غالب المسعودي
(Galb Masudi)
الحوار المتمدن-العدد: 8471 - 2025 / 9 / 20 - 21:04
المحور:
قضايا ثقافية
النزعة البدائية كجوهر حيواني محض
من منظور فلسفي، يمكن النظر إلى النزعة البدائية على أنها تمثيل للجانب الحيواني أو الوجودي الأصيل في الإنسان. إنها ليست مجرد مجموعة من الغرائز، بل هي حالة الوجود غير المشروط؛ الوجود الذي يهدف فقط إلى البقاء وتحقيق اللذة، بمعزل عن أي قيم أو قواعد. هذه النزعة هي ما يربط الإنسان بالطبيعة، وتجعله جزءاً من تسلسلها الحيوي. إنها الجانب الذي يسبق الوعي، حيث يكون الفعل استجابة مباشرة للحاجة.
الأنا المثالية كوعي أخلاقي
على الجانب الآخر، تُمثّل الأنا المثالية الجانب الواعي والأخلاقي في الإنسان. يمكن اعتبارها تجسيداً للمثل الأفلاطونية؛ أي الأفكار المطلقة للخير، والعدل، والجمال. إنها ليست مجرد امتثال لقواعد المجتمع، بل هي وعي ذاتي يتجاوز الواقع المادي، ويسعى إلى تحقيق الكمال الأخلاقي. هذا الجانب هو ما يرفع الإنسان عن حالته الطبيعية، ويمنحه القدرة على تجاوز دوافعه البدائية والارتقاء إلى حالة من الوجود الموجه بالغايات.
صراع الوجود وتكوين الهوية
من هنا، يمكن فهم صراع النزعة البدائية والانا المثالية كصراع فلسفي عميق. إنه صراع بين ما هو كائن (الوجود الطبيعي الغريزي) وما يجب أن يكون (الوجود الأخلاقي المثالي). الهوية لا تُشكّل ببساطة من خلال الجمع بين هذين الجانبين، بل هي نتيجة هذا الصراع المستمر. إنها حالة من التوتر الدائم بين الرغبة في التحرر والانفلات، وبين الحاجة إلى الانضباط والارتقاء. هذا الصراع هو الذي يمنح الهوية معناها، ويجعل الإنسان كائناً يتجاوز ذاته باستمرار بحثاً عن التوازن بين ما هو عليه وما يطمح أن يكونه.
مقاربات فلسفية لتشكيل الهوية
المقاربة الجدلية الهيغلية: يمكن استخدام المنهج الفلسفي الجدلي الذي أسسه الفيلسوف الألماني هيغل لشرح عملية تشكيل الهوية. في هذا الإطار، لا يُنظر إلى النزعة البدائية والانا المثالية ككيانين منفصلين، بل كقوتين متناقضتين تتصارعان لتوليد حقيقة جديدة. الأطروحة تُمثّل النزعة البدائية، وهي القوة الوجودية البدائية للإنسان، بينما النقيض تُمثّل الأنا المثالية، وهي قوة الوعي التي تُقيّد الأطروحة وتُعارضها. التركيب يُشكّل الهوية، وهي ليست مجرد جمع للقوتين، بل هي حالة جديدة من الوعي ينتج عنها شيء أكثر تعقيداً وتطوراً. وفقاً لهذا النموذج، الهوية ليست ثابتة، بل هي في حالة تطور مستمر، يُحرّكها هذا الصراع الداخلي الدائم. كلما تطور وعي الفرد، يتغير تركيب الهوية، وتتجدد الأطروحات والنقائض، مما يؤدي إلى عملية لا نهائية من التطور.
المقاربة النيتشوية: يُمكن قراءة هذا الصراع من منظور الفيلسوف نيتشه، الذي يُؤمن بأن كل فعل إنساني تُحرّكه إرادة القوة. النزعة البدائية تُجسّد إرادة القوة في صورتها الخام؛ إنها القوة الحيوية التي تسعى إلى التعبير عن ذاتها، وإلى التوسع والسيطرة. في المقابل، تُجسّد الأنا المثالية التي تُقيّد إرادة القوة. وفقاً لنيتشه، تم اختراع هذه الأخلاق من قِبل الضعفاء لكبح جماح الأقوياء وتطويعهم. لذا، فإن صراع الهوية هو صراع بين الإنسان المتفوق الذي يتبنّى إرادة القوة ويُشكّل قيمه بنفسه، والإنسان الأخير الذي يُطيع القيم المفروضة من الخارج. الهوية، في هذا الإطار، هي نتاج هذا الصراع: إما أن تكون هوية قوية نابعة من "إرادة القوة"، أو هوية ضعيفة ناتجة عن الخضوع "لأخلاق العبيد".
المقاربة الوجودية: من منظور فلسفي وجودي، لا يمكن فهم النزعة البدائية ككيان نفسي، بل كـوجود أصيل يُمثّل حقيقة الإنسان العارية قبل أي تأثيرات خارجية. إنه الوجود الذي يرفض القوالب، ويتوق إلى التعبير عن ذاته بحرية. على النقيض، تُمثّل الأنا المثالية بناءً زائفاً. إنها ليست مجرد ضمير، بل هي تجسيد لمثاليات الآخر؛ المعايير التي يفرضها المجتمع والتقاليد والأنظمة الأخلاقية. في هذا السياق، يكون صراع الهوية صراعاً بين الوجود الأصيل والزيف.
المقاربة الظواهرية: من منظور الظواهرية، يمكن فهم النزعة البدائية والانا المثالية كظواهر معاشه، وليست مجرد مفاهيم مجردة. النزعة البدائية تُعاش كوعي جسدي؛ إنها الإحساس المباشر بالرغبة والاحتياج. الأنا المثالية تُعاش كوعي مُتخيَّل؛ إنها الصورة الذهنية للذات التي يطمح الإنسان أن يكونها. وفقاً لهذا المنظور، تُشكّل الهوية من خلال الوعي المباشر بهذا الصراع.
النزعات البدائية في المجتمعات المعاصرة
الشرق الأوسط:
في مجتمعات الشرق الأوسط، يمكن مقاربة ظاهرة "تغول النزعات البدائية" فلسفياً لا كظاهرة نفسية فردية، بل كفشل جماعي في الحداثة، حيث تتفكك البنى العقلانية للمجتمع، وتعود الولاءات الأولية (القبلية والطائفية) لتسيطر على المشهد. إنها عودة إلى "حالة الطبيعة" التي وصفها فلاسفة العقد الاجتماعي، ولكن في ثوب معاصر. يمكن النظر الى هذا الموضوع من عدة زوايا:
من منظور هوبز: يمكن فهم هذه الظاهرة من منظور الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز، الذي رأى أن الإنسان في "حالة الطبيعة" يعيش في صراع دائم، "حرب الكل ضد الكل". للخروج من هذه الحالة الفوضوية، يتنازل الأفراد عن بعض حريتهم لسلطة مركزية تفرض النظام. في كثير من مجتمعات الشرق الأوسط، يمكن القول إن هذا النظام الاجتماعي قد فشل. فمع ضعف أو انهيار سلطة الدولة المركزية، تعود المجموعات إلى حالة الطبيعة.
من منظور الفيلسوف والمؤرخ العربي ابن خلدون: يمكن تفسير الظاهرة عبر مفهوم العصبية. تبدأ العصبية قوية في المجتمعات القبلية وتُستخدم لبناء الدولة والحضارة، لكن مع ازدهار الدولة وترفها، تبدأ في التآكل. إذا تعرضت الدولة لضعف أو هزة، فإن العصبية الكامنة تعاود الظهور بشكل عنيف، ولكن هذه المرة ليس لبناء دولة جديدة، بل للتصارع على بقايا الدولة المتهاوية.
من منظور نيتشه: يمكن أيضاً النظر إلى الظاهرة عبر عدسة نيتشه، الذي رأى أن انهيار الأيديولوجيات والمثل العليا سيؤدي إلى العدمية. في هذا الفراغ الأخلاقي، يرى نيتشه أن الإنسان يعود إلى إرادة القوة في شكلها الأكثر وحشية، حيث يصبح الهدف الأسمى هو الهيمنة والسيطرة، وتُصبح القوة هي الحقيقة الوحيدة. في الشرق الأوسط، يمكن فهم تجذر النزعات البدائية كنتيجة لانهيار "المشروع القومي" وتآكل الرموز الدينية التي لم تعد قادرة على توحيد المجتمعات.
العفة كبديل للفراغ الأخلاقي
تعتبر العفة ضرورية للحفاظ على القيم الإنسانية في مواجهة التحديات التي يطرحها الفراغ الأخلاقي. التغيرات السريعة في المجتمع يمكن أن تؤدي إلى تآكل القيم التقليدية. التكنولوجيا ووسائل الإعلام يمكن أن تسهم في نشر أفكار وسلوكيات تتعارض مع القيم الأخلاقية الذي قد يرفع معدل الجرائم والسلوكيات المنحرفة في المجتمعات التي تعاني منه. إن التناقض بين المطلب العلني بـالعفة وتفشي الفراغ الأخلاقي في الممارسات هو ظاهرة فلسفية عميقة. إنها ليست مجرد مسألة أخلاقية، بل هي دليل على خلل في المنظومة الفلسفية التي تُبنى عليها هذه المجتمعات.
العفة كرمز أخلاقي والواقع كفشل وجودي:
يمكن مقاربة هذه الظاهرة من منظور يفرق بين الرمز والواقع. تُعد العفة في كثير من المجتمعات رمزاً أخلاقياً، أو محدداً رئيسياً للهوية، ولكن عندما يصبح التركيز على الرمز وحده، تُهمَل القيم الأخلاقية الأخرى التي تُعتبر أكثر تعقيداً وأقل وضوحاً، مثل الصدق والعدالة. يُصبح التركيز على المظاهر الخارجية التي تمنح القبول الاجتماعي، بينما تتآكل القيم الداخلية.
من منظور ميشيل فوكو:
لا يمكن فهم هذا المطلب الاجتماعي بمعزل عن آليات السلطة. يرى فوكو أن الأخلاق تُستخدم كأداة للسيطرة على الأفراد والمجتمع. في هذه الحالة، يصبح خطاب العفة أداة لتنظيم الجسد والرغبة، مما يمنح السلطة وسيلة للتحكم في الأفراد.
العفة كمحاولة يائسة ضد العدمية:
يمكن النظر إلى هذا التناقض كدليل على العدمية الخفية في هذه المجتمعات. عندما تتفكك المشاريع الكبرى وتفشل في إعطاء معنى للحياة، يلجأ الأفراد إلى قيم بسيطة ومباشرة. في ظل غياب المعنى، تُصبح العفة بمثابة طوق نجاة أخلاقي. لكن هذا الحل لا ينجح، لأن الوجود الإنساني لا يمكن اختزاله في رمز واحد.
#غالب_المسعودي (هاشتاغ)
Galb__Masudi#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟