غالب المسعودي
(Galb Masudi)
الحوار المتمدن-العدد: 8496 - 2025 / 10 / 15 - 20:14
المحور:
قضايا ثقافية
لا يمثل التحالف بين الرأسمالية المهيمنة والسلطة الثيوقراطية مجرد تعاون تكتيكي عابر، بل هو تزاوج هيكلي معقد. في هذا الإطار، تستمد القوى الاقتصادية شرعيتها واستقرارها من المؤسسة الدينية، بينما تضمن المؤسسة الدينية نفوذها الاقتصادي ودوامها السياسي عبر تبني النظام الرأسمالي للدولة ورعايته. لفهم هذا التحالف، يجب أولاً تحديد طبيعة مكوناته في سياق المنطقة:
الجذور والترسخ
تشير الرأسمالية في هذا التحليل إلى شكلها المشوّه المرتبط باقتصاد الريع والفساد الهيكلي، على خلاف الرأسمالية التنافسية الليبرالية البحتة. أما الثيوقراطية، فتُعرَّف بتوظيف رجال الدين أو المؤسسات الدينية للإشراف على السلطة أو التحكم فيها. يوفر هذا التزاوج غطاءً أخلاقياً وقانونياً لتراكم الثروة والفساد المنهجي الذي يخدم النخب الحاكمة.
لتحليل تداعيات هذا التحالف، من الضروري استدعاء الإطار النقدي الذي قدمه الفيلسوف الكندي آلان دونو في كتابه "نظام التفاهة". يفرق دونو، كما أوضحت مترجمة الكتاب، بين "التفاهة الفردية" التي تصف تواضع المستوى الفكري للفرد، و"نظام التفاهة" الذي يعبر عن نظام اجتماعي كامل تسيطر عليه طبقة حاكمة من التافهين. هذه الطبقة لا ترتقي إلى هرم السلطة عبر استحقاق أو ثورة، بل تفرض نفسها كمعيار إداري جديد، حيث تصبح الرداءة والانحطاط هما معيار الإدارة.
التفاهة كضرورة هيكلية للرأسمالية الريعية
تتجلى أيديولوجيا التفاهة عندما تستخدمها الديكتاتوريات كسلاح ممنهج. فالسلطات تلجأ إلى التسطيح الأيديولوجي لطرح مشاكل مجتمعاتها، حتى تبدو هذه المجتمعات غير جديرة بالاحترام أو الحكم الذاتي، بينما يظهر الحاكم كـ "العاقل الأوحد" والقائد الأحق بالسلطة. هذا التكريس لتهميش الكفاءة ناتج عن اعتماد النظام الاقتصادي (الرأسمالية الريعية) على شراء الولاءات وتوزيع الامتيازات. هذا يتطلب استبدال الكفاءات التي قد تكون ناقدة أو مستقلة، بأفراد يقدمون الطاعة. ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن نظام التفاهة ليس ناتجاً عرضياً للفساد، بل هو ضرورة هيكلية لاستقرار الرأسمالية الريعية في المنطقة.
إن هذا التسطيح يطال حتى مفهوم الحرية، الذي دعا الفيلسوف مونتسكيو لحمايته من التفاهة. لكن التفاهة المعاصرة، خاصة عبر الشبكات الاجتماعية، تُحوِّل التافهين إلى رموز وتختزل النجاح في المال وحده، مما يخدم الرأسمالية المتوحشة التي تحوّل الفن والثقافة إلى صناعة. يؤدي هذا التسطيح إلى انحطاط المجال العام وقمع الحرية النقدية الأصيلة.
الجذور التاريخية:
تاريخياً، لم تكن العلاقة بين الدين والمال في التشكيلات الكلاسيكية غائبة، بل كانت محكومة بمنظومة توزيعية وأخلاقية. كان لآليات مثل الأوقاف دور كبير في إدارة الأصول والملكية، بينما كانت وظيفة الحسبة تضمن الرقابة على الأسواق. كان الفقه الاقتصادي يسعى إلى تنظيم صلة الفرد بنفسه وبربه، وكفل حق التملك للجميع. ومع ذلك، بعد فترة الاستعمار وصعود الدولة الحديثة، حدث تهميش ممنهج للفقه الاقتصادي التقليدي.
صعود اقتصاد الريع وتوظيف الشرعية الدينية
يعد صعود اقتصاد الريع، خاصة القائم على النفط، هو العامل الحاسم الذي أتاح التزاوج الهيكلي بين السلطة والدين والرأسمالية المشوهة. لقد تحولت الثروة النفطية الهائلة إلى أداة أساسية لامتلاك الشرعية، حيث يتم تمويل الدولة والمؤسسات الدينية مباشرة من هذه الثروة. هذا يلغي حاجة الحاكم إلى الشرعية التنافسية أو الشعبية، ويسمح بتركيز السلطة والثروة.
كما أن اقتصاد الريع يتطلب الفساد الهيكلي كخيار استراتيجي. فسياسة الريع الاقتصادي تعتمد على شراء الولاءات ومنح الامتيازات الاقتصادية للنخب المقربة، مما يقضي على الرموز الشرعية والشعبية المستقلة.
في هذا السياق، لا ينتج نظام الريع التفاهة عرضاً، بل يستلزمها. لضمان استمرار الولاء المطلق للسلطة، يجب إبعاد الكفاءات النقدية واستبدالها بالمعينين بناءً على المحسوبية والواسطة. هذا يعني أن التفاهة هنا ليست فشلاً إدارياً، بل هي سياسة أيديولوجية مقصودة للحفاظ على السيطرة. النظام الريعي يوفر القدرة المالية لشراء الطاعة، والطاعة تتطلب استبدال الجدارة بالانصياع، مما يؤدي مباشرة إلى ترسيخ نظام التفاهة الهيكلي.
آليات الترسخ المعاصرة
يعمل التحالف الثيوقراطي-الرأسمالي من خلال نماذج مؤسسية متباينة، لكنها تشترك في هدف تهميش الكفاءة وإعلاء الولاء. يظهر هذا بوضوح في المقارنة بين النموذج الريعي والنموذج الثيوقراطي المختلط.
إن ظاهرة الواسطة والمحسوبية في التوظيف ليست مجرد فساد إداري، بل هي ميكانيكية لضمان أن تبقى المناصب الإدارية والقيادية في يد الموالين للسلطة، حتى لو كان ذلك على حساب الكفاءة. وقد أشارت الدراسات إلى أن المحسوبية تعد من أخطر أنواع الفساد لأنها تقوض بناء الدولة ومؤسساتها المدنية والعسكرية.
في محاولة للتغطية على غياب الشرعية الديمقراطية، يتم تسويق أنظمة حكم تكنوقراطية مستوردة كنماذج "حضارية". لكن التكنوقراطية هنا تركز على الاختصاص العلمي للإخفاء الممنهج لغياب الشرعية الشعبية. الوزير في النظام الديمقراطي هو منصب سياسي قبل أن يكون إدارياً، لكن التركيز على كونه "خبيراً" يهدف إلى تجريد المنصب من مسؤولياته السياسية، مما يخدم فكرة الحاكم "العاقل الأوحد."
التحكم بالإعلام والتسطيح الممنهج
لطالما كانت السيطرة على أدوات الوعي الجماهيري هي الخطوة الأولى لترسيخ الحكم الدكتاتوري. تاريخياً، كانت السيطرة على مباني الإذاعة والتلفزيون هي النقطة المحورية للانقلابات في العالم العربي، وتُستخدم هذه الأدوات بانتظام لخدمة البرنامج السياسي وبث الرسائل.
الاستراتيجية الأيديولوجية هنا هي استراتيجية "التسطيح". تستخدم السلطات الإعلام لطرح مشاكل المجتمعات بأسلوب يهدف إلى إظهارها على أنها مجتمعات تافهة وغير جديرة بالاحترام، مما يرسخ صورة الحاكم كالعاقل الأوحد والقادر على الوصول إلى الحقيقة. هذا التسطيح يتطلب إيقافاً للعلم الحقيقي، لصالح "أنشطة دعائية أو أيديولوجية" تخدم مصالح السلطة فقط.
التفاهة الرقمية
في العصر الحديث، تجد التفاهة مساحة رحبة للانتشار عبر المنصات الرقمية. ما وصفه أمبرتو إيكو بـ "غزو البلهاء" أصبح واقعاً حيث يغرق طوفان من المحتوى الموبوء وسائل التواصل الاجتماعي. ورغم أن هذه الشبكات توفر فرصاً لتبادل الآراء واختصار مسيرة طويلة من التفاعل الفكري، فإنها نجحت بشكل منهجي في "ترميز التافهين"؛ أي تحويل مشاهير السوشيال ميديا و(الفاشينيستات) إلى رموز، واختزال النجاح في المال وحده.
هذا التطور يعكس استجابة مباشرة للرأسمالية المتوحشة التي حولت البشر إلى آلات إنتاج. فالتفاهة الرقمية هي الوجه الاستهلاكي-الرأسمالي للتفاهة السياسية. يتم تحويل الإنجازات البشرية المعقدة إلى "استعراض أبله استهلاكي". هذا الإلهاء الاستهلاكي السطحي يضمن تحويل انتباه الجمهور بعيداً عن مساءلة النظام الاقتصادي والسياسي، ويكرس التفاهة كأداة للهيمنة في المجتمعات المعاصرة. كما أن خطر الصمت يصبح قائماً، حيث يُنظر إلى الامتناع عن النقد كـ "خيار"، مما يدفع العقلاء إلى الانسحاب وملء الفراغ بالمحتوى التافه.
التفاهة علامة على الاستبداد الهيكلي
لقد ثبت أن ظاهرة "نظام التفاهة" في الشرق الأوسط ليست انحرافاً اجتماعياً عرضياً، بل هي نتاج وظيفي ومقصود للتحالف الاستراتيجي بين رأس المال غير المقيد والسلطة الدينية الموظفة سياسياً. فالثيوقراطية توفر الغطاء الشرعي للريع الاقتصادي والفساد الهيكلي، بينما توفر الرأسمالية الموارد اللازمة لشراء الولاء وتهميش الكفاءة. هذا النظام يضمن استمرارية الاستبداد من خلال استبدال الجدارة بالانصياع، واستبدال النقد الجاد بالتسطيح الإعلامي والاستعراض الاستهلاكي السطحي. إن نظام التفاهة هو الآلية التي تضمن دوام الاستبداد الهيكلي في عصر العولمة الرقمية والتنمية الشكلية المعلنة.
--------------------------------
المراجع
دونو، آلان. نظام التفاهة.
عمون الإخبارية. الولاء والكفاءة.. معادلة لا تقبل القسمة | كتاب عمون
#غالب_المسعودي (هاشتاغ)
Galb__Masudi#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟