أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - نهاد السكني - رحلة إلى شبرا من السلام… مغامرات جمع الأجرة على الطريق الدائري














المزيد.....

رحلة إلى شبرا من السلام… مغامرات جمع الأجرة على الطريق الدائري


نهاد السكني

الحوار المتمدن-العدد: 8545 - 2025 / 12 / 3 - 14:16
المحور: قضايا ثقافية
    


بعد تجربتي الطويلة مع إشارات الميكروباص، لم تكن هذه أول رحلة لي بالطبع، لكن كانت أول مغامرة حقيقية لأكون “مدير المالية” للعربية.
الذهاب من موقف السلام إلى معهد ناصر للأورام في شبرا على الورق يبدو طريقًا بسيطًا، لكن على أرض الواقع يتحوّل إلى مسرحية اجتماعية كاملة، يشارك فيها الركاب أدوارًا متعددة، حيث يصبح طقس جمع الأجرة محورًا أساسيًا، نظامًا اجتماعيًا قائمًا على الثقة والتعاون والفهم الفطري بين الغرباء.
ركبت الميكروباص، وكنت أعلم أن الرحلة لن تبدأ إلا بعد اكتمال العدد: 14 راكبًا، منهم 2 بجانب السائق. هذه ليست مجرد قاعدة عابرة، بل طقس بداية الرحلة الذي يربط بين الجميع، ويخلق شعورًا جماعيًا بأن كل شخص مسؤول عن تحريك العربة واستمراريتها. وبمجرد اكتمال العدد، تبدأ الحركة: الطريق، الحسابات، الحركات الدقيقة للأيدي، الوجوه، كل شيء يصبح جزءًا من المشهد.
بداية الطقس
ما إن اكتمل الركاب، حتى انطلقت العربية نحو الطريق الدائري.
الركاب صعدوا واحدًا تلو الآخر، كل وجه يحمل جزءًا من حكاية القاهرة. شاب صغير من آخر الصف سلّمني ورقة 50 جنيه قائلاً بثقة المصريين:
“مع شبرا يا كبير… وهاتلي الباقي.”
ورقة كبيرة؟ وباقي؟
وأنا الذي بالكاد أتذكر تسلسل الإشارات، أصبح فجأة أمين صندوق الرحلة.
بدأت حركة اليدين والأوراق تتحرك بطريقة متواصلة:
يد تمتد من الصف الثاني لتسليم ورقة صغيرة.
يد أخرى تظهر من النافذة تحمل بعض الفكة المعدنية.
امرأة تشير من الخلف: “هات لي معاه… شبرا برضه.”
صوت خافت: “معايا 5 لو عايز تفكها.”
رجل من الأمام يطلب من السائق: “اتنين شبرا يا حج.”
الميكروباص كله يتحول إلى شبكة حسابات بشرية، بلا ورق، بلا قلم، مجرد ثقة متبادلة وفهم ضمني لكل من على الخط.
الطريق الدائري… شريان القاهرة الحيوي
أحد أسرار سرعة رحلتنا كان الطريق الدائري نفسه. هذا الطريق ليس مجرد طريق عابر… بل شريان استراتيجي يسهّل حركة القاهرة المزدحمة.
يمرّ حول المدينة، يربط بين الميادين الكبرى والمناطق الحيوية، ويختصر الوقت والمسافة لأي خط من السلام إلى شبرا أو إمبابة.
مع بداية الصباح، حتى في الزحمة المعتادة، يوفر الدائري مسارًا ثابتًا وسريعًا، يسمح للميكروباص بالالتزام بمواعيده، ويعطي الركاب شعورًا بالطمأنينة، رغم صخب المدينة وضوضائها.
وعلى هذا الطريق، يمكنني مراقبة كل حركة، كل سائق يحاول التقدم بين السيارات، وكل راكب يلتقط تلميحات الإشارات الصغيرة بين الزملاء في الرحلة.
عاصفة الفكة
كانت أزمة كبيرة: طلوعنا الساعة 6 صباحًا، ومعظم الركاب لا يملكون فكة أو فضية لتسهيل الدفع.
وصلتني ثلاث أوراق جديدة، وفكة قليلة جدًا لتغطية كل الركاب، وكان عليّ أن أوازنها بدقة، بين الورق والفكة المعدنية، كل شيء يتحرك بسرعة مع اهتزاز العربية على الطريق الدائري، ومع ضغط الزحمة.
وبينما العربية تهتز، والطريق مزدحم، ظهر تعاون الركاب البسيط والجميل:
“حط دي على دي وهاتلي اتنين.”
“لا يا باشا… دي بتاعت الست اللي وراك.”
“استنى… أنا هفكلك العشرة.”
حتى في هذا الصباح الباكر، لم يشتكِ أحد، ولم يرفع أحد صوته، ولم يطلب أي شخص معاملة خاصة.
الثقة الجماعية كانت أقوى من أي فكة أو ورقة نقدية. شعرت بأن كل شخص على الخط جزء من نظام اجتماعي دقيق، لا يُكتب ولا يُعلّم، لكنه يُفهم instinctively.
المؤسسة وجمع الأجرة الفردي
توقفت العربية عند المؤسسة، محطة القطار والمترو.
نزل بعض الركاب، وصعد آخرون، من المتجهين إلى المظلات–شبرا أو إمبابة.
مع تبدّل الوجوه، عاد طقس جمع الأجرة، لكن هذه المرة فردي لكل راكب، مع ظهور تقليد عملي رائع يسهل الحساب:
أحد الركاب دفع 100 جنيه، وعادة يقول: “1 من 100”، ثم يعطيه جاره الذي بجانبه أجرته، فيرد قائلاً: “2 من 100”… هكذا يسهل تتبع من دفع وما تبقى، وكأنها لغة سرية لتنظيم الرحلة.
وعندما سلّمت أحد الركاب الباقي بعد دفعه، قال لي بابتسامة:
“إنت بقيت من أهل الخط.”
ضحكت، وشعرت بالانتماء الذي أرافقه دائمًا، ليس لأول مرة، للتقدير والاحترام لهذا الشعب الرائع الذي يعرف كيف يجعل كل شيء بسيطًا، حتى جمع الأجرة، جزءًا من نظام اجتماعي متقن، مليء بالاحترام والثقة.
لوحة فنية: النيل والكوبري المعلّق
بعد المؤسسة، بينما تسير العربية نحو شبرا، انفتح الطريق فجأة على مشهد يستحق التأمل والتوقف:
النيل يمشي بهدوئه الأبدي، يعكس ضوء الشمس على المياه.
الكوبري المعلّق الجديد نحو الورّاق، أعمدة وكابلات تتلألأ في الشمس وكأنها رسمة فنية.
هندسة حديثة تتحدى الزمن، وكأن القاهرة تقول: “قديمة أنا… لكني أبدع كل يوم.”
العربية تهتز فوق الأسفلت، لكن المشهد ثابت، لوحة مرسومة بدقة، تجعل كل رحلة أكثر من مجرد تنقل، بل تجربة فنية وحضارية متكاملة.
شبرا ومعهد ناصر
ظهرت لافتة معهد ناصر، ونزلت وأنا أشعر أنني لم أتعلم لغة الإشارة فقط…
بل تعلمت لغة الناس: لغة لا تُكتب، ولا تُعلّم، لكنها تُفهم بالقلب والمشاركة.
رحلة قصيرة، لكنها مليئة بالإشارات، وجمع الأجرة، والمشاهد، والوجوه… درس مصغر في القاهرة، مليء بالحياة، التعاون، والثقة التي تجعل من الميكروباص أكثر من وسيلة نقل: تجربة اجتماعية بامتياز.



#نهاد_السكني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لماذا تتمدّد القاهرة شرقًا وغربًا وجنوبًا… وتتوقف شمالًا؟ قر ...
- الإنسان بين العلم ووهْم المركزية : حتى لو انقرض البشر… ستستم ...
- تحليل الذكاء البشري: الخريطة الجينية، التحدي البيئي، وإرادة ...
- غزة بين الجوع والركام… والرحلة الغامضة من مطار رامون إلى نير ...
- الإمبراطورية اليابانية بين التاريخ والنهضة: ما الدروس الواقع ...
- الذين يعودون مع اكتمال القمر
- وزارة الصحة الفلسطينية: خطوات نحو رقمنة النظام الصحي وتعزيز ...
- سُرّة العالم التي لا تسقط، غزة… المدينة التي تُولد من رمادها
- الديكتاتورية الرقمية: حين يرى إيلون ماسك الحقيقة التي يريدها
- دور الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الرقمية في تشغيل المتحف ال ...
- الديكتاتورية الرقمية: بين الخوارزميات والجماهير
- الديكتاتورية الرقمية: المزرعة السعيدة كانت تدريبًا للسيطرة ع ...
- الديكتاتورية الرقمية: كيف تم استخدام هندسة البيانات والتحول ...
- الإنسان القادم من المختبرات
- هل الموت خلل بيولوجي؟
- الجينوم البشري في قبضة الذكاء الاصطناعي: خصوصيتك مهددة من فن ...
- بين التمويل والسيطرة: تحوّلات اليسار واليمين في المشهد الأهل ...
- مستقبل مصر في الذكاء الاصطناعي واستكشاف الفضاء: من الأرض إلى ...


المزيد.....




- إسرائيل: ما تسلمناه من حماس -لا علاقة له- بالرهائن المتوفين ...
- ترامب: لا نريد الصوماليين في الولايات المتحدة وأدعوهم للعودة ...
- توقيف مسؤولة أوروبية سابقة بشبهة الاحتيال المالي
- الأمير محمد بن سلمان يصل البحرين وميلوني تحل ضيفة على القمة ...
- روبيو يتحدث عن -بعض التقدم- والكرملين يقول إن -لا تسوية- حول ...
- مخزون سدود طهران لا يتعدى نصف ما كان عليه العام الماضي
- تقرير: الرئيس الأميركي -يضغط- على إسرائيل للتهدئة مع دمشق
- ترمب: أي دولة تهرب المخدرات لأميركا معرضة للهجوم
- رئيس هندوراس السابق خارج السجن إثر عفو ترمب عنه
- ترمب يلغي قرارات العفو التي أصدرها بايدن بالتوقيع الآلي


المزيد.....

- علم العلم- الفصل الرابع نظرية المعرفة / منذر خدام
- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية / د. خالد زغريت
- الثقافة العربية الصفراء / د. خالد زغريت
- الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس / د. خالد زغريت
- المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين ... / أمين أحمد ثابت
- في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي / د. خالد زغريت
- الحفر على أمواج العاصي / د. خالد زغريت
- التجربة الجمالية / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - نهاد السكني - رحلة إلى شبرا من السلام… مغامرات جمع الأجرة على الطريق الدائري