غالب المسعودي
(Galb Masudi)
الحوار المتمدن-العدد: 8493 - 2025 / 10 / 12 - 23:55
المحور:
قضايا ثقافية
النشأة والأسس الإبستمولوجية الأحادية
تُعرّف العلموية على أنها الاعتقاد بأن العلم والمنهج العلمي هما الطريقة الوحيدة أو الأفضل لتقديم الحقيقة عن العالم والواقع. يمثل هذا التوجه تقييمًا مبالغًا فيه للعلوم الطبيعية مقارنة بفروع المعرفة الأخرى، ويتخذ بُعدين حاسمين في الفلسفة المعاصرة، حيث يؤدي هذا الالتزام الأنطولوجي الصارم إلى المطالبة "بإزالة الأبعاد النفسية [والروحية] للتجربة". إن هذا التوجه الإلغائي يعني أن العلموية لا تكتفي بتجاهل الظواهر الوجودية أو الوعي، بل تضع فرضية ميتافيزيقية مسبقة تعتبر أي ظاهرة تقع خارج نطاق الاختزال الفيزيائي وهمية أو غير حقيقية.
يتجسد هذا الموقف في الفلسفة التحليلية المعاصرة، حيث يتبنى فلاسفة مثل ألكسندر روزنبرغ "العلموية" كاسم للرأي القائل بأن العلم هو المصدر الوحيد الموثوق للمعرفة. وبما أن العلم مقيد بالتحقيق في الأمور القابلة للقياس والاختبار، فإن روزنبرغ يرفض وجود مفاهيم مثل الإرادة الحرة، والهدف، والأخلاق الموضوعية، معتبرًا إياها مجرد أوهام. هذا الالتزام بأن الوعي ظاهرة قابلة للاختزال المادي يكشف أن العلموية ليست أساسًا إبستمولوجيًا بحتًا، بل هي أساس ميتافيزيقي يتطلب بالضرورة رفض الماهيات الوجودية التي تقوم على أساس الوعي الحر والقصدية.
الوجودية والماهيات الوجودية
تستجيب الوجودية والفينومينولوجيا الوجودية للتحدي العلموي بتأسيس إبستمولوجيا تبدأ من التجربة الإنسانية المُعاشة كمعطى أولي لا يمكن اختزاله. يبدأ هذا الاتجاه من الخبرة، ولكنه يشدد على زمنية الوجود الشخصي كإطار أساسي لتحليل الحالة الإنسانية. هذا الإطار هو نقيض للواقعية العلمية التي تسعى إلى قوانين كونية خالدة ومستقلة عن المنظور.
يتمحور الفكر الوجودي، كما في صياغة سارتر، حول مبدأ أن "الإنسان كائن يسبق وجوده ماهيته". وهو ما يؤكد أن هوية الفرد تتشكل بالوضع الاجتماعي والتاريخي والسياسي الذي وُلد فيه، وليس بجوهر كوني مسبق. هذا الموقف يحوي تحريرًا إبستمولوجيًا، حيث يحرر الفينومينولوجيا الوجودية من ضرورة البحث عن "أرضية عالمية" لكل تجربة، مما يجعل أي ادعاء بالمعرفة الكونية والمطلقة، كما يطالب به العلمويون، موضع شك دائم؛ كون التجربة ستظل دائمًا جزئية ومتأثرة بوضع الذات.
الموضوعية المنهجية ونقد الذاتية المرجعية
تتمسك العلموية بصرامة بمعيار الحقيقة الموضوعية، الذي يشير إلى الأمور التي نعتبرها صحيحة أو موجودة بشكل مستقل عن إدراكنا لها. العلم، في هذا الإطار، يسعى لوصف العالم "كما هو في حد ذاته، مستقلاً عن المنظور". وتكمن قوة العلموية في قدرتها على التنبؤ والتحكم، حيث توفر "قراءة عظمى للواقع"، وهي قراءة تخدم أغراض الوصف والسيطرة.
على الرغم من إصرارها على الصرامة المنهجية، تواجه العلموية تناقضًا ذاتيًا جوهريًا. إن العبارة القائلة بأن "العلم هو الطريقة الوحيدة الموثوقة لتأمين المعرفة" هي نفسها قضية فلسفية، ولا يمكن إثبات صحتها أو دحضها باستخدام المنهج العلمي ذاته. ونتيجة لذلك، لتقرير ما إذا كانت العلموية هي الأساس الصحيح لتحديد الواقع، يجب على الباحث أن يكون مستعدًا لتجاوز المنهج العلمي. هذا يكشف أن العلموية، في جوهرها، ليست موقفًا علميًا، بل هي دغمائية فلسفية حول حدود المعرفة، وتتطلب تبريرًا ميتافيزيقيًا غير علمي.
الرفض الإلغائي للمعنى
يصر العلمويون، مثل روزنبرغ، على أن أي مفهوم لا يمكن قياسه أو اختزاله ماديًا (مثل الغرض أو المعنى) يجب أن يُرفض كـ "وهم". إن حدود العلم الذاتية، المتمثلة في اقتصاره على الوصف والتنبؤ، تجعله عاجزًا عن توفير أساس للمعنى، مما يترك فجوة وجودية عميقة في إطارهم المعرفي.
على النقيض، تؤكد الوجودية على الحرية الجذرية والزمنية كإطار للوجود. يُفهم الوجود الإنساني على أنه "مشروع نحو المستقبل، الإمكانية، والحرية، والأمل، والقلق". هذا المفهوم، حيث يكون الفرد حرًا في خلق ماهيته، يلغي فكرة الحتمية الفيزيائية الشاملة التي تتطلبها العلموية لنجاح مشروعها الاختزالي.
الصراع حول الأخلاق والمسؤولية
تمثل الأخلاق المنطقة التي تنهار فيها سلطة العلموية، وهنا تفرض الماهيات الوجودية نفسها كضرورة لا يمكن تجاوزها.
الأخلاق كذاتية وفقدان المعيار
ترى بعض المذاهب المرتبطة بالعلموية، ممثلة بمفكرين مثل نيتشه ورسل، أن القيم الأخلاقية هي مجرد تفسيرات وتفضيلات شخصية وليست مبادئ عامة يمكن إثباتها أو نفيها علميًا. هذا النقص في الأساس المعياري ينتج عنه عجز إبستمولوجي عن توجيه السلوك.
حدود الحياد والكرامة الإنسانية
إن التقدم العلمي يفرض تحديات أخلاقية كبرى تتطلب معالجة مفاهيم غير علمية مثل "احترام الكرامة الإنسانية" و "الحياة البشرية"، كما ظهر في النقاش حول الخلايا الجذعية الجنينية. لقد كشف التطور التكنولوجي أن التمسك بمبدأ "حياد العلم" الذي ساد في القرن التاسع عشر، أصبح في المناخ المعاصر أمرًا غير أخلاقي، حيث يجب على العلماء تحمل مسؤولية النتائج الأخلاقية والاجتماعية لعملهم.
إن الفلسفة الوجودية والفينومينولوجية هي الوحيدة القادرة على توفير أساس أخلاقي متماسك، لأنها تبدأ من الوجود الإنساني كحقيقة لا يمكن التنازل عنها. يجب أن يتم تكييف استخدام المعرفة العلمية لتتوافق مع المبادئ الأساسية للحضارة، وهذا يتطلب بالضرورة الانخراط في نقاشات مدنية مؤسسة على قيم وجودية تتجاوز نطاق القياس العلمي.
العلم كسياق مؤطَّر
ينظر الفينومينولوجيون إلى العلم من "مسافات بؤرية مختلفة"، محللين كيف أن البحث العلمي نفسه يتم "تأطيره في بيئة مليئة بالدوافع الأخلاقية والسياسية وعلاقات القوة". هذا النقد يفكك الادعاءات بالحياد التام.
وساطة المعرفة والوهم المعرفي
يتم فحص كيف تتوسط الأدوات والنظريات والمختبرات في الإدراك العلمي. يهدف هذا التحليل إلى تبديد "الوهم" القائل بأن المعرفة العلمية تتكون من تجريدات تُرى من "لا مكان على وجه الخصوص". إن الحقيقة دائمًا تتضمن "إفشاء" يحدث لشخص ما في سياق ثقافي وتاريخي معين.
وبوضع العلم نفسه ضمن إطار أنطولوجي أوسع، تصبح الفينومينولوجيا بمثابة دراسة "ما وراء العلموية"، حيث تفحص الشروط المعرفية التي تجعل الادعاءات العلمية ممكنة في المقام الأول. إنها تظهر أن القوانين العلمية ليست موجودة في المطلق، بل هي "هياكل ثابتة" تُكتشف ضمن مستويات مختلفة من التحليل (المحقق، المختبر، عالم الحياة).
توفر النظرية النقدية مسارًا عمليًا لتوليف النقد الوجودي مع التحليل الاجتماعي والسياسي، متجاوزة حدود التخصصات التقليدية لـ "رؤية كل هذه الأشياء كأجزاء من كل غير مرئي."
التكامل الوجودي ونقد الاختزال
تجمع النظرية النقدية مفكرين قاريين، بمن فيهم سارتر ونيتشه وفوكو. هذا الدمج يسمح باستخدام المفاهيم الوجودية، مثل الحرية والتأويل الشخصي للقيم، كأدوات لدراسة البنى الاجتماعية. ومن خلال التمسك بمبدأ "الوجود يسبق الماهية"، تقاوم النظرية النقدية محاولة العلموية لاختزال التعقيد البشري والقضايا الاجتماعية إلى متغيرات كمية قابلة للقياس فقط.
إن رفض الحياد، المشترك بين النظرية النقدية والفينومينولوجيا، يفسر العلموية على أنها شكل من أشكال "علاقات القوة" التي تسعى إلى فرض نموذج ضيق للواقع. هذا النموذج قد يخدم مصالح أيديولوجية أو مؤسساتية، مما يحول العلم من أداة معرفية إلى أداة للسيطرة. إن فحص الدوافع الأخلاقية والسياسية للبحث العلمي يتفق مع الرفض الوجودي للحياد، مؤكدًا أن الادعاء بالحياد التام هو بحد ذاته ممارسة للسلطة.
نحو إطار معرفي توليفي
لا يكمن الهدف من تحليل التباين الإبستمولوجي في رفض العلم، بل في تحديد مجاله وحدوده الإبستمولوجية. يُقر التحليل بأن العلم، في أفضل حالاته، يوفر تنبؤًا ووصفًا فعالًا للعالم المادي، لكنه غير كافٍ لتقديم وصف كامل للواقع، خاصة فيما يتعلق بالخبرة المعاشة والوعي والقيم.
العلموية تفشل في توفير أساس أخلاقي، مما يجبر المجتمع على العودة إلى مفاهيم غير قابلة للقياس مثل الكرامة الإنسانية. هذا العجز الإبستمولوجي يشير إلى أن الفلسفة الوجودية والفينومينولوجية هي الوحيدة القادرة على توفير هذا الأساس، لأنها تبدأ من الوجود الإنساني كحقيقة غير قابلة للتنازل.
إن الفلسفة المعاصرة تتطلب إطارًا معرفيًا يدمج إنجازات العلوم الطبيعية (لشرح الكيفية) مع القواعد الأنطولوجية للماهيات الوجودية (لشرح الغرض والخبرة). ويوفر المنهج الظواهري الأدوات اللازمة لهذا التوليف، عبر التركيز على القصدية والزمنية كحقائق أنطولوجية لا يمكن اختزالها، مما يضمن أن السعي وراء المعرفة لا يقود إلى تهميش أو إلغاء البعد الإنساني للوجود.
-----------------
مصادر
Sartre, Jean-Paul. Existentialism is Humanism. (أساسي في مبدأ "الوجود يسبق الماهية" والقصدية)
Rosenberg, Alex. The Atheist s Guide to Reality: Enjoying Life Without Illusions. (مصدر أساسي لفهم الموقف العلموي الاختزالي الذي يتبناه روزنبرغ)
Husserl, Edmund. The Crisis of European Sciences and Transcendental Phenomenology. (مهم لفهم جذور النقد الظواهري للعلموية)
Heidegger, Martin. Being and Time. (لتوضيح مفهوم "الزمنية" و"الوجود الشخصي" كإطار أنطولوجي)
Adorno, Theodor W. and Horkheimer, Max. Dialectic of Enlightenment
Foucault, Michel. Power/Knowledge: Selected Interviews and Other Writings, 1972-1977. (حول علاقة المعرفة والسلطة)
#غالب_المسعودي (هاشتاغ)
Galb__Masudi#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟