أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حبيب لكناسي - ملامح














المزيد.....

ملامح


حبيب لكناسي
(Laknasi Habib)


الحوار المتمدن-العدد: 8509 - 2025 / 10 / 28 - 04:50
المحور: الادب والفن
    


ملامح تتداعى

صدى المفرقعات احتفالا بنهاية سنة وابتداء أخرى جديدة ضجة حزينة تقتحم عليه خلوته كالعادة، فها هو يدرك نهاية التسعينيات والحنين أنين مفزع. جلس حول مائدته الخشبية الصغيرة و التي لا تكاد تستقر على حال لاعوجاج في أحد أرجلها الأربعة، بين فخديه حقيبة جلدية مهترئة، الحقيبة ذاتها التي وضعها على أحد كتفيه لما توجه إلى فرنسا دون أن يعلم أحداً من معارفه، و بعد أن عانى الأمرين في جنح ظلام دامس، ورذاذ موج قارس يتطاير على وجهه الطفولي بلا توقف فوق ذلك القارب المطاطي المليء بالأحزان، ووسط شباب متكدس كأشباح متناثرة أو جثت حرب تشكلت على حين غرة. فتحها برفق فـأخرج منها مجموعة من الصور القديمة. لقد مضى زمن طويل دون أن يراها منذ أن كان في بلدته النائية، تلك التي لم يتذوق طعم ترابها، تلك الأم الحاضنة المتوارية خلف جبل مليئ بالنبات الشوكي و بعض من شجيرات الأرگان الصامدة. كدس تلك الصور وسط مائدته المرتعشة، و بيدين بطيئتين يأخذ الواحدة تلو الأخرى، فهذه يقبلها بحنو وهذه يشمها برفق مغمض العينين، و تلك ينظر إليها مليا والابتسامة تعلو محياه، وأما تلك فيضعها على حافة المائدة دون أن يكلف نفسه عناء النظر إليها مجددا. وكثيرات يضعهن فوق صدره ليعانقهن بشهقات و زفرات متتابعة، تحملان من الأمل والأمل الشيء الكثير.
منذ أن غادر تلك البلدة، وهو يمني النفس بأن يحصل على أوراقه الثبوتية في هذه البلاد التي تجمع بين القساوة و الليونة في آن واحد، صحيح أنه وجدا عملا وسقفا يأويه، لكنه يضع نصب عينيه ذلك الخوف من أن يرحل قبل أن يبلغ هدفه، فتلك السنوات التي أهدرها كدا و مللا لا يريد أن تذهب سدى، لذلك سيظل ينتظر و ينتظر، كما تنتظر هذه الصور في تلك الحقيبة الجلدية التي باتت رائحتها تعم المكان. وها هو الآن في هذا المأوى المتهالك، و وسط تلة من المهاجرين مثله يعلو وجوههم الشحوب و تتثاقل أرجلهم في دروب هذه المدينة المكتظة بالإسمنت و الحركة والجلجلة. وها هو الآن وسط هذه الصور الفوتوغرافية، بين من يتذكرهم وقد لا يتذكرونه، بين من يحبهم وقد لا يحبونه، هاهو الآن يحاول جاهدا أن يعيد ترتيب أحاسيسه الماضية، سيختبر مكانة البعض في قلبه، سيربط تلك الخيوط المتهالكة مجددا ولو للحظة قصيرة حتى تتفتح أعينه مجددا على واقع خلفه وراءه ولم تعد تربطه به إلا هذه الحزمة من الصور الندية المبللة. هاهو الآن يبدأ بصورة لأمه، ركنها على اليمين بهدوء، أتبعها بصورة أبيه على الجهة اليسرى مباشرة على بعد نصف متر و على شفة المائدة. بدت له أمه حزينة جدا وكأن جرحا غائرا لا يندمل يؤرق مضجعها، الله وحده يعلم ما بتلك الأم التكلى، لو باستطاعته أن يخفف عنها لما انتظر لحظة واحدة. يظهر أبوه في الصورة وهو ينظر إلى الجهة المعاكسة لتواجد أمه، لا يستطيع أن يجد تفسيرا لذلك، أتراه لا يريد النظر إليها، أم أن أمه هي من دفعته إلى ذلك!؟ أفكار كثير توسوس له بها نفسه المتعبة وتجوس أمام ناظريه. ما يعرفه الآن أن ذلك يزعجه ولا يريد أن يسترسل في نسج عقدة قد لا يجد لها حلا. أخذ صور إخوته وأخواته وبعثرها على ما تبقى من فراغ على المائدة، أما بعض الصور لأصدقاء عابرين فقد تركها داخل الحقيبة حتى تحين فرصة أخرى، فهو الآن رفقة أسرته التي يحن لها كثيرا ًكثيراً، فعشر سنوات في عالم الغربة تغرس الكثير، و تقطف الكثير الكثير.
هرول إلى غرفة نومه الرطبة، وأحضر صورة حديثة له و هو يقف جانب نهر السين العظيم عظمة ملحمته هو، يرتدي فيها بدلة رياضية بيضاء، و يعتمر قبعة سوداء وحال محياه يفضي إلى أنها التقطت في يوم مشمس رائع. وضع الصورة بين صور إخوته و أخواته، بدوا له مراهقين يبتسمون و إن كان في الحقيقة أصغرهم سنا، لو منح الآن فرصة أن يراهم لما تمكن من التعرف عليهم و من دون شك لن يستطيعوا ذلك بدورهم، فشتان ما بين الأمس و اليوم، عشر سنوات بعيدا عنهم ليست بالأمر الهين، فلقد تخطى الثلاثين من عمره بقليل، عشر سنوات بلا اتصال، ففي تلك البوادي النائية لا هواتف تذكر ولا حامل خبر، سل صورته من بين صور إخوته ووضعها بين صورتي أمه و أبيه، لا أحظ أن أباه يكبره بقليل وأن أمه أصغر منه، مثل عروس تنتظر عريسا اشتد الفراق بينهما وأن الحياة تستحيل بدون ارتباطهما، أحس بعبرة ساخنة تحبو بلطف على خذه الأيسر تلتها عبرات أخريات يتقاطرن على الصور أسفل رأسه المتدلي بلا توقف، والضوء الخافت الذي يتسرب أشرطة عبر النافذة الصغيرة والمطلة على الردهة الضيقة حيث المائدة الخشبية، حيث الصور، حيث السفر، حيث هو، يعلو وجنتيه بريق خفيف ممزوج بالتحسر و التبصر.
رآى نفسه بين تلك الصور فارس أحلام هذه الليلة الاحتفالية، وأن أباه يحاول جاهدا أن يدير بصره جهة أمه، تساؤلات كثيرة تجول في دماغه، ماذا استجد يا أبي؟ مم تخاف الآن؟ لا يا أبي.. حمل صورته ووضعها في الجهة المقابلة لصورة أمه، وقلب صورته لكي لا يرى ملامحه مجددا، وجمع ما تبقى من صور إخوته و أخواته، وراكمها فوق الصورتين معا، وأخذ الحقيبة الجلدية و دثر بها كومة الصور تلك دفعة واحدة، عيناه ترمقان في ذهول تلك المائدة الخشبية الصغيرة، بدت له وكأمها تتحرك وترقص، الضوء المتسلل من ثقب فوق الباب يظهر ويختفي كثعلب ماكر، ظل يحرس الكل و يترقب الكل وحال لسانه يردد بين الفينة والأخرى: ترى ماذا سيحدث في هذه السنة الجديدة، في منتصف هذه الليلة الباردة..؟ خير، خير..



#حبيب_لكناسي (هاشتاغ)       Laknasi_Habib#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- روح القصب
- امواج متلاطمة
- أمواج متلاطمة
- أخس رجولة gar turrkza
- انطواء..
- بقايا.. ملل
- صرخة إيديا الصغيرة(مترجمة عن الأمازيغية)
- بعض جميل لشخص...(ترجمة لقصيدة أمازيغية من المغرب)
- بقايا إنسان
- الجرح...aggas (قصيدة أمازيغية مترجمة)
- نجمة بيننا ...!(شعر أمازيغي مترجم )
- أنت...(شعر )
- ولادة/ talalit ( قصيدة أمازيغية مترجمةإلى العربية)
- كالصقر...
- حرقة..


المزيد.....




- أحمد الفيشاوي يعلن مشاركته بفيلم جديد بعد -سفاح التجمع-
- لماذا لا يفوز أدباء العرب بعد نجيب محفوظ بجائزة نوبل؟
- رئيسة مجلس أمناء متاحف قطر تحتفي بإرث ثقافي يخاطب العالم
- رئيسة مجلس أمناء متاحف قطر تحتفي بإرث ثقافي يخاطب العالم
- مشاهدة الأعمال الفنية في المعارض يساعد على تخفيف التوتر
- تل أبيب تنشر فيلم وثائقي عن أنقاض مبنى عسكري دمره صاروخ إيرا ...
- قراءة في نقد ساري حنفي لمفارقات الحرية المعاصرة
- ليبيريا.. -ساحل الفُلفل- وموسيقى الهيبكو
- بطل آسيا في فنون القتال المختلطة يوجه تحية عسکرية للقادة الش ...
- العلاج بالخوف: هل مشاهدة أفلام الرعب تخفف الإحساس بالقلق وال ...


المزيد.....

- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور
- الذين لا يحتفلون كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حبيب لكناسي - ملامح