محمد عبد الكريم يوسف
مدرب ومترجم وباحث
(Mohammad Abdul-karem Yousef)
الحوار المتمدن-العدد: 8536 - 2025 / 11 / 24 - 07:07
المحور:
قضايا ثقافية
---
الملخّص التنفيذي (Abstract)
تتناول هذه الدراسة مفهوم «ثقافة الميليشيات» كمجموعة من القيم والسلوكيات والطقوس المؤسساتية التي تهيئ الأعضاء لارتكاب العنف وتطبيع الإفلات من العقاب. ترتبط نشأة الميليشيات بعوامل بنيوية (فشل الدولة، ضعف خدمات العدالة والأمن، وجود موارد مجزية)، نفسية‑اجتماعية (البحث عن الانتماء والهوية، الانتقام، الندوب التاريخية)، وسياسية (استدعاء من النخب، صفقات مع الدولة، تدخل خارجي). من خلال ثلاث دراسات حالة — أفغانستان (برامج الشرطة المحلية المدعومة دوليًا)، دارفور/السودان (التحول من عصابات مسلحة إلى قوة شبه نظامية)، والعراق/المنطقة (ميليشيات طائفية وسياسية) — تُظهر الدراسة كيف تترسخ ثقافات الميليشيات وتتفجّر تبعاتها على المجتمع والدولة. تختتم الدراسة بتوصيات عملية لسياسات العدالة والمساءلة، برامج الإدماج الاقتصادية، إصلاح الأجهزة الأمنية، وبناء مناعة مجتمعية ضد خطاب التحريض.
---
1. مقدّمة وإشكالية البحث
تُشكِّل الميليشيات ظاهرة متنامية في مناطق نزاع متعددة. ليست المشكلة مجرد وجود مجموعات مسلحة، بل الثقافة الداخلية التي تتشكّل داخل هذه الجماعات وتحوّل أفرادًا عاديين إلى لاعبين فاعلين في دوائر العنف المتجددة. هذه الثقافة — بما فيها الأساطير البطولية، طقوس الشهادات، أنظمة المكافأة والعقاب، وخطاب التجريد من إنسانية الضحية — تُعيد إنتاج العنف وتُضعف إمكانات السلام الطويل الأجل. الهدف من البحث هو: (1) تشخيص جذور تكوين الميليشيات، (2) تفصيل آليات الثقافة الداخلية التي تُشرعن العنف، (3) دراسة علاقات الميليشيات مع الدولة والنخب، و(4) اقتراح سياسات عملية للمواجهة والوقاية.
---
2. الإطار النظري والمراجعة الأدبية
2.1 تعاريف ومفاهيم أساسية
الميليشيا: مجموعة مسلّحة منظمة خارج القوات النظامية الرسمية، قد تعمل بحماية محلية أو تمثّل مشروعًا سياسياً/اقتصاديًا.
ثقافة الميليشيا: منظومة القيم، القواعد، الطقوس، والممارسات التي تنشئ هوية جماعية وتؤسّس لقبول العنف كأداة شرعية داخل الجماعة.
تفويض العنف (delegation of violence): نظرية تفترض أن الدول أو النُّخب قد تستدعي ميليشيات للقيام بأعمال لا ترغب الدولة الرسمية بالانخراط المباشر فيها. الأدبيات الحديثة تناقش هذه الفكرة وتَبِين أن العلاقة بين الدولة والميليشيات أكثر تعقيدًا ممّا افترض سابقًا، وأحيانًا يكون العنف عنيفةً متبادلة بين الطرفين.
2.2 مراجعة بعض الأعمال المركزية
Stathis Kalyvas: تحليل منطق العنف في الحروب الأهلية وضرورات فهم التفاعل بين الجماعات المتمرِّدة والميليشيات المحلية.
Jeremy Weinstein: «Inside Rebellion» وتحليل دوافع الانضمام (مادية/أيديولوجية) وأثر بنية الجماعة على سلوك القتال.
دراسات PRIO وJournal of Conflict Resolution: تقييم أنماط تفويض العنف وعلاقة الدولة بالعنف الجنسي في النزاعات.
---
3. منهج البحث
استخدمت هذه الدراسة منهجًا نوعيًا-تقريريًا يجمع بين: قراءة نقدية للأدبيات (ثانوي)، تحليل تقارير حقوقية ومؤسسية (Human Rights Watch، International Crisis Group، تقارير الأمم المتحدة)، ودراسات حالة مركّزة لتوضيح آليات تشكّل الثقافة الميليشياوية. لم تُجرَ مقابلات ميدانية في هذا البحث (نطاقه تحليلي‑تطبيقي)، لكنه يستند إلى مصادر ميدانية وتقارير موثوقة.
---
4. أسباب تكوين الميليشيات: بنية وميكانيكيات
4.1 أسباب بنيوية وسياسية
فشل الدولة ومأساة الوفاق: غياب القدرة أو الإرادة في توفير الأمن والعدالة يدفع السكان للبحث عن حماية بديلة. في حالات كثيرة تمثل الميليشيات استجابة محلية لثغرات جهاز الأمن.
الاقتصاد الحافزي: موارد مالية أو حاجة للغنيمة أو وظائف تهريبية تجعل من الانضمام خيارًا اقتصاديًا.
تحريض النخب وسياسات التفريق: استغلال الانقسامات الإثنية/الطائفية من قِبل نخب سياسية تُموّل أو تُوجّه ميليشيات كأداة ضغط أو قمع.
4.2 أسباب نفسية‑اجتماعية
الانتماء والهوية: يشعر البعض بأن الميليشيا تمنحهم هويّة ووظيفَة اجتماعية في جسد يفتقر لفرص محترمة.
الانتقام والثأر: تجارب عنف سابقة تدفع الأفراد نحو مجموعات تعدهم بالثأر وإرجاع الكرامة.
التنشئة داخل المجموعة: طقوس الاستقبال، التجارب المشتركة، والسرد البطولي تُشكّل ذهنية تقبل العنف كقيمة صالحة.
---
5. ثقافة الميليشيات: عناصرها وبُنيتها الداخلية
5.1 السرد والمرويات
الميليشيات تصوغ سردًا يبرر العنف: «دفاعًا عن الأمة/الدين/الأرض» أو «ثأرًا للكرامة المهانة». هذا السرد يُعيد تهيئة المعايير الأخلاقية للمقاتل ويقلّل الحواجز النفسية أمام إيذاء الآخرين.
5.2 الطقوس والطقسية
طقوس ما قبل القتال، مراسم اليمين، وحفلات التكريم للقتلة تُعزّز مكانة العنف في بنية القيم داخل الجماعة.
5.3 أنظمة المكافأة والعقاب
الولاء يُكافأ بامتيازات مادية واجتماعية؛ الخيانة تُعاقَب بقسوة. هذه الآليات تقلّل من احتمالات الانشقاق وتُثبّت النظام الداخلي.
5.4 اقتصاد العنف
شبكات تهريب، حماية مقابل أجر، ونهب موارد محلية قد تُحوّل الميليشيا إلى محرك اقتصادي محلي يؤدي إلى ربط مصالح مجتمعية بعنفها، مما يصعّب تفكيكها لاحقًا.
---
6. علاقة الدولة والنخب بالميليشيات
الأدلة تشير إلى طيف من العلاقات: من دعمٍ علني إلى تمويل سري، وصولاً إلى صراع وتحالف متبدّل. في كثير من الحالات، الدولة «تتفادى» التصريح بالتحكّم لكنها تستفيد من وجود قوة موازية تفي بأغراض أمنية أو سياسية دون تكاليف سياسية مباشرة. ومع ذلك، الأبحاث الحديثة (PRIO) تُبيّن أن علاقة الدولة بالميليشيات أكثر تعقيدًا من فرضية تفويض العنف البسيطة: الدولة والميليشيات قد تمارسان العنف بالتوازي وبتكامل يعزّز دورة الإفلات.
---
7. دراسات حالة تطبيقية
7.1 أفغانستان: «الشرطة المحلية» والبرامج المدعومة دوليًا (2010–2015)
برنامج الـAfghan Local Police (ALP) ونسخ سابقة من تمويل قوات محلية أظهر كيف يمكن لسياسات بناء قوة محلية أن تُحوّل في بعض الأحيان إلى دعمٍ لميليشيات مسيئة تفتقد المساءلة. تقارير Human Rights Watch وثقّت حالات تعذيب، قتل، وابتزاز ارتكبتها بعض وحدات محلية، مع غياب الرقابة الحقيقية من الدولة أو الشريك الدولي. هذه الحالة تُظهر خطأ افتراض أن «الاستثمار الأمني المحلي» يضمن الأمان دون آليات مساءلة قوية ومؤسساتية.
دروس مستفادة: أي برنامج دعم أمني محلي يجب أن يرافقه تدابير ملازمة: فحص دقيق لانتقاء الأفراد، تدريب محكم، سلطة مدنية للرقابة، ومسارات قانونية للمساءلة.
7.2 دارفور/السودان: من عصابات مسلحة إلى قوة شبه نظامية (2023–2024)
التحوّل من مجموعات «الجنجويد» إلى ميليشيات شبه مؤسسية (مثل Rapid Support Forces) أظهر كيف تُطبَع ثقافة العنف في هياكل أكثر تعقيدًا، مع شبكات تمويل، ارتباطات سياسية، واستخدام عنيف ضد أقليات عرقية — ما أدى إلى حملة من العنف العرقي والجرائم المحتملة ضد الإنسانية وفق تقارير أممية وأخبارية. هذه الحالة توضّح أيضًا دينامية الانتقال من قوة غير منظمة إلى لاعب جيوسياسي بمقدوراته الخاصة.
دروس مستفادة: تفكيك مثل هذه الشبكات يتطلب جهوداً متعددة المسارات: محاكمات دولية/وطنية، إجراءات مالية ضد شبكات التمويل، ودعم حماية المدنيين على الأرض.
7.3 العراق والمنطقة: ميليشيات طائفية وسياسية (ما بعد 2003)
ظهور فصائل مسلحة وخلايا طائفية مدعومة سياسياً أو من الخارج شكّل بيئةً خصبة لثقافات عنيفة، حيث الدمج بين الأجندات الأيديولوجية والحوافز الاقتصادية زاد من تعقيد مُعالجة الظاهرة. أثر هذه الميليشيات استمر في التأثير على بنية الدولة، الأمن المجتمعي، والمسار السياسي. تقارير ومصادر بحثية أكدت دور الإفلات من العقاب في تغذية استمرار العنف.
---
8. تبعات ثقافة الميليشيات
1. تفتيت النسيج الاجتماعي: إنعدام الثقة بين الجماعات المحلية والمؤسسات الرسمية.
2. إضعاف مؤسّسات الدولة: التفويض أو التعامل مع ميليشيات يهدد احتكار الدولة للعنف الشرعي.
3. دورة العنف الطويلة: إذ تستمر الأجيال في دوامة ثأرية.
4. اقتصاد ظلّ قائم على العنف: تحويل الموارد المحلية إلى أرباح ميليشيوية يشجّع استمرارها.
---
9. سياسات ومقترحات عملية لمواجهة ظاهرة الميليشيات
9.1 سياسات عاجلة (قصيرة الأمد)
فرض قيود على التمويل واللوجستيات: مراقبة شبكات تمويل الميليشيات وقطع مواردها.
حماية عاجلة للمدنيين: نقاط آمنة، إغاثة إنسانية، وحماية قانونية فورية للضحايا.
إجراءات مساءلة سريعة: فتح تحقيقات مستقلة وتقديم القادة للمحاكمة إن أمكن.
9.2 إصلاحات وسطى وطويلة الأمد
إصلاح الأجهزة الأمنية: تدريب احترافي، آليات رقابة مدنية، وسياسات تجنيد شفافة.
برامج الإدماج الاقتصادي للشباب: خلق بدائل عمل تخفض جاذبية الانخراط الميليشياوي.
نزع سلاح وتسريح وإعادة إدماج (DDR) مخصّصة: برامج تراعي الحاجات النفسية والاجتماعية وتقدّم حوافز ملموسة للانخراط في الحياة المدنية.
9.3 بناء مناعة مجتمعية
مناهج تعليمية تُعزّز التسامح والتعدُّدية، ودعم إعلامي مستقل يُفكِّك خطاب التحريض.
آليات إنذار مبكر لرصد مؤشرات تعبئة أو خطاب تحريضي. أدوات مثل CrisisWatch تساعد صانعي القرار على المراقبة المبكرة.
---
10. قيود الدراسة ومسارات بحث مستقبلية
هذه الدراسة تحليلية وتعتمد على مصادر ثانوية وتقارير ميدانية؛ يستحسن إجراء بحوث ميدانية معمّقة (مقابلات، دراسات إثنوغرافية) لفهم التحولات الدقيقة داخل ثقافة الميليشيات.
حاجة لأبحاث مقارنة أوسع تقيس فعالية برامج DDR وإصلاح الأمن عبر حالات مختلفة.
---
11. الخاتمة
ثقافة الميليشيات هي نتاج تراكب بنيوي‑سياسي ونفسي‑اجتماعي. التعامل معها يتطلب حزمة متكاملة من العدالة والمساءلة والإصلاح المؤسسي والبرامج الاقتصادية والاجتماعية، وأهم من كل ذلك رغبة سياسية صادقة لدى الدولة والمجتمع الدولي. غياب هذه العِلاجيات يضمن استمرار دورة العنف وبقاء «جذور الشر» ممدودة في النسيج الاجتماعي.
---
المراجع
1. Human Rights Watch. “Just Don’t Call It a Militia”: Impunity, Militias, and the Afghan Local Police. 12 Sept 2011.
2. PRIO (Peace Research Institute Oslo). Do States Delegate Shameful Violence to Militias? Patterns of Sexual Violence in Recent Armed Conflicts. (Related publications and analysis).
3. Jentzsch, C., Kalyvas, S. N., & others. Militias in Civil Wars. Journal articles and working papers (overview of militia–state–rebel dynamics).
4. International Crisis Group. Reports and CrisisWatch database — تقارير ميدانية وتحليلات للعديد من مناطق النزاع.
5. Human Rights Watch. Today We Shall All Die (report on impunity and militias in Afghanistan). 2015.
6. Cohen, D. K., et al. Do States Delegate Shameful Violence to Militias? Journal of Conflict Resolution (2015).
7. Bultmann, D. The social structure of armed groups: Reproduction and organization. (2018).
8. Reports on Sudan/Darfur and Rapid Support Forces — Associated Press / International coverage (UN reports cited).
9. Weinstein, J. M. (2006). Inside Rebellion: The Politics of Insurgent Violence. Cambridge University Press. (On recruitment motives and organization).
10. Humphreys, M., & Weinstein, J. M. (2008). Who Fights? The Determinants of Participation in Civil War. American Journal of Political Science.
#محمد_عبد_الكريم_يوسف (هاشتاغ)
Mohammad_Abdul-karem_Yousef#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟