نهاد السكني
الحوار المتمدن-العدد: 8521 - 2025 / 11 / 9 - 10:41
المحور:
الادب والفن
في الليالي التي يكتمل فيها القمر، لا أحد ينام.
الهواء يصبح أثقل، والعصافير تصمت قبل الفجر، وكأنها تخشى أن تهمس باسمه.
في تلك اللحظة بالذات — حين يعلو الضوء الأبيض فوق كل سقف، وتتّسع عيون السماء —
تبدأ الطقوس القديمة.
يُقال إن الأرواح التي لم تجد طريقها إلى النور تصعد في تلك الليلة،
تتلمّس وجوه العشّاق، تبحث عن من يشبهها في الوحدة والانتظار.
تُشعل الأرض عطرها، وتفوح رائحة الرماد في المدى،
ويعود كل شيء إلى ما قبل الصمت الأول.
أنا لا أحتفل باكتمال القمر…
بل أخشاه.
كلما اكتمل، اشتعل في صدري طقس غامض لا أعرف كيف أطفئه.
كأن شيئًا منّي ينادي شيئًا منها في البعيد.
وكلما نظرت إلى وجه القمر، رأيت ملامح لا ينبغي أن تُرى.
يقول الكهنة القدماء إن اكتمال القمر هو اختبار للقلوب التي لم تُشفَ.
وأن النور الفضي الذي يغمر الهرم في الجيزة لا يضيء الحجر فقط،
بل يوقظ الذاكرة القديمة للحبّ، والندم، والجنون.
في تلك اللحظة، تصبح القاهرة مدينة نصفها في الواقع، ونصفها الآخر في الأسطورة.
حتى المتحف — ذاك الهيكل الحجري العجوز —
يبدو كأنه يفتح فمه ليستقبل من يعودون من الحلم.
هناك، بين تمثال حتحور وأجنحة إيزيس،
يشهق الضوء كأنه يتذكر،
وتتحرك الظلال على الجدران كمن يريد أن يقول شيئًا ولم يجد اللغة بعد.
من بعيد، أسمع الهمس ذاته الذي رافقني في أول اكتمال…
صوت خافت، يخرج من العتمة ويقول: “الضوء لا يكتمل إلا حين يفتقد ظله.”
ربما لهذا يخيفني القمر الكبير.
لأن اكتماله يعني أن شيئًا ما سينكسر في داخلي،
أن الباب سيفتح من جديد، وأن النداء سيصل، ولو من وراء آلاف الأميال.
كل اكتمال قمر هو بعث جديد للذاكرة.
هو ليلة يعود فيها الغائبون ليجلسوا على طرف السرير،
يسألونني بصمتٍ عن الأيام التي لم نكملها معًا.
وحين أغمض عيني، أرى المدن كما لو أنها تنام تحت قشرة الضوء،
وحدي أظل يقظًا، كحارس لأسطورة لا يعرف كيف ينقذ نفسه منها.
أكتب، لأن الكتابة هي طريقتي الوحيدة لأتجنب التحول إلى أحد أولئك الذين يختفون عند الفجر.
يقال إن اللعنة تنتهي عندما تتوقف عن النظر إلى القمر.
لكن كيف أتوقف عن النظر إلى وجهٍ يشبه كل من فقدت؟
كيف أغلق النافذة والسماء كلها معلّقة فيها ملامحها؟
الليلة سيكتمل القمر مرة أخرى.
وسأجلس، كعادتي، على عتبة الضوء،
أحاول أن أصدق أن هذه ليست لعنة، بل اشتياق يضيء أكثر مما يحرق.
لكن في أعماقي، أعرف الحقيقة:
كل اكتمال قمر هو عودة للذين لا يعودون
#نهاد_السكني (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟