أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حبيب لكناسي - امواج متلاطمة















المزيد.....

امواج متلاطمة


حبيب لكناسي

الحوار المتمدن-العدد: 8506 - 2025 / 10 / 25 - 18:13
المحور: الادب والفن
    


أمواج متلاطمة

لم يضع نصب عينيه أن تسوقه أحلامه ليتعلق قلبه بامرأة ما قط، فشروده الدائم يحجب عنه كل الأطياف، و تفكيره أضحى في صراع دائم مع تقلبات الأحاسيس الجميلة مهما كانت درجة تراشقها بين ثنايا تأملاته وسهاده. ولكنه في لحظاته تلك، و هو ينظر إلى مرآته المغبرة، تفطن إلى ذلك الشيب الذي بدأ يغزو شعره الخفيف المحادي لصلعته اللامعة، وبدت له مقلتاه غائرتين براقتين مثل عيني قط متشرد في ركن داج، تحملان من التيه الشيء الكثير، وأن اليسرى منهما يغشاها ضباب كثيف بين الفينة و الأخرى، ما يجعله لا يفارق نظارتيه حتى في استلقاءاته طلبا لراحة مسروقة. وتلك الأسنان التي تزين فمه الصائم عن الكلام إلا من أنات و همهمات، لا تكاد تحمل من البياض إلا اليسير منه، و اللقمة في فمه تتعرض إلى ما لا نهاية له من القطع و التمزيق الممل قبل أن تستقر في غياهب النسيان. ها هوينهض بتثاقل واضح و يجلس بسرعة كجثة هوت من عل، وكم يمني النفس في لحظات شروده تلك أن تكون بجانبه امرأة يرتاح لها و ترتاح له، يستند إليها و يتقاسم معها لحظاته الأخيرة من عمره الرتيب.

بين الفينة و الأخرى، وفي أوقات يشتد فيها حر الشاطئ المجاور لبيت أحلامه المتكسرة تسوقه أرجله الثقيلة إلى المكان عينه، قرب أجراف تشرئب إلى الموج في غضب، يقتنص لنفسه هناك هنيهات تتسارع كالبرق في ليلة عاصفة، بعد أن يشبع منه الزوار جيئة وذهابا، فيظل يجلس قبالة الأمواج المتلاطمة، بعد أن يغرز قصبته عميقا تحت الرمل المبلل، تلك القصبة الخيزرانية التي تشبهه في انحناءته وسحنته المائلة إلى اللون البني القاتم. في جيبه العلوي مذياع صغير، هو كل ما تبقى له من والديه المتوفيين منذ مدة قصيرة، وقد تسمر مؤشره على القناة ذاتها منذ أمد بعيد. يجلس على كرسيه الخشبي الصغير و المتهالك، يخرج كراسته وقلمه الرصاصي ليكتب أشياءه المعهودة. الأوراق تعبث بها نسائم البحر الباردة و القلم يتراقص بين أنامله في مد وجزر.

يعرفه الجميع هنا، خاصة من يدأبون على المجيء في هذا الوقت من كل أسبوع، أناس مثله يبحثون عن الخلوة والهدوء، لا يكلمونه ولا يكلمهم، يراقبهم و يراقبونه منذ زمن بعيد، يبادلهم ابتسامته المصطنعة وتغدو تلك النظرة الحزينة بادية للعيان. هو يعرفهم جميعا وإن لم يتبادل معهم أطراف الحديث، يسكنون أوراقه تلك، هاهم يتضاحكون ويغنون، يبكون و يصرخون، يتمرغون فوق الرمل، يستغيثون ويرقصون، عرايا يسبحون وقسمات وجوههم المتهللة تزين صفحاته تلك، بل حتى أعمق مكنوناتهم الهاربة تتبدى بين ثنايا سطوره الزئبقية تلك، ووحدها بين الأجراف كحورية هناك، لا يقترب منها كي لا يفسد ذلك المنظر و تلك اللوحة في متحف الأحلام. حينما يعود إلى شقته، يبدأ في ترتيب شخصياته مجهدا نفسه كي تظل مؤنسه في وحدته و كي تقاسمه أحاسيسه الآسنة، ثم يسعى جاهدا كي يمنحها قسطا من السعادة دون استثناء، فيعطي الانطباع لنفسه أنه الملاك الوحيد الذي يحرسهم في لحظاتهم الجميلة تلك، به ستظل حية ترزق، وإن أرادت أن تحيا فعليها ألا تنغص عليه تلك الحياة الرتيبة و ذلك التواصل الأثيري.
هي تعرف أن وجودها هناك، ما كان له ليكون لو لم يمنحها روحا تعشق الأفق، لتظل ساكنة تنظر إليه في حنو، تنتظر أن يفرغ من خربشاته التي تراها هامشية، كي يمنحها مزيدا من الوجود الرمزي، وليبعثها مجددا كي تشاطره أحلامه المتشظية، ورغم أنه السبب الوحيد و الأوحد لتواجدها هناك، إلا أن ذلك العناد الطفولي الذي كبرت عليه أو بالأحرى تربت عليه، جعلها تساهم في منحه بعضا من القوة والتحمل على مضض، فبعض الناس يميلون إلى من يتمنع عنهم، لأنهم يعتبرون ذلك مغامرة تستحق أن تعاش، وأن الوصول إلى هدفهم بعد جهد جهيد يعد انتصارا ملحميا. لذلك ستظل في مكانها هناك مثل لوحة معلقة بين السماء و الأرض..
وتمر الأيام ويزداد تعبه وتشتد حرقة وحدته، فلم يعد بمقدوره أن يرأف بأصدقائه العابرين لبياض كراريسه، بينما يرى نفسه يتشظى كجمرة تدروها الرياح العاتية في ركن ربع خال وسط صحراء قاحلة. لقد قرر أن يلقي بنفسه وسط رحى لواعج الحب، أن يختبر جسده المنهك منذ أمد بعيد، أليس من حقه أن يكون مثل بقية الأنام؟ إنه يريد أن يحترق إلى أبعد مدى، يريد أن يسقي عطشه الأزلي، يريد أن يذيب صخرة الجليد الذي يلفحه كل ليلة حينما يأوي إلى فراشه. أسئلة كثيرة تتقاطر عليه، تراوده أحلام جميلة لم يعهدها من قبل، إنه يكتب بين براثن أحزانه، والآن ما من كوابيس تراوده، أتراه بدأ يشعر بذلك الفوران يغلي في جسده، فهل من امرأة ستحبه رغم شيخوخته المبكرة، وهل تستطيع أن تتعهده بالدفء حتى تثوي بذرته المنسية وسط ارتباطهما ببعض، وهل من الممكن أن يحيا مجددا، أن يسترد نظارة وجهه، أن يقول أنا هنا، أنا حي يرزق؟

إنها تشبهه في خلوته تلك كثيرا، لذلك تلوذ دائما ودون كلل إلى صخرة مطلة على أمواج البحرالهادرة، تشرئب إليها متأملة حركتها اللولبية، إنها ترى نفسها فيها، وقد لا ينغص عليها شرودها إلا صوت تلاطمها مع تلك الأحراش بين الفينة و الأخرى، وتلك النوارس التي تحوم حولها و كأنها صور تتراءى أمام عينيها في لمح البرق، تظل تنظر و تنظر علها تظفر ببعض من ضالتها. هي فعلا تشبهه كثيرا في ترقبه وملاحظاته الدقيقة لكل عابرجديد، إنهما يعرفان بعضهما حق المعرفة، ذلك الخيط الذي يوصلهما معا، يتقلص مع توالي الأشهر و الأيام والساعات و الدقائق و حتى الثواني، و هاهما ينجذبان إلى بعضهما ذات مساء، فقد كانا يمشيان فوق الرمال الذهبية التي تحتفظ بدفئها رغم أن الشمس لا يكاد يظهر منها إلا الثلث أو أقل بقليل، جلس بقربها على اليمين مباشرة دون أن ينبس ببنت شفة، كان ينظر إلى الشفق الأحمر الحزين بينما كانت تدخل يدها اليسرى تحت الرمل و تخرجها في الحينن، فتعيد الكرة تلو الكرة كما يفعل أي طفل جالس على كومة رمل، نظر إليها ثم قال:
- لن أقول لك ما اسمك و من أين جئت، فأنا أعرفك منذ زمن بعيد، أعرفك حق المعرفة، فأنت حارسة هذه الأمواج، وكلما غبت عنها تتلاطم بقوة مزمجرة حتى لكأنها تستوحش غيابك، أعرفك من خلال الملابس التي ترتدينها، ومن خلال مشيتك، من خلال زفراتك وتنهداتك، من خلال صمتك العميق..
كانت تستمع إليه و الابتسامة تعلو محياها، وكأنها تحاول أن تخبره أنها تعرفه أكثر ما بدا له عنها، بل أكثر من نفسها هي، ولكنها اكتفت بأن قالت:
- صحيح، كلانا يعرف البعض، أنت كذلك جزء من هذا المكان، فكلما غبت عنه، تتراءى لي قصبتك مثل شبح يرقص، أو ثور هائج يريد أن يقتحم الموج مثل حمم بركانية، وآثار كرسيك الصغير تأبى الأمواج أن تمحوه عنوة، فقط لكي تمجد ذكراك.
لم يكن تواجدهما في ذلك المكان صدفة عابرة، بل تواصل مستمر خطه القدرعميقا بأعتى سلاح، كلاهما يعرف أن تلك الأنامل المرتعشة تخط أشياء كل يوم، وأن كلا منهما يحمل في ذهنه صورا أزلية، تتشكل بين صفحات مذكراتهما اليومية، ولا أحد منهما يرغب في أن يندس فيما يكتبه الآخر عنه من لواعج و أشجان، ولكن لقاءهما ذلك اليوم أحدث تغييرا جذريا في حياتهما، فلقد تسربت إليها هي فسحة جديدة، ولقد اختفى ذلك الشحوب في عينيها، وتلك الملابس الغامقة ألوانها أضحت زاهية بألوان تؤثثها فراشات وحباحب، وذلك الثقل في جسده هو قد استحال خفة، وكلما نظر إلى المرآة رأى شخصا آخر بلا شحوب ولا تجاعيد تذكر، وتلك الشفة أضحت رطبة يعلوها الريق، وتلك الشقة التي يسكنها لم تعد مرتعا للأشباح، لقد نضبت ظلالها المخيفة و بات النور يتسرب إليها من ثغورها الباسمة، وكأنه نور انبثق، وكأنها نجم انطلق.

وقع الموسيقى الحالمة يتردد من بعيد، تتخلله ضحكات طفولية تنعش الروح، و تجري الدم في عروق الظمآى. وكلما غابت عنه يأخذ صفحاته تلك، يبعثرها أمامه بسرعة، فتطيش أصابعه بينها، وتحبو على ملمسها برفق و كل صفحة يتلقفها يشمها بأريحية ويتنفس عميقا عبقها عميقاعميقا فتجيبه بشهقة وزفرة ترديه ثملا. وبين ثنايا أسطره الحالمة تلك، تنظر إليه في ترقب ملتهب، قلبها ينبض بشدة حتى ليكاد ينخلع من مكانه، وتلك الأنامل تتراقص شوقا وهي تكتب اسمه من جديد على الرمل وعلى الصخر، ليظهر لها مجددا مثل طيف وهو يرنو إلى أمواج البحر في حيرة و ترقب، يتأمل السماء جهة استقامة القصبة الخيزرانية، يحركها برفق حالم عساها تحظى بصيد مباغث طالما انتظره، لا ليأكله أو يبيعه، ولكن لينتشي بانتصاره على تلك الأمواج المتعنتة الغاضبة والمصطدمة بحافة تلك الصخور المتمنعة الناقمة تضاريسها، والتي طالما أشبعته لطما كلما زار ذلك المكان على حين غرة، حيث السحر العظيم و الدفء الحميم، حيث صوت أمواج البحر و صوت النوارس و الضحكات الطفولية.




حبيب لكناسي- المغرب



#حبيب_لكناسي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أمواج متلاطمة
- أخس رجولة gar turrkza
- انطواء..
- بقايا.. ملل
- صرخة إيديا الصغيرة(مترجمة عن الأمازيغية)
- بعض جميل لشخص...(ترجمة لقصيدة أمازيغية من المغرب)
- بقايا إنسان
- الجرح...aggas (قصيدة أمازيغية مترجمة)
- نجمة بيننا ...!(شعر أمازيغي مترجم )
- أنت...(شعر )
- ولادة/ talalit ( قصيدة أمازيغية مترجمةإلى العربية)
- كالصقر...
- حرقة..


المزيد.....




- أَصْدَاءٌ فِي صَحْرَاءْ
- من أجل قاعة رقص ترامب.. هدم دار السينما التاريخية في البيت ا ...
- شاهد/ذهبية ثالثة لإيران في فنون القتال المختلطة للسيدات
- معرض النيابة العامة الدولي للكتائب بطرابلس يناقش الثقافة كجس ...
- شاهد.. فيلم نادر عن -أبو البرنامج الصاروخي الإيراني-
- تمثال من الخبز طوله متران.. فنان يحوّل ظاهرةً على الإنترنت إ ...
- مسك الختام.. أناقة المشاهير في حفل اختتام مهرجان الجونة السي ...
- ايران تحرز ميداليتين ذهبيتين في الفنون القتالية ببطولة آسيا ...
- فلسفة الذكاء الاصطناعي.. الوعي بين الفكرة والآلة
- أحمد مالك أول مصري يفوز بجائزة أفضل ممثل في -الجونة السينمائ ...


المزيد.....

- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور
- الذين لا يحتفلون كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حبيب لكناسي - امواج متلاطمة