|
الشوق والغياب في رباعية الشاعر القدير يحيى السماوي: قراءة نقدية متعددة المستويات
سهيل الزهاوي
الحوار المتمدن-العدد: 8476 - 2025 / 9 / 25 - 21:49
المحور:
الادب والفن
المقدمة تمثل رباعية يحيى السماوي تجربة شعرية غنية تجمع بين عناصر التصوف، العاطفة، والمنفى ضمن فضاء رمزي مفتوح على احتمالات التأويل المتعددة. تُبرز القصيدة فكرة مركزية تجسد إطارًا مفاهيميًا للشوق، لتنسج نصًا مزودًا بطاقة دلالية عميقة متدرجة بين حالات الخوف، التيه، الفداء، والذهول. تسعى الدراسة إلى تحليل هذه الرباعية من خلال ستة محاور مترابطة: تفسير الأبيات، الدراسة البنيوية، التحليل البلاغي، التحليل النفسي، الدراسة السيميائية، والبُعد الوطني، وذلك بهدف استكشاف آليات إنتاج المعنى وإظهار تعددية قراءات النص ما بين الأبعاد العرفانية والوطنية. مدخل تأويلي: بين الشوق العرفاني والحنين الوطني «تُستهلُّ رباعيةُ يحيى السماوي بمسلمةٍ عرفانيةٍ مركزيةٍ من أبي القاسم القشيري: "الشوق هو اهتياج القلوب إلى لقاء المحبوب، وعلى قدر المحبة يكون الشوق" (1). تضع هذه العبارة إطارًا تأويليًا يفتح النص على قراءتين متكاملتين: الأولى عرفانية ترى في المحبوب تجلّيًا للمطلق ومسارًا للتيه والفداء، والثانية وطنية تُحيل المحبوب إلى رمز الوطن والذاكرة الجماعية. لا تتعارض هذه التعددية، بل تُنتج انسجامًا دلاليًا يجعل القارئ شريكًا في استكمال المعنى. ستسعى الدراسة، عبر أدوات سيميائية وبنيوية وبلاغية ونفسية، إلى الكشف عن هذه التقاطعات بين الديني والسياسي، والحميمي والجماعي.» تفسير الأبيات: بنية شعورية متصاعدة في رباعية السماوي 1. الخوف: ارتباك الذات أمام المحبوب "أخافُ عليَّ مني لا عليه: حبيبٌ نبضُ قلبي في يَـدَيْهِ" يفتتح الشاعر رباعيته بالخوف لا كضعف أو رهبة من الآخر، بل كارتعاش داخلي أمام قوة التعلق. الذات تخشى من نفسها أكثر مما تخشى على المحبوب؛ إذ إن «نبض القلب» أصبح في يد الآخر، أي أن جوهر الوجود بات مهددًا بالذوبان في سلطة الحضور الغائب. بهذا يُمثل الخوف المرحلة الأولى في تجربة الشوق: مرحلة التبعية الوجدانية وفقدان مركزية التحكم. 2. التيه: الضياع كمغنمة "أنا التيهان فيه وليس تيهاً / ولكن فرط مغنمة بتيه" يحوّل الشاعر التيه من دلالة سلبية إلى ربح روحي ومعنوي. فالتيهان في المحبوب ليس ضياعًا، بل امتلاء، إذ إن الذات إذ تفقد موقعها تكتسب معنى أعمق بالانغماس في الآخر. هذه الحالة تنفتح على البعد العرفاني، حيث الحيرة سبيل إلى الكشف، وعلى البعد الوطني حيث الغربة تخلق علاقة جديدة مع الوطن وتعيد تشكيله في الوجدان. 3. الردى: الفداء كتطهير "ولو كان الردى يدني مشوقاً / لما بخل المشوق بأصغريه" يبلغ الشوق هنا ذروته، حين يتحول الموت من قدرٍ مخيف إلى طريق مرغوب للوصال. استعداد الشاعر للتضحية حتى بـ «الأصغريْن» (النفس والولد، أو العينين كرمز أغلى الحواس) يكشف عن إرادة الفناء في سبيل المحبوب. المعنى يتردد بين الصوفي، حيث الفناء سبيل للبقاء في المطلق، والوطني حيث التضحية أقصى تجليات الوفاء للوطن. 4. الاسم: حضور الغائب في الذاكرة "نظرتُ إلى اسمه فأضعتُ لُـبّي / فكيف إذا نظرتُ غـداً إليه" تصل الرباعية إلى لحظة الذروة في استدعاء «الاسم». فمجرد التلفظ بالاسم يربك الذات، ويعيد تشكيل وعيها، ويحوّل الغياب إلى حضور روحيّ متكثف. «الاسم» هنا يتجاوز دلالته اللغوية ليصبح مفتاحًا لاستحضار المطلق في التجربة الصوفية، أو الهوية والوطن في تجربة المنفى. خاتمة: من الخوف إلى الاسم تتدرج الرباعية من الخوف إلى التيه إلى الفداء وصولًا إلى الاسم، في مسار وجداني متصاعد يكشف عن قوة الشوق وقدرته على إعادة تشكيل العلاقة بين الذات والمحبوب. هذه البنية الشعورية تسمح بقراءتين متوازيتين ومتكاملتين: قراءة عرفانية صوفية ترى في النص رحلة نحو الفناء في المطلق، وقراءة وطنية ترى فيه خطاب حنين منفي يعيد إنتاج الوطن عبر الغياب الدراسة البنيوية للقصيدة تقوم الرباعية على بنيانٍ شعريٍّ مضغوطٍ وعضويّ، تُحكمه وحدةُ موضوعٍ وعاطفةٍ واضحة تراكمية الشكل وقوامها تصاعد شعوري. بالرغم من قصر النصّ، تظهر فيه علاقة داخلية دقيقة بين التركيب والدلالة: التدرج الدلالي: تنتقل السّردية الذهنية من حالةٍ إلى حالةٍ عبر أربعة مساراتٍ لكل بيت وحدة دلالية مستقلة، لكنها مرتبطة بمنطق تصاعدي: الخوف → التيه/الفناء → الاستعداد للفداء → الذهول/التجلّي. هذه الحركة ليست سردًا توقُّعيًا خطيًّا بقدر ما هي تصعيد وجداني يعيد تشكيل العلاقة بين الذات والمحبوب في كل لحظة. الضمائر كأداة بنيوية: يلعب التبادل بين ضمير المتكلم (أخافُ، أنا) وضمير الغائب (عليه، فيه، إليه) دورًا مركزيًا في بنية النص؛ فهو يؤسس لحقلٍ من السيطرة والغياب: الآخر غائب لكنه مستبدّ، والذات منظورة/مأسورة. يخلق هذا التوازن نوعًا من العُقدة البنيوية التي تُنتجُ دلالة الغياب والتمثيل الرمزي للمحبوب. الإيقاع والتوتر الداخلي: بالرغم من بساطة التفعيلات، فإنّ النصّ يحقق إيقاعًا شعوريًا عبر تكرار صورٍ لفظيةٍ وصوتيةٍ (جناس، توازي) يهيئ أرضيةً لصعود التأثير الانفعالي. التوتر هنا لاهوتيٌّ ومعنويّ؛ إذ يضبط النصّ تواتره الصوتي حتى يحافظ على اندفاع دلالي متصاعد دون أن يفقد اتساقه الموسيقي. علاقة الأبيات ببعضها: لا تقوم العلاقة على مجرد إكمالٍ، بل على تحويلٍ: كل بيت يعيد توجيه الشعور نحو زاويةٍ جديدةٍ — تحويل الخوف إلى تيه، التيه إلى فداء، الفداء إلى تجلٍّ. هذا الأسلوب البنائي يُحاكي تجارب السالك العرفانيّ (دوران/تيه/فناء) ويجعل النصّ فضاءً لحركةٍ دلاليةٍ دائريةٍ لا خطّية. خلاصةً، تبنى الرباعية وحدتها على التوتر البنيوي بين الصمت (الغائب) والقول (المعلن)، وعلى تكثيف لفظيٍّ ودلاليٍّ يتيح قراءةً متعددة المستويات: عرفانيةً، وطنيةً ونفسيةً، من دون حلّ هذه القراءات في بعضها، بل مع إبقائها في حالة صراعٍ ومناظرةٍ داخليةٍ تُنتجُ ثراءً نصّيًا. التحليل البلاغي — الاستعارة، الإزاحة، والدلالة تتمثّل قوة رباعية يحيى السماوي في طاقتها البلاغية المكثفة، التي لا تبتغي الزينة اللفظية فحسب، بل تعمل كآلة إنتاج دلالي تُعيد تشكيل العلاقة بين اللغة والمعنى عبر محاور الاستعارة والإزاحة والدلالة. فيما يلي صياغة أكاديميّة منظمة لكل محور مع الإحالة المباشرة إلى أمثلة من الرباعية. 1. الاستعارة: نحو تجسيد الوجود العاطفي. تستغل القصيدة الاستعارة بوصفها مِلْكًا إنشائيًا لتجسيد حالات نفسية وروحية مركّبة، فلا تقتصر على تحويل واقع إلى صورة، بل تُحوِّل الصورة إلى عملية وجودية. - في البيت الأوّل، عبارة «نبض قلبي في يديه» ليست وصفًا بدائيًّا، بل استعارة مكنية تترجم سيادة الآخر على جوهر الوجود: الحياة (النبض) تُعرض كشيء يُمسَك، ومن ثمّ تُصبح الذات في موقع تابع لا فاعل. هذه الاستعارة تُجسّد فكرة التسليم/الفناء، وتحوّل العلاقة الأحادية (ذات/عاطفة) إلى علاقة تبعية وجودية. - في البيت الثاني، «التيهان فيه» تحوّل التيه من حالة مكانية سلبية إلى حالة اندماجية إيجابية: التيه هنا استعارة لفناءٍ مولّدٍ للربح الروحي («مغنمة»). التحوّل البلاغي يجعل من الضياع قيمة معرفية وروحية. - استعارة «أصغريه» في البيت الثالث تعمل على تجريد العضو الحسي (العينان) إلى رمز للرؤية والوعي، فالتضحية بهما ليست فقدانًا جسديًا فقط، بل تنازل عن أدوات المعرفة والإدراك في سبيل وصال رمزي/روحي.
- في الخاتمة، «الاسم» يحتل موقع استعاريّ كقُوّةٍ مُحرِّكة تُحدث اضطرابًا معرفيًّا؛ الاسم هنا ليس لفظًا، بل كيانٌ مُفعَم بالقوة التجلّية. 2. الإزاحة: الغياب كاستراتيجية دلالي توظّف الرباعية الإزاحة كتقنية تُغيّب الإشارة المباشرة وتُحيلها إلى دوالٍ عرضية، ما ينتج مجالًا فارغًا قابلاً للتأويل. - غياب اسم المحبوب وتحويله إلى ضمير غائب ينتج فجوةً دلالية تتيح قراءة النصّ في أبعاد متعددة (عرفاني/وطني/شخصي) - إزاحة مفاهيم: الوطن → المحبوب، الموت → وسيلة وصل، التيه → مغنمة. هذه الإزاحات لا تشي بخفوت المعنى بل تُعيد تشكيله، وتحوّل المفردات التقليدية إلى أدوات جديدة للحجاج الانفعالي. - نتيجة الإزاحة: النصّ يشتغل كشبكة احتمالات دلالية ــ كل منها مشروع قراءة متكامل ضمن النصّ نفسه. 3. الدلالة: بنية متعددة الطبقات - الدلالة في الرباعية بنتها ليست معجمية صارمة، بل سياقية ورمزية؛ المعاني تتولّد من تلاقي الاستعارة والإزاحة والإيقاع. - مفردات مثل «الخوف»، «التيه»، «الردى»، و«الاسم» تحمل شحنات متداخلة: نفسية، صوفية، وطنية، وجودية. - التوتر بين الحضور والغياب يولّد دلالة تتقاطع فيها مدركات القارئ مع آليات النصّ التعبيرية، فينتج ما يمكن تسميته بـ «دلالة مُتاحة» لا «دلالة مغلقة». - النتيجة المنهجية: القصيدة تَدعو إلى قراءة متعددة المستويات، حيث يظلّ التضاد الدلالي (مثل: التيه كمغنمة/الردى كعبور) محركًا أساسيًا لبناء المعنى.. التحليل النفسي تجري الرباعية قراءةً نفسيّة تكشف عن انقسام داخلي في الذات بين قوة الشوق ورهبة الاحتفاظ بالحدود، وتعرض أزمة تمايز تتجه نحو الرغبة في الاندماج/الرجوع إلى حالة ما قبل التمايز. من منظور تحليلي: - البيت الأوّل يعكس قلقًا بشأن فقدان الحدود: الخوف هنا داخلي (من الذات) وليس خارجيًا؛ علامة على تهدّم مركزية الأنا أمام محركٍ شغوفٍ (الشوق). - البيت الثاني يعبر عن نزوع نحو الفناء الطوعي: التيه باعتباره «مغنمة» يشير إلى رغبةٍ لا واعية في التراجع عن التفرد الذاتي والاندماج بالمحبوب - حالة مشابهة للاشتياق إلى العودة إلى حالة الأمان البدائي. - البيت الثالث يُظهِر استعدادًا لتقديم أدوات الإدراك (العينان) مقابل الوصل، وهو ما يمكن قراءته كتضحية رمزّية للرغبة في الفناء على حساب وعي الحدود. - البيت الأخير يمثل ذروة التصدّع النفسي: الاسم كعامل يخلخل توازن الذات ويقذفها إلى حالة ذهول/فقدان تماسك معرفي. - خلاصة نفسية: بنية الرباعية تصوّر صراعًا بين رغبة الانصهار ورغبة الحفاظ على الذات، مع تفوّق تدريجي لرغبة الالتحام التي تتخذ شكلًا تضحيِّيًّا واستباقيًّا. الدراسة السيميائية تقوم القراءة السيميائية للرباعية على تتبّع كيفية إنتاج العلامات للمعنى في فضاء غياب/تضمين. ملاحظات أساسية: الضمير الغائب كعلامة محورية: الضمير لا يشير إلى شخصية محددة، بل يُعمل كدليل على الغياب والحنين؛ يحوّل النص الضمني إلى شبكة من الاحتمالات الدلالية. الاسم كعلامة طاقية: الاسم في الخاتمة يتصرف كعلامة ذات «وظيفة كفعل»— ليس مجرد رمز، بل فعل يؤثر في نفس القارئ/المتكلم. الردى كرمز عبور: الموت هنا علامة عبور لا ماضٍ نهائيّ؛ السيمياء تعطي «الردى» وضعًا وظيفيًّا في مخطط المعنى بدلًا من كونه مفهومًا نهائيًّا. توظيف الفراغ الدلالي: بإخفاء المدلول الصريح تتحقق القصيدة كفضاء مفتوح للتأويل، ما يوافق منطق العلامة التي تصوغ جزءًا من المعنى عبر ما لا يُقال بقدر ما تُقترح. التقابل بين الدال والمدلول: العلاقة تُدار عبر توترات منتجة لا استبداليه؛ الدال (الكلمات) يشير إلى مدلولات متعدّدة تُبنى في لحظة القراءة. البعد الوطني وتأويل الغياب (2) رغم أن الرباعية لا تُصرّح باسم الوطن صراحةً، فإنها تُعيدُ تشكيله داخليًا عبر بنيةٍ رمزيةٍ مشحونةٍ بالغياب. في النصّ يتحول «المحبوب» المشار إليه بالضمير الغائب إلى إطارٍ مجازيٍّ للوطن؛ فالغياب هنا لا يقتصر على غيابٍ مكانيٍّ فحسب، بل يتحوّل إلى آلية إنتاجية للدلالة، تعمل على تكثيف الحضور العاطفي والوطني في طيف الذكرى والشوق. تفسيرًا، يمكن قراءة عبارة «نبض قلبي في يديه» بوصفها صورةً توصَف فيها حياةُ الذات كرهينةٍ لوجود الوطن/المحبوب؛ تصبح الحيوية (النبض) مرتبطةً بحضورٍ خارجيٍّ يجعل الذات في حالة تبعية وجدانية. ومن ثم يظهر «الخوف من الذات» كدلالةٍ على توترٍ داخليٍّ أمام قوة الذاكرة والحنين التي تُقوِّض حدود الأنا في الغربة. التيه، في هذا الإطار، يتبدّل من حالةٍ سلبيةٍ إلى «مغنمة»: الاغتراب لا يعني بالضرورة فقدانًا نهائيًّا، بل هو حالةٌ تعيد تركيب الوطن في الوجدان، وتخلق علاقةً جديدةً معه — علاقةً تقلّبُ حضورَه من شكلٍ ماديٍّ إلى شكلٍ ذهنيٍّ/عرفانيٍّ. كذلك يصير «الردى» رمزًا للتضحية الوطنية؛ فالاستعداد للتخلي عن «أصغريه» هنا ليس تنازلاً جسديًا فحسب، بل تضحياتٍ معرفيةٍ ورؤيةٍ من أجل لحظة وصال رمزية. أخيرًا، يتحوّل «الاسم» في خاتمة الرباعية إلى علامةٍ ذا طاقةٍ رمزيةٍ قوية؛ إن مجرد استحضار الاسم يربكُ الذات ويُعيد تشكيل وعيها، فتعمل الذاكرة والحنين على إنتاج حضورٍ وطنيٍّ متكثفٍ فوقيٍّ للغائب. بذلك تُؤكّد القصيدة أن الوطن لا يُستعاد بالتصريح، بل يُعادُ إنتاجه بالحضور عبر الغياب. القراءتان المتوازيتان للرباعية: العرفانية والوطنية تُتيح الرباعية قراءةً مزدوجةً مُتآزِرة: الأولى عرفانية صوفية، والثانية وطنية منفية؛ لا تتعارضان، بل تتكاملان في بناء دلالي واحد متعدِّد الطبقات القراءة العرفانية: تُفهم الصورة الشعرية هنا في ضوء تجربة العاشق الصوفي: المحبوب يتجلى كمطلق روحي، والشوق يتحول إلى مسلك نحو الفناء والتجلّي. استدعاء القشيري في مستهل الرباعية يعطي لهذا الخطّ أساسًا مفاهيميًا: كلما ازداد اتساع المحبة ازدادُ الاهتياجُ القلبيّ. في هذا الإطار يُقرأ التيه فناءً، والردى فداءً، والاسم فعلَ ذكرٍ يخلق اضطرابًا روحيًا لدى السالك «التعدّديةُ التأويليةُ في الرباعية لا تُفضي إلى تشتّتٍ، بل تتحوّل إلى انسجامٍ إنتاجيٍّ للمعنى.» القراءة الوطنية المنفية: تقرأ الرباعية بوصفها خطابَ حنينٍ إلى الوطن في حالة الغربة؛ المحبوب هنا رمزٌ للوطن، والغيابُ دلالةُ منفى وتجربة. يتحوّل الشوق إلى لحنٍ وجدانيٍّ يعيدُ إنتاج الوطن داخليًّا؛ التضحية هنا سياسية ورُمزية: الاستعداد للفناء من أجل الوطن هو تجلٍّ لالتزام وجداني يتجاوز المطالبة الإقليمية إلى استعادة منظومة الانتماء والذاكرة. التقاطع والتكامل: المنهج الأنسب لعرض هاتين القراءتين هو عرضهما بالتوازي مع إبراز نقاط التلاقي (التضحية، الفناء، قوة الاسم) والاختلاف في المراد (المطلق الروحي مقابل المكان/الهوية). هذه الثنائية التأويلية تجعل الرباعية نصًّا قابلًا للقراءات المتعددة دون أن تُنهك ثباته البنيوي؛ بل إنّها تمنحه ثراءً دلاليًا قائماً على قابلية العلامة للاشتغال في سياقاتٍ معرفيةٍ متباينة. الخاتمة تُبيّن قراءةُ هذه الرباعية على مستوياتها المختلفة أن الشعر قادرٌ على تحويل الغياب إلى حضورٍ فاعل، وعلى تحويل التوتر الداخلي إلى منطقٍ دلاليٍّ مُنتج. عبر تحليلٍ تأويليٍّ وسيميائيٍّ وبنائيٍّ ونفسيٍّ، اتضح أن النص لا يقدّم تجربةً وجدانيةً منعزلةً بل يشيّد فضاءً للالتقاء بين العرفاني والوطني: حيث يصبح الشوق مسلكًا نحو الفناء والتجلّي، وفي الوقت نفسه لحنًا لحضورٍ وطنيٍّ مكثّفٍ في ذاكرة المنفى. الرباعية — بما فيها من استعارةٍ وإزاحةٍ ودلالةٍ — تذكّرنا بأنَّ المعنى في الشعر يُنتَج عبر التوتر بين الكلام والصمت، بين ما يُقال وما يُحجب؛ وأنّ القارئ يشاركُ فعالًا في عملية البناء التأويلي. لذا، فإن هذه القصيدة تُمثّل تجربةً تأويليةً مفتوحةً، تجعل من الشوق مكابدةً وطقسًا، ومن الغياب حضورًا أقوى من الظهور نفسه. ---------- 1- القشيري، أبي القاسم؛ الرسالة في علم التصوف، تحقيق: خليل منصور، دار الكتب العلمية- بيروت لبنان، سنة: [2001] ، ص 307- 360 2- ادور سعيد، تأملات حول المنفى، ترجمة ثائر سعيد، دار آداب، طبعة الثانية 2007، ص: 117 قراءة «المحبوب» (وطن/إله/حبيبة)
#سهيل_الزهاوي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قالوا: تدلّل! قلتُ: لا! - الشعر كفعل مقاومة أخلاقية دراسة ما
...
-
الألم و العشق والفناء والخلود: مقاربة وطنية وفلسفية لومضة يح
...
-
بين الظلال والنور: قراءة نقدية في قصيدة -لا تكن معتما…- للشا
...
-
ومضة الهوية: صراع الذات والوطن في النص الشعري للشاعر الكبير
...
-
تموز: انبعاث الثورة وانبثاق الحرية من قلب المعاناة، في قصيدة
...
-
حين يضحك الشهيد قبل المقصلة
-
رمزية المرأة وقضية التحرر في قصيدة -العنقاء- للشاعر عبد الست
...
-
من -خبز أمي- إلى -قضبان الضلوع-: قراءة رمزية في ومضة شعرية -
...
-
بين الهبة والسُّلطَة: قراءة في قصيدة -إنّما الدنيا لِمن وَهَ
...
-
عهدي وكلمتي
-
الجندي، الهذيان، والخذلان الكبير قراءة في قصيدة -العمائم- لل
...
-
مواويل عشق للشاعرة: كريمة الحسيني: دراسة نقدية في تكوين الحب
...
-
وطنٌ معلق بين الحب والخذلان قراءة نقدية لقصيدة -حبُّ امتناعٍ
...
-
لوحة المنزل* / للشاعر النرويجي أرنولف أوفيرلاند
-
الصمود والتحدي: قراءة في الأبعاد النفسية والاجتماعية والسياس
...
-
قراءات نقدية : دراسة بنيوية ورمزية لقصيدة -مهرجان- للشاعر يح
...
-
*قصيدة العَلْمُ الأَحْمَرُ / الشاعر النرويجي أرنولف أوفيرلان
...
-
الشاعر سيجبيورن اوبستفلدر (1866- 1900) رائد الحداثة في النرو
...
-
مُستيقِظاً في عَتْمَةِ الغَبَشِ
-
نضال الطلبة ضد المعاهدات العراقية - البريطانية ( 1922- 1930
...
المزيد.....
-
سعيد يقطين: أمريكا توجه دفة الإبادة والتطهير العرقي بدعمها ل
...
-
افتتاح مهرجان هولندا السينمائي بفيلم -ناجي العلي- وأفلام عن
...
-
-شومان- تستعيد أمجد ناصر: أنا هنا في لغتكم
-
افتتاح مهرجان هولندا السينمائي بفيلم -ناجي العلي- وأفلام عن
...
-
سطو -سينمائي- بكاليفورنيا.. عصابة تستخدم فؤوسا لسرقة محل مجو
...
-
فيلم -ني تشا 2-.. الأسطورة الصينية تعيد تجديد نفسها بالرسوم
...
-
تعاطف واسع مع غزة بمهرجان سان سباستيان السينمائي وتنديد بالح
...
-
-ضع روحك على يدك وامشي-: فيلم يحكي عن حياة ومقتل الصحفية فاط
...
-
رصدته الكاميرا.. سائق سيارة مسروقة يهرب من الشرطة ويقفز على
...
-
برتولت بريشت وفضيحة أدبية كادت أن تُنسى
المزيد.....
-
الرملة 4000
/ رانية مرجية
-
هبنّقة
/ كمال التاغوتي
-
يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025
/ السيد حافظ
-
للجرح شكل الوتر
/ د. خالد زغريت
-
الثريا في ليالينا نائمة
/ د. خالد زغريت
-
حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول
/ السيد حافظ
-
يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر
/ السيد حافظ
-
نقوش على الجدار الحزين
/ مأمون أحمد مصطفى زيدان
-
مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس
...
/ ريمة بن عيسى
-
يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|