أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - غالب المسعودي - التسييس والتأنيس في الخطاب الأخلاقي: مقاربة فلسفية















المزيد.....

التسييس والتأنيس في الخطاب الأخلاقي: مقاربة فلسفية


غالب المسعودي
(Galb Masudi)


الحوار المتمدن-العدد: 8514 - 2025 / 11 / 2 - 22:49
المحور: المجتمع المدني
    


الإطار المفهومي
يمثل الخطاب المدني الأخلاقي فضاءً معقداً تتشابك فيه متطلبات النظام السياسي مع القيم الإنسانية الجوهرية. يُعرّف الخطاب المدني على أنه المجال المشاع المشترك لجميع الأفراد في كيان سياسي ما، حيث تتجلى السياسة كشأن جمهوري. ضمن هذا الإطار، تتحول القضايا الأخلاقية من مجرد أحكام شخصية إلى متطلبات جماعية تحمل صفة الوجوب وتخضع للمساءلة القانونية والاجتماعية. إن هذا التفاعل المعقد بين الشأن العام والقيمة ينتج عنه الجدلية الأساسية التي تتمحور حول التسييس والتأنيس.

التفكيك المفهومي
أ. التسييس
يُفهم التسييس على أنه العملية الديناميكية لتحويل القضايا من الدائرة الخاصة إلى الدائرة العامة، جاعلاً إياها ملكًا للجميع وقابلة للحل السياسي. يستكشف التسييس أفقين رئيسيين:
أفق الحرب والنزاع: حيث يسعى التسييس نحو إحلال السلام.
أفق الطبائع والثوابت: حيث يسعى إلى التحرر الاجتماعي والثقافي.
جوهر السياسة يكمن في عملية التسييس ذاتها.

ب. التأنيس
يشير التأنيس إلى مركزية القيمة البشرية. يمكن تمييز نوعين أساسيين من التأنيس في سياق الخطاب الفلسفي:
التأنيس الجوهري: الذي يعتمد على ماهية ثابتة للإنسان (كالعقل أو الروح كما في الفلسفة الكلاسيكية والدينية).
التأنيس الإجرائي: الذي يركز على الإرادة والتعاقد والسياق (كما في الفلسفات الحداثية التي تسعى لنقل الأحكام من الإطار الإلهي إلى الإطار البشري).

طبيعة العلاقة التاريخية
تطورت العلاقة بين التسييس والتأنيس عبر التاريخ الفلسفي، من مرحلة التوحيد الكلاسيكي، مروراً بالانفصال الحداثي والواقعية السياسية، وصولاً إلى مرحلة التفكيك والنقد المعاصر. ويكشف هذا التطور أن التسييس في العصر الحديث لم يكن دائماً فعلاً راشداً، بل في كثير من الأحيان، هو استجابة لأزمة أعمق.
فالخواء الذي خلفته الإيديولوجيات المنسحبة وغياب المرجعية الأخلاقية قد أدى إلى ما يمكن تسميته "تسيس الخواء": كي تحل محل المعاني والقيم دوافع ومحفزات قائمة على عصبيات فردية أو جماعية فارغة. هذا يشير إلى أن التسييس قد يصبح عرضاً مرضياً لفشل التأنيس الجوهري، مما يؤدي إلى تشويه جوهر الإنسان بسبب تراكم صراع المصالح وغياب القيمة.

أفلاطون: العدالة كبنية موحدة
تعتبر الفلسفة الكلاسيكية اليونانية، لاسيما عند سقراط وأفلاطون، نقطة الانطلاق لتأصيل العلاقة الجدلية بين الأخلاق والسياسة. لقد رأى أفلاطون أن السياسة والأخلاق متجذرتان في مفهوم العدالة، وأن العلاقة بينهما جدلية لدرجة أنه "لا يمكن فصل إحداهما عن الأخرى." نشأة الدولة في المنظور الأفلاطوني هي استجابة لحاجة الفرد للجماعة وعدم استغنائه بنفسه، ويتم ذلك عبر إقامة النظام وتوحيد الجهود. ومن ثم، فإن الدولة في جوهرها ما هي إلا "فرد إنساني متكامل".
هذا التسييس للحياة المدنية يعكس التأنيس الوجودي، حيث تتسرب القوى النفسية الثلاث للإنسان (العقل، العاطفة، الشهوة) لتكوّن طبقات الدولة الثلاث (الحكام/الفلاسفة، الجنود/الحرس، العمال/المنتجون). إن التسييس الأفلاطوني هو في حقيقته آلية ضامنة لنظام أخلاقي داخلي. عبر ربط الحاكم بالفيلسوف الذي يتغلب فيه العقل، وتوجيه "سفينة الدولة" نحو الخير، يصبح التسييس هو الأداة التي تضمن خضوع القوى النفسية الدنيا للفرد للقوة العليا. وبالتالي، فإن التسييس يحمي التأنيس الجوهري من الانحراف.

أرسطو: المدينة كشرط لتحقيق الفضيلة
سار أرسطو على ذات المنهج في ربط الأخلاق بالسياسة، حيث رأى أن مبدأ الغاية هو قوام السياسة والأخلاق على حد سواء، والغاية القصوى هي السعادة التي لا تتحقق إلا في المدينة. ولذلك، فإن التسييس يهدف إلى إتمام التأنيس عبر تحقيق هذه الغاية. رغم هذا التوحيد، فإن أرسطو وضع بذور الانفصال الحداثي عبر إدراكه الفرق بين الدولة والحكومة. هذا التمييز المؤسسي يمثل تسيسا للقانون المدني يمنحه استقلالية نسبية عن الفضيلة المطلقة، لكنه يظل ضمن إطار السعي نحو الخير الأقصى والفضيلة.

الواقعية السياسية وأزمة التأنيس الأخلاقي
شهدت فترة الحداثة انفصالاً جذرياً في العلاقة العضوية بين التسييس والتأنيس، حيث أصبحت السياسة علماً مستقلاً بذاته يهدف إلى الفاعلية والنظام، بدلاً من أن يكون تطبيقاً للفضيلة المطلقة.
مكيافيلي: يمثل نقطة تحول نحو التسييس النفعي. فابتعاده عن القيم الدينية كان بمثابة تحرر؛ وانطلاق نحو نهضة أمته. هنا، يخدم التسييس غاية الدولة النفعية، بغض النظر عن القيود الأخلاقية الصارمة.
ابن خلدون: قدم رؤية مختلفة حيث نظر إلى القيم الدينية باعتبارها "المخرج الأساسي لأمته من أزمتها السياسية". التسييس الفعال في هذا النموذج يظل رهيناً بالتعزيز الأخلاقي القائم على المرجعية الدينية، بعكس النظرة الغربية.

فلسفة التنوير: روسو
حاول فلاسفة التنوير إعادة تأسيس الخطاب المدني الأخلاقي على أسس عقلانية وإنسانية. أدرك روسو ضرورة تسيس المعتقدات الأخلاقية لخدمة الدولة. في "العقد الاجتماعي"، شرح عقيدته حول الدين المدني، الذي يهدف إلى تعزيز "روح الوطنية والتضامن الاجتماعي" الضروريين للدولة المزدهرة.
لكن محاولة التنوير لإعادة دمج التسييس والتأنيس أدت إلى مفارقة؛ حيث كشف فرضه للعقائد تحت التهديد بالعقاب الأقصى عن أداتيه الضمير الأخلاقي لصالح الأمن المدني، والتضحية بالحرية الأخلاقية الفردية من أجل استقرار الدولة.

كانط: التأسيس العقلاني الأخلاقي للخطاب المدني
قدم إيمانويل كانط، عبر أخلاقه الواجبية، أقوى محاولة حداثية لتأسيس الخطاب المدني الأخلاقي على العقل المحض.
الواجب القاطع كنواة للأخلاق المدنية: عملية التسييس المثالية هي تعميم القانون الأخلاقي العقلاني ليصبح قوانينًا عالمية لا يمكن أن تتغير حسب الظروف، وهو ما يمثل التسييس العقلاني للقانون المدني.
الإنسان كغاية في ذاته: تُعلي صيغة الاستقلالية من شأن التأنيس العقلاني إلى أقصى حد، حيث يرى كانط أن الفرد العاقل هو المشرّع للقانون الأخلاقي، وملزم به فقط لأنه نابع من إرادته العقلانية. هذا المبدأ يضمن أن يُعامل الإنسان كغاية في ذاته، وليس مجرد وسيلة لتحقيق أهداف أخرى.

نحو خطاب مدني أخلاقي مرشد
إن المسوغ الجوهري للثورة هو السياسة، حيث تُفهم السياسة كشأن مشاع يسعى للتحرر. يتطلب ذلك أن تكون القضايا الأخلاقية المدنية (مثل حقوق الإنسان والعدالة) قابلة للتسييس في أفق التحرر، بعيدًا عن السيطرة والقمع.
لمواجهة "تسيس الحياة الإنسانية" الذي يؤدي إلى خواء المعنى، يجب ترسيخ منظومات قيمية حقيقية تقوم على مكارم الأخلاق لتربط سلوكيات الأفراد في كل مناحي حياتهم بهذه القيم. هذا الترسيخ هو الضمان ضد الخواء الأيديولوجي الذي يملأ الفراغ بالعصبيات الفارغة.
--------------------------------
المراجع:
aljazeera.net. "الضمير الأخلاقي والدين المدني عند جان جاك روسو
aljumhuriya.net. "تسيس: وجها السياسة ومعنياها"
mandumah.com. "الوصف: جدلية العلاقة بين الأخلاق والسياسة"
raya.com. "عندما يموت المعنى!"
tafahom.mara.gov.om. "book tafahom 45.indb"



#غالب_المسعودي (هاشتاغ)       Galb__Masudi#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الدور الإقصائي للمرجعيات الثقافية الشرق أوسطية
- الشر الكامل في سياق النيوكولونيالية
- إخفاقات البراغماتية والفلسفة التجريبية: القاسم البنائي المشت ...
- آليات الهيمنة الأيديولوجية: دور الوثنية السياسية والطاعة الم ...
- الكومنتاريا والهيمنة الإمبريالية التكنولوجية
- جاسم عاصي: الناقد الروائي وبناء سردية الهامش العراقي
- النشاط الأنطوإبستيمولوجي الكلي
- الديمقراطية كإشكالية فلسفية
- التحالف الاستراتيجي بين الرأسمالية الريعية والثيوقراطية
- التباين الإبستمولوجي بين العلموية والماهيات الوجودية في الفل ...
- مغالطة الاحتكام إلى التقليد في العقلانية المعاصرة
- ومغالطة الاحتكام إلى التقليد العقلانية المعاصرة
- العقلنة، البيروقراطية، والاستلاب الجديد
- الفصل الثالث والثلاثون من كتاب العدم السريالي
- العلاقة بين أفول القارئ وتراجع سلطة المثقف
- الفصل الثالث عشر: من كتاب العد م السريالي-عظام الوجود ومِطرق ...
- كِتَابُ اَلْعَدَمِ اَلسِّرْيَالِيِّ
- إله سبينوزا والإله الوجودي: الجوهر المحايث ونسق الوجود
- الرأسمالية وخلق النخب الموالية
- العلاقة الجدلية بين الفن والثيوقراطية: دراسة فلسفية


المزيد.....




- المرصد السوري: 40 عملية توغل إسرائيلية و8 اعتقالات جنوب سوري ...
- بلديات غزة: المساعدات غير كافية والوضع الإنساني يزداد سوءا
- إقالة المدعية العسكرية تثير جدلا إسرائيليا حول التحقيق بجرائ ...
- غزة بعد الاتفاق مباشر.. مدفعية الاحتلال تستهدف القطاع وقواته ...
- ليبيا تعلن ضبط مهاجرين غير شرعيين ومهرب في بنغازي
- بن غفير: الكنيست الإسرائيلي سيصوت غدا على مشروع قانون لإعدام ...
- قلق جراء ارتفاع ترحيل لاجئين سوريين من ألمانيا
- إلغاء اتفاقية الهجرة يشعل أزمة جديدة بين الجزائر وفرنسا
- الأمم المتحدة: آلاف العائلات في الفاشر بحاجة للمأوى وسط -عنف ...
- عشائر غزة تحذر: الشتاء في غزة حكم بالإعدام على ملايين الفلسط ...


المزيد.....

- أسئلة خيارات متعددة في الاستراتيجية / محمد عبد الكريم يوسف
- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - غالب المسعودي - التسييس والتأنيس في الخطاب الأخلاقي: مقاربة فلسفية