أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ناهض الرفاتى - العقل المعرفي تاملات في سورة المائدةنننا















المزيد.....



العقل المعرفي تاملات في سورة المائدةنننا


ناهض الرفاتى

الحوار المتمدن-العدد: 8509 - 2025 / 10 / 28 - 19:47
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


العقل المعرفي - اسرار اسم سورة المائدة وارتباطها ببنية موضعاتها
مقدمة
حينما دخل بن طبقية الكندي المدينة نهب سرحها وأهدي ما نهبه الي الكعبة لكن الله أنزل "لا تحلوا شعائر الله"" لقد كانت هذه الآية بمثابة تحذيرا للمسلمين من الاعتداء على شعائر الله حتى لو كان من غير المسلمين.
في هذا الجو وفي هذا التوقيت كانت سورة المائدة تتنزل لتحل الحلال وتحرم الحرام في إطار الآية العظيمة التي تتحدث عن اكتمال التشريع وتمام النعمة "اليوم اكلمت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا"
في هذا الجو أيضا وهذا التوقيت كان يسال الصحابة عن حكم صيد الكلاب المعلمة وهل يجوز اكل ما تصطاده ويسألون عن زواج الكتابيات فينزل القران "ومن يكفر بالأيمان فقد حبط عمله" لقد شعر المسلمون بان الزواج من الكتابيات فيه شيء من الغرابة والله أراد أن يبين ان الأساس والامر الذي ينبغي التركيز عليه "ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله"
سورة المائدة تناولت احكاما حقيقية في الطهارة والذبائح والعلاقات مع اهل الكتاب وعن الحدود وفيها ستة عشر نداء تبدأ بقوله تعالي "يأيها الذين امنوا" لقد كان كثيرا من آياتها استجابة لتساؤلات من الصحابة وهي من اخر ما نزل من القران وتعرف من الثماني الطوال التي اعطيت للنبي صلي الله عليه وسلم بدلا من الالواح التي أعطيت لموسى عليه السلام
نزل من القرآن عن قصة المائدة الآيات الكريمة من الآية 112 وحتي الآية 115 وهي من القصص القرآني التي تحمل دلالات عميقة وعظيمة في الايمان واليقينيات "اذ قال الحواريون يا عيسي بن مريم هل يستطيع ربك ان ينزل عليك مائدة من السماء " لقد كان هدفهم من هذا الطلب زيادة اليقين ورغبة في رؤية آية حسية محسوسة تثبت لهم صدق نبوءته كما قالوا "ونعلم أن قد صدقتنا" كذلك هدفها الاطمئنان القلبي برؤية المعجزة التي ترفع الايمان من علم اليقين الي عين اليقين ثم الشهادة علي الآية ليبلغوا الناس بها ويقيموا الحجة علي من سيأتي بعدهم وربما هذا أبلغ ما في القصة.
لكنها أيضا تمثل من ناحية أخرى طريقة طرح الأسئلة على الأنبياء والرسل بقولهم "هل يستطيع ربك" وقد قال بني إسرائيل من قبل لموسى عليه السلام "ادع لنا ربك ".
عيسى عليه السلام قال اتقوا الله ان كنتم مؤمنين في رد تشعر به بشئ تجاه ما كان يدور في عقولهم لكنهم برروا ذلك بقولهم نريد ان نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم ان صدقتنا ونكون عليه من الشاهدين" والقران الكريم لم يعلق على ذلك ولكن في قوله تعالي "الله منزلها عليكم فمن يكفر بعد ذلك منكم" تحذير قرآني رفيع القدر والمكانة فأعذبه عذابا لا اعذبه أحدا من العالمين" فيها اشتراط ملزم لهم لما بعد نزول أية المائدة وكما سيأتي في تأملاتنا ماذا يعني هذا ومدى ارتباط الاسم بهذه القصة وارتباطها بموضوعات السورة بشكل عام.
اسم سورة المائدة لها أسرار ودلالات ومعاني يمكن أن تدرك بتأمل القصة ومدي ارتباط تلك المعاني بموضوعات السورة المختلفة ويمكن أيضا لصدق النية أن تفتح علي المسلم فتوحات وتمنحه اشراقات نورانية تقذف في قلبه نورا من نور القرآن العظيم.
انها اسم لرمزية العطاء الإلهي المباشر من خلال نزول الرزق من السماء وهي تجل لعطاء الله بلا واسطة واختبار الايمان واليقين لقد كانت اختبار للحواريين هل يؤمنون بالغيب ام يحتاجون الي آية حسية انها رمزية وذات دلالة على ربط العقيدة بالنعمة التي تستوجب الشكر "فمن يكفر منكم فاني اعذبه " وهي الي جانب ذلك انتقال الي الاحتفال الروحي كما قال عيسي عليه السلام "وتكون لنا عيدا لأولنا واخرنا"
اسم السورة "المائدة" يربط بين الطعام والتشريع فالسورة مليئة بأحكام الحلال والحرام وهي تربط أيضا بين كرامة ومعجزة الأنبياء وبين التشريع انها سورة تبدأ في اول اية منها بالوفاء للعقود والعهود" يأيها الذين امنوا اوفوا بالعقود" لم تقل التزموا بل اوفوا انها تربط بين الرزق والمسئولية وتميز بين الايمان والكفر وارتباط بين الاخرة والنجاة لقد ورد عن النبي انه قال "سورة المائدة تسمي في الكون المنقذة لأنها تنقذ من ملائكة العذاب" فاسمها المائدة وفيها دلالات النجاة وقد ورد عن عائشة انها قالت "انها اخر ما نزل من القرآن فما وجدتم فيها من حلال فاحلوه وما وجدتم من حرام فحرموه" وهي تحوي احكام دقيقة وقال بعض العلماء "انها لا تحوى علي أي منسوخ"
اسم المائدة ترمز الي النعمة الإلهية وهي تجل ألهى يعطي لمن تحقق بالعبودية انها فكرة حسية للنعمة ولها مقابل روحي وهي غذاء الروح قبل الجسد انها تشير الي العهد الازلي بين الله والانسان انها رمز للوفاء الي ذلك العهد والوفاء لمقام العبودية الذي هو اعلي المقامات.
ترمز اسم المائدة للصفاء فهي لم تنزل الا على قلوب صافية وطاهرة لقد أراد الحواريون التحقق بالشهود لا مجرد الطعام طلبوا المائدة مع طهارة القلب ومن طلب المائدة ولم يتطهر قلبه فقد طلبها لنفسه لا لربه. انها فيها أيضا متلازمة الحقيقة المعرفية بين فساد بني إسرائيل والاسراف في القتل والي الخزي الذي هو عذاب الدنيا.
اسم المائدة مقام من مقامات الرضا حيث يعطي العبد لا يطلب وهي ترمز الي مقام الاحسان حيث يري العبد ربه في كل شيء حتى في الطعام الذي يأكله انها اسم لطلب العطايا قبل الطلب الحقيقي وهي انتقال من الشريعة الي الحقيقة فمن التزم بالشريعة تنزل عليه المائدة الروحية هي الكرامة من الكيد والشر لكن كل هذا الفضل والعطاء الإلهي مشروط "فمن يكفر بعد منكم فاني اعذبه عذابا لا اعذبه احدت من العالمين"
سورة مليئة بالعقود والعهود بالحلال والحرام لاختبار العهد المائدة الاسم الظاهر والمحتوي العهد بين النعمة والامتحان.
أسرار الاسم تتكشف وتمنح ولا تقرأ توهب ولا يستأثر بها هو علم ومعرفة وقرآن يتلى ليذكر ويقرع الاذان والقلوب ويحفز العقل المعرفي من النهوض بحثا عن المقاصد التي اخفتها القدرة الإلهية وتمنح كالمائدة إذا صلحت النية وقصد وجه الله.
انها رحلة بين النية والمنحة بين الهداية والعطاء فمائدة الله لم ترفع لان عطائه لا ينفذ وفضله لا يزول وكرمه يغطي وجه الأرض ويملا عين الشمس إذا ما كانت العيون تبصر وكانت القلوب تفقه
يبقي اسم المائدة رمزية تتجدد لكل حواري التزم بالقران والوفاء بالعهد الازلي وتحمل مسئولية الايمان في الحلال والحرام.












القسم الأول: قراءة معرفية في نداءات السماء
في مطلع سورة المائدة، يُنادى المؤمنون بنداءٍ يفتح أبواب السماء فسورة المائدة ليست مجرد أحكام تشريعية، بل هي سورة النداءات الكبرى. فيها يُخاطب الله المؤمنين بنداءات متكررة، كل نداء يُعيد تشكيل الإنسان من جديد. إنها سورة العهد، وسورة الامتحان، وسورة النعمة المشروطة.
والمائدة التي نزلت من السماء ليست طعامًا، بل اختبارًا لمن يستحق أن يُدعى إليها؟ ولمن يُثبت أهليته للجلوس على مائدة الإيمان؟
وفي هذا القسم، نُبحر في نداءات سورة المائدة بنداءٍ نداء، يُخاطب العقل والقلب معًا، ويُعيد بناء الإنسان من الداخل يقول المفكر: حسن الترابي "العقود ليست معاملات شكلية، بل تجسيد للإيمان في الواقع. ولترسيخ ثقافة الالتزام القانوني "أوفوا" بصيغة الأمر، قبل "أُحلّت لكم "فهل نُطالب بنعمة لم نثبت استحقاق الوفاء لها؟ وهل يُعاد تعريف الإنسان ككائن عاقد، لا مستهلك.
النداء الأول: يقول تعالى" أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾، وكأن أول شرط للجلوس على مائدة النعمة هو إثبات الصدق في العهد. فالعقود هنا ليست أوراقًا، بل روابط وجودية، تربط الإنسان بالله، وبالناس، وبنفسه.
محمد عبد الله دراز يرى أن العقد في القرآن هو ميثاق وجودي، لا مجرد اتفاق، لأنه يُعبّر عن جوهر الإيمان في الواقع. ومن لم يُوفِ، لا يُؤهل لأن يُحلّ له شيء، لأن الإباحة لا تُمنح إلا بعد الوفاء، كما تُعلن الآية: ﴿أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ﴾، وكأن النعمة لا تُعطى إلا لمن أثبت أهليته.
ثم يأتي النداء الثاني، في لحظة غضب تاريخية، حين مُنع النبي ﷺ من دخول مكة وصد عنها، فيقول الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ﴾، وكأن القداسة لا تُمسّ حتى في الخصومة. الشعائر هنا ليست طقوسًا، بل علامات على الله، ومن اعتدى عليها، فقد اعتدى على صاحبها. محمد أبو زهرة يُذكّرنا أن الشعائر تُحترم بذاتها، لا بمن يُمارسها، لأنها منسوبة إلى الله، لا إلى الناس. فالمائدة هنا ليست طعامًا، بل شعيرة، وكل شعيرة هي مائدة اختبار، لا يجوز انتهاكها حتى في الخصومة. ويقول الطاهر بن عاشور القداسة لا تُقاس بالهوية، بل بالانتساب إلى الله." انها دعوة للحياد الأخلاقي في الخصومة ونتأمل التكرار النهي في الآية لعدد خمس مرات فهل هذا دعوة لكي نُقدّس ما لله حين نغضب؟ وهل الشعائر مائدة روحية، لا تُحلّ بالغضب.


ثم يُنادى المؤمنون بنداء ثالث عن الطهارة، فيقول الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا...﴾، وكأن الصلاة لا تبدأ بالكلمات، بل بالماء. الوضوء هنا ليس غسلًا للجسد، بل استعدادٌ للوقوف أمام من لا يُرى، لكنه يُراقب. عبد الحميد بن باديس يرى أن الوضوء هو إعلان الدخول إلى حضرة الله، لا مجرد غسل للأعضاء. فكل قطرة تُسقط ذنبًا، وكل حركة تُعيد ترتيب النفس. والمائدة لا تُؤكل إلا بطهارة، لأن النعمة لا تُمنح إلا لمن غسل أثره، ومسح فكره، وضبط اتجاهه.
ثم يأتي نداء العدل وهو النداء الرابع، فيقول الله: ﴿كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ﴾، وكأن القوامة لله لا تُثبت إلا حين يُختبر الإنسان في الخصومة. علي عزت بيغوفيتش يرى أن العدالة هي الدين في صورته الاجتماعية، وهي أول ما يُختبر حين نغضب. فالعدل هنا ليس موقفًا، بل هوية، ومن لم يعدل، لم يشهد لله، بل شهد لهواه. والمائدة لا تُمدّ لمن يُفرّط في القسط، لأن من لا يُقيم الميزان، لا يُؤتمن على النعمة.
فالطهارة مدخل النعمة ودلالة اسم السورة: المائدة بان لا تُؤكل إلا بطهارة وكما يقول المفكر: فريد الأنصاري "الطهارة تُحوّل الجسد إلى مستودع للروح." تعليم الوضوء بعد كثرة الاسئلة إعادة العلاقة بين الجسد والروح وترتيب الأعضاء يكشف وظيفة روحية هل نغسل وجوهنا لنُعيد اكتشافها؟ الطهارة ليست فعلًا مائيًا، بل إعلان الدخول إلى دائرة النعمة.
النداء الخامس يبدأ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ﴾ العدل فوق الكراهية المائدة ميزانٌ لا يُختل بالهوى يقول مالك بن نبي "العدالة أول ما يُفقد حين يُستبدل الله بالهوى. فبعد صدّ المشركين للمسلمين جاءت نداء الله بالعدالة فوق الانتماء لقد استعمل القران كلمة "قوّامين" بصيغة المبالغة حتى نُقيم العدل حين يُخالفنا من نُحب؟ فالعدل هو ما يُعيد الإنسان إلى مركزه بوصفه شاهدًا لا قاضيًا.
ثم يُذكّرنا الله بنعمة الحماية بنداء سادس، فيقول: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾، حين همّ قومٌ أن يبسطوا أيديهم، فكفّها الله. محمد إقبال يرى أن النعمة ليست فقط في العطاء، بل في المنع الذي يُنقذنا دون أن نراه. فالمؤمن لا ينسى ما لم يحدث، لأن ما لم يحدث قد يكون أعظم مما حدث. والمائدة هنا هي ما كُفّ عنك، لا فقط ما أُعطي لك، ومن نسي النعمة، لا يُحسن التوكل.
ان نداء ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ تشير الى النعمة التي لا تُنسى ودلالة اسم السورة: المائدة هي ما كُفّ عنك، لا فقط ما أُعطي يقول عبد الوهاب المسيري "الذاكرة الأخلاقية تُحوّل النعمة من حدث إلى معنى." وتعيد إعادة فهم المعنى فقد كانت محاولة اغتيال النبي ﷺ لبناء ذاكرة جماعية للتوكل "اذكروا" قبل "اتقوا" هل نذكر ما كفّه الله عنا؟ النعمة ليست فقط ما نراه، بل ما لم يحدث أيضا.
ثم يُقال لهم بنداء سابع: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾، وكأن الجهاد لا يُطلب إلا بعد القرب، وأن الوسيلة هي الحب، لا القوة. محمد سعيد رمضان البوطي يرى أن الوسيلة هي محبة الله، ومن لم يُحب، لم يُجاهد بحق. فالفلاح لا يُنال بالسيف، بل بالقلب، ومن ابتغى الله، ابتغى نفسه، ومن ابتغى نفسه، ضلّ الطريق ولو حمل السلاح.
ثم يأتي نداء الهوية الثامن، فيقول الله: ﴿لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ والنصارى أَوْلِيَاءَ﴾، وكأن الولاء ليس علاقة سياسية، بل إعلان هوية. محمد جلال كشك يرى أن الولاء لا يُمنح إلا لمن يُشاركك العقيدة، لأن من جلس على مائدة غيره، أكل من هويته. فالمائدة هنا مائدة الانتماء، لا المجاملة، ومن خلط بين التعايش والذوبان، فقد خلط بين الإنسان وظلّه.
ثم يُطمئن الله المؤمنين بنداء تاسع، فيقول: ﴿مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾، وكأن الدين لا يخاف على نفسه، بل على من يخرج منه. عبد الكريم بكار يرى أن المحبة هي جوهر الدين، ومن لم يُحب، لم يُدعَ إلى المائدة. فالله لا يُعجزه أن يأتي بقلوب جديدة، يحبّها ويحبّونه، لأن الدين لا يُبنى على العدد، بل على الحب.
ثم يُقال لهم بنداء عاشر: ﴿لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا... أَوْلِيَاءَ﴾، وكأن الكرامة لا تُساوم، وأن المودة لا تُبنى على المجاملة، بل على الاحترام. نصر حامد أبو زيد يرى أن من يسخر من المقدّس لا يُؤتمن على الصحبة، لأن السخرية تُفسد العلاقة من جذورها. فالمائدة هنا مائدة الاحترام، لا التهريج، ومن جلس على مائدة من يسخر منه، أكل من كرامته.
ثم يأتي نداء الحادي عشر يُقال لهم: ﴿لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ﴾، وكأن الورع الزائف يُفسد الدين، وأن الزهد الحقيقي لا يُبنى على الحرمان، بل على الفهم. عبد الله بن بيه يرى أن التشدد ليس من الورع، بل من الجهل، وأن من حرّم الطيبات، فقد اعتدى على النعمة. فالمائدة لا تُغلق باسم الزهد، بل تُفتح باسم التوازن، ومن ضيّق على نفسه ما وسّعه الله، فقد خان الاعتدال.
ثم يُقال لهم بنداءالثاني عشر: ﴿إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ... رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ﴾، وكأن الفلاح لا يُنال إلا بالهجر، لا بالمساومة. محمد رشيد رضا يرى أن الاجتناب أشد من التحريم، لأنه يُطالبك بالبعد، لا فقط بالكف. فالمائدة لا تُطهّر إلا بالهجر، ومن اقترب من الرجس، فقد غيّر وجهته، ولو لم يلمسه.
ثم يُقال لهم بنداء الرابع عشر: ﴿لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ...﴾، وكأن الابتلاء لا يكون بما نكره، بل بما نحب. عبد الرحمن السعدي يرى أن الابتلاء في المباح أشد من الابتلاء في المحرّم، لأنه يُختبر فيه ضبط النفس، لا فقط الامتناع. فالمائدة هنا اختبارٌ لا إغراء، ومن ضبط نفسه أمام المباح، أثبت أهليته للمحرم.
ثم يأتي بنداء خامس عشر يُقال لهم: ﴿لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا... أَوْلِيَاءَ﴾، وكأن الكرامة لا تُساوم، وأن المودة لا تُبنى على المجاملة، بل على الاحترام. نصر حامد أبو زيد يرى أن من يسخر من المقدّس لا يُؤتمن على الصحبة، لأن السخرية تُفسد العلاقة من جذورها. فالمائدة هنا مائدة الاحترام، لا التهريج، ومن جلس على مائدة من يسخر منه، أكل من كرامته.
ان هذه النداءات هي دعوة ربانية للمؤمنين بان يسمعوا القول وينفذوا الأمران يتعودوا الاستجابة التي تحقق لهم الفضل والسعادة. وتبنى لهم اسوار وحصون يحتمون بها من الشيطان ومن الدخول عليهم من كل باب.
انها حالة لتجسيد المجتمع المؤمن ليكون حيا قبل ان يكون شيئا ان يتحرك قبل ان يسكن ان تتألق الروح قبل ان يأكل الجسد ان يتمكن الادراك قبل ان تستعرض الجسد
ان سر اسم المائدة في تحطيم اصنام التقاليد التي تقدس الجسد حين لا تفنى الروح في حضرة المائدة










القسم الثاني: مركزية الحكم بما أنزل الله في سورة المائدة
في هذا القسم نستعرض الآيات التي ذكر فيها الحكم بما انزل الله. فاسم "المائدة" جاء من قصة طلب الحواريين من عيسى عليه السلام أن ينزل الله عليهم مائدة من السماء، وهي آية عظيمة تحمل دلالات الاختبار الإيماني والامتثال لأمر الله. المائدة كذلك ترمز إلى النعمة الإلهية التي تستوجب الشكر والطاعة، لا الجحود أو التبديل. وبهذا المعنى تتقاطع دلالات اسم السورة مع قضية الحكم بما أنزل الله: فكما أن المائدة اختبار في الامتثال، فإن التحاكم إلى شرع الله هو اختبار آخر في الإيمان والطاعة. وسورة المائدة من أكثر السور التي شددت على وجوب الحكم بما أنزل الله، ومن أبرز الآيات:
الآية: 44 في قوله تعالي "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون" الحكم بغير شرع الله كفر عند بعض العلماء، أو كفر عملي عند آخرين.
الأية: 45 "فأولئك هم الظالمون" ترك الحكم بشرع الله ظلم.
المائدة: 47 "فأولئك هم الفاسقون" الفسق نتيجة مخالفة شرع الله
الآية: 49 "وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم" تحذير من اتباع الأهواء بدل الوحي بهذه الآيات تكررت قضية الحكم لتؤكد أن التحاكم إلى شرع الله ليس خيارًا، بل واجبًا إيمانيًا.
وفي اللحظة الراهنة من تطور الدولة المدنية والمواطنة المعاصرة وتشكل النظريات الجيوسياسية لهذه الدول وتفاقم مشاكل الحكومة الثيوقراطية القديمة والمعاصرة. أصبحت تعاد الي الأذهان قضية الحكم بما أنزل الله حيث مثلت هذه القضية في ظل الدولة المعاصرة إشكال حساس ودقيق.
في هذا القسم نطرح التساؤلات التالية: لماذا التركيز في سورة "المائدة" تحديدًا على مسألة الحكم بما أنزل الله؟ وكيف يمكن فهم ذلك من خلال: طبيعة السورة واسم سورة المائدة والارتباط بين موضوعاتها؟. ماهي أبرز وجهات النظر الموافقة والمعارضة لهذه القضية من خلال علماء ومفكرين بارزين؟
كما هو معروف فان سورة المائدة نزلت في أواخر العهد المدني، وهي من السور التي تضمنت أحكامًا تفصيلية ونهائية، لتكون آيات الحكم بما انزل الله حاسمة في قضية الحكم. لقد جاء الخطاب للأمة الإسلامية بعد أن استقرت، وتأسس لمبدأ السيادة الشرعية لا الهوى أو الأعراف. تأتي سورة المائدة التي من دلالاتها الربط بين النعمة والمسؤولية: كما أن المائدة كانت نعمة مشروطة بالطاعة، فإن الحكم بما أنزل الله هو نعمة التشريع الإلهي، مشروط بالامتثال. الإشكال ليس في التناقض، بل في العمق.
وسورة المائدة تربط بين النعمة الإلهية والواجب الشرعي، وتُظهر أن من يكفر بنعمة الحكم الإلهي فهو كمن كفر بالمائدة التي أنزلها الله. كلاهما رفض للهداية، وكلاهما يؤدي إلى الفسق والظلم والكفر بحسب السياق.
أولا: وجهات النظر الموافقة والمعارضة للحكم بما انزل الله
لقد تعددت وجهات النظر المعاصرة التي تحدثت حول هذه القضية الحساسة من خلال مجموعة من المفكرين والعلماء منهم: أفكار الشيخ محمود شلتوت، والشيخ محمد متولي الشعراوي، والشيخ محمد أبو زهرة وهؤلاء العلماء تتقاطع نظراتهم في جوانب مهمة مع الاتجاه الذي تحدثنا عنه سابقًا، خاصة فيما يتعلق بالحكم بما أنزل الله. الدولة الإسلامية. الشورى. والعدالة رفض الجمود الفقهي والربط بين الشريعة ومقاصدها فلكل منهم تعبيّره الخاص عن هذه الرؤية وبأسلوبه الخاص إليك عرضً لأبرز ملامح رؤيتهم:
1: القواسم المشتركة للشيخ محمود شلتوت: وتتلخص في الدعوة إلى فتح باب الاجتهاد وعدم التقيد بالمذاهب الأربعة فقط. كذلك في اعتبار أن الشورى أساس الحكم الإسلامي، ورفض الحكم الوراثي أو الاستبدادي. وأن الحكم بما أنزل الله يعني تحقيق العدل والمصلحة العامة، لا مجرد تطبيق الحدود.
وقد جاء من كتاب الإسلام عقيدة وشريعة للشيخ محمود شلتوت: "الشورى عنصر من عناصر الشخصية الإيمانية، وهي أساس الحكم الصالح." وكان رحمه الله من رواد التقريب بين المذاهب الإسلامية. أفتى بجواز التعبد بالمذهب الشيعي الإمامية، مما يعكس انفتاحًا فكريًا كبيرًا.
أما الشيخ محمد أبو زهرة فكانت القواسم المشتركة: انه يرى أن الحكم الإسلامي في أصله شورى، ويجب أن يكون اختيار الحاكم نابعًا من إرادة الأمة. ورفض فكرة الدولة الدينية المغلقة، ودعا إلى دولة قائمة على العدل والمشاركة.
ومن كتابه تاريخ المذاهب الإسلامية جاء فيه: "لا يمكن أن يكون الحكم شوريا ويكون الخليفة مفروضا بالوراثة، إذ إن الوراثة والشورى نقيضان." وكان رحمه الله ناقدًا جريئًا للتراث، لكنه محافظ في العقيدة ركز على فقه المقاصد وضرورة مراعاة تغير الزمان والمكان.
فيما كانت مواقف الشيخ محمد متولي الشعراوي حول هذه القضايا: أن الحكم بما أنزل الله هو تحكيم شرع الله في الحياة كلها، وليس فقط في العقوبات. ودعا إلى العودة إلى القرآن كمصدر للهداية والتشريع. وكان من تفسيره للآية: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون"
قال: "الكفر هنا ليس كفرًا مخرجًا من الملة دائمًا، بل قد يكون كفرًا عمليًا إذا لم يصاحبه جحود." كان رحمه الله شعبيًا في خطابه، وركز على الروح الإيمانية أكثر من التنظير السياسي. ولم يدعُ إلى دولة إسلامية بالمعنى الحركي، لكنه أكد على مرجعية الإسلام في الحكم.
بين المبادئ والانكار
في قضية شائكة بين العلماء والمفكرين حول الحكم بما انزل الله نحاول ان نتأمل كي نهتدي وان نفكر كي نصل الي المقاصد ونقترب كي نأخذ العطايا الإلهية نفهم ونفكك كي تحصل البركة بالنية الصالحة والاهتداء الي سواء السبيل
المائدة تدهشك بالآيات الذي يذكر فيها الحكم بما انزل الله المسالة الحكم المختلف عليها في الوقت الراهن. فهل يمكن الابحار في دلالات الآيات الكريمة التي نزلت في هذا المقام؟ هل تسعفنا بوصلة قوله تعالى "ولقد يسرنا القران للذكر فهل من مدكر"؟ هل يمكن لهذا التصريح من الدخول الي عالم المعاني بنية الصدق والإخلاص وبثوب التواضع وانكار الذات من اجل الاقتراب أكثر فهم المعاني؟ ام نبقى في مكان الشعور بسلطان المعرفة وهو في الحقيقة سلطان العطاء الإلهي اللطيف ننتظر ان نمنح من عطاياه وهباته جل وعلا؟
وحين نستعرض آيات الذكر الحكيم فيما يتعلق بالحكم بما أنزل الله يهتدي العقل البشري او يتفتح على إشارات قد توصله الي معاني جديدة. نسترشد ذلك من زاويا السورة التي تمتلا بالمعرفة كما في قوله تعالي "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعانوا على الاثم والعدوان " نستلهم أول العطايا والمنح وأول الهدايا والمدد ذلك ان الحكم بما انزل مسالة تندرج تحت عنوان التعاون والبر والتقوى كي تسود عدالة هذا الدين في العالمين. ومن قوله تعالي نستلهم في قوله تعالى" اليوم أكملت لكم دينكم واتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" نستلهم ان معاني الدين قد اكتملت وان التشريع قد انهي الوظيفة التي اناط بها الله بها الأنبياء فقد اكتملت الشريعة وتمت النعمة بهذا الانتهاء قد بلغ الإسلام مقام الرضا النبوي الذي به نستطيع القول ان لا شيء أصبح مبهما او غير واضح او مختلف على مبادئه.
ان سورة المائدة هي في جانب من جوانبها استجابة الي تساؤلات الصحابة على مسائل عدة منها الصيد الكلاب المعلمة وعن المحيض والاهلة وغيرها من التساؤلات التي وقف الصحابة فيها ينتظرون التشريع الإلهي ان يفصل فيها.
فيما فلما لم يكن سؤلا مباشرا عن طريقة الحكم كيف يكون؟ فهل كان الامر واضحا بالنسبة لهم لدرجة انهم لم يسالوا عن الحكم الذي هو من اهل القضايا التي تهم الناس؟ ام ان المعرفة القرآنية من قوله تعالي "ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ان يطهركم وليتم نعمته عليكم ولعلكم تشكرون" فهموا انه لا حرج في أي موضوع يطرح مستقبلا خاصة ان مبادئ الإسلام العامة والخطوط العريضة في التوحيد والحرام والحلال قد بانت وتم توضيحها؟
ام أن طهارة للقلب والنفس وهي لا تتلقي امر الله "ومن لم يحكم بما انزل الله" قد فهموا منها كل ما يريدون ان يعرفوه؟ اليس في هذه الآية تحذير وتخويف؟ الم يفهم المسلمون الأوائل ان هناك لحظة ما في حياه الناس سوف يقولون فيها لا نريد دولة إسلامية؟ لا نريد لان يكون في حياه الناس من يطبق الحدود؟. ام لم يحذروا من ان بعد وفاته سوف يؤول الامر الى غير المعصومين؟ ام ان النبي قائد ورئيس دولة وبعد وفاته انتهي الامر فالدين أصبح فرديا والدولة لها سلطان اخر يحمي المواطنة؟ هذه التساؤلات هل كانت حاضرة ام غائبة في عقولهم وفي العصر الذي عاشوا فيه؟
فهل كان يكفيهم ما دعت اليه الآية الكريمة الي التركيز عليه من قوله تعالي "اذ قلتم سمعنا واطعنا" فما بال الناس اليوم يقولوا "سمعنا ولكن".
المعرفة القرآنية لا تتواني بين كل اية واخرى ان تكشف ببنيانها اللغوي والبياني والمعرفي من سياسة النفوس تجاه النص القرآني "اعدلوا هو أقرب للتقوى" اليس القرب من الله كان مشروطا ولا يزال "وقال الله اني معكم لان اقمتم الصلاة واتيتم الزكاة وامنتم برسلي" وقوله تعالي " فما نقضهم ميثاقهم لعناهم" لقد استوجب هؤلاء اللعنة لانهم نقضوا العهد بينهم وبين الله واسم سورة المائدة ودلالاتها هي تسليط الضوء علي استجابة الانسان لعهد الله الازلي. فلماذا يصر البشر حين يخالف الحلال والحرام والاحكام اهواءهم يحرفون الكلم عن مواضعه فهل نسوا ما بينهم وما بين الله في العهد الأول.
لقد جاء الرسول الخاتم في جانب من رسالته يبين لأهل الكتاب كثيرا مما أخفوا هناك دائما الحقيقة في ظلام وهناك من يضئ شمعة ليكشف عن نورها ويراها كل الناس "قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين" البرهان والحجة الواضحة هو النور والظلام والظلمة هي كتمان الحقيقة والحق
ان التبيان الذي يتحدث عنه القران يشبه المتوالية الهندسية او الرقمية انها مستدامة دوما والله يرسل الرسل على فترة من الرسل في رحلة " يبين لكم" لا غموض ولا مكان في الشريعة لغموض. ان هناك تبشير لأهل الطاعة وهناك انذار لأهل الكفر ومرحلة انتظار لقضاء الله يوم الحساب ليعلم الجميع من نجا ومن هلك من خاف الله احبه الله ومن خاف البشر انتقم الله منه
"قال رجلان من الذين يخافون " كان الخوف هنا محطة ارتقاء ومحطة تلقي في ذات الوقت "انعم الله عليهما " كانت النعمة هنا هو النصيحة والمشورة والقرار السديد والفهم العميق للحالة الراهنة " ادخلوا عليهم فاذا دخلتموه فأنكم غالبون" كان الفهم لأسرار العطاء الإلهي والقرب حيث يبتغي المؤمن دوما الوسيلة التي تقربه من ربه
كان الرسالة المحمدية تسعي لهداية وطهارة قلوبهم وكان الرافضون دوما يكيدوا الكيد العظيم من اجل الفتنة وتحريم الكلم عن مواضعه فأصبهم الخزي في الدنيا ولهم العذاب العظيم في الاخرة
ومن بعد سوف يجئ اليك يسالوك " فان جاؤوك فاحكم بينهم او اعرض وان تعرض عنهم فلن يضروك" يا رسول الله لن يضرك اهل الكتاب الذين يحبون سماع الكذب واكل السحت لكن ان جاؤوك فاحكم بينهم " لكن حتى لو حكمت بينهم "فلن يهتدوا " المسالة ليس في عدم وضوح الحكم والحقيقة بل في داخل نفوسهم الرافضة والمعاندة والمكذبة. وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله " من هنا وبهذه الكلمة العظيمة يعلن الله تبارك وتعالى عن أمره النافذ بانه لا يقبل الا حكمه "حكم الله " وليس "حكم البشر" التوراة هي نور وهدى يحكم بها النبيون الذين أسلموا وهنا نتأمل قوله تعالى " فاحكم بينهم او اعرض" وقوله "وكيف يحكمونك" فقضية الحكم تبرز هنا ان شيء هناك سوف لن يسير على ما يرام وان هناك اعراض سيكون عند فريق مع الأنبياء. بدأ ذلك اهل الكتاب كتجربة حية ومثال حي امام الصحابة والرسول الى جانبهم.
وهناك القرآن فصل في مواقف الرفض والمعاندة وعدم الرضا للجكم بما انزل الله في سياقات مختلفة بين الكفر والفسق والظلم. فمن لم يحكم بما انزل الله فأولئك هم الكافرون. وأولئك هم الفاسقون. وأولئك هم الظالمون. ما يشير الى ان مسالة الحكم مفتوحة على مصراعيها











القسم الثالث: صفات أهل الكتاب في سورة المائدة
سورة المائدة ترسم ملامح دقيقة لصفات أهل الكتاب، لا بهدف الإدانة، بل للتحذير والتربية. هذه الصفات تُعرض في سياق تحذيري للأمة الإسلامية من أن تُصاب بنفس الأمراض الروحية والمعرفية التي أصابتهم. كل صفة ترتبط بآية، وتُكشف من خلالها أزمة في العلاقة بين الإنسان والوحي، بين النص والواقع.
انها سورة تربوية، أخلاقية، تحذيرية، تُخاطب الأمة الإسلامية من خلال مرآة أهل الكتاب. فكل صفة ذُكرت، وكل قصة رُويت، وكل موعظة سُطّرت، كانت تُرشدنا إلى شيء واحد: لا تُعيدوا إنتاج ما أفسدهم، ولا تُضيّعوا ما ضيّعوه.
سورة ترسم ملامح دقيقة لصفات أهل الكتاب، لا بهدف الإدانة، بل للتحذير والتربية. هذه الصفات تُعرض في سياق تحذيري للأمة الإسلامية من أن تُصاب بنفس الأمراض الروحية والمعرفية التي أصابتهم:
صفات اهل الكتاب من سورة المائدة
1. اتباع الهوى "ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق"
الهوى يُقدَّم كأول باب للانحراف، لأنه يُعطل العقل ويُحرف النص. التحذير هنا موجه للنبي ﷺ، لكنه ممتد للأمة كلها.
2. الفتنة الانتقائية "واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك"
الفتنة لا تُمارس في الدين كله، بل في مفاصله الحساسة. تُستخدم اليوم لتشويه الإسلام عبر إثارة قضايا المرأة والحدود.
3. التحريف والكتمان "يحرفون الكلم من بعد مواضعه"
التحريف يُمارس بعد الفهم، لا قبله، مما يجعله خيانة معرفية. يُعاد تشكيل النص ليخدم الغرض لا الغاية.
4. نقض العهد "فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم نقض الميثاق يُسقط الشرعية الأخلاقية، ويُنتج اللعنة. الوفاء بالعقود أصل في الشريعة، وخيانته تُفكك الأمة.
5. العداوة والبغضاء "وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة"
عقوبة قدرية نتيجة خيانة الميثاق، تُحوّل الدين إلى أداة تمزيق. تحذير للأمة من أن تُصاب بنفس التمزق الداخلي.
"وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة..." (المائدة: 14)
هذه الآية تُعلن عن عقوبة قدرية، لا مجرد توصيف اجتماعي. فالعداوة ليست خلافًا فكريًا، بل تمزق داخلي أُلقي في قلوبهم، لا في عقولهم. وقد قال حسن الترابي: "العداوة بين أهل الكتاب ليست قدرًا بيولوجيًا، بل نتيجة لفقدان البصيرة، حين يُصبح الدين أداة للسلطة، لا وسيلة للهداية. "وقال محمد أركون: "العداوة في النص القرآني ليست مجرد دلالة لغوية، بل بنية معرفية تُنتجها السلطة حين تُفسد الوحي. "وقال علماء اللسانيات المغاربة: ومنهم محمد مفتاح: "العداوة بنية سردية تُعيد تشكيل التاريخ. "وقال عبد القادر الفاسي الفهري: "البغضاء ترتبط بالتحيز المعجمي، حيث تُستخدم الكلمات لتكريس الانقسام، لا لتجاوزه." اذ قربا قربانًا فتُقبّل من أحدهما ولم يُتقبّل من الآخر..." (المائدة: 27–31) القصة تُجسّد كيف يبدأ الانحراف بالحسد، وينتهي بالقتل.
هابيل يُمثّل التقوى، وقابيل يُمثّل الهوى. الرد على الظلم لا يكون بالانتقام، بل بالصبر والتسامي. والغراب يُعلّم الإنسان كيف يدفن جريمته، وكأن الطبيعة تُعلّم من فشل في التعلم من أخيه. قال محمد عبده: "العبادة التي لا تُثمر تقوى، هي عبادة شكلية، لا تُقبل عند الله." وقال محمد الغزالي: "الرد على الظلم بالظلم يُعيد إنتاج الجريمة، أما الرد عليه بالتقوى، فيُطفئ نارها.
6. الرياء والتظاهر بالإيمان "قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا..."
الإيمان لا يُثبت بالقول، بل بالفعل. الرياء يُفسد العقود الإيمانية، ويُحوّل الدين إلى واجهة فارغة.
7. الانتقائية في الدين "لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل..."
الدين لا يُقاس بالانتماء، بل بالإقامة العملية. الانتقائية تُفسد الإيمان، وتُحوّل النص إلى أداة كل صفة تُعرض في السورة ضمن سياق بلاغي وفلسفي، وتُربط بمقاصد الشريعة، وتُسقط على واقع الأمة الإسلامية، مع تحذير واضح: فمن لم يتعلم من أمراض أهل الكتاب، سيُصاب بها، ومن لم يُقم ما أُنزل إليه، حُرم من بركته.
وهكذا نجد ان تلك الصفات وتأملها من صفة اتباع الهوى "ولا تتبع أهواءهم..." الذي يُعطل العقل ويُحرف النص، وهو أول باب للانحراف. الى الفتنة الانتقائية "أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله..." تُثار قضايا محددة لتشويه الدين، لا لفهمه. الى التحريف والكتمان "يحرفون الكلم من بعد مواضعه..." حيث يُعاد تشكيل النص بعد فهمه، لا قبله. وصولا الى نقض العهد "فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم..." خيانة الميثاق تُسقط الشرعية الأخلاقية. ثم العداوة والبغضاء "وألقينا بينهم العداوة والبغضاء..." عقوبة قدرية تُمزّق الجماعة من الداخل. ثم الرياء والتظاهر "قالوا إنا نصارى..." الإيمان بالقول دون الفعل يُنتج نسيانًا عمليًا. ثم الانتقائية في الدين "لستم على شيء حتى تقيموا..." الدين لا يُقاس بالانتماء، بل بالإقامة العملية
والسورة ضمن سياقتها لا تكتفي بوصف الصفات، بل تُظهر كيف تحوّلت هذه الصفات إلى أمراض روحية ومعرفية، تهدد الأمة الإسلامية إن لم تنتبه كما سنرى.


















القسم الرابع: أمراض أهل الكتاب في سورة المائدة
يمكن اعتبار الحديث عن أمراض اهل الكتاب في سورة المائدة بانه يجئ في سياق تحذير تربوي للأمة الإسلامية من العدوى الروحية والمعرفية
فسورة المائدة لا تكتفي بوصف أهل الكتاب، بل تُقدّمهم كنموذج تحذيري للأمة الإسلامية، تُظهر فيها كيف أن الانحراف عن الميثاق الإلهي يُنتج أمراضًا روحية ومعرفية، بعضها ظاهر في السلوك، وبعضها خفي في النوايا. هذه الأمراض ليست تاريخًا مغلقًا، بل خطرًا مفتوحًا، يُهدد كل من يُفرّط في إقامة الوحي.
فيما يلى نلقي الضوء على بعض هذه الأمراض ومنها:
1. الغرور الديني "نحن أبناء الله وأحباؤه..." (المائدة: 18)
ظنّ أهل الكتاب أن الانتماء يكفي، وأنهم محبوبون عند الله بلا عمل. مرض يُحوّل الإيمان إلى امتياز لا مسؤولية، ويُنتج شعورًا زائفًا بالأمان. ويري محمد الغزالي: "القرآن لا يُدين أهل الكتاب ليُرضي المسلمين، بل ليُعلّمهم ما لا يجب أن يُفعل." فيما يقول أبو زهرة: "الغرور الديني هو أول خطوة نحو فساد العقيدة، لأنه يُحوّل الإيمان إلى امتياز، لا إلى مسؤولية."
2. السكوت عن المنكر "كانوا لا يتناهَون عن منكر فعلوه..." (المائدة: 79)
تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففقدوا خيرتيهم. مرض يُحوّل الفساد إلى عرف، ويُسكت الضمير الجماعي. ويرى محمد عبده: "حين يُصبح الصمت فضيلة، يُصبح الفساد قانونًا. في حين يرى البوطي هذا المرض من زاوية: "حين نكفّ عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، نفقد خيرتينا، ونُصبح أمة من الأمم، لا أمة شاهدة. "والقران الكريم يشخص الحالة التي وصلوا اليها بقوله "لبئس ما كانوا يفعلون" لقد ذم القران افعالهم وهذا صريح بقوله ما كانوا يفعلون عن قصد وعن نية سيئة وكان الامر أصبح تقليدا او عرفا في ان يفعل كل واحد منهم المنكر دون ان يتبعه أحد بنظرة عتاب او نصيحة عاقل.
3. التحريف والكتمان "يحرفون الكلم من بعد مواضعه..." (المائدة: 13)
فهموا النص، ثم أعادوا تشكيله لخدمة مصالحهم. مرض يُحوّل الوحي إلى أداة للسلطة، لا وسيلة للهداية. حسن الترابي: "التحريف لا يُمارس على النص فقط، بل على العقل الذي يقرأه." محمد أركون "الانتقائية ليست اجتهادًا، بل تحريف ناعم، يُعيد تشكيل النص ليخدم السلطة، لا الحقيقة. "وبالتالي عملية التحريف والكتمان عملية معقدة كونها تجمع بين الكتمان والتحريف الذي يتطلب الإعلان والنشر والتسويق للأفكار المحرفة او التشريعات المنكرة. كما ان هذا كتمان الحقيقة فيما بينهم الذي يتم في الغرف المغلقة التي تعد فيها المؤامرة ويصنع ويخرج منها الكيد ولقد عبر عن ذلك القرآن وكشف عما يحاولوا اخفائه في قوله تعالى "تحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجوكم به عند ربكم " ونلاحظ كيف يستخدمون العقل المغشوش الذي يخطط للجريمة والذي يؤكد تعمد الجريمة بقوله تعالى "افلا تعقلون"
4. نقض الميثاق "فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم..." (المائدة: 13) خيانة العهد الإلهي كانت سببًا للعنة والتمزق. مرض يُسقط الشرعية الأخلاقية، ويُحوّل الدين إلى شعار فارغ. ويرى عبد العزيز عودة ان نقض الميثاق يسبب أزمة تاريخية ويقول: "من لم يتعلم من التاريخ، سيُصبح تاريخه نسخة مكررة. في حين يرى الشيخ محمود شلتوت: أن "الميثاق ليس ورقة، بل ضمير"
ان عقوبة اللعنة وهي من أشد العقوبات حيث تعرض للعنة من قبل ابليس فكأن مجتمع اللعنة من البشر والشياطين هو مجتمع واحد ظلم للنفس وخيانة للعهد وهي تأتى في سياق متصل بسلسلة من العقوبات والامراض.
5. العداوة والبغضاء "وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة..." (المائدة: 14)
عقوبة قدرية نتيجة خيانة الميثاق، تُحوّل الجماعة إلى خصوم مرض يُمزّق الأمة من الداخل، ويُفقدها القدرة على التأثير. محمد الغزالي: "حين يُستخدم الدين لتبرير الكراهية، فاعلم أن الدين قد فُقد، ولم يبق إلا اسمه." عبد العزيز عودة "العداوة التي أُلقيت بينهم كانت نتيجة لنسيانهم حظًا مما ذُكّروا به."
يرى محمد مفتاح: "العداوة في النص القرآني ليست مجرد دلالة لغوية، بل بنية سردية تُعيد تشكيل التاريخ. أما "عبد القادر الفاسي الفهري فيرى: "البغضاء ترتبط بالتحيز المعجمي، حيث تُستخدم الكلمات لتكريس الانقسام، لا لتجاوزه."
6. الرياء والتظاهر بالإيمان "قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا..." (المائدة: 14)
الإيمان بالقول دون الفعل، يُنتج نسيانًا عمليًا للوحي. مرض يُفسد العقود الإيمانية، ويُحوّل الدين إلى واجهة بلا مضمون. البوطي "الإيمان الذي لا يُثمر عملًا، هو وهم." محمد عبده: "الإيمان لا يُثبت بالقول، بل بالفعل."
7. الانتقائية في الدين "لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل..." (المائدة: 68)
أخذوا من الدين ما يُناسبهم، وتركوا ما يُخالف أهواءهم. مرض يُحوّل النص إلى أداة هيمنة، لا منهج إصلاحي محمد أركون: "الانتقائية تُنتج تحريفًا ناعمًا، يُعيد تشكيل النص ليخدم السلطة، لا الحقيقة. "اقتباس علماء اللسانيات: "الإقامة تعني تحقيق التوازن بين الدال والمدلول، أي بين القول والفعل."
8. رفض العلاج الإلهي يقول تعالى "ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أُنزل إليهم..." (المائدة: 66)
كان العلاج متاحًا، لكنهم رفضوه، فحُرموا من البركة. مرض يُضيّع النعمة، ويُنتج الجوع الروحي، رغم وفرة الوحي. ويرى عبد الحليم محمود: "القرآن لا يُخبرنا بما حدث، بل يُحذرنا مما قد يحدث، إن لم نُقم ما أُنزل إلينا."
ومن الأمور الفقهية ما قاله الامام مالك في تفسير قوله تعالي "حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير..." قال مالك: "الآية محكمة، لا يُؤكل ما تردّى أو أكله السبع، إلا ما ذُكيتم." فكان يقول
"إذا شق السبع بطن الشاة، فلا أرى أن تُؤكل، لأن هذا لا يعيش منه." الإمام مالك يُراعي الحياة الظاهرة في الذكاة، ويربط بين النص والواقع الحيوي، لا بين النص والافتراض. "إلا ما ذكيتم" (المائدة: 3) قال مالك عن ذبائح نصارى العرب: "لا بأس بها، وتلا قوله تعالى: ومن يتولهم منكم فإنه منهم." التأمل: الإمام مالك يُفرّق بين الذبائح الشرعية والانتماء العقدي، ويُظهر أن التلاقي في الطعام لا يعني التلاقي في العقيدة.









القسم الخامس: قصة هابيل وقابيل "الجريمة الأولى كتحذير أخلاقي للأمة"
في ختام عرض صفات أهل الكتاب وأمراضهم، ينتقل القرآن في سورة المائدة إلى قصة تُجسّد الانحراف الأخلاقي في أبشع صوره: القتل. لكن القصة لا تُروى كحدث تاريخي، بل كتحذير تربوي، يُظهر كيف أن الفساد الداخلي يبدأ بالحسد، وينتهي بالعدوان، وأن الاستقامة لا تُقاس بالقوة، بل بالتقوى.
1. القربان والنية: "إذ قربا قربانًا فتُقبّل من أحدهما ولم يُتقبّل من الآخر..." (المائدة: 27) القصة تبدأ بالفعل التعبدي: القربان. لكن القبول لم يكن متعلقًا بالشكل، بل بالنية. هابيل قدّم قربانه بتقوى، فقُبل. قابيل قدّمه برياء، فرفض. مرض أهل الكتاب في التحريف بدأ من هنا: تقديم الدين بلا تقوى محمد عبده يرى: "العبادة التي لا تُثمر تقوى، هي عبادة شكلية، لا تُقبل عند الله."
2. الحسد والتهديد "قال لأقتلنك..." (المائدة: 27) قابيل لم يحتمل أن يُقبل عمل أخيه، فهدده بالقتل. الحسد هو أول دافع للعدوان، وهو ما أصاب أهل الكتاب حين حسدوا النبي ﷺ. مرض الغرور الديني يُنتج حسدًا يُحوّل القربان إلى سلاح. عبد العزيز عودة: "القتل لم يبدأ بالسيف، بل بالحسد، والعداوة لا تُولد من الخارج، بل من القلب."
3. التقوى كدرع أخلاقي "إنما يتقبل الله من المتقين..." (المائدة: 27)
رد هابيل كان تربويًا: القبول لا يُقاس بالقوة، بل بالتقوى. هنا يُقدّم القرآن معيارًا أخلاقيًا يُخالف منطق القوة. هذا الرد يُعيد تعريف الدين: لا يُنتصر فيه بالعدوان، بل بالصدق. البوطي: "التقوى ليست ضعفًا، بل قوة روحية تُحصّن الإنسان من السقوط.
4. رفض الرد بالمثل "لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك..." (المائدة: 28)
هابيل يُعلّمنا أن مواجهة الظلم لا تكون بالانتقام، بل بالصبر والتسامي. هذا الموقف يُجسّد أخلاق الأنبياء، ويُخالف منطق أهل الكتاب في الرد بالعدوان. يُعلّم الأمة أن القوة ليست في الرد، بل في ضبط النفس. محمد الغزالي: "الرد على الظلم بالظلم يُعيد إنتاج الجريمة، أما الرد عليه بالتقوى، فيُطفئ نارها."
5. الوعظ والتحذير "إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك..." (المائدة: 29) هابيل يُحذّر أخاه من العاقبة، ويُبيّن له أن القتل لا يُنهي المشكلة، بل يُضاعفها. هذا الوعظ يُظهر أن الدين ليس فقط عبادة، بل نصيحة. يُعلّم الأمة أن التحذير من الظلم واجب، حتى لو لم يُستجاب له. الشيخ مجمود شلتوت يرى: "القاتل لا يحمل جسدًا فقط، بل يحمل وزرًا، والوزر لا يُغسل إلا بالتوبة، لا بالتراب."
6. الجريمة والندم "فطوّعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين..." (المائدة: 30)
قابيل لم يستجب للنصح، فقتل أخاه، ثم ندم. الجريمة كانت أول قتل في التاريخ، لكنها لم تكن آخره. يُحذّر القرآن من أن النفس إذا تُركت للهوى، تُنتج الخسارة. حسن الترابي: "القتل ليس فعلًا جسديًا فقط، بل انهيار أخلاقي، يبدأ من داخل النفس، لا من خارجها."
7. درس الغراب: التعليم من الطبيعة "فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض..." (المائدة: 31)
الغراب يُعلّم قابيل كيف يدفن أخاه، وكأن الله يُرسل درسًا من الطبيعة. من لم يتعلّم من أخيه، تعلّم من طائر. يُظهر القرآن أن العلم ليس حكرًا على البشر، وأن التواضع مفتاح الفهم. محمد أركون: "الغراب في القصة ليس مجرد طائر، بل رمز للمعرفة التي تأتي من خارج العقل المتكبر."
ان قصة هابيل وقابيل في سورة المائدة ليست قصة قتل، بل قصة الانحراف الأول، الذي يُحذرنا من أن نُعيد إنتاجه. القتل بدأ بالحسد، والعدوان بدأ بالغرور، والرفض بدأ من القلب، لا من اليد. وهكذا، يُصبح هذا القسم من السورة تحذيرًا للأمة من أن تُصاب بما أُصيب به أهل الكتاب، وأن تُدرك أن العداوة والبغضاء تبدأ من داخل النفس، لا من خارجها. وسُمّيت السورة بـ "المائدة"، لأن النعمة لا تُمنح لمن يقتل، بل لمن يُقيم، ومن لم يُقم، لم يأكل، ومن لم يأكل، جاع، ومن جاع، باع دينه كما باع قابيل أخاه.
ثانيا: من قابيل إلى دولة الاحتلال
في سورة المائدة، لا يُقدَّم العقل كأداة إدراك فحسب، بل ككائن أخلاقي يُحاسَب على ما يرى، وما يتجاهل، وما يُبرّر. فالسورة تُخاطب العقل في لحظة اختبار، حين تتقاطع البينات مع الهوى، ويُعرض الحق على من يملك القدرة على الفهم، لكنه يختار الإسراف بدلًا من الامتثال. هنا، يتجلّى العقل المعرفي بوصفه معيارًا قرآنيًا لفهم السلوك البشري، لا في ضوء المعلومات، بل في ضوء النية، والقدرة على التفاعل مع الوحي.





الإسراف في القتل: من النص إلى الواقع
قلنا إن قصة قابيل وهابيل، جاءت لا كحكاية تاريخية، بل كنموذج أول لانحراف العقل عن الفطرة. قابيل، الذي رأى البينة الإلهية في قبول قربان أخيه، لم يستجب لها بعقل إصلاحي، بل بشهوة قتل. هذا الانحراف، كما يصفه الإمام الرازي، هو أول إسراف في القتل، حين يُرتكب الجرم رغم وضوح الحق، وتُغتال البراءة باسم الغيرة، لا باسم العدالة.
ثم تأتي الآية الكاشفة: من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا. هنا، ينتقل النص من الفرد إلى الجماعة، ومن القصة إلى التشريع، ومن قابيل إلى بني إسرائيل. وكأن العقل الذي انحرف في قابيل، يُعاد إنتاجه في جماعة ورثت البينات، لكنها أسرفت في القتل والفساد، رغم وضوح الوحي. قال تعالى: "ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات...وان كثيرا منهم لفاسدين"
وعند حديث القرآن عن مجيء البينات نجد أن القرآن يستعمل كلمة "جاءتهم" لا "أتاهم" وهي لمسة بيانية دقيقة، تُشير إلى أن مجيء الرسل كان مقصودًا ومباشرًا، لا مجرد وصول عابر. "جاءتهم" تفيد التوجه، القصد، واللقاء المباشر، مما يُحمّل بني إسرائيل مسؤولية معرفية كاملة تجاه البينات التي وصلتهم. "ثم إن كثيرًا منهم بعد ذلك لمسرفون" تحمل ثلاث لمسات عميقة: "ثم": تفيد التراخي الزمني، أي أن الإسراف لم يكن لحظة غضب، بل قرارًا معرفيًا بعد تأمل أو تجاهل متعمد. "كثيرًا منهم": تُشير إلى أن الانحراف لم يكن فرديًا، بل جماعيًا، مما يعكس خللًا في البنية الثقافية والدينية.
"مسرفون": تعني تجاوز الحد، سواء في الفساد أو في تحريف الدين أو في التمرد على الوحي، وهو ما يُظهر انحرافًا عن العقل الرسالي إلى العقل النفعي.
ان الإسراف، كما يشرحه علماء اللسانيات، هو تجاوز الحد، لا في الكم فقط، بل في المعنى. فحين يُقتل من لا يستحق، أو يُبرر القتل باسم الدين، يكون العقل قد انحرف عن وظيفته المعرفية، وتحول إلى أداة فساد. وهذا ما تُجسّده دولة الاحتلال الإسرائيلي، التي تُعيد إنتاج جريمة قابيل، لكن على مستوى دولة لا فرد. فهي تمارس القتل الجماعي، تهدم البيوت، تقصف المستشفيات، وتُرهب المدنيين، تحت سرديات توراتية تُوظّف الدين لتبرير الجريمة. يقول عبد الوهاب المسيري:
الصهيونية هي قابيل حين امتلك دولة، فحوّل القتل من فعل فردي إلى سياسة ممنهجة.


جريمة قطع الطريق: ثم تأتي جريمة قطع الطريق فنجد الفساد المركب في سورة المائدة لتُجسّد جريمة مركبة: يقول تعالى
"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا أن يُقتلوا أو يُصلبوا أو تُقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو يُنفوا من الأرض...هذه الجريمة، كما فسرها وهبة الزحيلي، تشمل القتل، السلب، ونشر الرعب، وهي صورة من صور قطع الطريق على الحق، وعلى الناس، وعلى الحياة. إنها لحظة يُسرف فيها الإنسان في الفساد، رغم وضوح البينات، ويُمارس القتل لا كضرورة، بل كشهوة.
الميثاق هو لحظة التقاء العقل بالوحي، فإن فُصِل أحدهما عن الآخر، سقط الإنسان في الإسراف.
البنية المعرفية في سورة المائدة: من البينة إلى العهد لا تُخاطب العقل المجرد، بل العقل المرتبط بالقيم. فهي تُظهر كيف يمكن للإنسان أن يُسرف في القتل رغم وضوح الحق، وأن يُفسد في الأرض رغم مجيء الرسل، وأن يُنقض العهد رغم وضوح الميثاق، حين يُختزل العقل في أدوات التبرير، لا أدوات الإصلاح.
وهنا، تتكامل محددات السورة الذي يُفكك العقل السلوكي، ويُظهر كيف يُعاد إنتاج القتل والفساد حين يُفصل العقل عن الوحي، ويُربط بالمصلحة.










القسم السادس: متلازمة الطهارة والحرج والخزي
في متلازمة حيوية من الأبيات القرآنية نجد ان القرآن الكريم ركز في سورة المائدة على استعمال كلمات تشير الى الطهارة "ليطهركم" والى رفع الحرج " ما جعل عليكم في الدين من حرج " وتحدث عن عاقبة المخالفين بان لهم عذاب في الدنيا دون عذاب الاخرة وهو الخزي وكذلك عن حبط الاعمال.
وحين يُلغى الأثر رغم اكتمال الفعل يتضح ذلك في البيان القرآني، بقوله تعالى عبارة "حبط عمله" كإعلان صارم لإلغاء الأثر المعنوي والروحي للعمل، لا مجرد فقدان شكلي. فالحبوط لا يعني أن العمل لم يُنجز، بل أنه فقد شرط القبول، وهو الإيمان، مما يجعله وجودًا بلا أثر. هذه الفكرة تتجاوز البعد العقائدي لتُلامس جوهر الفعل في العقل المعرفي: أن العمل لا يُقاس بحدوثه، بل بشرطه التأسيسي.
يبدو ذلك جليا في التصوف، حين يُنظر إلى الحبوط كفساد في الباطن، حيث العمل بلا نية صافية يُعد جسدًا بلا روح. كما قال الجنيد: "النية روح العمل." أما المعتزلة، فربطوا الحبوط بمبدأ العدل الإلهي، مؤكدين أن العمل بلا إيمان لا يُثمر ثوابًا، لأنه خارج منظومة القبول العقلي. وابن رشد بدوره رأى أن الفعل الذي لا يُبنى على معرفة عقلية صحيحة يُفقد قيمته، تمامًا كما تُلغى الجملة اللغوية إذا خرجت عن نسقها البنيوي.
أما علماء اللسانيات الغربيون أضاءوا هذا المفهوم من زاوية لغوية: فـ"حبط" تحمل دلالة مفادها أن الفساد يكون بعد صلاح، وانهيار داخلي في البنية الدلالية. كما قال بول ريكو: "الكلمة لا تصف فقط ما هو، بل تكشف ما ينبغي أن يكون." وهكذا، فإن الحبوط هو لحظة انكشاف معرفي، تُظهر أن الفعل الذي خلا من الشرط الأخلاقي أو العقلي، يُلغى من حيث الأثر، رغم اكتماله شكليًا.
إنها لحظة سقوط المعنى، لا سقوط الحركة. وهذا ما يجعل "الحبوط المعرفي" مفهومًا مركزيًا في فهم العلاقة بين الفعل، الشرط، والأثر.
وبهذا المعنى نتأكد من أن الحرج ليس في التكليف بل في ضيق الفهم وآية ﴿ما يريد الله ليجعل عليكم في الدين من حرج ولكن ليطهركم وليتم نعمته عليكم﴾ تكشف أن الطهارة ليست مجرد نظافة حسية، بل لحظة اكتمال المعنى، حين يتطابق الفعل مع النية، والظاهر مع الباطن.
الصوفية يرون الطهارة انكشافًا للنور الداخلي، والمعتزلة يربطون رفع الحرج بالعدل الإلهي. نصر أبو زيد يُعيد الدين إلى سياقه الإنساني، والترابي يُفعّل الدين كتمكين لا تقييد، وأركون يُفكك السلطة المغلقة على النص. أما علماء اللسانيات، فيرون أن "رفع الحرج" هو تحول دلالي يُعيد بناء العلاقة بين الكلمة وما ينبغي أن تكون عليه. فالطهارة هي لحظة يتحقق فيها المعنى، والحبوط هو غياب ما يمنع زواله.
دخل رجل السوق، فاشترى ماءً غاليًا ليتوضأ به، ثم وقف يصلي وسط الزحام، رافعًا صوته، متفاخرًا بخشوعه. رآه شيخ فقير، يتوضأ من نهر صغير، ويصلي في زاوية خفية، ثم قال له: "يا بني، لم يكن الحرج في الماء، بل في قلبك. ولم تكن الطهارة في السعر، بل في السر."
فقال الرجل: "لكنني فعلت ما أمرني الله به. "فأجابه الشيخ: "نعم، لكنك لم تفعل ما أراده الله منك."
هذه القصة تُجسد أن الطهارة ليست في الماء، بل في النية، وأن رفع الحرج لا يكون بإزالة التكليف، بل بإزالة الغفلة. الدين يُريدك طاهرًا من الداخل، لا متظاهرًا بالخارج.
أما رفع الحرج: فهو كتحرر معرفي من ضيق الفهم
يروى أن سلطانًا عظيمًا كان يوزع الخير صباحًا، ويقيم العدل بين الناس، لكنه يعود إلى قصره مثقلًا بضيق لا يعرف له سببًا. استدعى حكماءه، فقالوا: "أنت تفعل الخير، لكنك لا تشعر بالرضا لأنك تلبس حذاءً ضيقًا، وتظن أن الألم من خارجك." دخل عليه درويش صوفي وقال: "الحرج ليس في الدين، بل في ضيق الفهم، وضيق النية، وضيق القلب." فخلع السلطان حذاءه، ومشى حافيًا، وقال: "الآن فقط، شعرت أن النعمة تكتمل حين زال الحرج، وانكشفت الطهارة."
هذه القصة تُجسد معنى قوله تعالى:﴿ما يريد الله ليجعل عليكم في الدين من حرج ولكن ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون﴾
فالحرج ليس في التكليف، بل في الفهم المغلق، والطهارة ليست في الماء وحده، بل في انكشاف الباطن، وتحرر العقل من الضيق.
السادة الصوفية يرون الحرج غشاوة على القلب، والطهارة انكشاف للنور الداخلي. ابن عطاء الله السكندري يقول: "من لم يتطهر من الحرج، لم يذق نعمة القرب." أما المعتزلة، فربطوا رفع الحرج بمبدأ العدل الإلهي، مؤكدين أن الله لا يُكلف بما لا يُطاق، وأن الطهارة هي نتيجة عقلانية لرحمة التشريع. ونصرحامد أبو زيد يرى أن الحرج ناتج عن احتكار التأويل، لا عن النص ذاته، وأن الطهارة تتحقق حين يُعاد فهم الدين في سياقه الإنساني. حسن الترابي يُعيد الدين إلى وظيفته التمكينية، لا التقييدية، ويعتبر رفع الحرج شرطًا لفاعلية الإنسان في الكون. محمد أركون يُفكك السلطة المغلقة على النص، ويُعيد فتحه على العقل التاريخي، حيث الطهارة هي تحرر من التكرار، لا من النص.
أما علماء اللسانيات، مثل بول ريكو، فيرون أن اللغة الدينية تُنتج أثرًا معرفيًا حين تُحرر من التكرار الرمزي. فـ"رفع الحرج" هو تحول دلالي يُعيد بناء العلاقة بين الدال والمدلول، والطهارة هي لحظة اكتمال المعنى.
والدين، في العقل المعرفي، هو مشروع تطهير داخلي، لا منظومة تقييد خارجي. رفع الحرج هو لحظة انكشاف، تُعيد تعريف التكليف بوصفه تمكينًا، والطهارة بوصفها شرطًا للنعمة، والنعمة بوصفها أثرًا للحرية الروحية. فمن الحرج إلى الطهارة، ومن الحبوط إلى الخزي، ومن الفعل إلى المعنى"
في رحلتنا مع متلازمة استعمال الكلمات المعرفية، فأننا لم نقرأها كأحكام فقهية فقط، بل كـ نص معرفي عميق يُعيد تشكيل العلاقة بين الإنسان والدين، بين الفعل والنية، وبين الظاهر والباطن.
لقد بدأنا بـ الحرج، ففهمناه لا كضيق تكليفي، بل كغشاوة على القلب، وزيف في الفهم، وغياب للنية الصافية. ثم انتقلنا إلى حبوط العمل، ففسّرناه بأنه ليس زوالًا ميكانيكيًا للأثر، بل غياب الشرط الذي يمنع زواله: الإخلاص، الصدق، والنية الفاعلة. ثم تعمّقنا في الطهارة، واعتبرناها لحظة اكتمال المعنى، حين يتطابق الفعل مع المقصد، والظاهر مع الباطن، كما قال بول ريكو: "الكلمة لا تصف فقط ما هو، بل تكشف ما ينبغي أن يكون. ثم دخلنا في الخزي في الدنيا، ففهمناه كفضيحة للباطن، لا مجرد سقوط اجتماعي، واستلهمنا أن الخزي هو انكشاف المعنى الفاسد، لا مجرد عقوبة فكل استعمال من الكلمات السابقة لم يكن مجرد تحليل، بل كان كشفًا معرفيًا، يُعيد تعريف الدين بوصفه مشروعًا للتحرر الداخلي، لا منظومة تقييد خارجي.
وهكذا تكرر سورة المائدة نفسها، في ضوء العقل المعرفي، بانها سورة الانكشافات: انكشاف الحرج، انكشاف الحبوط، انكشاف الخزي، وانكشاف الطهارة كشرط للنعمة. فمن قرأها بعين الفقه، فهم الأحكام. ومن قرأها بعين القلب، فهم المقاصد. ومن قرأها بعين المعنى، فهم الإنسان.






القسم السابع: "قل" في سورة المائدة "وقالوا" – صوت الوحي والعقل الجاهلي
سورة المائدة مدنية، نزلت في مرحلة اكتمال التشريع، وتُعد من السبع الطوال التي أُعطيها النبي ﷺ مكان التوراة.
أولا: "قل" صوت الوحي والتشريع
ورد في سورة المائدة آيات قرانيه تبدأ بقوله تعالى "قل" وعند تأملها نجد فيها لا تأتي فقط كأمر بالرد، بل كصيغة تشريعية حاسمة، تُعلن الأحكام وتُفكك الاعتراضات. أمثلة: ﴿قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ﴾ [المائدة: 4] – إعلان تشريعي مباشر. ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ﴾ [المائدة: 100] – تفكيك لمنطق التمييز المادي. ﴿قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ﴾ – إعادة بناء معيار التقييم على أساس الطهارة المعنوية، لا الكثرة أو العادة. "قل" هنا هو صوت النبوة، لا كحوار، بل كتشريع، يُعيد ضبط المفاهيم، ويُفكك العقل الذي يُقيم الأحكام على الهوى أو الكثرة.
ثانيًا: "قالوا" في سورة المائدة – صوت العقل الجاهلي
"قالوا" في المائدة يُمثل صوتًا تقليديًا، يُقاوم الوحي، ويُتمسك بالموروث، حتى لو كان بلا علم: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ [المائدة: 104]
هذا هو جوهر العقل الجاهلي: الاكتفاء بالموروث، ورفض التجديد، حتى لو كان الوحي نفسه. ﴿قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ﴾ [المائدة: 82] هنا يُستخدم القول كهوية، لا كبرهان، ويُبنى عليه موقف ديني، لا معرفي. "قالوا" في المائدة هو صوت التقليد، صوت الاكتفاء، صوت الانغلاق، الذي يُقاوم الوحي باسم الآباء، لا باسم العقل أو البرهان.
ثالثًا: دلالة اسم السورة "المائدة" – من الرغبة إلى التكليف اسم السورة مأخوذ من قصة طلب الحواريين مائدة من السماء: ﴿إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ﴾ [المائدة: 112] وهنا يتجلى التوتر بين: الرغبة في المعجزة (طلب المائدة) التحذير من التكذيب بعد النعمة (فمن يكفر بعدها يُعذّب عذابًا لا يُعذّبه أحدًا من العالمين) إذًا، اسم "المائدة" ليس مجرد حدث، بل رمز معرفي يُجسد العلاقة بين النعمة والتكليف، بين الرغبة والوحي، بين الطلب والالتزام. "في سورة المائدة، قل هو صوت التشريع الذي يُعيد بناء العقل على أساس الطهارة والمقصد، و قالوا هو صوت التقليد الذي يُقاوم الوحي باسم الآباء. واسم السورة المائدة يُجسد التوتر بين الرغبة في النعمة، والالتزام بالتكليف."

خاتمة: رحلة معرفية داخل سورة المائدة
لقد مثلت تأمل قراءة سورة المائدة وفق محددات العقل المعرفي رحلة راقية. وكان السير كمن يثبت الخطى في طريق مستقيم، بل كمن يتنقل بين محطات روحية، كل محطة تكشف لك وجهًا من وجوه الحقيقة، وكل مشهد يضعه أمام مرآة نفسه. تبدأ الرحلة بتحذير واضح: "ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق"، وكأن الوحي يُنبّه منذ البداية أن أهل الكتاب لا يُحاربون الحق علنًا، بل يُفتنونه من داخله، عبر الهوى، والتحريف، والانتقائية. وفي ذلك يقول الشيخ الشعراوي" أن الفتنة، لا تُمارس في الدين كله، بل في مفاصله. كما قال: واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك. الفتنة تُستهدف في النقاط الحساسة، لا في العموم."
يقول الطاهر بن عاشور: نقض الميثاق، يُسقط الشرعية الأخلاقية. كما قال تعالى: فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم، فالعهد ليس مجرد اتفاق، بل مسؤولية روحية."
انها ليست رحلة البحث عن الأحكام فحسب، بل هي رحلة البحث عن المعنى. "ولا تتبع أهواءهم" تخاطبك أنت، لا النبي فقط. لتعيد فيها اتزان نفسك كلما انجرفتُ وراء رأي يُرضي السياق، لا النص؟ فكم مرة نخاف من مواجهة الحقيقة لأنها لا تُناسب المزاج العام؟
ثم تأتي محطة أخرى، أكثر خطورة: "واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك". هنا لا يُطلب الحذر من الكفر، بل من الفتنة الجزئية، من تلك الأسئلة التي تُثار حول بعض الأحكام، لا كلها، لتُشكك في الدين من داخله. هذه الفتنة ليست جديدة، بل هي امتداد لصفة قديمة: "يحرفون الكلم من بعد مواضعه"، حيث يُعاد تشكيل النص بعد أن يُفهم، لا قبله. "واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك". وتتأكد أن الفتنة ليست في الدين كله، بل في مفاصله. في قضايا المرأة، في الحدود، في التعدد في قضايا حقوق الانسان والحكم والحرية. يُنتقى "بعض" الدين ليُصبح ساحة معركة، بينما يُترك "كله" في الظل. وكأن أهل الكتاب لا يُحاربون الدين، بل يُعيدون تشكيله.
يقول الشيخ محمد عبده: "التحريف ليس جهلًا، بل خيانة معرفية. أهل الكتاب فهموا النص، ثم أعادوا تشكيله ليخدم مصالحهم. وهذا ما يُحذر منه قوله: يحرفون الكلم من بعد مواضعه."
ثم وتصل إلى مشهد المائدة، وتقرأ قول الحواريين: "آمنا واشهد بأننا مسلمون". وهنا، تفهم أن المائدة ليست طعامًا، بل صدقًا. وأن من لم يفهم هذا، فقد ضل كما ضل من قبلهم. المائدة كانت آية، وصفات أهل الكتاب كانت تحذيرًا.
وتصل في مشهد المائدة السماوية،" نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا...". وهنا يظهر الفرق بين الحواريين وأهل الكتاب: الأولون طلبوا آية ليزدادوا يقينًا، والآخرون أخفوا الآيات ليزدادوا سلطة. المائدة كانت رمزًا للنعمة المشروطة بالطاعة.
وفي النهاية، تقرأ: "هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم..." تشعر أن هذا هو المعيار الحقيقي. لا كثرة الأعمال، ولا كثرة الشعارات، بل صدق النية، وصدق الإخلاص. يُعلن القرآن معيار النجاة: "هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم...". لا نسب، ولا شعارات، بل صدق. ثم يُغلق الستار على كل جدل: "لله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير". وهنا، يفهم القارئ أن المائدة ليست مجرد اسم، بل خط بياني يبدأ بالتحذير، ويمر بالاختبار، وينتهي بالصدق والقدرة، فكل ما سبق كان تمهيدًا لهذا الإعلان: أن الله وحده هو الملك، وأن من لم يفهم هذا، لم يفهم جوهر الدين. وهنا يغلق باب الجدل ويفتح باب التوحيد.
وصلى الله على سيدنا محمد



#ناهض_الرفاتى (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- غزة بين هدنة الضرورة ومأزق التسوية: قراءة سياسية في لحظة ما ...
- التكية مفردة مشئومة فلسطينيا
- اسرار اسم سورة ال عمران
- التكية
- العقل المعرفي
- تقدير موقف حول تهديدات نتياهو-انتظروا-
- تقدير موقف حول نجاح او فشل مبادرة ترامب ذات 21 بن
- الرواية: ساحة المعركة الحقيقية
- مرأة العذاب
- الوحش والمئذنة*
- مغسلة الموتى
- اسباب نتياهو لعدم وقف الحرب
- صناعة المأساة والخلاف السياس والدينى
- الإمارة والخلافات السياسية السلفية نموذجا
- مت قضايا الفكر الإسلامي والأنظمة السياسية محددات التقارب وال ...
- الحرب نجاه وبعث
- الفتنة الكبرى لطه حسين فى عيون المسيرى
- ثقافة الحزب أولها استبداد وأخرها فشل -رواية جورج أورويل والح ...
- انتعاش قطاع العقارات السكنية في غزة الأسباب؟
- التطبيع الاسرائيلى السعودي سيكون زواجا مثليا سياسي اذا ما تم


المزيد.....




- إسرائيل.. اليهود الحريديم يستعدون لمظاهرة حاشدة في القدس الم ...
- خطيب الأقصى يحذر من تداعيات خطيرة للحفريات الإسرائيلية أسفل ...
- فرنسا: بدء محاكمة المتهمين في قضية -الأيادي الحمراء- على نصب ...
- مستعمرون يقتحمون المسجد الاقصى
- الاحتلال يعتقل أسيرًا محررًا ونجله أثناء قطف الزيتون غرب سلف ...
- حنين من غزة.. حين تبتر الروح قبل الجسد
- حملة عنصرية معادية للإسلام تستهدف ممداني في الأيام الأخيرة ق ...
- بابا الفاتيكان: أرض العراق وسمت بالألم والرغبة بالنهوض من جد ...
- كيف أثرت حرب غزة على الحالة الدينية داخل دولة الاحتلال؟
- محافظة سلفيت والبعثة الكندية في القدس تشاركان المزارعين في ق ...


المزيد.....

- الفقه الوعظى : الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- نشوء الظاهرة الإسلاموية / فارس إيغو
- كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان / تاج السر عثمان
- القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق ... / مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
- علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب / حسين العراقي
- المثقف العربي بين النظام و بنية النظام / أحمد التاوتي
- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ناهض الرفاتى - العقل المعرفي تاملات في سورة المائدةنننا