سورية وأمريكا وسياسة «الاحتواء» المتبادل: «من يحتوي من؟»

محمد عبد الكريم يوسف
مدرب ومترجم وباحث
(Mohammad Abdul-karem Yousef)

الحوار المتمدن-العدد: 8535 - 2025 / 11 / 23 - 02:56
المحور: قضايا ثقافية
    

‏سورية وأمريكا وسياسة «الاحتواء» المتبادل: «من يحتوي من؟»
‏
‏ورقة بحثية مركّزة على مرحلة ما بعد تولّي الرئيس أحمد الشرع (2025) ودلالات لقاءاته الثلاثة مع الرئيس الأميركي
‏
‏الملخّص
‏
‏تدرس هذه الورقة تطوّر علاقات الجمهورية السورية والولايات المتحدة بدءًا من تولّي أحمد الشرع السلطة في دمشق (أواخر 2024/بدايات 2025) مع تركيز خاص على دلالات ثلاثة لقاءاتٍ مفصلية: لقاءهما في الرياض (مايو 2025)، لقاءهما على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة (أيلول/سبتمبر 2025)، وزيارة الشرع الرسمية إلى الولايات المتحدة ولقاؤه في البيت الأبيض (تشرين الأول/تشرين الثاني 2025). تسعى الورقة إلى تقييم ما إذا كانت هذه اللقاءات تمثّل تحوّلاً استراتيجياً في سياسة الاحتواء الأميركية أم مجرد تراكم اتصالات تكتيكية؛ وتقدّم قراءة لسيناريوهات التطوّر المحتملة وقياس موازين النفوذ والإقناع بين الطرفين. (تُقدّم الورقة منهجيًا تحليلًا وثائقيًا مع استنتاجات سياسة عامة).
‏
‏
‏---
‏
‏1. المقدّمة وإشكالية البحث
‏
‏مع سقوط نظام البعث في دمشق أواخر 2024 وصعود نظام الرئيس أحمد الشرع إلى السلطة، فُتحت نافذة دبلوماسية أمام إعادة ضبط علاقات سوريا مع قوى إقليمية ودولية. السؤال المركزي هنا: هل تغيّر منطق السياسة الأميركية تجاه سوريا من «احتواء» عملي/عسكري وديبلوماسي إلى سياسات إعادة إدماج واستفادة استراتيجية؟ وبشكل أدق: ما دلالات لقاءات الرئيس الشرع – الرئيس الأميركي الثلاثة (الرياض، الأمم المتحدة، واشنطن) في رسم هذه التحوّلات؟ الورقة تفترض أن هذه اللقاءات تشكّل انتقالًا من احتواءٍ بالتحييد إلى احتواءٍ تفاوضيّ/تكاملي مشروط، لكنها تبقي هامشًا واسعًا للتشكيك في درجة الاستقرار والدوام لهذا التحوّل. ( بالقياس للعلاقات السورية الأمريكية عبر التاريخ)
‏
‏
‏---
‏
‏2. منهج البحث ومصادره
‏
‏تعتمد الورقة على منهج نوعي — تحليل وثائقي ومقارن لبيانات إخبارية موثوقة، تحليلات مراكز فكرية، وتصريحات رسمية صدرت عن الطرفين في الفترات المذكورة. ركزت الدراسة على تقصي توقيت اللقاءات، مضمون التصريحات المتبادلة، الإجراءات السياسية المتزامنة (مثل الإعفاءات أو التعديلات على العقوبات أو إدراج/إخراج شخصيات من قوائم الإرهاب)، والنتائج المباشرة على ملفات إقليمية (مكافحة داعش، علاقة سوريا بإيران وروسيا، ملف الجولان). المصادر الأساسية التي استُخدمت تشمل تقارير وكالات أنباء دولية ومقالات مراكز بحثية ورصد صحفي للزيارات واللقاءات.
‏
‏
‏---
‏
‏3. خلفية موجزة: ما تغيّر مع وصول أحمد الشرع؟
‏
‏اتخذ الرئيس أحمد الشرع، الذي تصاعد نجمه في مرحلة ما بعد سقوط نظام الأسد،  منذ دخوله السلطة استراتيجية «الانفتاح المدبّر» على المجتمع الدولي: تهيئة ملفات مكافحة الإرهاب، إعلان رغبة في إعادة الإعمار، ومحاولة تفكيك بعض العلاقات التي كانت حجر عثرة مع واشنطن (أو إعادة تأطيرها) دون التخلي كليًا عن شركاء إقليميين مثل روسيا أو إيران. هذه المعطيات صاغت مناخًا يسمح بتبادل اتصالات رسمية استثنائية بين سوريا والولايات المتحدة بعد عقود من القطيعة أو التوتر.
‏
‏
‏---
‏
‏4. تحليل اللقاءات الثلاثة: زمنيًا ودلاليًا
‏
‏4.1 اللقاء في الرياض — مؤشر بداية تقارب مدروس (14 مايو 2025)
‏
‏اجتمع الرئيسان في قمة إقليمية بالرياض في 14 أيار/مايو 2025. اللقاء حمل قيمة رمزية كبيرة: كان أوّل تلاقٍ رفيع بين رئيسين بعد انتقال السلطة، وأتى ضمن استعراض إقليمي لإعادة ترتيب أجندات ما بعد الصراع السوري. يمكن تفسير دلالات هذا اللقاء على المستوى التالي:
‏
‏1. إشارة أميركية بأن دمشق باتت جزءًا من حسابات الاستقرار الإقليمي: حضور ترامب ولقاؤه يشير إلى أن واشنطن لم تعد تنظر إلى سوريا كحالة معزولة بالكامل، بل كحقل للاشتباك مع قضايا أوسع (مكافحة داعش، ضبط النفوذ الإيراني، أمن الطاقة).
‏
‏
‏2. اختبار ثقة أوليّ: اللقاء سمح للطرفين بقياس مدى نوايا بعضهما البعض بدون التزامات رسمية أو رفع عقوبات فورية.
‏خلاصة: لقاء الرياض هو «لقاء إنزال» رمزي ـ استراتيجي، ساهم في تهيئة الأرضية للاتصالات اللاحقة لكنه لم يغير الشروط الجوهرية للعقوبات أو لسياسة واشنطن فورًا.
‏
‏
‏
‏4.2 اللقاء على هامش أعمال الأمم المتحدة — تعميق قنوات دبلوماسية (أيلول/سبتمبر 2025)
‏
‏التلاقي في نيويورك أثناء أعمال الأمم المتحدة مثّل الانتقال من لقاء رمزي إلى تواصل دبلوماسي صريح؛ حيث جرت لقاءات مع مسؤولين رفيعي المستوى في وزارة الخارجية الأميركية، ونوقشت قضايا مكافحة الإرهاب وتسهيل وصول مساعدات إنسانية وإجراءات فنية حول الإجراءات العقابية. دلالات هذا اللقاء:
‏
‏1. تحوّل تكتيكي: من «تجريب» إلى «تفاوض» على ملفات قابلة للإدارة (مكافحة تنظيمي داعش/الدولة الإسلامية، تنسيق إنساني، مسائل أمنية).
‏
‏
‏2. شروط أميركية أكثر وضوحًا: واشنطن لم تتخلّ عن شروطها الأساسية (حقوق الإنسان، مساءلة) لكنها أبدت مرونة في إجراءات عملية محددة (قنوات تمويل إنساني أو تعاون استخباراتي محدود).
‏
‏خلاصة: اللقاء الأممي يُظهر تدرّجًا يضع قنوات دبلوماسية متخصصة بين الطرفين، ويفتح المجال أمام تبادل إجراءات ملموسة دون تطبيع سياسي كامل.
‏
‏
‏
‏4.3 الزيارة الرسمية إلى الولايات المتحدة ولقاء البيت الأبيض (تشرين الأول/تشرين الثاني 2025) — نقطة التحوّل الممكنة
‏
‏زيارة الرئيس الشرع إلى الولايات المتحدة ولقاؤه مع الرئيس الأميركي في البيت الأبيض ( في أوائل تشرين الثاني/نوفمبر 2025) بلغت ذروة التقدّم في ملف العلاقة. الدلالات هنا متعددة:
‏
‏1. اعتراف عملي واستراتيجي: استضافة رئيس سوري في البيت الأبيض للمرة الأولى منذ 1946 هي إقرار بوكالة شرعية دولية عملية، تفتح الباب أمام خطوط تفاوض رسمية (إعادة فتح سفارات، إدماج في آليات إقليمية).
‏
‏
‏2. تبادل مصالح محدّدة: بحسب التقارير، ناقش الطرفان قضايا مكافحة الإرهاب، انضمام سوريا إلى تحالفات دولية ضد داعش، وإجراءات اقتصادية مثل تخفيف جوانب من عقوبات قانون قيصر مقابل خطوات عملية من دمشق.
‏
‏
‏3. إشارة إلى تحول في أولويات واشنطن: بدلاً من أن تكون سياسة إسقاط النظام هي الأهداف الأولى، أصبحت أولويات أميركية أكثر عملية ـ أمنية / اقتصادية.
‏
‏خلاصة: زيارة واشنطن قد تشكّل تغيرًا نوعيًا في شكل العلاقة إذا ترافق معها تغييرات إجرائية فعلية (إعفاءات من عقوبات، تعاون أمني طويل الأمد)، لكنها أيضًا تحمل مخاطر داخلية أميركية وسياسية في المنطقة قد تعيق استمراريتها.
‏
‏
‏
‏
‏---
‏
‏5.  «من يحتوي من؟» — قراءة في سياسة الاحتواء في هذه المرحلة
‏
‏في ضوء اللقاءات الثلاثة، يمكن صياغة قراءة مزدوجة:
‏
‏1. الولايات المتحدة تحتوي تحولًا تكتيكيًا في دمشق: واشنطن تعمل على احتواء آثار الفراغ والفرص التي قد تتركها سوريا غير المنخرطة — وذلك بتوظيف قنوات تفاوضية لفرض قواعد وقائية (مكافحة داعش، تقييد دور إيران العسكري، فتح قنوات إنسانية) بدلًا من استثمارها كمنصة لوجيستية للفاعلين المعادين. باختصار: واشنطن تحتَوي الشأن السوري بإعادة توجيهه وفق مصالح إقليمية محددة.
‏
‏
‏2. السلطة السورية (الشرع) تحتوي الضغوط الأميركية عبر اتخاذ إجراءات نفعية: الشرع يستخدم اللقاءات للتقليل من كلفة العزلة، استثمار تراجع أولوية المنطقة لدى واشنطن، وتحقيق مكاسب اقتصادية وسياسية (رفع جزئي للعقوبات، استثمارات). بعبارة أخرى: دمشق تحوّلت من هدف للاحتواء إلى لاعب يحاول إدارة شروطه للتقليل من الضغط.
‏
‏
‏
‏النتيجة: هذه المرحلة هي «احتواء تفاوضي» ثنائي الاتجاه — الولايات المتحدة تضع حدودًا ومكاسب مشروطة، والسورية تستثمر التواصل لخفض ثمن البقاء السياسي وإعادة البناء. لا توجد حتى الآن علاقة احتواء أحادية تُسيطر فيها جهة واحدة بشكل كامل.
‏
‏
‏---
‏
‏6. تقييم التأثيرات والقيود
‏
‏6.1 إيجابيات ملموسة محتملة
‏
‏فعالية ضد داعش: تعاون استخباراتي وإجرائي قد يسهّل ملاحقة خلايا التنظيم داخل سوريا ومحيطها.
‏
‏إمكانية إعادة الإعمار: تخفيفات مختارة في العقوبات يمكن أن تطفئ أزمات إنسانية وتفتح أبواب استثمارية.
‏
‏استقرار إقليمي محدود: إدماج دمشق في حوارات إقليمية قد يخفف التوتر في بعض محاور المنطقة.
‏
‏
‏6.2 مخاطر جوهرية
‏
‏المساءلة عن انتهاكات: إعادة الانفتاح السياسي قبل محاسبة واسعة قد يثير انتقادات حقوقية ويقوّي رواسب الإفلات من العقاب.
‏
‏تذبذب أميركي داخلي تجاه سوريا: برلمانات وإدارات أميركية لاحقة تمارس عدم اليقين تجاه سوريا و قد تعيد تشديد العقوبات أو تغيير السياسة، ما يجعل أي تحوّل هشًا زمنياً.
‏
‏ردود إقليمية: حلفاء جدد/قدامى (إيران، تركيا، روسيا) قد يعاد رسم توازناتهم رداً على تأقلم واشنطن مع دمشق.
‏
‏
‏
‏---
‏
‏7. سيناريوهات مستقبلية (ثلاثية قصيرة الأمد – متوسط الأمد)
‏
‏1. الاستمرارية المشروطة (الأساس المرجّح): تعاون عملي محدود (مكافحة إرهاب، قنوات إنسانية، إعفاءات جزئية) مع بقاء عقوبات أساسية؛ علاقة براغماتية وليست تحالفًا ، وهي السياسة التي مارستها واشنطن (التقليدية) تجاه سوريا عبر التاريخ.
‏
‏
‏2. التحول الدائم إلى تطبيع مشروط: في حال توفّرت ضمانات ملموسة (إجراءات لمحاكمة مرتكبي جرائم حرب، اتفاقات أمنية واضحة)، قد نشهد تطبيعًا تدريجيًا.
‏
‏
‏3. الارتداد والتجميد: صعود معارضة داخلية أميركية أو إقليمية، او تدخل إسرائيلي قوي أو فشل دمشق في الالتزام بشروط محددة، يعيد العلاقات إلى حالة التجميد.
‏
‏
‏
‏
‏---
‏
‏8. رؤية محتملة لصانعي القرار
‏
‏1. لواشنطن: اعتماد نهج «الرهان المشروط» — فتح قنوات تقنية (إنسانيّة، استخبارية) مقابل مؤشرات شفافة على تغيّر سلوكي سياسي وأمني. تسهيل دخول مراقبين دوليين لتمويل مشروط وإجراءات سلام.
‏
‏
‏2. لدمشق: استثمار التواصل للدفع بخطوات قابلة للقياس (التعاون ضد داعش، تسهيل وصول المساعدات، فتح تحقيقات محدودة عن الانتهاكات) لخفض الكلفة والسيولة السياسية.
‏
‏
‏3. للكيانات الدولية: صياغة آلية مراقبة متعددة الأطراف تربط أي تسهيلات اقتصادية بتقارير مستقلة عن حالات حقوق الإنسان والتزامات عسكرية.
‏
‏
‏
‏
‏---
‏
‏9. الخاتمة
‏
‏شكّلت ثلاثة لقاءات (الرياض، الأمم المتحدة، واشنطن)  تحوّلًا مهمًّا في نمط التعامل بين دمشق وواشنطن: من عزلة شبه كاملة إلى «احتواء تفاوضي» عملي يربط المكاسب الملموسة بشروط محددة. هذا التحوّل لا يعني نهاية سياسة الاحتواء بل يشير إلى إعادة صياغتها: احتواء ذكيّ يُحاول إدارة تداعيات سوريا على الأمن الإقليمي عبر قنوات عملية، وفي الوقت نفسه دمشق تستثمر هذا التحوّل لخفض كلفة البقاء وإطلاق مشاريع إعادة بناء. مدى ديمومة هذا التحوّل يعتمد على التزام دمشق بشروط فعلية، واستمرار الإرادة الأميركية البارغواغماتية في إدارة المصالح دون تخلٍّ نهائي عن معايير حقوقية وسياسية قد تعيد التجميد إذا لم تُحترم.
‏
‏
‏---
‏
‏قائمة المراجع
‏
‏1. Reuters, “Al-Sharaa’s path from global jihad to White …” — ملف صحفي عن صعود أحمد الشرع وسياسته، 14 May 2025.
‏
‏
‏2. Chatham House, Analysis: The meeting of al-Sharaa and Trump has shifted the balance … (تحليل حول لقاء الرياض)، 14 May 2025.
‏
‏
‏3. Al Jazeera, “Syria’s al-Sharaa arrives in US for official visit” — تقرير حول زيارة واشنطن ونزع إدراجه من قوائم الإرهاب، November 2025.
‏
‏
‏4. AP News, “Trump hosts Syria s al-Sharaa for a first-of-its-kind meeting at the White House”, November 2025.
‏
‏
‏5. France24 / Al-Monitor / Reuters coverage of الزيارات والاجتماعات على هامش الأمم المتحدة، سبتمبر–نوفمبر 2025.
‏
‏
‏

#محمد_عبد_الكريم_يوسف (هاشتاغ)       Mohammad_Abdul-karem_Yousef#          

---

ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages

---

الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل