|
|
الهويّة والمدينة في شعر عبد الستار نورعلي: مقاربة بنيوية - سيميائية – نفسية لقصيدة -من سيرة العاشق البغدادي
سهيل الزهاوي
الحوار المتمدن-العدد: 8548 - 2025 / 12 / 6 - 14:08
المحور:
الادب والفن
مقدمة تتناول هذه الورقة قصيدة «من سيرة العاشق البغدادي» للشاعر القدير عبد الستّار نورعلي بوصفها نصًّا مدينيًا مركّبًا تتقاطع فيه تجربة الذات العاشقة مع ذاكرة المكان البغدادي، بحيث تتحوّل الحكاية الفردية إلى شهادة شعرية على زمنٍ متصدّع. وتنطلق القراءة من فرضية أنّ القصيدة لا تُختزل في بعدها الغنائي السردي، بل تُبنى كمنظومة دلالية متعدّدة الطبقات تكشف طبيعة العلاقة المتوتّرة بين العاطفة الفردية والنظام الاجتماعي–الرقابي للمدينة، حيث يتحوّل الزقاق الضيّق إلى فضاء صراع بين الحب وأشكال العنف الرمزي. تعتمد الدراسة منهجًا تفكيكيًا – تحليليًا هجينيًا يستثمر عدّة مستويات مقاربة، هي: 1. التحليل البنيوي: لاستجلاء هندسة المكان وتنظيم السرد، ورصد آليات الانتقال بين اللوحات المشهدية بوصفها وحدات دلالية مستقلة ومتجاورة ضمن بنية فسيفسائية. 2. التفكيك السيميائي: لفحص شبكة العلامات والرموز...التي تنتجها القصيدة، ولا سيما ما يتعلّق بعلاقة الجسد بالمدينة، والصور البصرية والسمعية، وآليات الانزياح بين الجمال والجرح. 3. المقاربة النفس– أدبية: لتحليل تمثّلات الرغبة وآليات الدفاع والجفاف الوجودي، ورصد أثر المراقبة الاجتماعية في تشكيل الهوية العاطفية للعاشق. 4. دراسة الانزياح الدلالي والاستعارة: بوصفهما أداتين لبناء شعرية التوتّر والتحوّل، وتحويل المكان اليومي العادي إلى فضاء شبه أسطوري تحكمه ثنائية الحب/القمع. وتنطلق القراءة من العتبة النصية (العنوان) لفحص دلالات «من سيرة» و«العاشق البغدادي» بوصفها محدّدات لهوية النص واتّجاهه التأويلي، ثم تنتقل إلى تحليل القصيدة عبر تقسيمها إلى لوحات مشهدية متعاقبة تُقرأ كلٌّ منها كوحدة دلالية تبرز تراكب الغربة والحنين، وتكشف اشتغال العنف الرمزي واللغوي في فضاء المدينة. كما تتتبّع الدراسة تفكّك العلاقة بين العاشق والمكان، وانهيار منظومة «العدل» في خاتمة النص تحت وطأة حضور «الغيلان» بوصفهم تجسيدًا للقوى القامعة والفاجرة في الفضاء المديني. وتسعى هذه الورقة إلى بيان الكيفية التي يعيد بها نورعلي تشكيل صورة المدينة عبر لغة تصويرية تستثمر التقطيع البصري، والتكرار ذي الطابع الطقسي، والاشتباك بين الفصيح واليومي، بما يجعل القصيدة فضاءً قرائيًا ملائمًا لتتبّع تحوّلات الهوية الفردية في سياق اجتماعي مضطرب. وتقتصر حدود البحث على هذه القصيدة بوصفها نموذجًا لقراءة تمثّلات الهوية المدينية في الشعر العراقي المعاصر، دون التوسع في مقارنات خارجية، تمهيدًا للانتقال إلى الإطار النظري وتحليل العتبة النصية ثم اللوحات الدلالية. العتبة: تفكيك العنوان «من سيرة العاشق البغدادي» لا ينهض العنوان بوظيفة تعيينية فحسب، بل يعمل كبنية موازية تكثّف التوتر بين الذات والمكان والزمن. إنه بمثابة عتبة تأويلية ترسم أفق انتظار القارئ، وتعلن منذ البدء أننا أمام نص يقوم على الاجتزاء والتشظّي لا على السرد المكتمل. 1. مِنْ:" شعرية الاجتزاء" تتجاوز «من» وظيفتها النحوية كحرف جر يفيد التبعيض، لتتحول إلى إعلان جمالي عن سرد مجتزأ. فالقارئ لا يُستدرج إلى "سيرة كاملة"، بل إلى مقطع منها أو شذرات متفرّقة. دلاليًا، تشرعن "من" بنية النص اللقطية وتقطع مع وهم الاكتمال. ورمزيًا، توازي حالة التشظّي التي ستظهر 2. سيرة": أسطرة اليومي وتوثيق الهامشي اختيار لفظ «سيرة» يحمّل النص منذ عتبته الأولى بعدًا سرديًا وتوثيقيًا؛ فالسيرة في الوعي الأدبي العربي تحيل إلى نص يمتدّ في الزمن، ويلاحق تحوّلات الذات في علاقتها بالعالم. غير أن العنوان، بإضافة «من» قبل «سيرة»، يعلن أن ما سيُقدَّم ليس سيرة مكتملة، بل مقطع من مشروع سيري أوسع محتمل. على المستوى الدلالي، يرفع استعمال «سيرة» تجربة فتى من «فتية الزقاق» من مستوى اليومي العابر إلى مستوى ما يستحق الحفظ والتدوين، فيغدو العاشق الشعبي موضوعًا للكتابة وكأنه شخصية من «السير الكبرى»؛ ما يعني أسطرة الهامشي وإعادة الاعتبار لليومي المغمور بوصفه حاملًا لمعنى إنساني وتاريخي. أما رمزيًا، فإن تحويل قصة حب فردية في زقاق بغدادي ضيق إلى «سيرة» يوحي بأن هذه التجربة ليست محصورة في فرد بعينه، بل تمثّل نموذجًا لوعي جمعي ولذاكرة مدينية مجروحة هذا الاختيار يدعو القارئ إلى التعامل مع القصيدة بوصفها نصًّا يحمل بعدًا أرشيفيًا؛ فكل مقطع فيها يُقرأ كوثيقة من «أرشيف الوجدان البغدادي»، لا كحكاية عاطفية عابرة. وبهذا تتحوّل السيرة من مجرّد متابعة لحياة فرد إلى وعاء لكتابة ذاكرة مدينة، ولتثبيت صورة العاشق الشعبي في مواجهة محوٍ تاريخي واجتماعي محتمل 3." العاشق": من الفرد إلى النموذج الإنساني يُسند لفظ «العاشق» إلى «سيرة» ليحدّد نوع التجربة المحورية في النص: ليست سيرة اجتماعية أو سياسية بالدرجة الأولى، بل سيرة عشق. تنكير «عاشق» مع تعريفه بـ«أل» الجنسية يجرده من خصوصية الاسم العلم، ليُحيل إلى نموذج إنساني عام يمكن أن يتكرّر في كل زمان ومكان. دلاليًا، يوجّه هذا اللفظ القراءة نحو بنية العشق ذاته (الانتظار، الاحتراق الداخلي، الكتمان، الافتتان بالجسد والنظرة والصوت) بدل الاكتفاء بتتبّع أحداث حياة شخص بعينه. ورمزيًا، يتحوّل العشق إلى شرط وجودي يعرّف الذات داخل مدينة محاصِرة؛ فالحب هنا ليس ترفًا عاطفيًا، بل طريقة لمقاومة الاغتراب والترميم النفسي في وجه الخراب الخارجي. وهكذا يغدو «العاشق» حاملًا لمأزق إنساني أوسع من حدود الفتى قيس نفسه. 4. "البغدادي": حتمية المكان وشراكة المدينة تأتي الصفة «البغدادي» لتربط هذا «العاشق» بفضاء مكاني–تاريخي محدّد؛ فالسيرة هنا ليست مجرّدة من الجغرافيا، بل منغرِسة في بغداد بأزقّتها وبيوتها وشارع الكفاح وذاكرتها الحديثة المثقلة. بذلك لا تكون المدينة خلفية محايدة للأحداث، بل طرفًا فاعلًا يشارك في تشكيل المصير العاطفي والنفسي للبطل. على المستوى الدلالي، تمنح النسبة إلى بغداد النصَّ مرجعية واقعية واضحة، فتشدّ رمزيته إلى سياق اجتماعي وسياسي معلوم. وعلى المستوى الرمزي، تتحوّل بغداد إلى قدرٍ مشترك بين العاشق وسائر أهلها؛ مدينة محاصَرة ومراقَبة، تتجاور فيها ضيق الأزقّة، وتصدّع الجدران، وشبكات القيل والقال، لتصنع مناخًا خانقًا للحب الحرّ. وبذلك تصبح «البغدادي» إشارة إلى أن العشق المرويّ هنا ليس فقط تجربة فردية، بل هو أيضًا مرآة لحالة مدينة تعيش التوتر ذاته بين الرغبة والقمع وبين التوق إلى الحياة وبين آليات الإحاطة والضبط التي تمارسها البنى الاجتماعية والسياسية.
خلاصة تركيبية: يتكثّف في عنوان «من سيرة العاشق البغدادي» البرنامج الدلالي للقصيدة بأكملها: "من" تُعلن الاجتزاء والتشظّي، "سيرة" ترفع اليومي والهامشي إلى مستوى ما يستحق التوثيق، "العاشق" تحوّل البطل إلى نموذج وجودي عام، "البغدادي" ترهن هذه التجربة بفضاء مديني مشخصن. وبذلك تغدو العتبة مفتاحًا لقراءة القصيدة بوصفها شهادة شعرية على عشقٍ فرديّ هو في جوهره تعبير مكثّف عن وجدان مدينة مأزومة
المدينة المستباحة وسيرة الاغتراب: تسعى هذه الدراسة إلى تفكيك قصيدة «من سيرة العاشق البغدادي» عبر مقاربة تستثمر أدوات البنيوية والسيميائيات والتحليل النفسي، مع إيلاء عناية خاصة للانزياحات الدلالية وبنية الاستعارة. وتنطلق من التعامل مع كل لوحة مشهدية بوصفها نسقًا دلاليًا مكتملًا تتشابك داخله أربعة مستويات: تشكيل المكان، شبكة العلامات والرموز، الآليات النفسية الفاعلة، ولغة الانزياح الأسلوبي. يتحوّل الفتى قيس البغدادي، من خلال تكرار اسمه وتكثيف حضوره، من شخصية فردية إلى رمز جمعي يستدعي ذاكرة مدينة مثقلة بالجراح. ومن هنا يتبلور التوتر المحوري بين الذات والفضاء الجمعي الذي يحتضنها ويطوّقها في آن. لا يظهر قيس كعاشق رومانسي فحسب، بل بوصفه تجسيدًا مكثفًا لوعي جماعي مأزوم، تتقاطع فيه تجربة الحب مع شبكات الرقابة والقمع المتغلغلة في التفاصيل اليومية للمدينة المستباحة. اللوحة الأولى: "بورتريه الفتى المحاصر" اللوحة الأولى: بورتريه الفتى المحاصر ومخطوطة الصمت النص: "كانَ فتىً مِنْ فتية الزُّقاقِ... الضَّيِّقِ ضيقَ قلبِهِ الخفَّاقِ ... المحكومِ بالأطواقِ... أيامَ كانَ الحبُّ مبنيّاً... على الصمت... ومرسوماً على الأوراقِ... بالوَلَهِ المحكومِ بالأطواقِ،" التكوين البصري والمكاني: تبدأ اللوحة بصورة تحتضن الفتى داخل فضاء الزقاق، حيث يتحول المكان من مجرد خلفية إلى إطار خانق يضغط على الجسد والروح معًا. يظهر عنصر "الأوراق" ليحوّل الحب من إحساس مجرد إلى أثر مكتوب، خطوط سرية تُرسم بحذر. ومع حضور "الأطواق"، يكتمل المشهد: جسد محاصر في الزقاق، قلب محاصر في الصدر، وحب محاصر في الورقة. بنيويا: تعتمد اللوحة على هندسة التطويق؛ فالقافية الموحدة (الزقاق، الخفّاق، الأوراق، الأطواق) تعمل كأقفال صوتية تُغلق كل سطر، مضفية شعورًا بالاختناق. الحركة تنتقل من فضاء الزقاق إلى ضيق القلب، ثم إلى سطح الورقة، لتصل في النهاية إلى الانغلاق التام بالأطواق. إنها هندسة سجن دائري يطوّق المعنى. سيميائيًا: الأوراق: أيقونة البوح المؤجل والأرشيف السري؛ في زمن الصمت تصبح الورقة فمًا بديلًا، والكتابة فعلًا مقاومًا. الأطواق: علامة مزدوجة الدلالة؛ فهي من جهة زينة، ومن جهة أخرى قيد وعبودية. ومع صفة "المحكوم"، تغلب دلالة القيد، ليصبح الحب سجينًا محكومًا بالمؤبد داخل هذه الأطواق. نفسيًا: تكشف الأبيات عن آلية التسامي، فالحب الممنوع من الكلام يجد منفذه في الرسم على الأوراق. الكتابة هنا فعل علاجي يخفف ضغط الأطواق، والجمع بين "الوله" و"المحكوم" يولّد توترًا نفسيًا شديدًا يهدد بانفجار الذات. دلاليًا: يستخدم الشاعر انزياحًا دقيقًا حين يجعل الحب "مرسومًا" لا "مكتوبًا"، فيوحي بالثبات والأثر الباقي، ويحوّل الكلمات إلى صور للمشاعر. أما استعارة "الأطواق" فتجسد التقاليد والعادات كأغلال معدنية تلتف حول عنق الوله، مانحةً المعاناة النفسية وزنًا فيزيائيًا ثقيلًا. اللوحة الثانية: البرزخ الحراري وطقس الانتظار النص: "الفتى قيسُ البغداديُّ / كانَ يقفُ على رأسِ الطَرَفِ/ الحارِّ اللاهب لهيبَ قلبِه،/ ينتظرُ مرورَ ستِ الحُسْنِ والجمال/ بعباءتها المُلتفَّة بقدِّها الممشوق/ مثلَ الغزال،" التكوين الضوئي والمكاني: تنتقل الكاميرا الشعرية من عتمة الزقاق في اللوحة الأولى إلى سطوع الطرف الحار في هذه اللوحة. المشهد يقوم على تعارض صارخ: وقوف ثابت ومتوتر للعاشق في فضاء مكشوف، مقابل حركة محتجبة ومشتهاة للمحبوبة. الحرارة هنا ليست مجرد طقس مناخي، بل لون يكسو اللوحة بالأحمر والأصفر، موحّدًا بين جغرافية المكان وجغرافية الروح. بنيويا: البنية تعتمد على التدفق الحراري؛ إذ تذوب الحدود بين الخارج (الشارع اللاهب) والداخل (لهيب القلب) عبر الجسر اللغوي (لاهب/لهيب). بهذا التداخل يُلغى الفصل بين الذات والموضوع، ويغدو الانتظار فعلًا فيزيائيًا حارقًا لا مجرد مرور للوقت. سيميائيا: العباءة: تمنح المحبوبة هالة ستر ووقار، وتؤطر حضورها بثقافة الحشمة والاختفاء الجزئي. الغزال: رمز للجمال الرشيق النافر، الذي يُرى ولا يُلحق، مما يضاعف دلالة الاستحالة. نداء "ست الحسن والجمال": يستدعي مخزونًا تراثيًا يرفع صورة المحبوبة إلى مرتبة الأيقونة الجمالية، ويحوّل مرورها إلى إشارة بصرية خاطفة تكسر جدار الصمت الاجتماعي. نفسيًا: الوقوف عند "رأس الطرف" يكشف حالة ترقّب مشحونة بالرغبة والرهبة معًا؛ انتظار يتحول إلى وضع وجودي يختبر حدود الصبر والخيبة. هنا تظهر آليات نفسية مثل التعلّق الشديد، التوق إلى الاعتراف، والاستغراق في التمنّي، حيث يصبح الانتظار نفسه استراتيجية لمواجهة العزلة والحرمان، وتعويض غياب التواصل اللفظي عبر طقس بصري متكرر. دلاليًا: العباءة، أداة ستر تقليدية، تتحوّل إلى إطار إبراز يضاعف من حضور المحبوبة الرمزي. والغزال يُعاد شحنه بدلالة النفور والاستحالة، لا مجرد الرشاقة. هذا الانزياح يولّد توترًا بين القرب الجسدي (مرور الحبيبة في مدى البصر) والبعد الرمزي (تعذّر الوصول إليها)، فيحوّل المشهد إلى طقس عشق مكتوم يتكرر كشعيرة لا كحدث عابر. الخلاصة: تكشف هذه اللوحة أن العاطفة الفردية تتجاوز حدودها لتتشكّل كوضْع وجودي مشروط بالمكان والثقافة. الانتظار يغدو طقسًا اجتماعيًا وثقافيًا يربط بين الرغبة والقداسة والقيود، ويحوّل لحظة مرور عابرة إلى حدث دالّ داخل فسيفساء السيرة الشعرية بأكملها. اللوحة الثالثة: قارات الشوق والطعنة النجلاء "والتفاتتِها الذكيّةِ العابرة/ قاراتِ الشوقِ/ سهماً/ مارقاً خاطفاً/ ترميهِ سلاماً/ بطرفِ عينِها النجلاءِ/ فتطعنه طعنةً نجلاء" تقدّم اللوحة مشهدًا مكثّفًا يعتمد على التضخيم المكاني؛ فالشوق يتّسع إلى «قارات» داخل زقاقٍ ضيّق، ما يخلق اتساعًا عاطفيًا يعاكس ضيق الواقع. النظرة العابرة تتحوّل من مجرّد تحية اجتماعية إلى سهمٍ مارقٍ يجرح، فيغدو الجمال نفسه أداة ألم. بنيويًا: تمثّل هذه اللحظة الذروة العاطفية للنص؛ فهي تفجّر التوتر المتراكم منذ اللوحات الأولى، وتبرز فجوةً حادة بين الداخل المفعم بالشوق والخارج المحدود بالمكان. سيميائيًا: يشتغل الجناس بين «النجلاء» (صفة العين) و«النجلاء» (صفة الطعنة) على توليد بلاغة قاتلة: العلامة نفسها تحمل معنيين متضادين، الجمال والجرح. تصبح العين دالًا مزدوجًا: مصدر رغبة ومصدر أذى. نفسيًا: تكشف اللوحة عن تحوّل الرغبة إلى آلية تدمير ذاتي؛ فالشوق المتضخّم يجعل الذات هشّة، قابلة للانكسار بأبسط إشارة. النظرة هنا إسقاط للرغبة والعدوان معًا. دلاليًا: يتحوّل البصر إلى سلاح، والتحية إلى فعلٍ مموّه. تعمل الاستعارة والجناس على فضح الوجه الآخر للجمال؛ أن يكون جرحًا ناعمًا لكنه نافذ. الخلاصة: اللوحة تؤسس ثنائية الجمال/الألم وتُظهر كيف يتقاطع الخيال العاطفي («قارات الشوق») مع الواقع المديني لينتج مأساةً شخصية ذات طابعٍ أسطوري. اللوحة الرابعة: الذاكرة المعمارية والتمزق المشترك النص: "لا تُبقي في قلبهِ ولا تذر دَقةً/ إلّا وجعلتْها شذرَ مذر، / تتسمَّر/ على جدرانِ بيوتِ الزقأقِ/ المتصدِّعةِ" تسجّل اللوحة انتقال الشظايا الداخلية — دقات القلب الممزّقة — إلى أثرٍ مادّي على جدران الزقاق المتصدّعة. المدينة تتحوّل إلى أرشيف للجرح، والمكان يصبح مرآةً للذات. بنيويًا: توسّع هذه اللحظة الحكاية من الفردي إلى الجمعي؛ فالألم لم يعد سيرة العاشق وحده، بل أصبح علامةً مطبوعة على الجدران. إنها نقطة الوصل بين الذاكرة الداخلية والذاكرة المكانية. سيميائيًا: الجدران المتشققة ليست عنصرًا معماريًا محضًا، بل لوح تصوير تُعلّق عليه القصص الخفية. كل دقّة قلب تتحوّل إلى «مسمار» منقوش على المادة. نفسيًا: يشير التفتت إلى انهيار التماسك الداخلي؛ القلب لم يعد وحدة، بل شظايا تتساقط على الأسطح. هذا التفكك انعكاس لفشل التعبير والاحتواء. دلاليًا: يُجسَّد التجريد؛ فالعاطفة تتحوّل إلى مادة قابلة للّمس والرؤية. الانزياح هنا يجعل من الألم نصًا مدينيًا دائمًا. الخلاصة: المدينة ليست خلفية، بل شريك في كتابة السيرة. تتحوّل التجربة الفردية إلى نقشٍ على بنية المكان، ما يمنح القصيدة بعدها المديني العميق. اللوحة الخامسة: جيولوجيا الجرح وذاكرة المتناقضات النص: "لتتصدّعَ وتتشقّقَ / أكثرَ مما هي تحملُ بين طيّاتها / منْ قصصِ الحبِّ العذري / واللاعذري" تنتقل هذه اللوحة من "فيزياء الارتطام" (في اللوحة السابقة) إلى "جيولوجيا الطبقات". هنا، يكفُّ الجدار عن كونه حاجزاً صامتاً، ليصبح كائناً حياً ينوء بحملِ تناقضات التجربة الإنسانية. بنيويًا: تؤسس اللوحة لعلاقة سببية عميقة؛ فالتشقق ليس نتيجة لعوامل الزمن، بل نتيجة لـ "فائض المعنى". الامتلاء بالقصص هو الذي يفجر المادة. النص يبني هنا جدلية بين "الصلابة" (الجدران) و"السيولة" (القصص)، حيث تنتصر السيولة العاطفية فتكسر صلابة المعمار سيميائيًا : تُشكل ثنائية «العذري واللاعذري» علامةً دالة على شمولية التجربة؛ فالذاكرة المكانية لا تنتقي الطاهر وتترك المدنس، بل تحتفظ بكل شيء "بين طياتها". التصدع هنا هو علامة سيميائية دالة على "الفضح" أو "البوح القسري"؛ الجدار يتشقق ليتكلم، والشقوق هي أفواه تروي ما كان مخفياً. نفسيًا: تمثل الأبيات لحظة انهيار الكبت. الجدران (كرمز للأنا أو الوعاء الحاضن) لم تعد قادرة على احتمال ضغط الذاكرة المكبوتة. الجمع بين الحب العذري واللاعذري يشير إلى تعقيد النفس البشرية التي تحمل النقيضين، وهذا التزاحم الداخلي هو ما يؤدي إلى التصدع النفسي والمادي معاً. دلاليًا: يتحول "الشق" في الجدار من عيبٍ معماري إلى نصٍ مقروء. القصيدة تمنح المكان "باطناً" (طيّاتها)، مما يؤنسن الجماد. الجدار يتألم وينفجر لأنه يحمل "أكثر" مما صُمم لاحتماله، في إشارة إلى أن العاطفة الإنسانية أثقل وأبقى من الحجر. الخلاصة: هذه اللوحة هي لحظة "التعرية"؛ حيث ينكشف المخزون السري للمدينة. لم يعد المكان مجرد شاهد صامت، بل أصبح مشاركاً متواطئاً ينهار تحت وطأة الأسرار التي ائتُمِن عليها، مما يمهد الطريق لما سيلي من تحولات في النص. اللوحة السادسة: منظومة الرقابة والقنابل الشفهية النص: "دونَ أنْ يرفَّ جفنٌ للعادياتِ / خلفَ الأخبار / الصاحياتِ / بعيونهنَّ الوسيعةِ / وآذانِهنَّ اللاقطاتِ / ليلَ نهارَ، / وألسنتُهنَّ مِذياعً عابرٌ للأزقةِ / والبيوتِ / بألفِ ألفِ قنبلةِ شفهيّةٍ." 1. المشهد الاجتماعي والمكاني ترتفع الكاميرا الشعرية من سطح الجدار المتصدّع إلى بانوراما اجتماعية تلتقط آلة رقابية لا تنام. تتكثّف الصورة عبر امتداد الصوت والعيون والآذان في فضاءات المدينة: الأزقّة والبيوت تتساوى في النفاذ، فلا حجب ولا عتبات تحمي الداخل من الخارج. تتبدّل وظيفة المكان من الحفظ إلى الاختراق، وتغدو المدينة شبكة يقظة تستنزف العاشق زمانيًا ومكانيًا. بنيويًا: يعتمد المقطع على تراكم وصفي متصاعد يبني «وحشًا» رقابيًا مع كل إضافة: مستوى الفاعل: «العاديات» ← موضع الحركة: «خلف الأخبار» ← حالة الوعي: «الصاحيات» ← أدوات الرصد: «عيونهن الوسيعة» و«آذانهن اللاقطات» ← زمن الحراسة: «ليل نهار» ← أداة البث: «مذياع عابر». هذا التصعيد يُحكم بنية الحصار عبر مزاوجة الزمان والمكان، ويغلق منافذ الخصوصية بإيقاع حتمي يذكّر بصفارات إنذار مستمرة. سيميائيًا: العاديات: التناص: يحيل إلى سورة «العاديات» (الخيل المغيرة التي تقدح الشرر). الانزياح: يتحوّل الشرر إلى نميمة، والكرّ إلى مطاردة سمعية–بصرية؛ معركة مقلوبة تُشنّ بالكلمات لا بالسيوف. خلف الأخبار: موضع سلطة: دالّ على صناعة الحدث وتوجيهه من وراء الستار، لا مجرد نقله. الصاحيات: يقظة قصوى: نقيض الغفلة والحلم؛ حالة ترصّد دائمة تُشرعن التطفّل كواجب اجتماعي. العيون والآذان اللاقطات: تقننة الجسد: يتحوّل الجسد إلى أجهزة رصد وبث؛ إنسان–رادار/إنسان–مذياع. مذياع عابر للأزقة والبيوت: اختراق الحُجب: اللغة كإشارة كهرومغناطيسية تتجاوز الجدران والمؤسسات والحدود النفسية. ألف ألف قنبلة شفهيّة: كثرة مدمِّرة: تضخيم العدد لتمثيل عنف رمزي مُمنهج؛ كلمة كقنبلة، صيت كصاعق. نفسيًا: دون أن يرفّ جفن: بلادة انفعالية تؤشّر إلى قسوة المراقِب وتقنين التعرّي النفسي كأمر عادي. ليل نهار: استنزاف عصبي مستمر يخلق حالة قريبة من الارتياب؛ مراقبة تحرم الذات من مساحة تعافٍ داخلي. اختراق البيوت: انهيار آخر حصون الأنا؛ الخصوصية تتلاشى، فيُدفع العاشق إلى مكشوف رمزي دائم يضاعف هشاشته ويُحوّل الرغبة إلى قلق. دلاليًا: تحويل اللغة إلى سلاح: المذياع/القنابل: استعارة توفّر مشهدًا حربياً بلا بارود؛ تفجير للسمعة والروح بدل الجسد. تقاطع القرب والنبذ: عابر للأزقّة والبيوت: يقرّب الصوت ويُقصي الذات؛ يربط بين حضور الجماعة وإقصاء الفرد عبر بثّ لا يكفّ. تشييء الجماعة: العاديات/الصاحيات: الجماعة تُصاغ كآلة؛ نزع الإنسانية لتبرير الفعل الرقابي بوصفه «وظيفة» لا «تطفّل». الخلاصة: هذه اللوحة تعلن موت الخصوصية في المدينة وانتصار الرقابة الشفهية بوصفها سلطة اجتماعية متغلغلة. لا يواجه العاشق صدود المحبوبة فحسب، بل يواجه جيشًا لغويًا مرئيًا–سمعيًا يحوّل الحب إلى ساحة حرب بالكلام، حيث تُصبح الكلمة قنبلة، واليقظة حصارًا، والمدينة شبكة إنذار دائمة. اللوحة السابعة: قيس البغدادي.. درعُ اللا مبالاة النص: "الفتى قيسُ البغداديُّ / لم يكنْ يُعيرُ / للقنابلِ الشفهية انتباهاً/ فشفتُهُ متشقِقةً/ منْ فرط حرارةِ الشوق/ وجمرة التوق،/ وهي في جفافٍ مُقيم،" تمثل هذه اللوحة "نقطة ارتكاز" في القصيدة؛ فهي تفصل بين ضجيج العالم الخارجي (العاديات) وبين الصمت المدوّي في العالم الداخلي للعاشق. يظهر البطل هنا باسمه وصفته، معلناً استراتيجيته في المواجهة: التجاهل. بنيويًا: تعمل هذه الأبيات كـ "كاسر أمواج". بعد التدفق الصاخب لأوصاف العيون والآذان والقنابل في اللوحة السابقة، يأتي هذا المقطع بجملة خبرية هادئة وقاطعة. الانتقال من "نون النسوة" (لسلطة المجتمع) إلى "ياء المفرد الغائب" (الفتى) يعيد تركيز العدسة على الذات المتوحدة التي ترفض الاشتباك مع التافه. سيميائيًا: "قيس البغدادي"، استدعاء لأسطورة "قيس بن الملوح" (مجنون ليلى) وإسقاطها على الجغرافيا "البغدادية". هذا المزج يمنح العاشق هوية مزدوجة: هو امتدادٌ للتاريخ العذري، وهو ابنٌ للمدينة المعاصرة وأزقتها. الاسم هنا يصبح "قناعاً" يرتديه الشاعر ليحتمي بالأسطورة. "لم يكن يعير انتباهاً"، علامة سيميائية على "الانفصال" عدم الانتباه للقنابل ليس صمماً، بل هو "تعالٍ"؛ فالعاشق منشغل بصوتٍ داخلي أعلى وأقوى من ضجيج القنابل. نفسيًا: تُظهر اللوحة آلية دفاعية تُعرف بـ "الإنكار الانتقائي". العاشق يحمي ذاته الهشة من التمزق برفض الاعتراف بوجود التهديد الخارجي. إنه غارق في "الداخل" لدرجة أن "الخارج" يتلاشى. هذا الهدوء الظاهري يخفي تحته غلياناً سيظهر أثره في اللوحة التالية (على الجسد). دلاليًا: تجريد "القنابل الشفهية" من فاعليتها. القنبلة صُممت لتفجر وتلفت الانتباه، وعدم الانتباه لها يبطل مفعولها الدلالي. الشاعر هنا ينتصر على سلطة المجتمع بتحويل أسلحته الفتاكة إلى "عدم" عبر سلاح "اللا مبالاة". الخلاصة: هذه اللوحة هي لحظة "تسامي". "قيس البغدادي" لا يهرب من المعركة، بل يترفع عنها. إنه يخبرنا أن الخطر الحقيقي ليس ما يُقال عنه في الأزقة، بل ما يحدث في "شفتيه" وقلبه. وبناءً على ذلك، تصبح اللوحة التي أوردتها في تعليقك هي اللوحة الثامنة، وتأتي كنتيجة مباشرة لهذا الانفصال عن الخارج والاحتراق في الداخل: اللوحة الثامنة: الجسدنة والجفاف الوجودي النص: "فشفتُهُ متشقِقةً/ منْ فرط حرارةِ الشوق/ وجمرة التوق،/ وهي في جفافٍ مُقيم" هنا يظهر السبب الحقيقي لعدم اكتراثه بالقنابل الخارجية؛ فالنار الداخلية أشد وطأة. بنيويًا: تمثّل هذه اللوحة انتقالاً من "الخارج الاجتماعي" (الذي تجاهله في اللوحة 7) إلى "الداخل الجسدي" (الذي يفتك به في اللوحة 8). "الفاء" في (فشفته) هي فاء السببية والنتيجة، تربط حالة قيس بصورته الجسدية. سيميائيًا: تشقق الشفاه علامة أيقونية مزدوجة؛ فهي تشير إلى: تعطّل الكلام: العجز عن التعبير والرد على القنابل الشفهية. استحالة القبلة: العجز عن الوصل، وانقطاع الارتواء (العطش العاطفي). يصبح الجسد "وثيقة إدانة مرئية"؛ فالشفاه تفضح ما يحاول اللسان ستره بالتجاهل. نفسيًا: الجفاف الدائم («مقيم») يكشف عن فشل آليات التوازن النفسي والبيولوجي. العاشق يدخل في حالة استنزاف داخلي طويل الأمد، حيث تحولت الطاقة النفسية (الشوق) إلى عرض جسدي مرضي (تشقق). دلاليًا: تتحوّل العاطفة المجردة (الشوق) إلى حرارة فيزيائية و«جمرة» محسوسة. يُضفي الانزياح ملموسية على الألم، فيصبح مرئيًا للآخرين. قيس الذي تجاهل "كلام الناس"، لم يستطع تجاهل "كلام جسده". الخلاصة: اللوحة ترسّخ أن الألم عند "قيس البغدادي" ليس مجرد حالة شعورية عابرة، بل هو وضع وجودي يعيد تشكيل تضاريس جسده كما تشكلت تضاريس جدران المدينة المتصدعة. اللوحة التاسعة: التوأمة الصوتية والسمع الانتقائي النص: "الفتى قيسُ البغداديُّ/ كانَ يحبُّ فريدَ الأطرش/ وصوتُهُ/ سبحانَ الله/ كأنّهُ توأمُ الأطرش.. ولم يكْ قيسُ البغداديُّ أطرشاً بالزفَّةِ/ - معاذ اللهّ -/ فأذناهُ حسّاستانِ/ تلتقطانِ/ صوتَ الحبيبة/ ووقْعَ خُطاها/ منْ بدايةِ الزقاقِ" هنا ينتقل النص من "العين" التي ترصد الخارج (في اللوحات السابقة) إلى "الأذن" التي تنتقي ما تسمع. قيس ليس مجرد مستمع، بل هو "توأم" للحزن الطربي. بنيويًا: يقوم هذا المقطع على توظيف ذكي لمفردة «الأطرش» في أكثر من سياق دلالي. فريد الأطرش يمثل أيقونة فنية للحزن والشجن. "توأم الأطرش" تشير إلى حالة تماهِ ذاتي؛ فصوت قيس امتداد لحزنه، ما يجعله شريكًا في إنتاج الفن لا مجرد متلقي له. أما "أطرش بالزفّة" فهي استحضار للمثل الشعبي بغرض نفيه؛ إذ يأتي النفي "لم يك أطرشًا بالزفّة" تأكيدًا على وعي البطل، فهو غير غائب عن ضجيج «القنابل الشفهية»، بل يتعمّد إقصاءها بوعي كامل. سيميائيًا: يتحوّل السمع في هذا المقطع إلى نوع من «الرادار العاطفي». فبينما يمتلك المجتمع «آذانًا لاقطة» للنميمة (كما في اللوحة السادسة)، يمتلك قيس «أذنين حسّاستين» لالتقاط الجمال. قدرته على سماع «وقع الخطا» منذ «بداية الزقاق» توحي بعلاقة روحية تتجاوز حدود المحسوس؛ كأنه يصغي إلى ما لا يُسمع. أما استعارة «توأم الأطرش» فتكشف سيميائيًا أن قيس البغدادي هو وريث الألم الشرقي الرومانسي، وأن صوته المبحوح ليس إلا رجع صدى لذاك التاريخ الطويل من الشجن. نفسيًا: يأتي نفي صفة «أطرش بالزفّة» بوصفه فعلًا من أفعال تأكيد الذات؛ فقيس يرفض أن يُختزل في صورة الغافل عمّا يدور حوله. إنما يختار عزل نفسه إراديًا عن ضجيج «القنابل الشفهية» ليُسخّر حواسه كلها للإصغاء إلى «صوت الحبيبة». هذه الاستراتيجية النفسية تجسّد آلية "التركيز الانتقائي"التي تتيح له النجاة من التلوث السمعي المحيط به. دلاليًا واستعاريًا: تَرِد كلمة "حسّاستان" في مقابل «اللاقطات» عند العاديات، فينشأ انزياح دلالي يميّز بين نوعين من الالتقاط: فالحساسية هنا تعني الرقة والقدرة على الشعور، بينما يدلّ «الالتقاط» هناك على التجسس والترصّد. وبهذا يعيد النص الاعتبار لحاسة السمع، جاعلًا منها بوابة للحب لا أداة للأذى. الخلاصة: هذه اللوحة تعيد تعريف "الصمم". المجتمع الذي يسمع كل شيء هو "الأطرش" عن الجمال، بينما قيس الذي يتجاهل المجتمع هو "السميع" الوحيد للحب. الموسيقى وصوت الحبيبة هما الدرع الذي يحمي "أذنيه" من قنابل الكلام. اللوحة التاسعة: جغرافيا الكفاح وسقوط القيم النص: "منْ بدايةِ الزقاقِ/ حتى رأس الشارع الطويل/ - شارعِ الكفاحِ -/ منْ أجلِ قلبِه المُتيَّم بالحُسنِ/ والعيونِ السُّودِ/ والعدلِ الضائعِ/ بين الأرجلِ/ والغيلان" تغادر القصيدة فضاء «الزقاق» الضيّق لتواجه قدرها في «الشارع الطويل». عند هذه العتبة يلتقي الفضاء الرومانسي (العيون السود) بالواقع السياسي والاجتماعي الفاجع (العدل المهدور). بنيويًا: يؤسس النص لتوازي خطير بين المسار المكاني والمسار القيمي: المكان: يتّسع الفضاء من الزقاق الحميمي إلى «شارع الكفاح». تسمية الشارع ليست إحداثية جغرافية فقط، بل بنية دلالية؛ فحياة العاشق نفسها مسار كفاح طويل لا يعرف الانتهاء. الدافع: "قلب متيّم بالحسن والعيون السود" يمثّل البعد الجمالي/الرومانسي في التجربة. النتيجة: الارتطام بـ «العدل الضائع بين الأرجل والغيلان»، وهو البعد التراجيدي الذي تخلّفه هذه الرحلة. أما النهاية المفتوحة بعلامات الحذف (…)، فتومئ إلى أن الضياع حالة مستمرة لا تُغلق سيميائيًا: "شارع الكفاح" علامة أيقونية تحيل إلى بغداد وإلى معاناة طبقية واجتماعية متجذّرة. "العيون السود" رمز كلاسيكي للجمال العربي، يجسد حلم قيس وبراءته المنشودة. "بين الأرجل" إشارة سيميائية فاجعة إلى الامتهان والسحق والدوس على القيم؛ فالعدل هنا لم يختفِ فقط، بل تعرّض للإهانة. «الغيلان» استعارة أسطورية لقوى غاشمة ومتوحّشة – سلطةً كانت أو خوفًا أو فسادًا أو تقاليد – تنهش الجمال والعدل في آن واحد. نفسيًا: المقابلة بين "المتيم بالحسن" و"الغيلان" تعكس الصدمة النفسية التي يعيشها الفرد البغدادي. هو يبحث عن الحب والجمال (العيون السود)، لكنه يجد نفسه في مواجهة وحوش الواقع. الشعور بـ"الضياع" هنا ليس تهاوناً، بل هو قهر؛ لأن العدل "تحت الأرجل"، أي أن الفرد مسحوق تماماً ولا يملك القدرة على الانتصاف لنفسه. دلاليًا: يقع انزياح حاد في دلالة «العدل»؛ فبعد أن كان من المفترض أن يحلّ في موضع القامات العالية والرؤوس أو في فضاءات المحاكم، يُطرَح هنا «بين الأرجل». هذا السقوط المكاني لقيمة معنوية سامية يكثّف مأساة المدينة برمّتها. وفي ظل أرض يُداس فيها العدل وتُطلَق فيها الغيلان، يغدو الحب (العيون السود) عاجزًا عن الازدهار. تُحكِم القصيدة قوسها الأخير بمشهد صادم؛ فها هو قيس البغدادي، شبيه فريد الأطرش ذو السمع المرهف، يستقر في نهاية المطاف وحيدًا في "شارع الكفاح" في مواجهة الغيلان. لا تعود القصيدة مجرد مرثية لحب مهدور، بل تتحوّل إلى وثيقة اتهام لمدينة/ واقع تُسحَق فيه أسمى القيم، وفي مقدمتها «العدل» الملقى تحت الأقدام، تاركة العاشق وحلمه غنيمة لوحشية لا ترحم. خاتمة تتبدّى قصيدة "من سيرة العاشق البغدادي" لعبد الستار نورعلي بوصفها نصًا يتجاوز البنية العاطفية المباشرة إلى فضاء دلالي أكثر تعقيدًا، حيث تتشابك التجربة الفردية مع طبقات الذاكرة الجمعية لمدينة بغداد. فالعشق في هذا النص لا يُقدَّم كحالة وجدانية معزولة، بل بوصفه حقلًا دلاليًا تتقاطع فيه الذات مع المكان، وتتعرّى عبره تصدّعات الحياة اليومية وأثر التحوّلات التاريخية والاجتماعية في تشكيل الحسّ العاطفي والهوية الوجدانية. وتعمل القصيدة على تحويل العناصر الحضرية – الزقاق، الجدران المتصدّعة، النظرات الخاطفة، الأصوات المتسرّبة، العلامات البصرية والسمعية – إلى بنية رمزية تؤدي وظيفة مزدوجة؛ فهي من جهة تُجسِّد حضور العاشق وقلقه وحنينه وجفافه الوجودي، ومن جهة أخرى تُقدِّم شهادة شعرية على مدينةٍ تعيش توتّراتها بين الماضي والراهن، بين الرغبة في الحياة وآليات القمع والمراقبة والعنف الرمزي. بهذا المعنى، لا يعود المكان إطارًا خارجيًا محايدًا للحدث العاطفي، بل يغدو فاعلًا نصيًا رئيسًا يوجّه الإيقاع الشعوري، ويشارك في بناء مسار السيرة المجتزأة للعاشق البغدادي. وتُظهر القراءة – عبر تتبّع العتبة النصية واللوحات المشهدية والانزياحات الدلالية – كيف ينجح النص في جعل قصة حب فردية مدخلًا لقراءة أوسع لتحوّلات المدينة العراقية، ولأشكال الاغتراب والمحاصرة التي يعانيها الفرد في فضاء مديني مأزوم.
#سهيل_الزهاوي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قصة قصيرة.. فجر في مدينةٍ مخنوقة
-
حاجي ژن.. حين تغدو المرأة وطناً يُؤوي الأرواح
-
بين الرغبة والتمرد: قراءة بنيوية وسيميائية ونفسية ونسوية لقص
...
-
من الغزل إلى الالتزام: الحبيبة كقناع للوطن والفكر: في قصيدة
...
-
الشوق والغياب في رباعية الشاعر القدير يحيى السماوي: قراءة نق
...
-
قالوا: تدلّل! قلتُ: لا! - الشعر كفعل مقاومة أخلاقية دراسة ما
...
-
الألم و العشق والفناء والخلود: مقاربة وطنية وفلسفية لومضة يح
...
-
بين الظلال والنور: قراءة نقدية في قصيدة -لا تكن معتما…- للشا
...
-
ومضة الهوية: صراع الذات والوطن في النص الشعري للشاعر الكبير
...
-
تموز: انبعاث الثورة وانبثاق الحرية من قلب المعاناة، في قصيدة
...
-
حين يضحك الشهيد قبل المقصلة
-
رمزية المرأة وقضية التحرر في قصيدة -العنقاء- للشاعر عبد الست
...
-
من -خبز أمي- إلى -قضبان الضلوع-: قراءة رمزية في ومضة شعرية -
...
-
بين الهبة والسُّلطَة: قراءة في قصيدة -إنّما الدنيا لِمن وَهَ
...
-
عهدي وكلمتي
-
الجندي، الهذيان، والخذلان الكبير قراءة في قصيدة -العمائم- لل
...
-
مواويل عشق للشاعرة: كريمة الحسيني: دراسة نقدية في تكوين الحب
...
-
وطنٌ معلق بين الحب والخذلان قراءة نقدية لقصيدة -حبُّ امتناعٍ
...
-
لوحة المنزل* / للشاعر النرويجي أرنولف أوفيرلاند
-
الصمود والتحدي: قراءة في الأبعاد النفسية والاجتماعية والسياس
...
المزيد.....
-
الأونروا تطالب بترجمة التأييد الدولي والسياسي لها إلى دعم حق
...
-
أفراد من عائلة أم كلثوم يشيدون بفيلم -الست- بعد عرض خاص بمصر
...
-
شاهد.. ماذا يعني استحواذ نتفليكس على وارنر بروذرز أحد أشهر ا
...
-
حين كانت طرابلس الفيحاء هواءَ القاهرة
-
زيد ديراني: رحلة فنان بين الفن والشهرة والذات
-
نتفليكس تستحوذ على أعمال -وارنر براذرز- السينمائية ومنصات ال
...
-
لورنس فيشبورن وحديث في مراكش عن روح السينما و-ماتريكس-
-
انطلاق مهرجان البحر الأحمر السينمائي تحت شعار -في حب السينما
...
-
رواية -مقعد أخير في الحافلة- لأسامة زيد: هشاشة الإنسان أمام
...
-
الخناجر الفضية في عُمان.. هوية السلطنة الثقافية
المزيد.....
-
زعموا أن
/ كمال التاغوتي
-
خرائط العراقيين الغريبة
/ ملهم الملائكة
-
مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال
...
/ السيد حافظ
-
ركن هادئ للبنفسج
/ د. خالد زغريت
-
حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني
/ السيد حافظ
-
رواية "سفر الأمهات الثلاث"
/ رانية مرجية
-
الذين باركوا القتل رواية
...
/ رانية مرجية
-
المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون
...
/ د. محمود محمد حمزة
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية
/ د. أمل درويش
المزيد.....
|