سهيل الزهاوي
الحوار المتمدن-العدد: 8368 - 2025 / 6 / 9 - 18:47
المحور:
الادب والفن
المقدمة
تمثل الومضة الشعرية الموسومة بـ"إلى شقيقة القلب الشاعرة دلال جويد" للشاعر القدير يحيى السماوي نموذجًا فنيًا مكثفًا في التعبير الأدبي، إذ تجمع بين التكثيف اللفظي والعمق الوجداني من جهة، والرمزية المنبثقة من تفاصيل الحياة اليومية من جهة أخرى. تهدف هذه الدراسة إلى مقاربة النص من خلال تحليل مستوياته الدلالية والتركيبية، مع التركيز على البُعد الحسي والرمزي للعلامات الشعرية التي تتجاوز أطرها المادية لتؤسس لقيم ثقافية واجتماعية تنبع من التجربة الفردية ولكنها تنفتح على الذاكرة الجمعية.
ينطلق البحث من تفكيك البنية اللغوية للقصيدة وتراكيبها المركبة التي تُظهر تداخل الأزمنة وتقاطعاتها بين الماضي والحاضر، بما يعكس حالة وجدانية مركّبة تؤسس لتوتر بين الانتماء من جهة، والحنين إلى الحرية النفسية من جهة أخرى. كما يسعى إلى الكشف عن دينامية التحول الدلالي الذي تخضع له صور مألوفة مثل "خبز أمي" و"عرق جبين أبي"، حيث تتحول إلى رموز تتجاوز دلالتها المباشرة، لتغدو حوامل لهوية ثقافية ووجدانية ترتبط بالحنين والانتماء.
كذلك، يسلط البحث الضوء على الأبعاد الدلالية لصور مثل "زنزانة القلب" و"قضبان الضلوع"، في سياق الصراع الداخلي بين الرغبة في التمسك العاطفي والاحتفاظ بالآخر، مقابل الحاجة إلى التحرر. ويتم ذلك من خلال توظيف منهج نقدي متعدد الأدوات، يستند إلى السيميائيات (كما تتجلى في أطروحات رولان بارت وتشارلز ساندرز بيرس)، بالإضافة إلى أدوات النقد البنيوي، من أجل إبراز الكيفية التي يعيد فيها النص صياغة العلاقة الإنسانية بما يتجاوز التصنيفات الغزلية التقليدية، نحو أفق وجداني وفكري يتأسس على مبدأ الأخوّة والذاكرة والهوية.
ومضة
" الى شقيقة القلب الشاعرة دلال جويد "
أيتها العذبةُ كخبزِ أمّي
النقيةُ كعَرَقِ جبينِ أبي:
أنا لستُ طفلاً..
وأنتِ لستِ دميةً..
فلماذا أطبقتُ أجفاني عليكِ
خشيةَ أن يخطفكِ مني أطفالُ الحارة!
*
إهٍ ..
ليتَ أمي
لم تغفُ إغفاءتها الأخيرةَ بعدُ
لأسألها
إنْ كانت قد أرضَعتكِ من لبَنِ روحها
وقَمَّطَتكِ بشماغِ أبي
تمامًا كما أرضعتني وقمَّطتني
قبل خمسٍ وسبعين دورةِ شمس!
*
هَبي أنكِ ستستطيعين الهَرَبَ
من زنزانةِ قلبي..
ولكن:
من أين لكِ القدرةُ
على اجتيازِ قضبانِ ضلوعي؟
الإطار التاريخي والسياقي
يعد يحيى السماوي من أبرز الشعراء الذين جسّدوا روح التجدُّد في الشعر العربي المعاصر، إذ نجح في توظيف الرموز من الحياة اليومية ليتحول النص إلى مساحة تأملية تتجاوز حدود الزمن. في عصر شهد تغيرات اجتماعية وثقافية جذرية، كانت الومضة الشعرية وسيلة للتعبير عن حالات وجدانية عميقة بأسلوب مختزل دون الإخلال بدقة المشاعر والتعارض بين القوى الداخلية والخارجية. ينطوي النص على إشارات زمنية واضحة مثل "قبل خمسٍ وسبعين دورة شمس"، مما يربط بين التجربة الشخصية وتاريخًا موروثًا من الذكريات الاجتماعية والثقافية.
المادة النصية والرموز الحسية
يتسم النص بالغنى الدلالي وتعدّد الطبقات الرمزية، حيث تتحول المفردات اليومية إلى علامات تحمل أكثر من معنى في ضوء السياق الثقافي والنفسي:
رموز العائلة والحنان:
- "خبز أمي": يتجاوز المعنى المباشر للطعام ليحيل إلى رمز أيقوني حسب تصنيف بيرس، دالًا على الحنان والحماية والانتماء العائلي.
- "عرق جبين أبي": يرمز إلى الكدّ والكرامة، ويظهر كمؤشر يدل على البعد القيمي للعمل في الثقافة الشعبية.
رموز الانتماء والذاكرة الثقافية:
- "شماغ أبي" و"لبن روحها": تنتمي هذه الرموز إلى البعد الثقافي الاجتماعي، إذ يحمل "الشماغ" بُعدًا تراثيًّا عربيًّا يُستدعى كدال على الجذور والهوية، بينما "لبن روحها" يُستعار مجازيًا ليغدو رمزًا غذائيًا وجدانيًا.
- انتقال الشاعرة إلى مؤسسة "الرضاعة" يحوّل العلاقة البيولوجية إلى ارتباط وجداني ثقافي عميق يتجاوز المألوف.
رموز القيد والتحرر:
- "زنزانة القلب" و"قضبان الضلوع": تُبرز هذه الاستعارات البُعد الرمزي للقلب بوصفه فضاءً داخليًّا يحتجز العاطفة والذكريات، ما يعكس تداخلاً بين الجسد والنفس. وتندرج هذه الرموز ضمن "الانزياح الدلالي"، كما يعرّفه رولان بارت بأنه تحوير في الوظيفة الأصلية للعلامة يؤدي إلى بروز معنى مغاير ناتج عن التفاعل بين الدال والمدلول في سياق خاص.
التحليل السيميائي والرمزي
يستند هذا التحليل إلى أدوات سيميائية كما صاغها رولان بارت وتشارلز ساندرز بيرس. يرى بارت أن النص بنية مفتوحة، تتعدد دلالاتها بحسب السياق، ويظهر هذا في اشتغال السماوي على رموز مألوفة يُعيد تشكيلها. أما بيرس فيُقسّم العلامة إلى:
الأيقونة: تشبه مدلولها (كخبز الأم كرمز للدفء).
المؤشر: يرتبط بعلاقة سببية (كعرق الجبين كرمز للكدح).
الرمز: يعتمد على العُرف (كالشماغ كرمز للهوية والانتماء
تفكيك التراكيب اللغوية:
توظيف السماوي للتداخل بين الجمل الخبرية والإنشائية يمنح النص طابعًا دراميًّا مشحونًا بالعاطفة. في العبارة:
"فلماذا أطبقتُ أجفاني عليكِ خشيةَ أن يخطفكِ مني أطفالُ الحارة!"
يتكثف الإحساس بالخوف والانتماء من خلال التوازي بين الحماية والرغبة في الاحتواء، ويظهر المؤشر هنا في "أطفال الحارة" كعنصر بيئي اجتماعي يهدد الألفة..
الانزياح الدلالي والشعوري:
في قول الشاعر:
" "هَبي أنكِ ستستطيعين الهَرَبَ من زنزانةِ قلبي، ولكن: من أين لكِ القدرةُ على اجتيازِ قضبانِ ضلوعي؟"
يتحول الجسد إلى حقل دلالي مغلق يعكس القيود الذاتية، ما يشير إلى صراع داخلي بين منح الحرية والتمسك بالمحبوبة، وهو ما يتقاطع مع أطروحة بارت حول "التوتر الدلالي" الذي ينشأ من تعدد المعاني في بنية نصية واحدة.
الرموز البلاغيّة والشّكل الأسلوبي
التشبيه التمثيليّ (مَرَضِيّ ومجزّي)
"كخبز أمي" و"كعرق جبين أبي": تشبيهات تربط العلاقة بالألفة والحنان العائلي.
- مفارقة في سياق الشعر الغزلي التقليدي، حيث تُستبدل صور الجمال بصور تُجسّد الحميمية والكدح.
النفي الاستنكاريّ
"أنا لستُ طفلاً … وأنتِ لستِ دميةً": تأكيد على الجدية العاطفية واستبعاد اللعب اللفظي أو السطحي.
التكرار والإيقاع الداخليّ
"قمَّطَتكِ … قبل خمس وسبعين دورة شمس": تكرار الجذر "قمّط" يخلق إيقاعًا داخليًا يعمّق الدلالة العاطفية والزمنية.
الاستفهام الاستنكاريّ
"فلماذا أطبقتُ أجفاني عليكِ…": يُحوّل السؤال إلى استبطان وجداني، يكشف عن صراع داخلي بالوعي واللاوعي.
الاستعارة التراجيديّة
يتناول الشاعر الشماغ في سياق استعارة مجازية ذات طابع تراجيدي، حيث يستحضر صورته لتأكيد الأبعاد الوجدانية المرتبطة بالحماية والدفء. فالشماغ، تمامًا كما يلتف الحنين حول تفاصيل الذاكرة، يتحول هنا إلى رمز متكامل يجسد دفء الأبوة، وسياج العائلة، ووشاح الهوية الذي يحفظ ملامح الذاكرة. وهكذا، يتجاوز التصوير الشعري فكرة الشماغ كقطعة ملبس عادية ليمنحه أبعادًا رمزية عاطفية تعزز الشعور بالانتماء والارتباط. في هذا السياق، يصبح الشماغ إشارة إلى الماضي العائلي وامتداده العميق في الوجدان، محققًا تواصلاً دائمًا مع جذور الشعور الإنساني.
العلاقة بين النص والذاكرة:
ينقل النص العلاقة بين الذات والذاكرة الجمعية، حيث يصبح الماضي حيًّا من خلال "قبل خمسٍ وسبعين دورة شمس"، وهو ما يحوّل الزمن إلى علامة ثقافية واجتماعية، تربط بين الحنين الفردي والانتماء الجماعي.
المقارنة مع تيارات شعرية أخرى
يمكن وضع الومضة ضمن تيار الشعر الحر المعاصر، الذي يعتمد الرموز اليومية كأدوات تعبيرية عن الوجود الذاتي والهوية. تتقاطع تجربة السماوي مع تجارب شعراء آخرين (كأدونيس ومحمود درويش) في توظيف الرموز الثقافية اليومية، غير أن خصوصيته تكمن في تفكيك التصنيفات التقليدية للشعر الغزلي، واستبدالها برؤية وجدانية أخوية
خلاصة
يُظهر هذا التحليل كيف تتحوّل الومضة الشعرية "إلى شقيقة القلب الشاعرة" إلى نصّ متعدد الأبعاد الرمزية والدلالية، يوظف آليات السيميائيات والانزياح بذكاء فني. في ضوء تصورات رولان بارت عن انفتاح النص وتعدد طبقاته، ونموذج بيرس الثلاثي للعلامة، يمكن قراءة النص بوصفه خطابًا إنسانيًّا يؤسس لعلاقة وجدانية عميقة تتجاوز التصنيفات الغزلية، وتعكس صراعًا داخليًّا حول الهوية، الانتماء، والحنين.""
الخاتمة
تُشكّل ومضة “إلى شقيقة القلب الشاعرة” نموذجًا شعريًا معاصرًا يعكس صراعًا وجدانيًا عميقًا؛ إذ تتجلى هذه الومضة في تراكيب لغوية مركّبة ورموز متداخلة تتجاوز إطار الحب الرومانسي التقليدي لتصل إلى أبعاد أخوية وفكرية تستند إلى الذاكرة والهوية المشتركة. فقد تحوّلت رموز “خبز أمي” و“عرق جبين أبي” إلى علامات ثقافية تنضج فيها قيم الحنان والانتماء، بينما يستخدم الشاعر استعارات مثل “زنزانة القلب” و“قضبان الضلوع” للتعبير عن مآزق الاحتجاز الداخلي والرغبة في الانعتاق.
تكشف هذه الدراسة أن الشاعر يحيى السماوي، من خلال براعته اللغوية وموهبته الدلالية، قد أعاد تعريف طبيعة العلاقة الوجدانية بوصفها وحدة حسية وفكرية تمتدّ عبر الزمن والمكان. ومن خلال استحضار الرموز الحياتية اليومية وإعادة توظيفها في سياق شعري، يفتح النص أمام القارئ آفاقًا جديدة لفهم إمكانات الشعر الحر وأبعاده الثقافية والنفسية.
وبذلك، تسهم هذه القراءة النقدية في توسيع حدود التعبير الشعري المعاصر، وتطرح إشكالات حول طبيعة الحرية والانتماء في سياق تداخل الأحضان الثقافية والقيود النفسية، مصوّغة إطارًا تحليليًا يربط بين اللغة والذاكرة والذات الإبداعية.
--------------
1. بارت، رولان. مبادئ في علم الأدلة. ترجمة: رشيد باها. الدار البيضاء: دار توبقال٢٠٠٧
2. بيرس، تشارلز ساندرز. كتابات مختارة في السيميائيات والمنطق. ترجمة: حميد لشهب. الرباط: دار الأمان،٢٠١٣.
#سهيل_الزهاوي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟