سهيل الزهاوي
الحوار المتمدن-العدد: 8552 - 2025 / 12 / 10 - 16:44
المحور:
الادب والفن
يقدّم كفاح الزهاوي في نصه السردي "اللحاف المنسوج" بنية نثرية مكثّفة تتداخل فيها اللغة الشعرية مع السرد القصصي، لتنتج خطابًا أدبيًا ذي طابعٍ وجودي يسعى إلى تفكيك ثنائية الحياة/الموت عبر منظومة من العلامات والرموز. ورغم انتماء النص إلى جنس القصة القصيرة، فإنه يتجاوز البنية التقليدية للحبكة، ويتجه نحو فضاء تأملي–رمزي يُعلي من وظيفة اللغة بوصفها نظامًا دلاليًا يشتغل على مستوى العمق أكثر من اشتغاله على مستوى الحدث.
يُمهّد الزهاوي نصّه عبر صورة افتتاحية مكثفة تُجسّد حالة الفناء الوجودي قبل حلول الموت الفعلي؛ إذ يظهر رجل عجوز ينتظر دوره في قائمة الموتى بعد أن فاته آخر غروب، وهي صورة تُنزِل الموت من مرتبته القدرية إلى مستوى "الإجراء الجماعي"، بحيث يُختزل الإنسان في رقمٍ داخل لائحة طويلة من الفناء المؤجل. ويتبدّى هذا العجز الوجودي في قوله إن لحظات الانتظار تتبدد كصقيع الثلج في مرجلٍ وصل حد الغليان، حيث يُصبح الزمن نفسه مادة هشّة تتلاشى تحت الضغط النفسي والقهر الواقعي. أما الذاكرة، آخر ما يتشبث به الإنسان في مواجهة العدم، فلا تنجو هي الأخرى؛ إذ إنها تختفي في مهب الريح كلما اشتدت العاصفة، كما لو كانت مجرد وهم عابر. وبذلك يرتسم إطار دلالي عام يمثّل الإنسان المستباح، ذلك الذي فقد مستقبله (بانتظار الموت)، وحاضره (المتبدد تحت الغليان)، وماضيه (المحو من الذاكرة). إنّ هذه الصورة الافتتاحية لا تأتي بوصفها وصفًا خارجيًا للشخصية فحسب، بل بوصفها مدخلًا بنيويًا وسيميائيًا لقراءة مجمل النص، حيث يتحول الفناء إلى بنية كلية تُشكّل الخلفية العميقة لرحلة الوجع، وللانحدار الحتمي نحو "اللحاف المنسوج" الذي يختتم نص الزهاوي.
أولًا: البنية السردية وتفكك الزمن الخطي
لا ينهض النص على تسلسلٍ زمني تقليدي؛ إذ يتقدم وفق آلية "التشظّي السردي"، حيث تتوالى المقاطع بوصفها وحدات دلالية مستقلة نسبيًا، تتضافر لتشكّل البنية الكلية للنص. تعتمد هذه الآلية على الانتقالات المفاجئة بين مستويات الوعي والهذيان والحلم، ما يجعل السرد أقرب إلى كتابة وجودية تحاكم الزمن لا تحكيه.
هذا التفكك الزمنـي لا يُعدّ ضعفًا بنيويًا، بل هو خيار أسلوبي يعكس حالة التشظي النفسي التي تعيشها الشخصية، ويحوّل السرد إلى مختبر رمزي يتحرك فيه القارئ عبر شبكة من العلامات.
ثانيًا: الحقول الدلالية والاشتغال السيميائي
تتأسس الدلالة في النص على ثلاثة محاور رمزية مركزية:
الخريف والنضوب: تتكرر إشارات الذبول والسقوط ("أوراق الخريف"، "الروح المهمشة تذوي") بوصفها علامات تشير إلى انطفاء الوجود وتآكل الزمن الداخلي.
المرآة والوعي المنكسر: وظيفة المرآة في النص ليست انعكاس الملامح، بل مواجهة الذات لتمزقها الوجودي. إلقاء الشخصية للمرآة جانبًا يعبّر سيميائيًا عن رفض الاعتراف بالهوية المتآكلة.
السفينة والبحر بوصفهما فضاء الفناء:
تتحول السفينة إلى رمز للمنظومات الاجتماعية والسياسية المتهالكة، فيما يشكّل البحر "مستودع الفناء الجماعي"، فضاءً لا ينتمي إلى الذاكرة، بل إلى النسيان الكوني.
تعمل هذه الرموز في انسجامٍ ضمن "حقل دلالي للانهيار"، يتكثف تدريجيًا وصولًا إلى الذروة المأساوية.
ثالثًا: تمثلات الهجرة بين الواقعي والميتافيزيقي
على الرغم من ظهور عنصر الهجرة غير الشرعية كإطار واقعي، فإن النص لا يتعامل معها كحدث اجتماعي مباشر، بل يستخدمها بوصفها "استعارة كبرى" للحركة من عالم العجز إلى عالم الفناء. فالرحلة البحرية ليست مجرد انتقال جغرافي، بل انتقال وجودي يعمّق أسئلة الذات حول جدوى البقاء.
يتجلى هذا المنظور في تحول السفينة إلى "مساحة سردية خانقة" تُسلب فيها الشخصية قدرتها على الإدراك المستقر، إذ يهيمن الهذيان ويختفي المعنى تدريجيًا، ما يربط التجربة الفردية بحالة إنسانية أوسع تتعلق بالضياع واللاجدوى.
رابعًا: دلالة العنوان وبلاغة المشهد الختامي
يمثّل العنوان "اللحاف المنسوج" نقطة ارتكاز دلالية أساسية، إذ يشتغل على "انزياح مفهومي" يحوّل الدفء المنزلي الذي يوحي به اللحاف إلى رمز بارد للفناء. في الخاتمة، تصبح رغوة البحر لحافًا أخيرًا يغطّي الجسد الهامد، في مشهد تراجيدي يوحّد بين الطبيعة والموت، ويعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والكون عبر خطاب بصري كثيف.
أما الجملة الختامية:
«ولم يعرف أحد، أكانت تغفو أخيرًا… أم تستيقظ للمرة الأولى.»
فهي تُسقط اليقين السردي وتفتح النص على أفق تأويلي متعدد، يسمح بقراءة الموت لا بوصفه نهاية، بل بوصفه "إزاحة معرفية" أو "يقظة وجودية" في فضاء آخر يتجاوز حدود التجربة الإنسانية العادية.
خلاصة
إن نص "اللحاف المنسوج" يمثل نموذجًا للسرد الرمزي المعاصر الذي يوظف آليات السيمياء والبنية اللغوية المكثفة لإنتاج خطاب أدبي يتجاوز المباشرة، ويعيد صياغة أسئلة الهوية والوجود والمصير. وتكمن قيمته الفنية في قدرته على تحويل حدث مأساوي واقعي إلى بنية رمزية مفتوحة، يتداخل فيها الوعي بالهذيان، والحلم بالموت، بما يجعل النص مساهمة لافتة في أدب الهجرة والكتابة الوجودية على حدٍّ سواء.
النص
كفاح الزهاوي: اللحاف المنسوج
النوم أصبح حلمًا، والحلم غدا عقدة الحياة الأبدية. والروح المهمشة تذوي مع أول سقوط لأوراق الخريف، والعمر لا يواكب الزمن، كقطارٍ قديم يصرخ في المدى ولا يتزحزح.
رجل عجوز ينتظر دوره في قائمة الموتى بعد أن فاته آخر غروب. لحظات الانتظار تتبدد كصقيع الثلج في مرجلٍ وصلت سخونة الماء فيه حد الغليان. ذكريات تختفي في مهب الريح كلما اشتدت العاصفة، كما لو أن الذاكرة كانت مجرد وهمٍ عابر.
لقد أحجمت عن النوم، لا لقلّة تعب، بل خوفًا من أن تغرق في نهر حلمٍ غامض الملامح، لا تعرف غور سبره، فتسقط في قرارٍ لا منقذ فيه.
كانت تعرف أن قشة الأمل لا تطفو إلا لمن تعلّم السباحة في مجتمعات لا تصنع عزلةً، بل جسورًا؛ وأما هي، فقد نشأت في عالمٍ لا يتعدى أسوار النظر، تمشي بخفة النمل، كي لا توقظ في القلوب شقاء الزمن.
الفرص الهاربة في مهب الريح، تتبخر كأنها أنفاس ماءٍ مغلي، لا ذاكرة لها. وفي معمعة الطريق لا يدرك المرء حقيقة القادم خلف الأفق، قد يصطدم بجدارٍ قاسٍ، ما يدعو رواسب البؤس المزمنة أن تطفو على السطح، فترافقه كظله دون استئذان نحو مدياتٍ لا متناهية.
يتسلل إليك القدر من الكهوف المنسية، كما لو أنه خرج من نسيجٍ قديم، من خرافةٍ لم تُحسم بعد. يلوّح لك في لحظة المصير، كأنه يبحث عن دورٍ في مسرحٍ لم يعد يؤمن بالممثلين الغائبين. يتجول في الأنحاء، يراقب خطواتك، يحاول أن يلبس هيئةً جديدة — كآلةٍ ذكية، أو نظامٍ مبرمج، يواجه عاصفة المجهول ببرودٍ رياضي. لكنك، في قاع الحياة، لا تملك إلا جسدًا يتعفن من فرط الانتظار، كأنك لعنةٌ تجرّ لعنة، وفكرةٌ تجرّ خرافة.
وعندما لا تملك زمام القرار تصبح كالفارس المبتدئ يمتطي صهوة حصان ولا يدرك أهمية اللجام والقدرة على مسك الرسن. الحفر المتروكة على قارعة الطريق، تفتح أفواهها استعدادًا لابتلاع، فالخبرة البشرية المفقودة في سلسلة الحياة، تعيقك قدمًا في القفز على الموانع.
وفي خضم هذا التيه، حيث تتقاطع الخرافة مع العجز، والانتظار مع التآكل، لم يكن أمامها سوى أن تتشبث بما يشبه الخلاص، حتى لو جاء على هيئة وهم.
نقفت من ذهنها فكرة الرحيل بما يشبه المصادفة، وكأنها عثرت على الخيط الوهمي الذي بإمكانها السير عليه دون حسابٍ للسقوط، ومع ذلك فإن القلق والارتعاش لم يفكا الحصار عنها، وتفاقم هذا الاضطراب كلما تناهى إليها صدى صوتٍ مبهم يثير في نفسها الخوف والانكماش، باذلةً أقصى ما في وسعها من جهد في إبعاد فكرة الحلم التي تراودها في اليقظة، لكن اليأس بما يضمره لها من خذلانٍ وانحسار في الحياة، يمنعها من التوقف عن التفكير في رحلة البحث عن معنى الوجود.
كانت تُحدث نفسها وتتساءل، والاضطراب ما زال يحوم حولها كالنحل المؤذي على أهبة الانقضاض:
ــ ما هذه الفكرة العابرة التافهة؟ أشبه بريشةٍ تسبح في الهواء وتختفي في لمحة بصرٍ بنسمة ريحٍ مفاجئة.
واستطردت بالقول، والدهشة ما زالت معلّقة على شفتيها كارتجافةٍ لم تهدأ وهي تنظر إلى السماء:
ــ إن لا باب سواها يُفتح.
وأضافت وكأنها تعرف بيقينٍ غامض:
ــ وعلى الرغم من كل شيء، لا مفرّ، ولا عزاء، سوى أن أعود لطرق باب الوعي متى ما يزف الوقت.
ثم تمتمت، كمن يضحك في داخله على سذاجة الرجاء:
ــ كل ما ينساب من هذا الوعي أوهامٌ وآمالٌ من ورق… مغامرة لا أفهمها، ولا أملك لها خريطة، سوى صدفةٍ عمياء وحظّ كالبطيخ في عالم الخفاء.
كانت تحدق في المرآة بتركيزٍ عالٍ، وتتمعن قسمات وجهها فيها، تتأملها في شفقة، فألقت المرآة جانبًا كي لا تذكرها بنفسها. تراءى لها العالم كمستنقعٍ آسنٍ يلطخك، أو رمالٍ متحركة تبلعك كما لو لم تكن موجودًا أصلًا.
كانت المدينة مكشوفة كسهلٍ منبسط، جعلتها تشعر برهبةٍ غريبة، وتوترٍ شديد، كصرخةٍ مدوية بين جدرانٍ عازلة تهز البدن أضعافًا. ينتابها شعور بأن الوعي يتصدع ويكاد أن يدفعها إلى هاوية الحلم الذي تتفاداه في يقظتها البائسة.
كانت سفينة الصيد ذات محركٍ عتيق تشق عباب البحر في جوٍّ ضبابيٍّ مخيف، تشحن على متنها عشرات من أجساد البشر فوق طاقتها، مضغوطين في مساحةٍ ضيقة، كأنهم دُمىً محشورة في صندوقٍ مكسور. تفتقر إلى أبسط مقومات السلامة والراحة.
لم تكن وحيدة. بل فردًا في هذا الحشد المتهالك، استبد بها ذعرٌ شديد في فضاءٍ يزينه أملٌ مجهول. في تلك اللحظة المصيرية فقدت كل رغبة في شم نسيم الحياة، ولم يبقَ في ذهنها سوى أن يتسلق الموت أكتافها على عجل، كي يزيح عن كاهلها هذا العبء الثقيل. وفي وسط البحر، حيث الأفق يعاند البصر، كلما أبحرت السفينة باتجاهه ابتعد أضعافًا.
انقض عليها دوار البحر كأفواج الزنابير، يلسعها في كل خلية، ويثير في نفسها الغثيان وضيق الصدر. كانت تتراءى لها أشياء لم تألف أن تصادفها في طريقها. أخذ الهذيان يسري كتيارٍ جارف، لا تميز الأشياء، ولا تدرك أبعادها. تارةً تتخيل نفسها في جزيرةٍ بعيدة، معزولة في طيات النسيان، وتارةً أخرى تعيش في فوضى عارمة لا مخرج للنجاة منها. تسمع أصواتًا تثير الرهبة في النفس.
وأخيرًا سقطت في هاوية الحلم الذي طالما تفادت أن يقودها النوم إليها، فالسفينة لم تبلغ الشاطئ، بل سبقتها أجسادٌ راقدة تحت الماء، كأنها أعلنت الوصول بطريقتها الخاصة.
وهناك على الشاطئ، حيث الرمال الدافئة تعكس بلورات الشمس انعكاسًا جميلاً، كانت الرغوة البيضاء تغمر جسدها الهامد، كأن الطبيعة نسجت لها لحافًا أخيرًا من أمواجها، ناصعًا كبياض الرحيل الأخير، لا دفء فيه سوى صمت البحر، ولا عزاء فيه سوى أن الغياب صار أخيرًا ممكنًا.
ولم يعرف أحد، أكانت تغفو أخيرًا… أم تستيقظ للمرة الأولى.
#سهيل_الزهاوي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟