|
اسرار اسم سورة ال عمران
ناهض الرفاتى
الحوار المتمدن-العدد: 8491 - 2025 / 10 / 10 - 19:39
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
سورة آل عمران مقدمة في لحظةٍ تتداخل فيها الفتنة مع الوحي، وتختلط فيها الهزيمة بالتمحيص، وتُختبر فيها النوايا في ساحات الجدل والقتال، تنزل سورة آل عمران لتكون أكثر من مجرد خطاب قرآني؛ إنها خارطة معرفية ربانية، تُعيد بناء العقل المسلم من الداخل، وتُرشد القلب إلى كيف يثبت حين يضطرب كل شيء من حولك. فسورة آل عمران لا تبدأ من الأرض، بل من السماء: "اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ..." تبدأ بتثبيت التوحيد، ثم تنزل تدريجيًا إلى أعماق النفس، إلى زوايا التاريخ، إلى ساحات الجدل، إلى ميادين القتال، لتُعيد ترتيب الإنسان، لا عبر الشعارات، بل عبر النذر، والاصطفاء، والتمحيص، والربانية، والوظيفة الإصلاحية. اسمها "آل عمران" بكنها تحمل في أعماقها سرًا معرفيًا عميقًا، لا يُفهم إلا في سياق بنائها الداخلي. "فآل عمران" ليسوا مجرد عائلة تاريخية، بل هم نموذجٌ ربانيٌ في النية الصادقة، والعبادة الخالصة، والتلقي النقي، والثبات في وجه الفتنة. امرأة نذرت ما في بطنها لله قبل أن تعرف جنسه، ومريم أُنبِتت نباتًا حسنًا، وزكريا دعا دعاءً خالصًا، وعيسى خُلق بكلمة، كلهم نماذج في التلقي، والتأمل، والتقوى، والثبات. وهنا يتجلى تكريم الذرية الطيبة من "آل عمران"، الذين قال الله عنهم: "ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ..." فهم ذرية لا تُقاس بالنسب، بل بالوظيفة، لا تُكرّم بالاسم، بل بالعمل، لا تُصطفى بالدم، بل بالصدق، وهم الذين حملوا أمانة الدين في لحظة الضعف قبل القوة، وفي مقام النذر قبل المعرفة. ثم تأتي غزوة أحد، لتشكل جزء أساسي من السورة، لا بوصفها حدثًا عسكريًا، بل بوصفها مختبرًا معرفيًا يُختبر فيه صدق النوايا، وتُكشف فيه الأعماق، ويُعاد فيه تعريف النصر والهزيمة. في أحد، لم يُهزم المسلمون لأنهم قلّة، بل لأنهم خالفوا الأمر، ومالت قلوبهم إلى الدنيا، فكان التمحيص، وكان الفرز، وكان النداء الرباني: "وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا..." في أحد، يُعاد بناء العلاقة مع النبي ﷺ، لا بوصفه قائدًا فقط، بل بوصفه رسولًا، فتُقال الكلمة التي تُزلزل القلوب وتُعيد ترتيب الولاء: "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ..." وهكذا، فإن سورة "آل عمران" تُعيد تعريف الاصطفاء بأنه وظيفةٌ في وجه الفتنة، وتُعيد تعريف الربانية بأنها ثباتٌ في لحظة الانكسار، وتُعيد تعريف العقل بأنه وعيٌ بالسنن، لا انفعالٌ بالأحداث. ثم تنتقل السورة إلى الجدل العقدي مع وفد نجران، الذين جاؤوا يُجادلون في طبيعة المسيح، فيُرد عليهم بمنطق الخلق، لا بمنطق الفلسفة، ويُعاد بناء التصور العقدي على أساس من التوحيد، والاصطفاء، والوظيفة، لا على أساس الجدل العقيم. ومن هنا تتجلى مفاتيح الكشف عن مضامين المعرفة في السورة، التي لا تُعرض كأفكار مجردة، بل كحقائق تُختبر في الواقع، وتُصاغ في النفس، وتُترجم إلى سلوك. فالمعرفة في سورة "آل عمران" ليست نظرية، بل هي: معرفةٌ تُثمر في وظيفة الإصلاح وتُخاطب الذين نذروا أنفسهم لله،. إنها دعوةٌ لأن نكون من آل عمران، لا بالانتساب، بل بالربانية، لا بالاسم، بل بالفعل، لا بالشعار، بل بالثبات. في هذه التأملات محاولة معرفية لأن نُفكك هذه البنية من الصدق ونحلل الخط البياني القرآني الذي يرتبط بين اسرار اسم السورة وبنية موضوعاتها وهي محاولة بلا شك لفهم المعنى والكشف عن مقاصد الشريعة لوضع الحلول لقضايا واشكاليات هذا العصر. محاولة لأن نُعيد قراءة السورة بعين العقل المعرفي القرآني، الذي لا يكتفي بالفهم، بل يسعى إلى الإصلاح، وإعادة بناء الإنسان على أساس من الوحي، والوعي، والوظيفة، والربانية والمقاصد التشريعية. نستعرض بعض المعاني والمقاصد الشرعية من خلال تأمل بعض موضوعات السورة وارتباطها بمعاني ودلالات اسم السورة ومحاولة اكتشاف بناء خط بياني قرآني يربط بين معاني وأسرار اسم السورة وموضوعات السورة بالقدر الذي يتاح لنا وبناء خط بياني قرآني علي طريقة القرآن الوحي والعقل من خلال عدة أقسام.
القسم الأول: الاستهلال المعرفي التوحيدي في هذا القسم الأول من السورة والذي يضم (الآيات 1–32) نجد أنفسنا أمام استهلال قرآني فريد، يُرسي دعائم العقل المعرفي منذ اللحظة الأولى، ويُمهّد الطريق أمام الباحث عن الحقيقة، لا عبر الجدل عبر التسليم لله الحي القيوم. "اللَّهُ لَا إله إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ" هذه الآية ليست مجرد افتتاح، بل هي إعلان كوني، يُرسّخ أن الله واحد أحد، حي لا يموت، قيوم لا يحتاج إلى أحد، صمدٌ قائم على كل أمر ونفس ومخلوق. إنها مقدمة شافية كاملة، تُهيّئ النفس والعقل للحديث عن الرسالات السماوية، وعن عيسى بن مريم عليه السلام، وموقف النصارى منه، وعن آل عمران الذين اصطفاهم الله. من التوراة والإنجيل إلى القرآن: وحدة الهداية ثم يُخبرنا القرآن أن الله أنزل التوراة والإنجيل، ثم أنزل القرآن فيه هدى للناس. وهنا نُدرك أن الرسالات كلها من مشكاة واحدة، وأن الانحراف لم يكن في الوحي، بل في الاستقبال البشري له، خاصة من أهل الكتاب الذين زاغت قلوبهم رغم مجيء العلم والبينات. وفيما يلي بعض هذه التأملات التي قد وقفنا عندها ونحن نقرأ الآيات الكريمة بحسب محددات هذه الدراسة القرآنية بين اسرار اسم السورة وموضوعاتها المحكم والمتشابه: اختبار العقل والنية يقول تعالي "هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ...منه آيات محكمات هن ام الكتاب...واخر متشابهات" في هذه الآيات، يُعرض المحكم والمتشابه، لا ليُربك القارئ، بل ليختبره. فأما الذين في قلوبهم زيغ، فيتبعون المتشابه طلبًا للفتنة، وأما الذين آمنوا، فيتبعون المحكم، لأنه أصل الهداية وهن ام المعرفة. وهنا يُبرز العقل المعرفي ليؤكد أن الزيغ ليس في النص، بل في القلب والعقل، وأن الفاسقين هم من يتبعون المتشابه، بينما المؤمنون يتبعون المحكم بثبات ويقين. وتبرز أيضا جملة "كل من عند الله "ويبقي الفارق فيمن له لب يفهم المغزى ومن يسعي للجهالة. فهناك عقل يعرف واخر يجهل وقلب يؤمن ويتلقى وقلب يرفض ويعرض. وفي إشارة قوية للحقيقة ان المعرفة لا تستجيب الا لمن له عقل فيما الجهلاء يصيبهم الزيغ إدارة منهم وخلق فيهم فالطريق دوما لا تخطئ نهاياتها. والطريق تحملك الي وجهتك التي انت تبغي بها هدفك. نها إشارة الي السفر الآمن الي الحقيقة والكشف الآمن عن المرض . الدعاء الرصين: "ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا" يقول تعالي "رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا..." هذا الدعاء ليس مجرد رجاء، بل هو وعيٌ معرفيٌ راقٍ، يُدرك أن القلب قد يزيغ بعد الهداية إن لم يُحصّن بالرحمة والدعاء. إنه دعاء العقل المؤمن الذي لا يغتر بهدايته، بل يسأل الله أن يُثبته، لأن الضلال قد يصيب من عرف الحق إن لم يُحسن حفظه. القلوب لا تزيغ في استحضار الرحمة ولا تضيق في وجود الهداية. انها هبة من الله تطلب من الوهاب "وهب لنا من لدنك رحمة انك انت الوهاب" "ربنا انك جامع الناس ليوم لا ريب فيه" فمن زاغ ضل ومن وهب الرحمة وصل الي ذلك اليوم والله لا يخلف الميعاد المواجهة المتكررة بين الكفر والإيمان ثم تنتقل السورة من التحذير المعرفي إلى المواجهة الواقعية، حيث يُخبرنا الله أن الذين كفروا سيُهزمون، وأن هناك دومًا فئة تقاتل في سبيل الله، لا في سبيل مصالح أو شعارات "قل للذين كفروا ستغلبون ". وهنا نُدرك أن الهداية ليست نظرية، بل تُختبر في ميادين الصراع، وأن النصر لا يتحقق إلا بوجود فئة مؤمنة واعية، تقاتل بعقلٍ وإيمانٍ وثبات "فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة "والعبرة دوما بمن يتلقاها "ان في ذلك لعبرة لأولي الابصار" كما تلقي اولي الالباب الآيات المحكمة" والراسخون في العلم يقولوا امنا" حب الشهوات: مواجهة الهوى الداخلي "يقول تعالي زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ..." وهنا يُفتح باب آخر من أبواب الزيغ: الهوى الداخلي. فحتى من عرف الحق، قد يتبع الهوى إن لم يُحصّن قلبه. وهذا يُبرز العقل المعرفي القرآني أن المواجهة ليست فقط الشبهات، بل يُصارع الشهوات أيضا "ذلك متاع الحياة الدنيا"، وأن النفس قد تُزيّن لها الباطل، فتُعرض عن الحق رغم وضوحه "والله عنده حسن الماب". والله لا يترك الامر دون فصل في مواجهة الشهوات التي يجري خلفها الناس بل يخبرنا بما هو خير من ذلك "للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار "لتتحدد معالم ذلك اليوم برضوان الله البديل لكل من استجاب والزم نفسه بالأيمان "والله بصير بالعباد"
الحقائق الكونية والدينية الكبرى يقول تعالى "شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ..." "إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ" "فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ..." هنا يُعلن الله بنفسه عن الحقائق الكبرى: أن التوحيد شهادة ربانية، لا رأي بشري. أن الإسلام هو الدين الحق عند الله، لا تعددية في الطرق. أن الاتباع الحقيقي هو تسليم الوجه لله، لا جدال ولا تأويل. وهنا يُبرز العقل المعرفي أن الحق لا يُثبت فقط بالحجج، بل بالتسليم الواعي لله، وأن الجدال لا يُثمر إن لم يكن مبنيًا على الإقرار بالحقائق الكبرى. والآيات الكريمة الي جانب ذلك تتحدث عن الطريقة المقبولة للعرض "فان أسلموا فقد اهتدوا وان تولوا فإنما عليك البلاغ" هو الإبلاغ عن الإسلام في أبهي ما فيه التسليم وحسن التلقي كما كان مع "ال عمران " وهنت نجد أنفسنا أمام تمهيد بنيوي للحديث عن "آل عمران" وميلاد المسيح كل هذه الإيحاءات من التوحيد، وزيغ القلوب، والدعاء، والمواجهة، والهوى، والحقائق الكونية والبلاغ والهداية. انه تمهيد لمن كفر بايات الله وقتل النبيين بغير الحق. حيث كانت ولا زالت مشكلتهم الأبدية مع اهل الايمان والقسط" ويقتلون الذين يأمرون بالقسط" القدرة الإلهية والاعراض يعرض القرآن مشهدا معرفيا تتصور حقائقه في الذهن وفي الواقع " الم تر الي الذين أتوا نصيبا من الكتاب" انها لحظة كشف الغطاء عمن تحقق من المعرفة لكنه حينما دعي لان يكون الكتاب حكما تولي واعرض" يدعون الي كتاب الله ليحكم بينهم ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون" فريق يتولى وأخر يعرض. ولا يتوقف عند التولي والاعراض وانما هناك حالة من الاستعلاء والافتراء تفسر وتبرر هذا الاعراض والتولي بحسب زعمهم " لن تمسنا النار الا أياما معدودة " انها مرحلة الاغتراب والافتراء العظيم وتعبيرا عن النرجسية المقيتة في بنيتهم النفسية والعقلية تجاه الدين. وامام هذا النفس العقيم من التولي والاعراض يعلن المؤمنين هدايتهم "قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتولج النهار في الليل وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي وترزق من تشاء بغير حساب" وفي نهي وتحذير ايماني يختم هذا القسم "لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين" وفي استثناء واحد "الا ان تتقوا منهم تقاه " في إشارة الي الخطورة من ان يتبع المؤمنين الكافرين "ويحذركم الله نفسه " فلا شيء يخفي علي الله "ان تخفوا ما في صدوركم او تبدوه يعلمه الله" فما يحبس في الصدر ويظن ان لا احد مطلع عليه من الولاء للكافرين او غيرهم يحذر الله بانه الرقيب المطلع علي هذا الاخفاء وليس هذا فقط وانما علمه يصل الي ابعد مما يظن هؤلاء فهو "يعلم ما في السموات وما في الأرض " في هذا الجو من الأبيات تُهيّئ البنية القرآنية للانتقال إلى الحديث عن آل عمران، وميلاد السيد المسيح عليه السلام حيث: يُولد الأنبياء في بيئات يغلب عليها الهوى والزيغ والجدال. وتُختبر الهداية في الواقع والنفس والتاريخ. ويُبرز العقل المعرفي القرآني حقائق بأن الحق لا يُقبل إلا بتسليم القلب والعقل لله. ونجد أنفسنا نذكر سر اسم السورة في أقوال بعض العلماء فقد راي البعض انها سُمّيت السورة بـ "آل عمران" لأن فيها: ذكر آل عمران وميلاد مريم وعيسى عليهما السلام. مواجهة النصارى في معتقداتهم حول المسيح. تجلّي الحقائق الإيمانية في سياق تاريخي ونفسي ومعرفي. وقد قال ابن عاشور إن السورة سُمّيت بهذا الاسم في كلام النبي ﷺ والصحابة، كما ورد في صحيح مسلم عن أبي أمامه، حيث قال: "اقرؤوا الزهراوين: سورة البقرة وسورة آل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان..." وسمّاها العلماء أيضًا بسورة الزهراء سورة المجادلة (لكثرة الجدال فيها مع وفد نصارى نجران) وكذلك سميت باسم سورة الأمان وسورة الكنز لما فيها من ذخائر الهداية والخلاصة المعرفية التي نقررها هنا. أن (الآيات 1–32) يُعد استهلالًا معرفيًا تأسيسيًا، يُرسّخ فيه العقل القرآني: أن التوحيد هو أصل كل فهم. أن القلب قد يزيغ رغم العلم، إن لم يُحصّ أن المواجهة مع الباطل تتكرر، وأن النصر مشروط بالإيمان. أن الهوى هو العدو الخفي الذي يُزيّن الباطل. أن الحقائق الكبرى لا تُدرك إلا بعقلٍ سليم وقلبٍ مُسلّم. وهذا كله يُمهّد للحديث عن آل عمران، وميلاد المسيح عليه السلام، في ضوء عقل معرفي قرآني يُميز بين الإيمان والزيغ، وبين البينات والهوى، وبين التسليم والجدال. كما سياتي في القسم التالي
القسم الثاني: حادثة آل عمران والحقائق المعرفية المنبثقة عنها في هذا القسم من الآيات الكريمة من الآية 33 إلى الآية 63 نحاول كشف أسرار الاسم، ننتقل من التمهيد التوحيدي إلى التمثيل الواقعي للاصطفاء الإلهي، حيث يظهر اسم "آل عمران" في سياق معرفي عميق، لا بوصفه مجرد نسب، بل كرمزٍ لخط إيماني ممتد، يحمل في طياته الصدق، والنذر، والعبادة، والدعاء، والبشرى. هنا لا نقرأ سردًا تاريخيًا، بل نُبحر في مفاتيح الكشف القرآني، ونُعيد تشكيل العقل وفق محددات قرآنية دقيقة، تُرشدنا إلى أن التفضيل الإلهي لا يُمنح عبثًا، بل يُبنى على النية الصادقة والوظيفة التعبدية. وفيما يلي نقف علي مجموعة من الدلالات والمعاني التي تدور حول اسرار الاسم والحقائق المعرفية المنبثقة عن قصة ال عمران. الاصطفاء الإلهي وسر ذكر آل عمران يقول تعالي "إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ" هذه الآية تُعلن أن التفضيل الإلهي لا يُقاس بالنسب، بل بالوظيفة الإيمانية. وقد اختار الله من بين البشر أربع محطات للاصطفاء: آدم، نوح، آل إبراهيم، وآل عمران. وهنا يُبرز القرآن أن آل عمران ليسوا مجرد عائلة، بل نقطة ارتكاز معرفية في سلسلة الاصطفاء، حيث تنتقل بذرة الخير والكرامة في ظهور الرجال: "ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ" وقد علّق الزمخشري على هذا بقوله: "الذرية بعضها من بعض في الدين، لا في النسب فقط"، مما يُبرز أن التفضيل قائم على الامتداد الروحي لا البيولوجي. أما الطاهر بن عاشور، فقد رأى أن ذكر آل عمران في هذا الموضع هو "تمهيد للحديث عن مريم وعيسى، وإشارة إلى أن النبوة لا تنحصر في الذكور، بل قد تبدأ من امرأة صادقة النية"، وهو ما سنراه لاحقًا. امرأة عمران والنذر الصادق لقد دعت المرأة الصالحة ونذرت "رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا..." هنا تظهر المرأة المؤمنة من آل عمران، في لحظة نذر خالص، نذر لله وحده، قبل أن تعرف أهو ذكر أم أنثى. وربما كانت تتوقع أن يكون ذكرا، لكن حين وضعتها أنثى، قالت: "رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى..." وهنا يُبرز القرآن أن الصدق في النية هو معيار القبول، لا التوقعات البشرية، فجاء الرد الإلهي: "فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ" وقد علّق محمد عبده على هذا بقوله: "إن القبول الحسن لا يكون إلا لمن صدق في النذر، وأخلص في التوجه، ولو خالف الواقع التوقع"، مما يُبرز أن النية الصادقة تُثمر القبول الرباني، حتى لو خالف الظاهر ما كان يُرجى. مريم في مقام الطهر والعبادة بعد أن تقبل الله مريم، لم تكن حياتها عادية، بل كانت في مقام العبادة الدائمة، حتى جاءها النداء الرباني: "يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ" وهذا النداء يُبرز أن مريم لم تكن فقط في مقام الطهر، بل في مقام الوظيفة التعبدية المستمرة، حيث يُطلب منها: القنوت: دوام الطاعة والخضوع. السجود: ذروة التذلل لله. الركوع مع الراكعين: الاندماج في جماعة المؤمنين، لا الانعزال عنهم. وقد علّق فاضل السامرائي على هذا بقوله: "القنوت هنا ليس مجرد طاعة، بل هو مقام من مقامات الإقامة في العبادة، وهو أعلى من مجرد أداء الشعائر"، مما يُبرز أن العبادة هي تهيئة نفسية وروحية لحمل الكرامة الإلهية. زكريا من الدعاء إلى الذكر في لحظة تأمل عميق، بعد أن رأى فضل الله على مريم، دعا زكريا ربه: "هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ..." وهنا نُدرك أن الدعاء نابع من تفاعل وجداني مع مشهد إيماني، حيث يُستثار الرجاء، ويُفتح باب الدعاء. ثم جاءت الاستجابة السماوية: "فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَاب..." وقد علّق ابن عاشور على هذا بقوله: "قيام زكريا في المحراب يُشير إلى أن الدعاء لا يُثمر إلا إذا اقترن بالعبادة، وأن الاستجابة تأتي في مقام الصفاء الروحي"، مما يُبرز أن التحول من التأمل إلى العبادة هو مفتاح الفتح الإلهي. ثم طُلب من زكريا أن يُكثف الذكر: "وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ" وهنا يُرشدنا القرآن إلى أن الاستجابة الإلهية لا تُغني عن الذكر، بل تُضاعف الحاجة إليه، وأن المؤمن حين يُكرم، يُضاعف عبادته، لا يُقللها. وهكذا يُرشدنا القرآن إلى أن الصدق، والطهر، والعبادة، والذكر هي مفاتيح الاصطفاء، وأن من يُكرمه الله، يُطلب منه أن يزداد قربًا، لا أن يكتفي بما نال. وان القران الكريم وهو يسرد لنا مسالة الاصطفاء وقضية ميلاد عيسى والجدل الذي دار حول القصة نجد القران يقول بشكل واضح ان هذا لهو القصص الحق. ان الآيات الكريمة تشع اضاءات تخترق الانفس وتجعل القلوب تخشع والعقول تنبهر فما بين "فتقبلها ربها بقبول حسن" وما بين" كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا " نعلم ماذا يعني المحراب في حياه العبد وما هي العلاقة بين قبول العمل الصادق وما بين وجد عندها رزقا . ان نفس الشيء يتكرر مع زكريا فما بين "هناك دعا زكريا ربه قال هب لي من لدنك ذرية طيبة" وما بين "فنادته الملائكة وهو قائم في المحراب" نعلم أيضا ما هو المحراب الذي تنادي فيه الملائكة العبد وتبشره البشرى. ان ما بين هنالك حيث شاهد مريم في المحراب وما بين هنا حيث نادته الملائكة وهو قائم في المحراب تسمع الإجابات ويتلقى العباد استجابة الدعاء "قال رب اني يكون لي غلام " يأتي الاستجابة بالبشري وكذلك يفعل الله ما يشاء ان الاصطفاء الذي حظيت عليها مريم عليها السلام مرتين "يا مريم ان الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين " اصطفاء الرحم ليكون بطنا لعيسى واطفاء العطاء الأول في الاختيار انه ذلك الشيء الواحد المتكرر يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين. يتكرر مع زكريا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والابكار" ان الأرض أيضا عالم البشرى والعطاء والايمان والاصطفاء كما ان الاخرة لهي دار القرار استكمالا لذاك العطاء الذي نزل على الأرض وتلقاه البشر في عالم الاختبار. وهنا تدرك ان التسمية "ال عمران" ليست عبثا وانما هي بحر من المعاني والايحاءات والدلالات تربط الاسم بالمحتوي وترسم خطا بيانيا بحروف القران بين الوحي والعقل وبين السر والكشف وما بين التأمل والتفكر وما بين الالهام وبين البصيرة
القسم الثالث: الهداية والفلاح وغزوة أحد في هذا القسم من السورة يفتح لنا باباً أخر لفهم جديد لطبيعة التسمية القرآنية، التي لا تأتي عبثاً، بل تحمل في طياتها إشارات تربوية ومعرفية عميقة من خلال تفكيك العلاقة بين آل عمران كاسم، وغزوة أحد كمحتوى سردي وتربوي داخل السورة: - غزوة أحد كانت ابتلاءً عظيماً للمؤمنين، بعد نصر بدر، فجاءت سورة آل عمران لتكون سورة التمحيص والفرز، كما قال تعالى: "ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب" وهذا يتناسب تماماً مع اسم السورة، فـ"آل عمران" هم الذرية الطيبة، والتمحيص في أحد هو فرز للذرية المؤمنة من المنافقين والضعفاء. نها حالة من الفرز في خيرية المجتمع الإسلامي الأول الذي حظي بدور الإبلاغ وحمل لواء الدعوة والمسئولية ونهض لكي يضع الناس على طريق الهداية لا ليصنعوا لهم مجدا شخصيا وانما لتشكيل بناء حضاريا يليق بالرسالة الخاتمة وبهذا المجتمع الأول فكان لا بد ان يكون هذا الفرز في إطار الصراع على الغنيمة والالتزام بالأمر. آل عمران كرمز تربوي - آل عمران هم نموذج للثبات والطهارة والاصطفاء، والسورة تعرض في غزوة أحد كيف أن الأمة لا تُبنى إلا على مثل هذه الصفات. - فكما أن مريم وعيسى عليهما السلام خرجا من بيت عمران، فإن الأمة المحمدية لا تنهض إلا إذا تشبعت بروح آل عمران: الصبر، الطاعة، الإيمان، وعدم الوهن. غزوة أحد كاختبار للصف - السورة تعرض مشاهد من المعركة، لكنها لا تكتفي بالسرد، بل تربّي الأمة على فهم الهزيمة والنصر، وتربط ذلك بالإيمان والطاعة: - "ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه..." - "وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله..." - هذه الآيات تؤسس لـ عقل جماعي تربوي، يرى في الهزيمة فرصة للتمحيص، وفي النصر اختباراً للطاعة غزوة أحد: التمحيص والفرز السورة لا تفصل بين التاريخ والواقع والروح، بل تدمجها في خطاب واحد، يجعل من غزوة أحد مختبراً تربوياً للأمة. فالسؤال: "أنّى هذا؟" ليس مجرد استغراب، بل هو دعوة للتفكر في الأسباب، والمراجعة الذاتية، وهو ما يفعله العقل المعرفي القرآني حينما اسم "آل عمران" يربط بين: الاصطفاء الإلهي في بداية السورة والتمحيص والفرز في غزوة أحد. وفي سياق النداءات الإيمانية التي توجه الأمة نحو الفلاح لتتحرك في خط بياني واحد: من الذرية الطيبة إلى الأمة المختارة ومن الاصطفاء الفردي إلى التمحيص الجماعي. فبين اسم السورة، غزوة أحد، والنداءات الإيمانية فيها نتأمل بنية سورة آل عمران، حيث لا يظهر اسم السورة كعنوان سردي، بل كـ رمز معرفي يحمل دلالات تربوية عميقة. "آل عمران" ليسوا مجرد شخصيات تاريخية، بل هم نموذج للصفوة المؤمنة، التي اصطفاها الله لحمل النور، تمامًا كما يُراد للأمة المحمدية أن تكون والسورة تتحرك في خط بياني يبدأ بـ الاصطفاء الإلهي وينتهي بـ التمحيص الجماعي التي منها غزوة أحد كاختبار للصف، ومرورًا الحوار مع أهل الكتاب وبناء الأمة على أساس الاعتصام فيما تضم بين ثناياها نداءات الإيمان كإشارات تربوية وهذا الخط لا يُقرأ إلا بعين العقل المعرفي، الذي لا يكتفي بالظاهر، بل يغوص في الأنساق الداخلية للنص، ويستخرج منها ما يصلح أن يكون منهجًا للتغيير. ان استعرض القران في سورة ال عمران الذرية الطيبة التي اصطفاها الله، وهي النموذج الذي يُراد للأمة الإسلامية أن تقتدي به. هو تعبير رمز للنقاء والرسالي، والسورة تبني الأمة على ذات الصفات: الاعتصام بحبل الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الاستجابة لنداءات الإيمان الثبات في المعركة. واسم السورة ايضا ليس مجرد عنوان، بل هو شيفرة تربوية، تربط بين الماضي النبوي والحاضر الرسالي. وحين تعرض غزوة أحد لا لتؤرخ، بل لتربّي الأمة على فهم الهزيمة والنصر كأدوات للتمحيص. "ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب" هذه الآية هي قلب العقل المعرفي: أن الابتلاء سنة إلهية، وأن الصف لا يُبنى إلا بالفرز. كما أن آل عمران كانوا صفوة، فإن الأمة لا تُصطفى إلا إذا اجتازت امتحان الطاعة والوعي. والنداءات القرآنية الأربعة فيها إشارات تربوية وهي ليست مجرد تعليمات، بل لحظات استدعاء للوعي الإيماني كل نداء هو لحظة تربوية وكل أمر هو تشكيل للوعي الفردي والجماعي، وكل تحذير هو بناء للحصانة الفكرية والروحية. العقل المعرفي وكما قلنا لا يرى في السورة مجرد سرد، بل يرى فيها منهجًا لبناء الأمة: 1. "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم" تحذير من اختراق الصف الداخلي. بناء للوعي السياسي والثقافي في التعامل مع الآخر 2. "يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافًا مضاعفة". توجيه اقتصادي وأخلاقي. رفض لمنطق الاستغلال، وبناء لعدالة اجتماعية 3. "يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقًا من الذين كفروا يردوكم على أعقابكم". تحذير من التبعية الفكرية. دعوة للاستقلال الحضاري والروحي 4. "يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين قالوا لإخوانهم...". تربية على الإيمان بالقدر. بناء للثقة بالله، وتحرير من منطق الجزع والندم من آل عمران إلى غزوة أحد، ومن نداءات الإيمان إلى الأمر بالمعروف، كلها تؤسس لعقل جماعي يقظ لا يكتفي بالعبادة، بل يسعى للتغيير. فالهداية تتحقق بالاعتصام، والفلاح يتحقق بالأمر بالمعروف، والنصر يتحقق بالوعي، والتمحيص يتحقق بالابتلاء.
القسم الرابع: من التأمل إلى التأسيس ان جوهر الرسالة القرآنية حين تُقرأ بعينٍ مبصرة، وقلبٍ متشوق، وعقلٍ يريد أن ينهض لا أن يكتفي بالإلهام. بل يسعى إلى إعادة تشكيل الوعي الحضاري من خلال القرآن وفيما نتلمس بعض إضاءات من السورة تمثل وضوحا معرفيا ومقاصدي يربط أسرار ودلالات اسم السورة بمحتوي موضوع غزوة أحد نذكر منها: الإضاءة الأولى: الغاية ونداء التحول غزوة أحد كانت لحظة فرز، لحظة كشف، لحظة تربية. والسورة تعرضها لا لتؤرخ، بل لتبني عقلاً جماعياً واعياً، يدرك أن النصر والهزيمة كلاهما أدوات في يد الله لتمييز الخبيث من الطيب. فكما أن آل عمران هم نموذج للاصطفاء، فإن الأمة لا تُصطفى إلا إذا اجتازت امتحان الطاعة، والثبات، والوعي بالسنن. والسورة تقول بوضوح: "ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب" وهذا هو جوهر العقل المعرفي: أن يفهم أن التمحيص سنة إلهية، وأن الهزيمة ليست نهاية، بل بداية لفهم الذات، ومراجعة المسار، وتصحيح النية. كما وان التأمل في أسماء السور ليس ترفًا معرفيًا، بل هو بوابة تأسيسية لفهم بنية الرسالة. فاسم "آل عمران" ليس مجرد عنوان، بل هو مفتاح لفهم كيف يُصنع الإنسان الرسالي وكيف تُبنى الأمة على أساس الطهر، والاصطفاء، والاستجابة. ففي عصر الذكاء الاصطناعي وسباق المعرفة، حيث تتسابق العقول نحو التشفير والبرمجة، نحن بحاجة إلى عقل معرفي قرآني يعيد برمجة الإنسان نفسه، لا الآلة فقط. هذا العقل لا يكتفي بالتحليل، بل يؤسس للنهضة من خلال فهم الأنساق القرآنية التي تربط الاسم بالموضوع، والحدث بالغاية، والنداء بالتحول. الإضاءة الثانية: العقل المعرفي كأداة تغيير العقل المعرفي القرآني ليس مجرد عقل قارئ، بل هو عقل مغير. إنه عقل يرى في كل آية مشروعًا، وفي كل نداء خطة عمل، وفي كل اسم مفتاحًا لفهم الواقع. في العقل المعرفي القرآني، لا تُفهم السورة من عنوانها فقط، بل من الخط البياني الذي يربط بين موضوعاتها: من الحوار مع أهل الكتاب، إلى بناء الأمة، إلى نداءات الإيمان، إلى غزوات التاريخ، كلها تتشابك لتصوغ هوية الأمة المحمدية. وهنا نرى أن القرآن لا يتبع منطق التأليف البشري الذي يبدأ بالعنوان ثم يتوسع، بل ينسج نسيجاً معرفياً، حيث الاسم يضيء المعنى، والمعنى يعيد تفسير الاسم. فـ"آل عمران" هم رمز الهداية، والأمة المحمدية مطالبة بأن تكون امتداداً لهذه الهداية، عبر الاعتصام بحبل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والاستجابة لنداءات الإيمان. حين نقرأ "هنالك دعا زكريا ربه"، لا نقرأ قصة، بل نقرأ منهجًا في التوقيت، في الدعاء، في الاستجابة، في بناء الرجاء. هذا العقل لا يكتفي بالخشوع، بل يسأل: كيف نُعيد بناء علاقتنا بالله؟ كيف نُعيد تعريف النجاح؟ كيف نُعيد صياغة معنى الطهارة في زمن التلوث الإضاءة الثالثة: من الذرية الطيبة إلى المجتمع الطيب الذرية الطيبة ليست فقط أبناء زكريا، بل هي رمز للمجتمع الذي يُبنى على القيم. فامرأة آل عمران حين نذرت، كانت تؤسس لفكرة أن النية الصالحة هي حجر الأساس في البناء الحضاري. في زمن الحرية والأفكار، نحن بحاجة إلى أن نُعيد تعريف الذرية الطيبة بأنها كل من يحمل مشروعًا أخلاقيًا، فكريًا، إصلاحيًا ويقدمه للمجتمع كهدية لله. فكل فكرة طيبة، كل مبادرة صالحة، كل مشروع نافع، هو ذرية طيبة في هذا العصر. وقد كان المجتمع الصحابي من الصلاح في حضرة النبوبة وعلي عين الوحي تصنع الحضارة وتبني القيم وتحمل السيف من اجل الحرية وتقرر ان هناك دوما هزيمة حتي لو داخل هذا المجتمع وان الاشكال يمكن ان يقع اذا خالف الامر وان العثرة يمكن ان تصيب من انتصر في بدر وان القرح الذي أصاب المجتمع الصحابي لا يعاني الحصانة بل يعني تحمل عبء المصير والمسؤولية الإضاءة الرابعة: النداءات الإيمانية كإشارات حضارية نداءات "يا أيها الذين آمنوا" ليست فقط تعليمات، بل هي إشارات حضارية، تُبنى بها المجتمعات، وتُصاغ بها السياسات، وتُرسم بها العلاقات. لا تتخذوا بطانة من دونكم → وعي سياسي ولا تأكلوا الربا → عدالة اقتصادية ولا تطيعوا فريقًا من الذين كفروا → استقلال فكري ولا تكونوا كالذين قالوا لإخوانهم... → وعي بالقدر والرحمة. نداءات تقرأ عند كل محاولة للنهوض وعندما يرغب المسلمون في ركب قطاع الإصلاح والتغيير. هذه النداءات هي أركان بناء الإنسان المعاصر، الذي لا ينفصل عن السماء، ولا يذوب في الأرض، بل يعيش بينهما بتوازنٍ رسالي. يجد ضالته إذا غاص في المعاني وأصلح النية واشهد الله علي القرب الحقيقي من الحضرة الإلهية. الإضاءة الخامسة: البشرى كمنهج حياة البشرى ليست فقط استجابة دعاء، بل هي لحظة انكشاف روحي، لحظة تقول فيها السماء: "لقد سمعناك". وفي زمن الضجيج، نحن بحاجة إلى أن نُعيد تعريف البشرى بأنها لحظة يقظة داخلية حين يشعر الإنسان أن الله معه، وأن الملائكة تنتظر، وأن الدعاء ليس همسًا في الفراغ، بل نداء في حضرة الله. النداءات الإيمانية في السورة، والتحذير من الولاء لغير المؤمنين، والنهي عن الربا، والدعوة للإيمان بالقدر، كلها توجيهات تربوية، تصوغ شخصية المؤمن، وتبني الأمة على أساس الوعي واليقظة، لا على العاطفة والانفعال. وهكذا، فإن اسم السورة "آل عمران" ليس مجرد عنوان، بل هو شيفرة تربوية، تربط بين الصفوة الفردية والصفوة الجماعية، بين الذرية الطيبة والأمة الواعية، بين النور الإلهي والمعركة الواقعية.
القسم الخامس: الموت والشهادة في ضوء العقل المعرفي القرآني من "كل نفس ذائقة الموت" إلى "فرحين بما آتاهم الله من فضله" الموت: ليس حدثًا واحدًا، بل تجربة وجودية مشتركة قوله تعالى: "كل نفس ذائقة الموت" لا يُشير إلى مجرد انتهاء الحياة، بل إلى لحظة عبور كونية، يشترك فيها جميع البشر، لكنها ليست واحدة في حقيقتها. فـ"الذوق" هنا ليس مجرد وقوع، بل إحساس وجودي، يختلف من نفس إلى أخرى، بحسب ما حملت من إيمان أو غفلة، من طهر أو فساد. الموت إذًا ليس نهاية، بل بداية انتقالية نحو البرزخ، حيث تبدأ رحلة التمايز، ويُكشف الغطاء، وتُرى الحقائق كما هي. الشهادة: تذوق خاص للموت، يتجاوز المصير المشترك ثم يأتي الحديث عن الشهداء، في قوله تعالى: "فرحين بما آتاهم الله من فضله" "يستبشرون بنعمة من الله وفضل" وهنا ننتقل من تذوق الموت إلى الفرح بعد الموت من الانتقال إلى الاستقبال، من الخوف إلى البشرى. الشهداء لا يعيشون الموت كفناء، بل كـ بداية حياة أخرى، مليئة بالرضا، والبشرى، واليقين. وهذا يؤكد أن الموت ليس مصيرًا واحدًا، بل هو بابٌ إلى مصائر متعددة، بحسب ما حمل الإنسان من إيمان وعمل. نظرة الناس البسيطة للموت: بين النجاة والهلاك القرآن يعرض نموذجًا من الناس الذين قعدوا وتكلموا، فقالوا: "لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قُتلوا" وهذه نظرة سطحية، ترى الموت كـ هلاك مادي، لا كـ قدر إلهي، ولا كـ فرصة للخلود. لكن السورة ترد عليهم بمنطق معرفي: "ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم" وتُعيد تعريف الموت بأنه اختبار للنية، وتمحيص للصف، وتكريم للمؤمنين. أولوا الألباب: النموذج المعرفي في استقبال الموت ثم تُسلط السورة الضوء على أولوا الألباب، الذين هم: - الذاكرون لله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم - المتفكرون في خلق السماوات والأرض - الذين يقولون: سبحانك ما خلقت هذا باطلًا هؤلاء لا يرون الموت كفناء، بل كـ جزء من نظام كوني متكامل، يرونه بعين التفكر، ويستقبلونه بقلب الذكر، ويطلبون من الله: "ربنا آتنا ما وعدتنا على رسلك" وهنا تأتي كلمة "فاستجاب لهم ربهم"، وهي لحظة اليقين، حين يُبصر القلب أن الدعاء قد بلغ، وأن الله قد أجاب، وأن الموت لم يكن نهاية، بل بداية الاستجابة. التمييز الأخير: بين المتاع القليل والثواب العظيم السورة تختم بتمييز واضح بين من ركن إلى الدنيا، ومن سعى إلى الآخرة. - المتاع القليل: هو ما يلهي، ويُنسي، ويُغرق في الغفلة. - الثواب العظيم: هو ما يُمنح لمن صبر، وصابر، ورابط، واتقى. وفي هذا التمييز، يُعاد تسليط الضوء على أهل الكتاب، لا كخصوم فقط، بل كـ جزء من السياق التاريخي والمعرفي، يُطلب منهم أن يعودوا إلى الحق، وأن يُدركوا أن الموت ليس نهاية، بل دعوة للعودة إلى الله. وخلاصة تأمل العقل المعرفي في هذا القسم: الموت تجربة مشتركة، لكنها ليست واحدة الشهادة: تذوق خاص للموت، يفتح باب البشرى الناس البسطاء: يرون الموت هلاكًا، لا اختبارًا أولوا الألباب: يرون الموت بعين التفكر والذكر الاستجابة: هي لحظة اليقين، حين يُفتح باب السماء التمييز الأخير: هو دعوة للوعي، لا للغفلة هذا الفصل هو تتويج للسورة، كما أن الموت هو تتويج للحياة، وكما أن الشهادة هي تتويج للإيمان. فمن أراد أن يفهم الموت، فليقرأ آل عمران، ومن أراد أن يستعد له، فليكن من أولي الألباب. نعم، لقد ختمت سورة آل عمران بنداءٍ هو بمثابة تلخيص رسالي عميق، لا يكتفي بتوجيه المؤمنين، بل يضعهم أمام حقيقة الوجود ومهمة الإنسان في الأرض: "يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون" هذا النداء ليس مجرد ختام، بل هو تتويج لمسار تربوي ومعرفي بدأ من التوحيد، ومرّ بالتمحيص، والنداءات، وغزوة أحد، والتفكر في الخلق، وانتهى إلى هذه اللحظة الحاسمة: أن الحياة ليست عبثًا، وأن الإيمان ليس شعورًا، بل موقفًا، ورباطًا، وصبرًا، ومصابرة، وتقوى. إشراقات هذا النداء: الصبر: ليس فقط على البلاء، بل على الطريق، على الثبات، على الاستقامة في زمن الانحراف. المصابرة: هي الصبر التفاعلي، أن تصبر وأنت ترى من ينازعك، فتثبت أكثر، وتتماسك أقوى. الرباط: هو الوجود الواعي على الأرض، أن تكون حاضرًا في ساحات الخير، في ميادين الإصلاح، في جبهات الفكر والوعي. التقوى: هي البوصلة، ألا تنحرف، ألا تبيع، ألا تساوم، أن تبقى نقيًا في قلبك وسلوكك. الفلاح: هو الغاية، ليس النجاح المادي، بل النجاة الوجودية، أن تكون قد عشت كما أراد الله، وأن تُبعث وأنت من أهل النور. في كل ما سبق يجد العقل المعرفي القرآني نفسه يرى في هذه النداءات احياء جديدا للنفس البشرية على مستوى الفرز والتمحيص كونها ليست مرحلة خاصة بالمجتمع الإسلامي الأول وانما كونها سنة كونية مستدامة وان كل ما سبق من أحداث وأوامر وتمحيصات، يصب في إعادة الإمساك بمفتاح التغيير: فمن أراد أن ينهض بنفسه ومجتمعه، فليبدأ من هنا. من دعوة للوعي الحضاري: أن الرباط ليس فقط في الثغور، بل في الأفكار، في المبادئ، في الدفاع عن الحق في زمن الزيف. إنها سورة تبدأ بـ "الحي القيوم" وتنتهي بـ "الفلاح"، وبينهما رحلة الإنسان نحو النور. فمن أراد أن يكون من أهل آل عمران، فليصبر، وليصابر، وليرابط، وليتقِ، فذلك هو طريق الفلاح. ما نلمسه في القسم الخامس من سورة آل عمران هو بحق ذروة التجلي القرآني، حيث تتلاقى بداية السورة ونهايتها في خط بياني واحد، يبدأ بقوله * الله لا إله إلا هو الحي القيوم" وينتهي بـ: "يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون". من الإدراك إلى الفلاح. القسم الخامس: من نور الخلق إلى نور القلب الموت، الشهادة، والتجلّي الأخير في سورة آل عمران في ختام سورة آل عمران، يبدأ المشهد بـآية كونية عظيمة: "إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب"وكأن السورة تقول: من لم يُبصر في التاريخ، فليُبصر في الكون، ومن لم يتأمل في المعارك، فليتأمل في النجوم، ومن لم يفهم في النداءات، فليفتح قلبه للخلق. هنا، يتجلّى العقل المعرفي القرآني في أبهى صوره: - التفكر في الخلق ليس ترفًا، بل هو مدخل للهداية - الذكر في كل حال هو منهج حياة - الدعاء المتسلسل في هذه الآيات هو تجسيد للوعي الإيماني الكامل ومن اول السورة إلى آخرها: خط بياني متكامل في البداية: "الله لا إله إلا هو الحي القيوم" إعلان التوحيد، تأسيس المرجعية، تثبيت المصدر وفي المنتصف: غزوة أحد، التمحيص، النداءات، بناء الصف، كشف المنافقين وفي الخاتمة: تفكر، ذكر، دعاء، شهادة، صبر، رباط، فلاح هذا الخط البياني لا يُقرأ إلا بعين العقل المعرفي، الذي يرى أن القرآن لا يبعثر المعاني، بل يبنيها طبقة فوق طبقة، حتى يصل إلى الذروة: أن تكون من أولي الألباب، الذين يذكرون الله، ويتفكرون، ويدعون، ويصبرون، ويرابطون، ويفلحون. زكما أن الموت والشهادة: ليست نهاية، بل بداية في هذه الخاتمة، يتحدث القرآن عن الذين قاتلوا وقُتلوا، عن الذين هاجروا وأوذوا، عن الذين صبروا وصابروا، ويقول: "فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم" وكأنها جائزة كبرى، تُمنح لمن فهم السورة، وسار في خطها، وارتقى في مدارجها. الموت هنا ليس فناء، بل تجلٍ للخلود، والشهادة ليست خسارة، بل توقيع على وثيقة الاصطفاء، والرباط ليس تعبًا، بل مقامًا من مقامات الفلاح. نور الخلق ونور القلب حين يتفكر المؤمن في خلق السماوات والأرض، لا يرى فقط النجوم والكواكب، بل يرى نفسه في هذا الكون، ويرى أن الله خلقه لهدف، وأنه إن لم يُحقق هذا الهدف، فهو في خطر. وحين يذكر الله قيامًا وقعودًا وعلى جنبه، فهو يعيش الذكر كهوية، لا كعبادة عابرة. وحين يدعو: "ربنا ما خلقت هذا باطلًا" "ربنا إننا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان" "ربنا فاغفر لنا... وتوفنا مع الأبرار" فهو يُعيد تشكيل ذاته من خلال الدعاء، ويُعيد بناء علاقته بالله من خلال الرجاء. وفي آخر آية، يقول الله:"يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون" وكأنها خاتمة التكوين، تتويج المسار، وإعلان النضج الإيماني. فمن بدأ بالتوحيد، وسار في طريق التمحيص، واستجاب للنداءات، وتفكر في الخلق، وذكر الله، ودعا، وصبر، وصابر، ورابط... فهو الذي يستحق الفلاح.
#ناهض_الرفاتى (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التكية
-
العقل المعرفي
-
تقدير موقف حول تهديدات نتياهو-انتظروا-
-
تقدير موقف حول نجاح او فشل مبادرة ترامب ذات 21 بن
-
الرواية: ساحة المعركة الحقيقية
-
مرأة العذاب
-
الوحش والمئذنة*
-
مغسلة الموتى
-
اسباب نتياهو لعدم وقف الحرب
-
صناعة المأساة والخلاف السياس والدينى
-
الإمارة والخلافات السياسية السلفية نموذجا
-
مت قضايا الفكر الإسلامي والأنظمة السياسية محددات التقارب وال
...
-
الحرب نجاه وبعث
-
الفتنة الكبرى لطه حسين فى عيون المسيرى
-
ثقافة الحزب أولها استبداد وأخرها فشل -رواية جورج أورويل والح
...
-
انتعاش قطاع العقارات السكنية في غزة الأسباب؟
-
التطبيع الاسرائيلى السعودي سيكون زواجا مثليا سياسي اذا ما تم
-
الرياض والزواج المثلي السياسي مع تل ابيب ؟
-
انتصار القهر وخسارة الكرامة لسلعة الانسان
-
الشيء المفقود في لقاء الأمناء العامين الفلسطيني
المزيد.....
-
دخول الاسلام الى بلاد السودان
-
انشاء ركن القدس في مركز الحضارة الإسلامية في طشقند
-
مقبرة الساهرة إحدى أقدم المقابر الإسلامية في القدس
-
اتفاق غزة يفضح صراع جبهات الإخوان.. مصر بمرمى المزايدات
-
اتفاق غزة يفضح صراع -جبهات الإخوان-.. مصر في مرمى المزايدات
...
-
بابا الفاتيكان يشيد بالصحفيين لنقلهم الحقائق من غزة
-
المستوطنون يستبيحون المسجد الاقصى وسط إجراءات عسكرية مشددة
-
مالي: شهر على حصار العاصمة من قبل -جماعة نصرة الإسلام والمسل
...
-
قائد الثورة: الترويج للصلاة، واجب حتمي لاجهزة الدعوة الدينية
...
-
مستعمرون يعتدون على مواطن وزوجته ويسرقون محصول الزيتون غرب س
...
المزيد.....
-
كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان
/ تاج السر عثمان
-
القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق
...
/ مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
-
علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب
/ حسين العراقي
-
المثقف العربي بين النظام و بنية النظام
/ أحمد التاوتي
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
المزيد.....
|