|
العلاقة الجدلية بين الفن والثيوقراطية: دراسة فلسفية
غالب المسعودي
(Galb Masudi)
الحوار المتمدن-العدد: 8475 - 2025 / 9 / 24 - 20:11
المحور:
قضايا ثقافية
تعريف الثيوقراطية وتأطير المشكلة تُعرَّف الثيوقراطية، فلسفيًا وتاريخيًا، بأنها نظام حكم سياسي تُعتبر فيه السلطة السياسية مستمدة من الإله، ويُشرف عليها قادة أو رجال دين. في هذه الأنظمة، تستند القوانين والسياسات إلى تعاليم دينية أو نصوص مقدسة. إن الصدام بين الشرعية الإلهية والشرعية الشعبية هو جوهر العلاقة المعقدة التي ينشأ عنها تداخل بين الفن والسلطة، ليتحول الفن في كثير من الأحيان إلى أداة للسيطرة والهيمنة. إن العلاقة بين الفن والسلطة في الأنظمة الثيوقراطية ليست مجرد علاقة بسيطة من القمع أو التحريم، بل هي جدلية معقدة تتأرجح بين التوظيف الأيديولوجي والرقابة الصارمة من جهة، وبين المقاومة والتحرر من جهة أخرى. هذه الجدلية لا تقتصر على أبعاد سياسية ودينية بحتة، بل تتجذر في صميم الوجود الإنساني، وتثير تساؤلات عميقة حول العلاقة بين المادي والمقدس. من سلطة القمع إلى سلطة الإنتاج لتحليل هذه العلاقة بشكل فلسفي، يمكن تجاوز المفهوم التقليدي للسلطة بوصفها قوة قمعية فقط. الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو يقدم مقاربة جديدة للسلطة، يصفها بأنها "شبكة منتجة تمر عبر الجسم الاجتماعي كله، أكثر مما هي سلبية، ووظيفتها ممارسة القمع". وفقًا لهذا التصور "الميكرو فيزيائي" للسلطة، فإنها لا تكتفي بفرض الحظر والعنف، بل تنتج الخطاب والمعرفة، وتتميز بالحيوية والتجدد. يمكن تطبيق هذا الفهم على الأنظمة الثيوقراطية بشكل فعّال. فالسلطة هنا لا تكتفي بقمع الفن الذي يعارضها، بل تعمل بشكل استراتيجي على إنتاج خطاب فني خاص بها، مثل الفن الديني الموجَّه، الذي يمر عبر "الجسد الاجتماعي كله". هذه القوة لا تفرض إرادتها فقط، بل تُشكّل "الحقيقة" نفسها، وتحدد ما هو "جميل" وما هو "مقبول" دينيًا واجتماعيًا. هذه العملية تخلق تناقضًا جوهريًا؛ فالفن الذي يُفترض أن يكون وسيلة للتعبير الحر والإبداع، يتحول إلى أداة لترسيخ خطاب أحادي الجانب للسلطة. فالقمع في هذه الحالة يصبح أكثر خفاءً، إذ يُحوّل الفنان من مقاوم إلى شريك في عملية الإنتاج، إما طوعًا أو كرهًا، خاصة في غياب أي ضمانات اجتماعية تحمي الفنان. هذه الاستراتيجية لا تهدف إلى مجرد الترويج، بل إلى "صياغة وجوه القهر والهيمنة" وتكريس شرعية الحاكم في أذهان الشعب من خلال القنوات الفنية. التاريخ العميق مصر الفرعونية: تأليه الحاكم بالصورة والحجم في مصر الفرعونية، تجاوز الفن دوره الجمالي ليصبح "لغة" رمزية فعّالة تعبر عن السلطة والإيمان والهوية الجماعية. لم يكن النحت والرسم مجرد أعمال تستوحي من الخيال، بل كانت وسيلة استخدمتها الدولة لنقل أفكارها وتكريس مفاهيمها وترسيخ شرعيتها السياسية والدينية. استخدم الملوك الفن كأداة سياسية، فصوّروا أنفسهم بصورة مثالية كأبناء للآلهة أو ممثلين للعدل والنظام على الأرض. وبنفس القوة، وظّف الكهنة الفن لتسجيل تفاصيل الطقوس الدينية وتمجيد الإله، مؤكدين بذلك روابطهم الروحية مع الشعب وسلطتهم الدينية. لعب الحجم دورًا محوريًا في هذه الأعمال الفنية، حيث كان الفنان القديم يحرص على رسم الأشخاص تبعًا لمركزهم الاجتماعي. فصُوِّرَ الآلهة والملوك بحجم أكبر من كبار الموظفين، ليُظهر وقارهم ومكانتهم. هذا الاستخدام للحجم لم يكن مجرد تقليد فني، بل كان ممارسة نفسية تهدف إلى زرع الرهبة والإجلال في نفوس الرعية. الفن هنا لم يكن انعكاسًا للواقع، بل كان صانعًا للواقع السياسي والديني المطلوب، حيث يخلق واقعًا بديلًا يصبح فيه الحاكم وسيطًا بين السماء والأرض. هذه الآليات البصرية تمنع أي مساءلة للحاكم؛ لأن المساءلة ستكون بمثابة تحدٍ للإرادة الإلهية نفسها. بهذه الطريقة، يُسهم الفن في إخضاع المحكومين بشكل غير مباشر، من خلال توظيف الرهبة الدينية بدلًا من القوة المباشرة. الإمبراطورية البيزنطية: توحيد السلطة الدنيوية والسماوية في الإمبراطورية البيزنطية، كان الفن مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالسلطة الإمبراطورية والدينية. كانت الأيقونات والفسيفساء وسيلة قوية لنشر الإيمان المسيحي وتعميقه، فصُوِّر الأباطرة البيزنطيون بصريًا مرتبطين بالمسيح، مما يؤكد أن قوتهم مُكرسة إلهيًا. تُعدّ فسيفساء كنيسة سان فيتالي في رافينا مثالًا بارزًا على هذا التوظيف. على الرغم من أن الإمبراطور جستنيان والإمبراطورة ثيودورا لم يزورا المدينة أبدًا، إلا أن الفسيفساء التي تصورهما كانت تهدف إلى إعادة تأكيد سيطرتهما على المدينة وتجسيد الوحدة بين الكنيسة والدولة. هذه الفسيفساء لم تكن مجرد أعمال فنية، بل كانت أداة سياسية بامتياز، تُظهر أن السلطة لا تأتي فقط من القوة العسكرية، بل من الشرعية الإلهية التي يمنحها الفن. هذه الممارسة الفنية كانت تهدف إلى جعل الحاكم ليس مجرد شخصية سياسية، بل رمزًا مقدسًا، مما يُجرد الأفراد العاديين من أي سلطة أو حق في المساءلة. إذا كان الحاكم ممثلًا للإله، فإن أي نقد لحكمه هو نقد للإرادة الإلهية نفسها. الفن، من خلال تثبيت هذا المفهوم بصريًا، يُساهم في إخضاع المحكومين بشكل غير مباشر، عبر توظيف الرهبة الدينية بدلًا من القوة المباشرة. الفن في سياق الخلافة الإسلامية في السياق الإسلامي، لعبت العمارة دورًا محوريًا في التعبير عن عظمة وقوة الخلافة. يرى خبراء أن القاسم المشترك بين السلطات المختلفة هو اهتمامها بالأبنية الضخمة لإبراز قوة الدولة وسطوتها. العمارة هنا ليست مجرد غاية جمالية، بل وسيلة لإخضاع المحكومين بشكل غير مباشر، إذ تُروِّع المباني الضخمة المارة بجوارها. وقد كان الفكر الإسلامي يرى العمران ركنًا أساسيًا من أركان الملك، كما ذهب ابن خلدون، الذي اعتبر أن الدولة والعمران لا يمكن أن يستقلا عن بعضهما. المنمنمات والخط العربي: الفن بين التبجيل والتحريم يُعدّ الخط العربي فنًا إسلاميًا خالصًا، نشأ من قدسية الكلمة القرآنية، التي ارتفعت من مجرد رموز تعبيرية إلى فن مرئي له قيمة جمالية مستقلة. هذا الفن، إلى جانب الزخرفة والأشكال الهندسية، كان وسيلة رئيسية للتعبير عن الجمال والروحانية في الإسلام. مع ذلك، لم يخلُ الفن الإسلامي من التناقضات، خاصة في فن المنمنمات الذي اشتهر به العصران التيموري والعثماني. كانت المنمنمات وسيلة لتوثيق مشاهد الحياة في البلاط الملكي، مثل حفلات الصيد والاحتفالات. وقد رعى السلاطين والأمراء هذا الفن، فكلفوا فنانين مثل كمال الدين بهزاد الذي عينه الشاه إسماعيل مديرًا للمكتبة الملكية. الجدل الفقهي: تحريم التصوير وتأثيره يُظهر الجدل الفقهي صراعًا لم يكن فقط بين الفن والدين، بل بين السلطة السياسية التي استخدمت فن التصوير لتمجيد نفسها، والسلطة الدينية (الفقهاء) التي حاولت فرض وصايتها على الفن لمنع أي مظهر من مظاهر الوثنية أو محاكاة خلق الله. إن الجدل الفقهي حول تحريم التصوير لم يكن مجرد نقاش ديني مجرد، بل كان صراعًا على النفوذ بين السلطة السياسية (التي أرادت تمجيد نفسها بصريًا) والسلطة الدينية (التي أرادت ضبط الخطاب الفني بما يتوافق مع رؤيتها الدينية). هذا يكشف أن الفن كان ساحة معركة بين مركزين للسلطة في الدولة، وليس مجرد صراع بين الفن والدين. الفن هنا يصبح أداة للمقاومة لأنه يمتلك القدرة على تجاوز المألوف وكسر القوالب. عندما يجرؤ الفنان على مناقشة "المسكوت عنه"، فإنه يمارس فعلًا مقاومًا ينزع القداسة عن سلطة الوصاية ويحيلها إلى مجرد سلطة بشرية قابلة للنقد والمساءلة. الرقابة الاجتماعية والدينية على الفن المعاصر في العالم العربي في العصر الحديث، أصبحت الرقابة على الفن ليست فقط سياسية، بل غالبًا ما تكون "مجتمعية". تُطلق أحكام أخلاقية باسم "القيم" و"الحياء" لمحاكمة الأعمال الفنية، مما يؤدي إلى "تديين المجال الثقافي" وتحويل الفن إلى مادة وعظيه. هذا النمط من الرقابة "الميكرو فيزيائية" يتغلغل في النسيج الاجتماعي نفسه، مما يجعل المقاومة أكثر صعوبة. كما أن قضية "تحرير جسد المرأة" في الأعمال الفنية تُعتبر فعلًا مقاومًا للسلطة التي تخاف من حرية الجسد. آفاق مستقبلية شهدت العقود الأخيرة تحوّلًا في استراتيجية الأنظمة الثيوقراطية تجاه الفن. فبدلًا من القمع المباشر، تلجأ السلطات إلى "الاستثمار" في الفنون لتصبح أداة لترويج خطاب "معتدل" ومواجهة الأفكار المتطرفة. هذا التحوّل يظهر في رعاية مهرجانات الفن الإسلامي التي تهدف إلى "تعزيز قيم التسامح" وإبراز "الوجه الحضاري للإسلام." هذا التحوّل من القمع إلى الإدارة يمثل تطورًا في آليات السيطرة. السلطة الآن لا تمنع الفن، بل "تُديره وتهندسه"، وتحدد ما هو الفن المقبول والرسالة التي يجب أن يحملها، وتُقصي كل ما لا يتوافق مع أجندتها. هذا التطور يثير تساؤلًا فلسفيًا عميقًا: هل يمكن للفن أن يظل إبداعيًا وحرًا إذا كان محكومًا بوظيفة محددة سلفًا لخدمة خطاب معين؟ إن الفن في هذه الحالة يفقد جزءًا من جوهره كأداة للتساؤل والتحرر، ويتحول إلى "مادة وعظيه" أو "أداة اقتصادية." الفن شهادة على الوجود الإنساني في مواجهة السلطة المطلقة تُظهر دراسة العلاقة بين الفن والسلطة في الأنظمة الثيوقراطية أنها علاقة معقدة ومتغيرة عبر التاريخ. الفن يمكن أن يكون مرآة لتمجيد السلطة وشرعنتها، كما كان الحال في مصر الفرعونية وبيزنطة، ويمكن أن يكون ساحة صراع على النفوذ، كما في جدل المنمنمات أو حرب الأيقونات. في العصر الحديث، تطورت آليات السيطرة من القمع المباشر إلى الإدارة والتوظيف. إن هذا يؤكد على أن الصراع ليس مجرد صراع سياسي، بل هو صراع وجودي بين "إرادة القوة" التي تسعى للسيطرة المطلقة و"الحرية الفكرية" التي تكسر القوالب وتكشف عن هشاشة الهيمنة. الفن، في جوهره، شهادة على الوجود الإنساني في وجه أي محاولة لتجريده من حريته. بينما تسعى الأنظمة الثيوقراطية لتشكيل الفن لخدمة أغراضها، يبقى الفن الحقيقي قادرًا على كسر القوالب وتقديم رؤى جديدة تتجاوز حدود الزمان والمكان.
#غالب_المسعودي (هاشتاغ)
Galb__Masudi#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
جدلية الفن والواقع: بين المحاكاة والإبداع
-
النزعة البدائية والانا المثالية في تشكيل الهوية: مقاربة فلسف
...
-
التضارب الأخلاقي في عصر التكنولوجيا: مقاربة فلسفية
-
الكسل الفلسفي معضلة وجودية
-
المسألة الهومرية: من الذاكرة الحية إلى سلطة النص
-
معضلة الشر والحرب فلسفيا
-
صولون: فيلسوف، وسياسي، وشاعر يوناني قديم
-
جمهورية أفلاطون والمدينة الفاضلة عند الفارابي
-
من الهيمنة الى الاستبداد: تفكيك فلسفي للاستبداد في الشرق الأ
...
-
سقراط... الفيلسوف الذي لم يكتب كلمة
-
أفكار أنكساغوراس* عن العقل والاخلاق
-
الفَلْسَفَةُ حُبٌّ يُقَيِّد، وَطُموحٌ يَلْتَهِمِ القَلْب
-
الفلسفة بين ثقافة القهوة وقهوة الثقافة
-
العقلانية والوعي المفرط... مقبرة السعادة
-
ديوجينس* المعاصر
-
العقل المسيطر* والعقل المحض
-
الموت والحضور الباهت
-
اخلاقيات الكذب استثمار في السياسة
-
ملامح الحقبة الامبريالية في الشرق الأوسط
-
عدم الكمال الفلسفي* والتشتت الأيديولوجي في الشرق الأوسط
المزيد.....
-
أول تعليق -رسمي- من إسرائيل بشأن المفاوضات مع سوريا
-
موقع أكسيوس ينشر أجزاء من خطة ترامب لإنهاء الحرب في غزة، فما
...
-
-لم يبق سوى بضع ساعات-... ماكرون يؤكد لبزشكيان أن الاتفاق بش
...
-
بعد اللقاء مع ترامب.. بيان عربي-إسلامي يدعو لوقف الحرب وويتك
...
-
روبيو ولافروف وجهاً لوجه في نيويورك: دعوة أمريكية للتسوية مق
...
-
تقرير: تصريحات ترامب المتفائلة تخفي شكوكًا حول مستقبل الدور
...
-
نتنياهو يندد بالاعترافات الغربية بدولة فلسطين
-
في خطابه أمام الجمعية العامة.. الذكاء الاصطناعي الخصم الثاني
...
-
موقع هيومانتيريان: تخفيض المساعدات الأميركية يعيق استجابة أف
...
-
هجوم ليلي على أسطول الصمود وإصرار النشطاء على الوصول إلى غزة
...
المزيد.....
-
التجربة الجمالية
/ د. خالد زغريت
-
الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان
/ د. خالد زغريت
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول
...
/ منذر خدام
-
ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة
/ مضر خليل عمر
-
العرب والعولمة( الفصل الرابع)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الثالث)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الأول)
/ منذر خدام
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
المزيد.....
|