غالب المسعودي
(Galb Masudi)
الحوار المتمدن-العدد: 8492 - 2025 / 10 / 11 - 08:17
المحور:
قضايا ثقافية
إشكالية التسمية والتعريف
تُعرف مغالطة الاحتكام إلى التقليد (أو مغالطة الاحتكام إلى القِدم)، بأنها مغالطة منطقية تقوم على ادعاء صحة أطروحة أو قيمتها، لمجرد استنادها إلى تقليد سابق أو ممارسة مستمرة عبر الزمن. الصيغة المعيارية لهذه المغالطة هي: “هذا صحيح لأننا دائمًا ما فعلناه بهذه الطريقة“.
يكمن جوهر الخطأ المنطقي هنا في معاملة القِدم أو التقليد دليلاً كافياً ووحيداً لجدارة الفكرة أو السلوك، دون تقديم أي دليل موضوعي أو استدلال تحليلي يدعم هذا الادعاء.
تمييز المغالطة ومقارنتها بمغالطات أخرى
لتوضيح الخطأ المنطقي، يمكن رؤية مغالطة استدرار العطف في أمثلة واضحة، مثل محاولة طالب تبرير أحقيته في الحصول على درجة ممتازة بالاستناد إلى حالة جدته المريضة، مدعيًا أنها قد تموت بنوبة قلبية في حال رسوبه. وكذلك محاولة تبرير قبول رسالة دكتوراه بالمدة الزمنية الطويلة التي قُضِيَت في إنجازها (سبع سنوات متواصلة)، بدلاً من جودتها العلمية. في جميع هذه الحالات، يتم استبدال المعيار الموضوعي (الجودة العلمية، النتيجة الفعلية) بعامل عاطفي غير ملائم للحكم على صحة القضية الأساسية.
ومع ذلك، لا تُعد الحجة مغالطة إذا استُخدِمت الظروف العاطفية أو المأساوية كدليل ملائم ضمن إطار قانوني أو معياري يمنح حقاً معيناً. على سبيل المثال، إذا أصيب طالب بالبرد ليلة الامتحان وكان يحق له قانونًا امتحان بديل بناءً على هذا الظرف الصحي، فإن المطالبة بالحق ليست مغالطة؛ لأنه استند إلى حق مكفول في نظام معين، وليس إلى استدرار العطف.
إن الفصل بين المغالطتين ضروري؛ إذ تتعلق مغالطة الاحتكام إلى التقليد بالزمن والقِدم، بينما تتعلق مغالطة استدرار العطف بالحالة العاطفية والمشاعر.
مغالطات الزمان المتضادة
لا يُعد الاحتكام إلى التقليد مجرد خطأ في الاستدلال، بل هو نتاج لافتراضات معرفية غير معلنة تمنح الماضي سلطة مطلقة، وهذا يستوجب تحليل هذه الافتراضات الداخلية ومقارنتها بالمغالطات النقيضة.
من الأهمية بمكان وضع مغالطة الاحتكام إلى التقليد في مواجهة نقيضها المباشر، وهو مغالطة الاحتكام إلى الحداثة. هذه المغالطة الأخيرة تدعي أن فكرة ما متفوقة لمجرد حداثتها، أو أن التقاليد القديمة خاطئة لمجرد قِدمها.
وكلا المغالطتين خطيرتان لأنهما ترتكزان على معيار زمني غير ملائم (سواء كان طول المدة أو قصرها) كدليل بديل عن الدليل الموضوعي والحكم العقلاني. إن مغالطة الاحتكام إلى التقليد تكمن في الخلط بين التقليد كعامل تاريخي يجب أخذه في الاعتبار، وبين التقليد بصفته دليلاً كافياً على الصحة.
فالحجة يمكن أن تكون سليمة إذا ذكر المتحدث أن العرف هو عامل ملائم، ثم قدَّم حقائق وأدلة داعمة تفسر لماذا هذا التقليد مفيد أو ضروري. لكنه يصبح مغالطة إذا كان التقليد هو المبرر الوحيد للاستمرار أو الصحة، متجاهلاً السياقات المعاصرة والأدلة الحديثة.
العقل التنويري ومناهضة سلطة الجمود
يُعد العصر التنويري مشروعاً فلسفياً يهدف بالدرجة الأولى إلى ترجيح الإمكانية الاجتهادية للتقدم على الجمود المذهبي للتقليد. كان التنوير دعوة للتحرر من الأوهام والسلطات التقليدية التي لا تستند إلى المعقولية.
تبنت مدرسة فرانكفورت هذا النقد في النظرية النقدية، حيث عملت على تبديد أوهام السلطة التقليدية. وقد تم توجيه سلاح المعقولية ضد اللاعقلانيات الضاغطة، وطرحت المدرسة مفهوم “العقل التواصلي” ليحل محل “العقل الأداتي”، مؤكدة على ضرورة إرجاع النقد إلى حصنه المنيع ليصبح نقداً للنقد. هذا المسار النقدي يرى أن الاستناد الأعمى للتقليد هو شكل من أشكال التسلط الناعم والخبيث الذي يختبئ أحيانًا وراء اللغة أو يفصح عن نفسه من خلال الدعاية.
الجذور النقدية للتقليد في الفكر ما قبل الحديث
إن النزعة النقدية للتقليد الأعمى ليست محصورة في التجربة الغربية الحديثة، بل لها جذور عميقة في الفلسفات القديمة وفي الفكر الأصولي.
في الفلسفة اليونانية، قاوم سقراط وأفلاطون النزعات الأخلاقية التي تحتكم إلى العرف والسوابق غير المبررة. فمثلاً، كانت مقاومة أفلاطون وأرسطو لمذهب أرسطبس القوريني (الذي رأى أن اللذة هي الخير الأسمى)، دفاعًا عن التفكير العقلي في تحديد الخير بدلاً من التسليم بأبسط صور اللذة أو العادة. كما أن استخدام أرسطو للمنطق الصوري كان تطويرًا للمبادئ الأفلاطونية والسقراطية التي أكدت على أهمية التعريف وتحديد المفاهيم، مما يعني رفض التسليم المعرفي غير الدقيق.
وعلى صعيد الفكر الأصولي الإسلامي، فقد كان هناك نقد مبكر وصارم لظاهرة التقليد الأعمى. أكد الإمام الغزالي على أن من شروط المقلد “ألا يعلم أنه مقلد، فإذا علم ذلك انكسرت زجاجة تقليده”. نقد الغزالي للتقليد الفلسفي والديني كان مبنِيًّا على ضرورة إزالة الهوى والتعصب العقائدي والبحث عن اليقين، إذ أشار إلى أن التقليد يمكن أن يكون شكلاً من أشكال الخداع الذاتي. كما استدل علماء آخرون، مثل القرطبي، من النصوص القرآنية على ضرورة استعمال “حجج العقول وإبطال التقليد”. إن وجود هذا النقد في سياقات معرفية متنوعة (يونانية، إسلامية، تنويرية) يثبت أن الدافع إلى تجاوز التقليد الأعمى هو خطوة تطورية ضرورية في أي مسار معرفي، وتمثِّل الانتقال من القبول السلبي إلى الإيمان المُبرَّر بالدليل.
الماضوية كإيديولوجيا ثقافية
عندما تتحول مغالطة الاحتكام إلى التقليد من مجرد خطأ منطقي إلى ظاهرة اجتماعية وسياسية، فإنها تتخذ شكل “الماضوية” أو “الرجعية”. تُوصف الماضوية بأنها نزعة ثقافية معاصرة تجعل التوجه نحو الماضي (الرجعية) أمراً رائجاً وشكلاً من أشكال إثبات الذات في مواجهة الآخرين (أو الأعداء).
في سياق التأويل (الهرمينوطيقا)، أكد هانز جورج غادامير على القيمة المعرفية للتقليد. يرى غادامير أن الفهم لا يبدأ من فراغ، بل يتطلب دائمًا وعيًا تاريخيًا مسبقًا، أو ما يُعرف بـ “الأفق المسبق”. هذا الأفق، المتأصل في تقليدنا، هو الذي يتيح لنا التفسير والتواصل مع الأفكار والنصوص القديمة. بالتالي، لا يعتبر غادامير التقليد عقبة أمام المعرفة، بل هو جزء أساسي من عملية المعرفة نفسها. ففهم نص قديم أو ممارسة تاريخية يستلزم الانخراط في تقليدها لاستيعاب دلالاتها، لكن هذا لا يعني التسليم بصدقها دون فحص نقدي.
الارتباطات بمغالطات السلطة والأيديولوجيا
يرتبط الاحتكام إلى التقليد بمغالطة الاحتكام إلى السلطة في كلتا الحالتين حيث يتم رفض الدليل المباشر لصالح مصدر خارجي. في حالة مغالطة التقليد، يُعامل الماضي نفسه كـ “سلطة غائبة ومثالية” لا يمكن استجوابها، ويُعتبر طول المدة دليلاً على صدق القائلين.
كما أن التمسك بالتقاليد، وخاصة في المجالين الاقتصادي والسياسي، يمكن أن يتحول إلى “أيديولوجيا مسلطة”. على سبيل المثال، القبول بثقافة اقتصاد السوق كأمر واقع لا راد له، أو القبول بـ “الماضوية”، قد يكون شكلاً من أشكال السلطة الناعمة الخبيثة التي تختبئ وراء لغة التبرير أو الدعاية. هنا، يتم تبرير الجمود الفكري أو الاقتصادي ليس بالمنطق، بل بحتمية الاستمرار التاريخي.
—————————
المراجع
Wikipedia. Appeal to tradition. (موسوعة إلكترونية)
QuillBot. Appeal to Tradition Fallacy | Definition & Examples. (أداة ومنصة تعليمية)
Academy 4SC Learning Hub. Appeal to Tradition: We’ve Always Used Catchy Slogans. (منصة تعليمية)
Internet Encyclopedia of Philosophy (IEP). Fallacies (موسوعة أكاديمية)
Kallenberg, Brad. “Tradition-based Rationality” eCommons. Udayton.edu. (ورقة بحثية/مقال أكاديمي)
Notre Dame Philosophical Reviews (NDPR) Gadamer’s Century: Essays in Honor of Hans-Georg Gadamer (مراجعة أو مقال نقدي)
The University of Chicago Press: Journals. MacIntyre’s “Rationality of Traditions” and Tradition-Transcendental Standards of Justification. (مقالة من مجلة أكاديمية
#غالب_المسعودي (هاشتاغ)
Galb__Masudi#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟