|
إله سبينوزا والإله الوجودي: الجوهر المحايث ونسق الوجود
غالب المسعودي
(Galb Masudi)
الحوار المتمدن-العدد: 8480 - 2025 / 9 / 29 - 02:52
المحور:
قضايا ثقافية
باروخ سبينوزا (1632-1677) هو أحد أبرز المفكرين وأكثرهم إثارة للجدل في تاريخ الفلسفة الغربية. شكلت أفكاره تحدياً جذرياً للعقائد الدينية والسياسية السائدة في عصره، ما أسفر عن طرده من الجالية اليهودية في أمستردام عام 1656، حين كان في الثالثة والعشرين من عمره. لم يكن هذا الحرمان مجرد عقوبة دينية، بل كان تحرّرًا فكريًا سمح له بتطوير فلسفته بحرية كاملة، بعيداً عن قيود اللاهوت التقليدي. تشير التحليلات إلى أن الأسباب المحتملة لهذا الطرد متعددة، منها إنكاره لخلود الروح أو الأصل الإلهي للتوراة، أو آراؤه الوحدوية التي تماهي بين الله والطبيعة. (6) يهدف هذا المقال إلى تفكيك مفهوم "إله سبينوزا" من خلال تحليل منهجي وعميق، متجاوزاً التفسيرات السطحية التي قد تخلط بينه وبين التصورات الدينية المألوفة. يوضح هذا التحليل كيف أعاد سبينوزا تعريف الإله بوصفه "جوهرًا" وليس "كائنًا"، الأمر الذي جعله مؤسسًا للنسق الفلسفي الحديث (2). ولتحقيق هذا الفهم، تبنى سبينوزا المنهج الهندسي في تحفته الفلسفية، كتاب "الأخلاق"، وهو منهج متأثر بالمنهج الرياضي لديكارت (5). يبدأ هذا المنهج بتعريفات دقيقة وبديهيات راسخة لينتقل إلى قضايا وبراهين، الأمر الذي يعكس الروح العقلانية والعلمية التي هيمنت على الخطاب الفلسفي في تلك الفترة. إن فهم إله سبينوزا ليس مجرد غوص في فكرة مجردة، وإنما هو مفتاح لفهم منظومته الفلسفية بأكملها، بما في ذلك نظرياته في الأخلاق والسياسة والفيزياء. الأساس الميتافيزيقي: تعريف الجوهر ووحدته يعرّف سبينوزا الجوهر بتعريف دقيق ومحكم: "الجوهر كما أفهمه هو ما كان موجوداً ومتصوراً من خلال ذاته، أي ما كان مفهومه لا يفتقر إلى أي مفهوم آخر ينبغي أن يتشكل من خلاله." هذا التعريف يعني أن الجوهر هو كيان كامل ومستقل لا يحتاج إلى أي شيء آخر لكي يُفهم أو يوجد. إنه ليس "شيئاً معيناً" يمكن ردّه إلى نوع من الأشياء الأخرى، بل هو "الوجود ذاته"، وهو مرادف للحقيقة الأزلية التي لا يمكن تصورها مقترنة بالزمان. من هذا التعريف، يستنتج سبينوزا أن الجوهر لا يمكن أن يكون إلا واحداً. يبرر ذلك بأنه لو وُجد أكثر من جوهر واحد، فإن كل واحد منهما سيحد من الآخر، وهذا يتناقض مع طبيعة الجوهر اللانهائية. هذا المبدأ هو جوهر "الثورة الأنطولوجية" التي أحدثها سبينوزا، إذ تجاوز به المشكلات الميتافيزيقية التي خلفها سابقوه. على سبيل المثال، افترض ديكارت وجود جوهرين منفصلين: الفكر والامتداد. وقد أدى ذلك إلى معضلة فلسفية كبيرة هي "ثنائية النفس والجسد". في المقابل، يرفض سبينوزا هذه الثنائية رفضاً قاطعاً، ويقدم فكرة الجوهر الواحد كحل جذري لهذه المعضلة، مؤسساً بذلك نموذجاً وجودياً أكثر اتساقًا ومنطقية من خلال رؤيته للوجود ككل واحد متكامل. الجوهر وصفاته وأحواله يعرّف سبينوزا الصفة بأنها "طريقة يعبر بها الجوهر عن نفسه". نظرياً، يمتلك الجوهر عدداً لا نهائي من الصفات، لكن الإنسان، بسبب محدوديته، لا يدرك منها سوى صفتين: الامتداد (المادة) والفكر (الوعي). إن الفكر والامتداد ليسا جوهرين منفصلين، ولا يتفاعلان سببيًا أحدهما مع الآخر، بل هما مجرد تعبيرين متوازيين عن الجوهر الواحد. هذا يعني أن لكل ظاهرة في عالم الامتداد (الجسد) ما يقابلها تماماً في عالم الفكر (النفس)، دون أن يؤثر أحدهما في الآخر بشكل مباشر. (9) أما الأحوال فهي "تعديلات" أو "أجزاء" من الجوهر الواحد. كل ما يوجد في الكون، بما في ذلك البشر، هو مجرد أحوال لهذا الجوهر الواحد اللانهائي. ووفقاً لهذه الفلسفة، فإن العالم ليس هو الله بالمعنى الدقيق، بل هو "موجود في الله". إله سبينوزا: الجوهر المحايث ورفض الغائية يرفض سبينوزا التصور الديني التقليدي الذي يرى الإله "خارج العالم" ومنفصلاً عنه (الإله المتعالي). هذا الإله، الذي غالبًا ما يُصوَّر على صورة إنسان يمتلك مشاعر بشرية كالغضب والغيرة، هو في نظر سبينوزا مجرد "تصور خيالي" ناتج عن جهل البشر بطبيعة الإله الحقيقية. بدلاً من ذلك، يقدم سبينوزا مفهوماً جديداً للإله كـ "جوهر محايث" لا يتعالى عن الكون، بل هو الكون ذاته. يختصر سبينوزا هذا المفهوم في صيغته الشهيرة: "الله أو الطبيعة". وهذا لا يعني أن الله مجرد العالم المادي، بل يعني أن الله هو "الطبيعة الطابعة" التي تنتج ذاتها باستمرار. لذلك، عندما يقول سبينوزا إن "الله هو الطبيعة الطابعة"، فإنه يؤكد أن الله ليس مجرد مجموعة الأشياء التي نراها (الطبيعة المطبوعة)، بل هو المبدأ الخلاق والقوة الأساسية ومنتج الوجود كله. إنه لا يرى الله كإله شخصي يجلس على عرش في مكان ما، بل يرى قوة عقلانية وقانونية تسيطر على الوجود كله. كما يرفض سبينوزا فكرة "الخلق من العدم" أو حتى "الفيض" الأفلوطيني، ويرى أن الله هو "العلة الباطنة" التي توجد فيها الأشياء جميعاً. وهذا يعني أن الكون ليس نتيجة لفعل خلق متعالٍ أو قرار إرادي من الإله، بل هو نتيجة ضرورية وحتمية لطبيعة الإله ذاته، تماماً كما أن مجموع زوايا المثلث هو محصلة ضرورية لطبيعته. إن رفض سبينوزا للغائية (أو وجود هدف خارجي للكون) كان نقطة محورية في نظامه الفلسفي. يرى أن فكرة وجود غاية معينة للإله من خلق العالم "تؤدي إلى الإيمان بالخرافة". فبما أن الكون ناتج ضروري عن طبيعة الإله، فلا وجود لهدف خارجي أو غاية. وهذا يؤسس لنظام كوني حتمي وقانوني، حيث "قوانين الطبيعة وقواعدها هي نفسها دائماً وفي كل مكان". تداعيات فلسفية: الأخلاق والحرية والسعادة بناءً على نسقه الفلسفي، يرفض سبينوزا فكرة الإرادة الحرة بالمعنى التقليدي. يرى أن أفعالنا محتومة بقوانين الطبيعة تمامًا كغيرها من الأشياء. أما الاعتقاد بالإرادة الحرة فهو "وهم" ناتج عن جهلنا بالأسباب الحقيقية التي تحركنا. لكن سبينوزا يميز بين هذا المفهوم الخاطئ للحرية ومفهوم آخر حقيقي. فالحرية الحقيقية ليست غياب الحتمية، بل هي "الاستقلال الداخلي". الإنسان يصبح حراً عندما "يسترشد بالعقل" ويفهم قوانين الطبيعة التي هو جزء منها (7). هذا التحول من العبودية للانفعالات إلى الحرية العقلانية هو جوهر فلسفته الأخلاقية. والهدف الأسمى لفلسفة سبينوزا هو تحقيق السعادة. لكن هذه السعادة ليست مجرد غاية خارجية أو جزاءً من إله شخصاني، إنها "حب عقلي للإله"، وهو فهم عميق للكون وقوانينه. الفضيلة عند سبينوزا تكمن في "السعي للحفاظ على الذات"، وهو ما يصفه بـ "الأنانية العقلانية" التي تهدف إلى زيادة الفرح وتقليل الحزن. إن الفهم الكامل للكون وقوانينه يؤدي إلى أعلى درجات الفرح، وهو "الحب العقلي للإله". التأثير على الفلسفة والعلوم الحديثة يُعتبر سبينوزا بحق مؤسساً حقيقياً للفلسفة الحديثة. لقد تجاوز الثنائية الديكارتية التي كانت مشكلة لا حل لها، وقدم الجوهر الواحد كحل جذري يوحّد الفكر والامتداد في كيان واحد، مما فتح الباب أمام مفكرين آخرين مثل لايبنتز الذي قدم تصوراً مختلفاً تماماً للوجود عبر "المونادات". هذا الاختلاف يوضح أن فلسفة ما بعد ديكارت لم تكن مجرد امتداد، بل كانت مساحة لإيجاد بدائل أنطولوجية مختلفة تماماً. كما أن فلسفته الطبيعية ومفهومه عن الحتمية أثرا بشكل مباشر على المنهج العلمي الحديث، إذ قامت فلسفته على أن الكون محكوم بقوانين طبيعية ثابتة (8). حتى اليوم، يُعاد تفسير مفاهيم سبينوزا في علوم مثل الأعصاب (4)، مما يدل على أن رؤيته للذات ككائن طبيعي لا تزال لها أصداء علمية عميقة. الخلاصة: إله سبينوزا والفلسفة الوجودية في سياق الفلسفة الحديثة وما بعدها، تبرز العلاقة بين مفهوم إله سبينوزا ونظرة الفلسفة الوجودية إلى الوجود، حيث تتشارك المدرستان في رفض التصورات التقليدية لله والتركيز على الوجود بدلاً من الجوهر المسبق. موضوع وجود الله في الفلسفة الوجودية موضوع معقد ومتنوع. الفلاسفة الوجوديون مثل جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار غالباً ما اعتبروا أن الوجود يسبق الماهية، مما يعني أن الإنسان هو من يخلق معناه الخاص في الحياة دون الاعتماد على وجود إله. في المقابل، بعض الفلاسفة الوجوديين مثل مارتن هايدجر وفريدريك نيتشه ناقشوا مسائل الوجود والعدم بطريقة تعكس تأملاتهم حول الغياب أو وجود الله. نيتشه، على سبيل المثال، أعلن أن "الله قد مات"، مما يشير إلى غياب المعنى المطلق الذي يمكن أن يوفره الإله. بشكل عام، تركز الفلسفة الوجودية على التجربة الفردية والحرية. يمكن القول إن كلًا من فلسفة سبينوزا والفلسفة الوجودية تتشارك في فهم الوجود ورفض التصورات التقليدية لله، مع التركيز على الحرية الفردية والتفاعل مع العقل، رغم اختلاف الطرق التي تتعامل بها كل فلسفة مع هذه المفاهيم. --------------------------------- المراجع (مرقمة حسب الإشارة في النص) فلسفة سبينوزا السياسية (موسوعة ستانفورد للفلسفة)- سبينوزا وتأسيس النسق في الفلسفة الحديثة- سبينوزا واليهودية | سبينوزا | مؤسسة هنداوي- نظرية سبينوزا النفسية - مدخل فلسفي- الأسس الديكارتية للمنهج الهندسي عند باروخ سبينوزا باروخ سبينوزا: الفيلسوف الجذري الذي أعاد تعريف الإله والحرية والوجود البشري مفهوم الحرية في إتيقا سبينوزا - مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث مفهومَا السببية والحتمية بين ابن رشد وسبينوزا - المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الفيلسوف سبينوزا واليهود والتوراة والشريعة اليهودية / جعفر هادي حسن - صحيفة المثقف
#غالب_المسعودي (هاشتاغ)
Galb__Masudi#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الرأسمالية وخلق النخب الموالية
-
العلاقة الجدلية بين الفن والثيوقراطية: دراسة فلسفية
-
جدلية الفن والواقع: بين المحاكاة والإبداع
-
النزعة البدائية والانا المثالية في تشكيل الهوية: مقاربة فلسف
...
-
التضارب الأخلاقي في عصر التكنولوجيا: مقاربة فلسفية
-
الكسل الفلسفي معضلة وجودية
-
المسألة الهومرية: من الذاكرة الحية إلى سلطة النص
-
معضلة الشر والحرب فلسفيا
-
صولون: فيلسوف، وسياسي، وشاعر يوناني قديم
-
جمهورية أفلاطون والمدينة الفاضلة عند الفارابي
-
من الهيمنة الى الاستبداد: تفكيك فلسفي للاستبداد في الشرق الأ
...
-
سقراط... الفيلسوف الذي لم يكتب كلمة
-
أفكار أنكساغوراس* عن العقل والاخلاق
-
الفَلْسَفَةُ حُبٌّ يُقَيِّد، وَطُموحٌ يَلْتَهِمِ القَلْب
-
الفلسفة بين ثقافة القهوة وقهوة الثقافة
-
العقلانية والوعي المفرط... مقبرة السعادة
-
ديوجينس* المعاصر
-
العقل المسيطر* والعقل المحض
-
الموت والحضور الباهت
-
اخلاقيات الكذب استثمار في السياسة
المزيد.....
-
وزيرة الداخلية البريطانية تكشف عن تعديلات مشددة على شروط الإ
...
-
انسحاب إريك آدامز من سباق رئاسة بلدية نيويورك قبل الانتخابات
...
-
قطر تتوسط للإفراج عن مواطن أمريكي احتجزته طالبان في أفغانستا
...
-
مقتل وإصابة عدد من الأشخاص في هجوم مسلح على كنيسة بولاية ميش
...
-
توقف الطيران في مطار بن غوريون جراء صاروخ من اليمن
-
الحزب المؤيد لأوروبا يتصدر انتخابات مولدافيا وسط جدل حول الت
...
-
ماذا بعد إعادة فرض العقوبات على إيران؟
-
اقتحامات إسرائيلية واسعة في الضفة وإصابة فلسطينيين
-
نتنياهو: إسرائيل تعلم مكان مخزون اليورانيوم الإيراني
-
الناتو يشدد إجراءاته.. والدنمارك تحظر المسيّرات المدنية بسبب
...
المزيد.....
-
الحفر على أمواج العاصي
/ د. خالد زغريت
-
التجربة الجمالية
/ د. خالد زغريت
-
الكتابة بالياسمين الشامي دراسات في شعر غادة السمان
/ د. خالد زغريت
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال
...
/ منذر خدام
-
أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول
...
/ منذر خدام
-
ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة
/ مضر خليل عمر
-
العرب والعولمة( الفصل الرابع)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الثالث)
/ منذر خدام
-
العرب والعولمة( الفصل الأول)
/ منذر خدام
المزيد.....
|