كما سنبين كل ذلك عبر القول:
إن صناعة الثقافة، وفقاً لما تراه مدرسة فرانكفورت، تقول بمبدأ: (وثنية السلعة) مبينةً أثرة في هيمنة القيمة التبادلية أو سطوة الرأسمالية في احتكار السلطة (انها تشكّل الأدوات لما تفضلُّه الجماهير، وهي بهذا تقولب وعيهم بتوجيه الرغبات نحو الحاجات المزيفة، ولذلك تعمل على طرد الحاجات الصحيحة والحقيقية والنظريات أو المفاهيم البديلة والراديكالية، إنها فعّاله جداً في عمل ذلك حتى أن الناس لا يدركون ما الذي يجري)(1).
من هنا يرى أدورنو في (ديالكتيك التنوير) أن: (هذه الثقافة شيء مفروض على الجماهير، وهي تجعلهم مستعدين للترحيب بها على انها معطاة لهم، دون أن يدركوا أنها مفروضة)(2).
يضيف أدورنو (إن صناعة الثقافة تدمج مستهلكيها من الأعلى عمداً، إنها تقتحم كلاً من مجالَي الثقافة الرفيعة والثقافة الهابطة، للإضرار بهما، بعد أن كانا منفصلين منذ آلاف السنين)(3).
إن تحليلاً دقيقاً لنصوص أدورنو هذه، يضعنا أمام مجموعة من الأفكار والمعطيات المترابطة على نحو بالغ الدقة فهناك.
أولاً: طبقة حاكمة مسلحة برؤوس الأموال والعلم، ممتلكة على نحو كلي لوسائل الانتاج والاعلام والاعلان والتسويق.
ثانياً: هناك سلعٌ مصنّعة بالغة الجمال والروعة والفائدة، سلعٌ تتجاوز حدود استخداماتها الأدائية المحددة ومنافعها التصنيعية المباشرة إلى حدودها الجمالية المُتعيّة، حدود الترف والدعة والسعادة، الامر الذي يعني ان السلعة بتجاوزها لحدودها النفعية الأدائية المادية المباشرة تدخل في تشكيل البنى النفسية والذهنية والثقافية للمستهلك، بمعنى ان السلعة هنا، ليست حيادية في استخدامها أو مقصورة على فائدتها العملية، بل هي نوع من سلع مصنعة (مؤدلجة) وضع المنتجون أشكالها الجمالية وامكانات تأثيرها النفسي والثقافي في المستهلك نصب اعينهم وغاياتهم التجارية، أي أنها بعبارة واضحة، سلع مزدوجة الاستخدام والتأثير والوظيفة، وظيفة الاستخدام النفعي أولاً، ووظيفة التغيير والتصنيع الثقافي للمستهلك باتجاه تعلّقة بها ومحبتها والدخول في غوايتها من بعد.
ثالثا: ثمة جماهير بنوع ثقافي محدد، ليس لها، في ملكية وسائل الإنتاج والتصنيع ورؤوس الاموال والتقنيات ووسائل الاتصال والاعلام، أية حصة تسمح لها بالتدخل في نوع انتاج السلعة، شكلاً وثمناً ووظيفة، وهي انواع سلع، تفتقر الجماهير إلى متعها، سلع تصادفها في كل مكان، في السوق ومحلات العرض، وفي البيوت مصورة عبر الاعلان المغوي لاقتنائها، وفي الشارع وأماكن العمل والراحة أيضاً.
رابعاً: إن الغاية القصوى لأصحاب رؤوس الأموال ومالكي وسائل الانتاج والإعلان، هي تسويق منتجاتهم وبيعها، بغض النظر المطلق عن أية قيمة أخلاقية سلبية يمكن أن تستتبع فعل البيع هذا،
ولما كانت المجتمعات - من جهة أخرى- قادرة فقط على انتاج نوعها الثقافي الخاص بها، وهو نوع غير منسجم ولا موافق في اخلاقيات لذلك النوع الثقافي المصنع الذي تسعى آيديولوجيا السلع إلى إشاعته، فمن المتوقع إذن، ان يحدث صدام بين النوعين الثقافيين آنفي الذكر وهو نوع صراع لا تمتلك الثقافة الجماهيرية، إلاّ الهزيمة في لحظات خوضها إياه، استناداً إلى، ضعف ممتلكاتها المادية، وامكاناتها الاعلامية، اي استناداً إلى عطلها عن امتلاك وسائل الانتاج السلع، الوسائل المرتبطة والمتجهة دونما أدنى شك إلى إشاعة نوعها الثقافي الذي تجد في امتلاكها لوسائل الانتاج، ما يعزز ويدعم ويسن قوانينه الثقافية القوية الفاعلة ايضاعلى قوانين النوع الثقافي الاجتماعي الضعيف والعاطل، يقول أدورنو، مؤكداً على الفراغ والتفاهة والانسجام الذي ترعاه صناعة الثقافة المدمرة: (ان الفلم الملوّن يدمّر الحالة الانسية إلى حد بعيد أقصى مما تستطيعه القنابل)(1).
وعلى الرغم من ان (صناعة الثقافة) يضيف ستريناتي (تضارب دون شك على الحالة الواعية أو غير الواعية للملايين من الذين تتوجه اليهم، فإن الجماهير ليست لها الأولوية - بل هي ثانوية- انها هدف الحسابات،إنها لاحقة للآلة)(2).
إذن فثمة آيديولوجية مهيمنة، قوى مادية جبارة، وأدوات تنفيذ سلعية الطابع تحمل نوعها الثقافي معها إلى الحد الذي لا تميزّ عنده، بين ما هو مادي فيها، وما هو جمالي ثقافي، إنها (ثقافة - سلعية) توحّدُ بعديها آيديولوجيا، عاملة فعالة تحسّن عملها على الدوام، إنها (تبني اساساً لهيمنة السوق ووثنية السلعة، إنها في الوقت نفسه، تُخضعُ وتخدّر الذهنَ، مراكة إياها بالقبول)(3).
إن سلطة أيديولوجيا صناعة الثقافة، في نص آخر يستحضره ستريناتي من افكار أدورنو (هي تلك التي أبدلت الوعي بالمطابقة، وهذا الانسياق نحو المطابقة، لا يسمح بالانحراف عنه أو معارضته، ولا حتى رؤية بديلة للنظام الاجتماعي الموجود، ان طرق سلوك التفكير المنحرفة والمعارضة والبديلة تصبح شيئاً فشيئاً من المستحيل تخيلها- كلما انتشرت سلطة صناعة الثقافة بين عقول الناس)(1)
أما عن النوع القيمي والأخلاقي لصناعة الثقافة، مقارناً بالنوع الثقافي الاجتماعي الحر، فهو(إن صناعة الثقافة تتعلق بالأكاذيب، لا الحقائق، بالحاجات المزيفة والحلول المزيفة، لا الحاجات الحقيقية والحلول الحقيقية، إنها تحل المشاكل من الخارج فقط، وليس كما ينبغي من العالم الحقيقي لها انها بديل للحل الحقيقي للمشاكل الحقيقية، وبعملها هذا فإنها تصادر وعي الجماهير)(2)
من هنا ستغدو الجماهير مسلوبة الارادة تماماً، لآن السلطة، وهي ترتبط بصناعة الثقافة، تسنّ نوعها الثقافي بسلطتها، وهكذا يغدو المنتج السلعي نوعاً من أدوات التنفيذ لإشاعة السلطة، ولاستبدال وعي الجماهير الحر بوعي السلطة الذي تفرضه السلع، إذ أن (قدرة صناعة الثقافة في ابدال وعي الجماهير بالمطابقة الاتوماتيكية، هو شيء كامل قليلاً أو كثيراً، إن تأثيرها تبعاً لادورنو، يحضر في تعزيز أو استغلال ضعف الأنا، وأن وعيهم يسير حثيثاً نحو التقهقر(3).
سلطة (صناعة الثقافة) إذن وسيلة محمومة تسعى لغاية نهائية هي تأمين الهيمنة والاستمرار للرأسمالية، فهي بالنسبة لادورنو: (قابلية لتشكيل وادامة جمهور انكفائي وتابع واستهلاكي وذليل)(4)

الجمال في مواجهة هيمنة السلطة
في أواخر حياته الفكرية كتب أدورنو مؤلفه الذي يُعدّ الاكثر أهمية من كل ما كتب، أعني (نظرية الجمال).
وليس ينفصل هذا الكتاب من حيث مضمونه عن شبكة الموضوعات، التي انتظمها فكر أدورنو، بشكل عام، أو عن (صناعة الثقافة) بوجه خاص:
فنظريته الجمالية في حقيقتها هي (مجهود لتجاوز اختزال الفن والفكر وردّهما إلى صناعة الثقافة)(1).
إنها محاولة أخيرة بحسب رأي (ليوتار) الذي يستحضره ليتشه (للابقاء على حدود بين الفن الراقي والثقافة الشعبية)(2)، باعتبار ان (الثقافة الشعبية) هي النوع الذي تتمكن الانظمة الرأسمالية من تصنيعه، وتغييره والعبث به والتحكم بمصيره من خلال تحويله إلى سلعة، لا يتمكن افراد المجتمعات الرأسمالية من مقاومة اغراء الدخول في قيمها، وبالتالي تمكنها من الاستحواذ على ممكناتهم الابداعية الفردية الخلاقة.
أما الجانب الآخر في هذه المعادلة، فهو (الفن الراقي) أي عنصر المقاومة الاكثر فاعلية في مواجهة المدّ الطاغي لصناعة الثقافة، ولما كان هذا النوع الفني، يستند إلى أسس فلسفية تنويرية ترى غايتها بوضوح، لذا (فإن الفن الرائد الطليعي والفلسفة يصبحان معتمدين أحدهما على الآخر، ويزداد ذلك، إذا بقي التناظر مع الجدل السلبي قائماً، إلى المدى الذي يصبح فيه الموضوع الفني لا ينفصل عن ماديته (اللاهوية).
وهكذا نرى مرة أخرى، وعلى نحو واضح، الربط المحكم المتين بين جدل أدورنو السلبي، وصناعة الثقافة، والدفاع عن الفن في مواجهة تشّيء الانسان وطغيان السلعة، يقول ليتشه، مستحضراً قول (بيتر أوزبون: ومن (هذا النقد للتفكير المستند إلى الهوية نشأ تصور - أدورنو الاساسي للتجربة الجمالية، باعتبارها تجربة (ما يتصف باللاهوية)(4).

المصادر
1- ليتشه، جون: خمسون مفكراً اساسيا معاصراً
2 - هربرت شللر: (المتلاعبون بالعقول، ترجمة عبد السلام رضوان،عالم المعرفة.
3 - عبد الغني عماد: سوسيولوجيا الثقافة،مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت،2006،
4 - ستريناتي: مدرسة فرانكفورت وصناعة الثقافة، ترجمة سهيل نجم
5بوتومور، توم: مدرسة فرانكفورت، ت سعد هجرس، دار أمري طرابلس،1999،



#عادل_عبدالله (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قُطّاع طريق الفلسفة
- هل كان آينشتاين ملحداً؟
- الدينُ و العِلم - الإيمانُ و الإيمانُ المقابل
- لماذا لا تحدث المعجزات الآن؟ بحثٌ في عبارة لآينشتاين
- أدونيس، معالجات الناقد الأدبي لموضوعات المفكّر - القسم الثان ...
- أدونيس، معالجات الناقد الأدبي لموضوعات المفكّر
- دولُ الورق، بين الفكر و السياسة
- (العودُ الأبدي - إرادةُ القوّة ) قراءة في البُعد الأخلاقي لف ...
- الجابري - طرابيشي بحثٌ في حوار المروّض و الأسد
- فضائح العقل الملحد - خيمةُ الزواج و خيمة داوكنز
- بائع الإلحاد المتجوّل - سبعة مداخل نقدية لكتاب - وهم الإله - ...
- بائع الإلحاد المتجوّل - سبعة مداخل نقدية لكتاب - وهم الإله -
- هل الإلحاد موقف معرفي أم أخلاقي ؟
- فضائح العقل الملحد - دراسة في تهافت الحجج العلمية و الفلسسفي ...
- مرثية الشعر لنفسه
- أسوة بالرياضيين عندما تنضب مواهبهم، لماذا لا يعلن المبدعون ا ...
- الشعر و التصوّف ، تكامل أم ممانعة ؟
- الصوفية و السريالية، مساواة أدونيس الجائرة
- إنتحار واقعي في عالمٍ افتراضي
- صراخ على جبل ( إتنا)


المزيد.....




- ترامب: جامعة كولومبيا ارتكبت -خطأ فادحا- بإلغاء حضور الفصول ...
- عقوبات أميركية جديدة على إيران تستهدف منفذي هجمات سيبرانية
- واشنطن تدعو بغداد لحماية القوات الأميركية بعد هجومين جديدين ...
- رئيس الوزراء الفلسطيني يعلن حزمة إصلاحات جديدة
- الاحتلال يقتحم مناطق بالضفة ويشتبك مع فلسطينيين بالخليل
- تصاعد الاحتجاجات بجامعات أميركية للمطالبة بوقف العدوان على غ ...
- كوريا الشمالية: المساعدات الأمريكية لأوكرانيا لن توقف تقدم ا ...
- بيونغ يانغ: ساحة المعركة في أوكرانيا أضحت مقبرة لأسلحة الولا ...
- جنود الجيش الأوكراني يفككون مدافع -إم -777- الأمريكية
- العلماء الروس يحولون النفايات إلى أسمنت رخيص التكلفة


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عادل عبدالله - أدورنو و صناعة الثقافة - بحثٌ في الأساليب الرأسمالية للتسلّط على البشر