بوناب كمال
الحوار المتمدن-العدد: 8353 - 2025 / 5 / 25 - 16:12
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
من الدافع إلى الجرأة: تفكيك بنية التزوير في الإدارة العمومية
كثيراً ما يركّز الفاعلون في الحقل الجنائي والقانوني على الدافع في تفسير الجريمة، باعتباره المفتاح لفهم نية الجاني والغاية من الفعل الإجرامي. غير أن هذا المدخل يصبح قاصراً عند التعامل مع جرائم من نوع خاص، وعلى رأسها جريمة التزوير في المحررات الرسمية. ففي مثل هذه الجرائم، لا يكفي أن نسأل: لماذا زور؟ بل يصبح من الأجدر أن نسأل: من أين جاءت جرأة التزوير؟
إن الجرأة على التزوير لا تنشأ في الفراغ، بل تُولد وتترعرع داخل بيئة إدارية فاسدة، تشكّل فيها ثقافة الإفلات من العقاب وعلاقات الحماية المتبادلة أساساً للسلوك اليومي. والمزور، في الغالب، ليس مجرد فرد شاذ أو متهور، بل هو ابن بيئة مريضة منحته إشارات واضحة بأن الجريمة ممكنة، بل مربحة وآمنة.
هذه الجرأة تتأسس على عدة عوامل مترابطة:
1.
الإحساس بالحصانة: حين يرى الموظف أن من سبقوه تورطوا في تجاوزات أخطر دون أن يُحاسبوا، تنكسر لديه رهبة القانون، ويتولد لديه شعور بالأمان الإجرامي.
2.
الفساد كأفق يومي: في المؤسسات التي يكون فيها الفساد جزءاً من الممارسة الإدارية، يصبح التزوير مجرد "أداة" تُستخدم لتحقيق غايات مصلحية، لا تختلف كثيراً عن الهاتف الإداري أو ختم المؤسسة.
3.
الحماية من فوق: كثير من جرائم التزوير لا تقع إلا بضمانات غير مباشرة أو حماية ضمنية من مسؤولي الإدارات، الذين إما يُغضّون الطرف، أو يكونون المستفيدين المباشرين.
4.
انعدام الرقابة والمساءلة: حين تغيب آليات التحقيق الداخلي والمحاسبة الفعلية، تُفهم الإدارة على أنها فضاء مغلق يمكن التلاعب فيه دون خوف، وتتحول الوظيفة العمومية من موقع للمسؤولية إلى منصة للتمكين غير المشروع.
5.
تدرّج الجريمة: معظم المزورين لا يبدؤون بتزوير وثائق رسمية دفعة واحدة، بل يتدرجون في التجاوز، وكل مرة تمرّ بلا عقاب تُعزز فيهم شعور السيطرة والذكاء والتفوق على النظام.
إن الانتقال من طرح سؤال الدافع إلى طرح سؤال الجرأة، يُعدّ نقلة تحليلية مهمّة لفهم طبيعة الجريمة البيروقراطية. فهو لا يحمّل الفرد وحده المسؤولية، بل يُسائل المنظومة التي أنتجته، ويضع الإصبع على مكامن العطب في الثقافة الإدارية التي لا تردع الجريمة بل تُغري بها.
#بوناب_كمال (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟