بوناب كمال
الحوار المتمدن-العدد: 8510 - 2025 / 10 / 29 - 18:17
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
أثار اكتشاف رفات تسعةٍ وأربعين طفلًا جزائريًا من أبناء الحركى في منطقة ريفسالت نقاشًا واسعًا حول أخلاقيات الذاكرة ومسؤولية الدولة تجاه الفئات المهمشة. لم يكن الأمر مجرد حادثٍ تاريخي، بل مرآة تعكس هشاشة القيم التي طالما تباهت بها فرنسا بوصفها "بلد الأنوار" ومهد إعلان حقوق الإنسان والمواطن سنة 1789. فهؤلاء الأطفال لم يُمنحوا لا الحق في الحياة، ولا في الدفن الكريم، ولا حتى في الذاكرة؛ وكأن إنسانيتهم كانت استثناءً مؤقتًا من مبادئ الجمهورية.
كمواطن جزائري لم أعش الثورة، لكنني عشت تجربة لا تقلّ مرارةً عن آثارها الرمزية: تزوير في محررات رسمية ارتكبه أساتذة جامعيون يدّعون أنهم "أبناء مجاهدين" وأقارب رؤساء جمهورية سابقين ومسؤولين نافذين. هؤلاء لم يكتفوا بالتزوير، بل اعترفوا به أمام القاضي والنائب العام والصحافة وهيئة الدفاع. المفارقة أن من يُفترض أنهم ورثة الشرعية التاريخية مارسوا على أبناء الاستقلال ما لم تفعله فرنسا على أبناء المستعمرين: إهانة الحقيقة، وتزييف العدالة، وإفراغ القانون من معناه. وبينما كان يفترض أن تمثّل ألقاب “ابن المجاهد” رمزًا للأمانة والنزاهة، تحوّلت في بعض الحالات إلى غطاءٍ للفساد والتمييز المؤسسي.
ولو قدّر لهؤلاء الأطفال التسعة والأربعين أن يكبروا، لربما كانوا أقل ضررًا على الجيل الحالي من بعض “أبناء المجاهدين” المزورين، وأكثر نفعًا لأوطانهم من أولئك الذين يستعملون ذاكرة الثورة كأداة للنفوذ لا كقيمة للتحرر. كانوا سيكبرون ببراءة من الحسابات، غير مثقلين بالماضي، وربما جسّدوا معنى الجزائر التي لا تفرّق بين "ابن المجاهد" و"ابن الحركي"، بل بين الشريف والمزوّر، بين من يخدم الوطن ومن يخدم نفسه.
المأساة في الحالتين واحدة: عندما تتحوّل الذاكرة إلى امتياز، يموت الضمير الوطني مرتين — مرة في المقابر، ومرة في المحاضر.
الدرس المرّ في هذه المقارنة أن الأمم لا تُقاس بعدد شهدائها، بل بقدرتها على حماية الحقيقة بعد الشهادة. فرنسا تتعلّم متأخرةً معنى العدالة في الذاكرة، بينما الجزائر ما زالت تتجنّب مواجهة الفساد باسم الذاكرة. وبين هذا وذاك، يضيع المعنى الأصلي للوطنية: أن تكون صادقًا قبل أن تكون ابنًا لأحد.
#بوناب_كمال (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟